نصائح من درر الشيخ الألبـاني رحمه الله الى حُجـاج بيت الله الحرام
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله تعالى وجعل الفردوس الأعلى مأواه – في مقدمة كتابه القيّم [حجة النبي – صلى الله عليه وسلم – كما رواها عنه جابر – رضي الله عنه – ] :
[ … وعندي بعض النصائح أريد أن أقدمها إلى القراء الكرام، والحجاج إلى بيت الله الحرام عسى الله – تبارك وتعالى – أن ينفعهم بها ، ويكتب لي أجر الدال على الخير بإذنه ، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير .
ومما لا ريب فيه أن باب النصيحة واسع جدا، ولذلك فإني سأنتقي منه ما أعلم أن كثيرا من الحجاج في جهل به أو إهمال له . أسأل الله – تعالى – أن يعلمنا ما ينفعنا ويوفقنا للعمل به فإنه خير مسؤول.
أولا : إن كثيرا من الحجاج إذا أحرموا بالحج لا يشعرون أبدا أنهم تلبسوا بعبادة تفرض عليهم الابتعاد عما حرم الله – تعالى – من المحرمات عليهم خاصة، وعلى كل مسلم عامة، وكذا تراهم يحجون ويفرغون منه ولم يتغير شيء من سلوكهم المنحرف قبل الحج، وذلك دليل عملي منهم على أن حجهم ليس كاملا إن لم نقل : ليس مقبولا .
ولذلك فإن على كل حاج أن يتذكر هذا وأن يحرص جهد طاقته أن لا يقع فيما حرم الله عليه من الفسق والمعاصي، فإن الله – تبارك وتعالى – يقول : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [سورة البقرة : 197 ]. وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) أخرجه الشيخان . والرفث : هو الجماع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (وليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا جنس الرفث، فلهذا ميّز بينه وبين الفسوق، وأما سائر المحظورات كاللباس والطيب فإنه وإن كان يأثم بها، فلا تفسد الحج عند أحد من الأئمة المشهورين ) .
وهو يشير في آخر كلامه إلى أن هناك من العلماء من يقول بفساد الحج بأي معصية يرتكبها الحاج، فمن هؤلاء الإمام ابن حزم – رحمه الله – فإنه يقول : (وكل من تعمد معصية، – أي معصية كانت – وهو ذاكر لِحِجّه منذ يُحرم إلى أن يتم طوافه بالبيت للإفاضة ويرمي الجمرة فقد بطل حجه …). واحتج بالآية السابقة فراجعه فإنه مهم في كتابه (المحلى) (7/186). ومما سبق يتبيّن أن المعصية من الحاج إما أن تفسد عليه حجّهُ على قول ابن حزم، وإما أن يأثم بها، ولكن هذا الإثم ليس كما لو صدر من غير الحاج، بل هو أخطر بكثير، فإن من آثاره أن لا يرجع من ذنوبه كما ولدته أمه كما صرح بذلك الحديث المتقدم . فبذلك يكون كما لو خسر حجته لأنه لم يحصل على الثمرة منها وهي مغفرة الله – تعالى – فالله المستعان .
وإذا تبيّن هذا فلا بد لي من أن أحَذرَ من بعض المعاصي التي يَكثر ابتلاء الناس بها ويُحْرِمون بالحج ولا يشعرون إطلاقا بأن عليهم الإقلاع عنها، ذلك لجهلهم، وغلبة الغفلة عليهم وتقليدهم لآبائهم :
1ــ الشرك بالله – عز وجل : – فإن من أكبر المصائب التي أصيب بها بعض المسلمين جهلهم بحقيقة الشرك الذي هو من أكبر الكبائر ومن صفته أنه يحبط الأعمال { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [سورة الزمر : 65 ] .
فقد رأينا كثيرا من الحجاج يقعون في الشرك وهم في بيت الله الحرام، وفي مسجد النبي – عليه الصلاة والسلام – يتركون دعاء الله والاستغاثة به، إلى الاستعانة بالأنبياء بالصالحين، ويحلفون بهم ، ويدعونهم من دون الله – عز وجل – والله – عز وجل – يقول : {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [ سورة فاطر :41 ] .
والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا، وفي هذه كفاية لمن فتح قلبه للهداية . إذ ليس الغرض الآن البحث العلمي في هذه المسألة وإنما هو التذكير فقط.
فليت شعري ماذا يستفيد هؤلاء من حجهم إلى بيت الله الحرام، إذا كانوا يصرون على مثل هذا الشرك ويغيرون اسمه فيسمونه : توسلا، تشفعا، وواسطة ! أليست هذه الوساطة هي التي ادّعاها المشركون من قبل يبررون بها شركهم وعبادتهم لغيره – تبارك وتعالى – : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر :3]. فيا أيها الحاج قبل أن تعزم على الحج يجب عليك وجوبا عينيا أن تبادر إلى معرفة التوحيد الخالص وما ينافيه من الشرك وذلك بدراسة كتاب الله وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – فإن من تمسك بهما نجا، ومن حاد عنهما ضل. والله المستعان.
2ــ التزين بحلق اللحية : وهذه المعصية من أكثر المعاصي شيوعا بين المسلمين في هذا العصر، بسبب استيلاء الكفار على أكثر بلادهم، وَنقلِهم هذه المعصية إليها، وتقليد المسلمين لهم فيها، مع نهيه – صلى الله عليه وسلم – إياهم عن ذلك صراحة في قوله – عليه الصلاة والسلام: – (خالفوا المشركين احفوا الشوارب وأوفوا اللحى) رواه شيخان، وفي حديث آخر : (وخالفوا أهل الكتاب) .
وفي هذه القبيحة عدة مخالفات :
الأولى :مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم الصريح بالإعفاء .
الثانية :التشبه بالكفار .
الثالثة : تغير خلق الله الذي فيه طاعة الشيطان في قوله كما حكى الله – تعالى – ذلك عنه : { وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } [سورة النساء : 119].
الرابعة : التشبه بالنساء وقد لعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من فعل ذلك . وانظر تفصيل هذا الإجمال في كتابنا ( آداب الزفاف في السنة المطهرة ) ( ص 131 – 126) .
وإن من المشاهدات التي يراها الحريص على دينه أن جماهير من الحجاج يكونون قد وفروا لحاهم بسبب إحرامهم، فإذا تحللوا منه، فبدل أن يحلقوا رؤوسهم كما ندب إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حلقوا لحاهم التي أمرهم – صلى الله عليه وسلم – بإغفائها ! . فإنا لله وإنا إليه راجعون .
3 ــ تختم الرجال بالذهب :لقد رأينا كثيرا من الحجاج قد تزينوا بخاتم الذهب، ولدى البحث معهم في ذلك تبين أنهم على ثلاثة أنواع : بعضهم لا يعلم تحريمه ولذلك كان يسارع إلى نزعه بعد أن نذكر له شيئا من النصوص المحرمة كحديث ( نهى – صلى الله عليه وسلم – عن خاتم الذهب ) متفق عليه .
وقوله – صلى الله عليه وسلم – : ( يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده ؟ ) رواه مسلم .
وبعضهم على علم بالتحريم ولكنه متبع لهواه : فهذا لا حيلة لنا فيه إلا أن يهديه الله .
وبعضهم يعترف بالتحريم ولكن يعتذر بعذر هو كما يقال أقبح من ذنب – فيقول : إنه خاتم الخطبة . ولا يدري المسكين أنه بذلك يجمع بين معصيتين : مخالفة نهيه – صلى الله عليه وسلم – الصريح كما تقدم، وتشبه بالكفار، لأن خاتم الخطبة لم يكن معروفا عند المسلمين إلى ما قبل هذا العصر، ثم سرت هذه العادة إليهم من تقاليد النصارى .
وقد فصلت القول في هذه المسألة في (آداب الزفاف) أيضا (ص 138 – 139) وبينت فيه أن النهي المذكور يشمل النساء أيضا خلافا للجمهور، فراجع (ص 168 – 139) فإنه مهم جدا .
ثانيــــا : ننصح لكل من أراد الحج أن يدرس مناسك الحج على ضوء الكتاب والسنة، قبل أن يباشر أعمال الحج، ليكون تاما مقبولا عند الله – تبارك وتعالى -.وإنما قلت : على الكتاب والسنة لأن المناسك قد وقع فيها من الخلاف – مع الأسف – ما وقع في سائر العبادات، من ذلك مثلا : هل الأفضل أن ينوي في حجه التمتع أم القران أم الإفراد ؟ على ثلاثة مذاهب والذي نراه من ذلك إنما هو التمتع فقط، كما هو مذهب الإمام أحمد وغيره، بل ذهب بعض العلماء المحققين إلى وجوبه إذا لم يَسُق معه الهدي، منهم ابن حزم، وابن القيم، تبعا لابن عباس وغيره من السلف، وتجد تفصيل القول في ذلك في كتاب ( المحلّى ) و( زاد المعاد ) وغيرهما .
ولست أريد الآن الخوض في هذه المسألة بتفصيل، وإنما أريد أن أذكر بكلمة قصيرة تنفع إن شاء الله – تعالى – من كان مخلصا وغايته اتباع الحق، وليس تقليد الآباء أو المذهب، فأقول :
لا شك أن الحج كان في أول استئنافه – صلى الله عليه وسلم – إياه جائزا بأنواعه الثلاثة المتقدمة، وكذلك كان أصحابه – صلى الله عليه وسلم – منهم المتمتع، ومنهم القارن، ومنهم المفرد لأنه – صلى الله عليه وسلم – خيّرهم في ذلك كما في حديث عائشة – رضي الله عنها : – " خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : (من أرد منكم أن يُهلّ بحَجٍ وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يُهل بحج فليُهِل، ومن أراد أن يُهل بعمرة فليهل … ) ". الحديث رواه مسلم .
وكان هذا التخيير في أول إحرامهم عند الشجرة [ 1] كما في رواية لأحمد (245/6 ). ولكن النبي- صلى الله عليه وسلم – لم يستمر على هذا التخيير، بل نقلهم إلى ما هو أفضل وهو التمتع دون أن يعزم بذلك عليهم أو يأمرهم به وذلك في مناسبات شتى في طريقهم إلى مكة، فمن ذلك حينما وصلوا إلى (سرِف) وهو موضع قريب من التنعيم، وهو من مكة على نحو عشرة أميال، فقالت عائشة في رواية عنها …) : فنزلنا سرِف قالت : فخرج إلى أصحابه فقال : من لم يكن منكم أهدى فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا . قالت : فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه [ ممن لم يكن معه هدي ] ). الحديث متفق عليه. والزيادة لمسلم .
ومن ذلك لَمّا وصل – صلى الله عليه وسلم – إلى ( ذي ُطوى ) وهو موضع قريب من مكة وبات بها، فلما صلى الصبح قال لهم : ( من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة ) أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس، ولكنا رأيناه – صلى الله عليه وسلم – لما دخل مكة وطاف هو وأصحابه طواف القدوم، لم يدعهم على الحكم السابق وهو الأفضلية بل نقلهم إلى حكم جديد وهو الوجوب فإنه أمر من كان لم يسق الهدي منهم أن يفسخ الحج إلى عمرة ويتحلل فقالت عائشة – رضي الله عنها -) : خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا نرى إلا أنه الحج، فلما قدمنا مكة تطوفنا بالبيت، فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – من لم يكن ساق الهدي أن يَحل، قالت : فحَلّّ من لم يكن ساق الهديَ ونساؤه لم يسقن. فأحللن …) الحديث متفق عليه .
وعن ابن عباس نحوه بلفظ 🙁 فأمرهم أن يجعلوها عُمرة فتعاظم ذلك عندهم فقالوا : يا رسول الله أيّ الحِلّ ؟ قال : الحِلّ كله ) متفق عليه . وفي حديث جابر نحوه وأوضح منه كما يأتي فقرة (33 – 45) .
قلت : فمن تأمل في هذه الأحاديث الصحيحة، تبين له بيانا لا يشوبه ريب أن التخيير الوارد فيها إنما كان منه – صلى الله عليه وسلم – لإعداد النفوس وتهيئتها لتقبل حكم جديد قد يصعب ولو على البعض تقبله بسهولة لأول وهلة ألا وهو الأمر بفسخ الحج إلى العمرة لا سيما وقد كانوا في الجاهلية – كما هو ثابت في (الصحيحين ) : – يرون أن العمرة لا تجوز في أشهر الحج، وهذا الرأي وإن كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد أبطله باعتماره – صلى الله عليه وسلم – ثلاث مرات في ثلاث سنوات كلها في شهر ذي القعدة، فهذا وحده وإن كان كافيا في إبطال تلك البدعة الجاهلية، فإنه ولا قرينة هنا، بل لا يكفي – والله أعلم – لإعداد النفوس لتقبل الحكم الجديد، فلذلك مهّدَ له – صلى الله عليه وسلم – بتخييرهم بين الحج والعمرة مع بيان ما هو الأفضل لهم، ثم أتبع ذلك بالأمر الجازم بفسخ الحج إلى العمرة كما تقدم .
فإذا عرفنا ذلك، فهذا الأمر للوجوب قطعا، ويدل على ذلك الأمور التالية :
الأول : أن الأصل فيه الوجوب إلا لقرينة، ولا قرينة هنا، بل والقرينة هنا تؤكده وهي الأمر التالي وهو :
الثاني : أنه – صلى الله عليه وسلم – لما أمرهم تعاظم ذلك عندهم كما تقدم آنفا ولو لم يكن للوجوب لمْ يتعاظموه ألم ترَ أنه – صلى الله عليه وسلم – قد أمرهم من قبل ثلاث مرات أمْرَ تخيير، ومع ذلك لم يتعاظموه فدل على أنهم فهموا من الأمر الوجوب وهو المقصود .
الثالث : أن في رواية في حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت : (… فدخل عََلَيّ وهو غضبان، فقلت : من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار ! قال : أوَما شعرتِ أني أمرتُ الناس بأمرٍ فإذا هم يتردّدون، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سُقت الهدي معي حتى أشتريه ثم أحلّ كما حَلوا ). رواه مسلم والبيهقي وأحمد (6/175) .
ففي غضبه – صلى الله عليه وسلم – دليل واضح على أن أمره كان للوجوب، لا سيما وأن غضبه – صلى الله عليه وسلم – إنما كان لترددهم، لا من أجل امتناعهم من تنفيذ الأمر، وحاشاهم من ذلك، ولذلك حلوا جميعا إلا من كان معه هدي كما يأتي في الفقرة ( 44).
الرابع : قوله – صلى الله عليه وسلم – : لما سألوه عن الفسخ الذي أمرهم به : (ألِعامِنا هذا أم لأبد الأبد ؟) فشبك – صلى الله عليه وسلم – أصابعه واحدة في أخرى وقال : (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، لا بل لأبد أبد، لا بل لأبد أبد ) . كما يأتي في الفقرة (24) .
فهذا نص صريح على أن العمرة أصبحت جزءا من الحج لا يتجزأ، وأن هذا الحكم ليس خاصا بالصحابة كما يظن البعض بل هو مستمر إلى الأبد .[2]
خامسا : أن الأمر لو لم يكن للوجوب لكفى أن ينفذه بعض الصحابة، فكيف وقد رأينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يكتفي بأمر الناس بالفسخ أمرا عاما فهو تارة يأمر بذلك ابنته فاطمة – رضي الله عنها – كما يأتي (فقرة 48)، وتارة يأمر به أزواجه كما في (الصحيحين) عن ابن عمر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر أزواجه أن يَحللن عام حجة الوداع قالت حفصة : فقلت : ما يمنعك أن تحل ؟ قال : (إني لبدت رأسي …) الحديث . ولما جاء أبو موسى من اليمن حاجا قال له – صلى الله عليه وسلم – : (بم أهللت) ؟ قال : أهللت بإهلال النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : هل سقت من الهدي ؟ قال : لا. قال : ( فطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حِل …) الحديث .
فهل هذا الحرص الشديد من النبي – صلى الله عليه وسلم – على تبليغ أمره بالفسخ إلى كل مكلف لا يدل على الوجوب ؟ اللهم إن الوجوب ليَثبُت بأدنى من هذا !.
ولوضوح هذه الأدلة الدالة على وجوب الفسخ بَلهَ التمتع لم يسع المخالفين لها إلا التسليم بدلالتها، ثم اختلفوا في الإجابة عنها فبعضهم ادعى خصوصية ذلك بالصحابة، وقد عرفت بطلان ذلك مما سبق .
وبعضهم ادعى نسخه ولكنهم لم يستطيعوا أن يذكروا ولو دليلا واحدا يحسن ذكره والرد عليه، اللهم إلا نَهْيُ عمر – رضي الله عنه – وكذا عثمان وابن الزبير كما في ( الصحيحين ) وغيرهما .
والجواب من وجوه :
الأول : أن الذين يحتجون بهذا النهي عن المُتعة لا يقولون به، لأن من مذهبهم جوازها، فما كان جوابهم عنه فهو جوابنا .
الثاني : أن هذا النهي قد أنكره جماعة من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – منهم عليّ، وعمران بن حصين، وابن عباس، وغيرهم .
الثالث : أنه رأي مخالف للكتاب، فضلا عن السنة، قال الله- تعالى – : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [البقرة : 196] .
وقد أشار إلى هذا المعنى عمران بن حصين – رضي الله عنه – بقوله : (تمتعنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم ينزل فيه القرآن) . وفي رواية : (نزلت آية المتعة في كتاب الله – يعني متعة الحج – وأمرنا بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – . ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج , ولم ينه عنها رسول الله – صلى الله عيه وسلم – حتى مات ) قال رجل برأيه بعد ما شاء ) . رواه مسلم .
وقد صرح عمر – رضي الله عنه – بمشروعية التمتع، وأنّ نهيَه عنه، أو كراهته له، إنما هو رأيٌ رآهُ لعلةٍ بدت له فقال : (قد علمت أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا مُعَرّسين بهن[3] في الأراك[4] ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم) رواه مسلم وأحمد .
ومن الأمور التي تستلفتُ نَظرَ الباحث أن هذه العلة التي اعتمدَها عمر – رضي الله عنه – في كراهته التمتع هي عينها التي تذرّع بها الصحابة الذين لم يبادروا إلى تنفيذ أمره – صلى الله عليه وسلم- بالفسخ في ترك المبادرة فقالوا : (خرجنا حُجّاجا لا نريد إلا الحج، حتى إذا لم يكن بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، أُمِرْنا أن نُفضي إلى نسائنا، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني من النساء …) انظر الفقرة ( 40 ) .
وقد رد النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك بقوله : ( أبالله تعلموني أيها الناس ؟ قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، افعلوا ما آمركم به، فإني لو لا هديي لحللت كما تحلون ) (فقرة 42) .
فهذا يبين لنا أن عمر – رضي الله عنه – لو استحضر حين كَرِهَ للناس التمتع قول الصحابة هذا الذي هو مثل قوله، وتذكر معه رد النبي – صلى الله عليه وسلم – عليهم لما كره ذلك ونهى الناس عنه .
وفي هذا دليل على أن الصحابي الجليل قد تخفى عليه سنة من سنن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، أو قول من أقواله، فيجتهد برأيه فيخطئ، وهو مع ذلك مأجور غير مأزور والعصمة لله وحده ثم لرسوله .
وقد يقول قائل : إن ما ذكرته من الأدلة على وجوب التمتع وعلى رد ما يخالفه واضح مقبول، ولكن يشكل عليه ما يذكره البعض أن الخلفاء الراشدين جميعا كانوا يفردون الحج , فكيف التوفيق بين هذا وبين ما ذكرت ؟ .
والجواب : أنه سبق أن بينا أن التمتع إنما يجب على من لم يسق الهدي، وأما من ساق الهدي فلا يجب عليه ذلك، بل لا يجوز له وإنما عليه أن يقرن وهو الأفضل، أو يفرد، فيحتمل أن ما ذكر عن الخلفاء من الإفراد إنما هو لأنهم كانوا ساقوا الهدي . وحينئذ فلا منافاة والحمد لله .
وخلاصة القول : أن على كل من أراد الحج أن يلبي عند إحرامه بالعمرة، ثم يتحلل منها بعد فراغه من السعي بين الصفا والمروة بقص شعره . وفي اليوم الثامن من ذي الحجة يُحرم بالحج.
فمن كان لبّى بالقِرانِ أو الحج المفرد فعليه أن يفسخ ذلك بالعمرة إطاعة لنبيه – صلى الله عليه وسلم – والله – عز وجلّ- يقول : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [ النساء : 80 ] .
وعلى المتمتع بعد ذلك أن يقدّم هدْيا يوم النحر، أو في أيام التشريق، وهو من تمام النسك، وهو دم شكران وليس دم جبران، وهو – كما قال ابن القيم – بمنزلة الأضحية للمقيم وهو من تمام عبادة هذا اليوم فالنسك المشتمل على الدم بمنزلة العيد المشتمل على الأضحية وهو من أفضل الأعمال فقد جاء من طرق أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سئل : أي الأعمال أفضل ، فقال : (العج الثج) وصححه ابن خزيمة والحاكم والذهبي وحسنه المنذري .
والعج : رفع الصوت بالتلبية . والثج : إراقة دم الهدي .
وعليه أن يأكل من هديه كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ما يأتي بيانه ( فقرة 90 ) ولقوله – عز وجل – فيما يُذبح من الهدي في منى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } [سورة الحج : 28].
وقد اتصلنا بكثير من الحجاج فعرفنا منهم أنهم مع كونهم يَعلمون أن التمتع أفضل من الإفراد فكانوا يُفردون ثم يأتون بالعمرة بعد الحج من التنعيم وذلك لئلا يلزمهم الهدي.
وفي هذا من المخالفة للشارع الحكيم والاحتيال على شرعه ما لا يخفى فساده، فإن الله بحكمته شرع العمرة قبل الحج، وهم يعكسون ذلك، وأوجبَ على المتمتع هدْياً، وهم يفرون منه ! وليس ذلك من عمل المتقين، ثم هم يطمعون أن يتقبل الله حجهم، وأن يغفر ذنبهم، هيهات هيهات، فـ{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [ المائدة : 27 ] وليس من البخلاء المحتالين .فكن أيها الحاج متقيا لربك متبعا لسنة نبيك في مناسِكك عسى أن ترجع من ذنوبك كيوم ولدتك أمك .
ثالثا : واحذر يا أخي أن تدع البيات في منى ليلة عرفة، وكذا البيات في المزدلفة ليلة النحر، فذلك من هدي نبيك – صلى الله عليه وسلم – لا سيما والبيات في المزدلفة حتى الصبح ركن من أركان الحج على الراجح من أقوال أهل العلم . ولا تغتر بما يزخرَفُه لك من القول بعض من يسمون بـ(المطوفين) فإنهم لا همّ لهم إلا قبض الفلوس، وتقليل العمل الذي أخذوا عليه الأجر كافيا وافيا على أدائه بتمامه، وسواء عليهم بعد ذلك أتم حجك أم نقص، أتبعتَ سنة نبيك أم خالفت ؟ ! .
رابعا : واحذر أيضا يا أخي من أن تمر بين يدي أحد من المصلين في المسجد الحرام وفي غيره من المساجد، لقوله – صلى الله عليه وسلم : – ( لو يعلم المار بين يدي المصلي ما ذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه ) . قال الراوي : لا أدري قال : أربعين يوما أو شهرا أو سنة . رواه الشيخان في (صحيحيهما) . وكما لا يجوز لك هذا، فلا يجوز لك أيضا أن تصلي إلى غير سترة، بل عليك أن تصلي إلى أي شيء يمنع الناس من المرور بين يديك . فإن أراد أحد أن يجتاز بينك وبين سترتك فعليك أن تمنعه . وفي ذلك أحاديث وآثار أذكر بعضها :
1. ( إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبالي من مر من وراء ذلك .
2. ( إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره وليدرأ ما استطاع فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان ) . [5] .
3. قال يحيى بن كثير : ( رأيت أنس بن مالك دخل المسجد الحرام فركز شيئا أو هيأ شيئا يصلي إليه ). رواه ابن سعد ( 7/18 ) بسند صحيح .
4. عن صالح بن كيسان قال : (رأيت ابن عمر يصلي في الكعبة ولا يدع أحدا يمر بين يديه ) .( رواه أبو زرعة الرازي في ( تاريخ دمشق ) ( 91/1 ) [6] وكذا ابن عساكر في ( تاريخ دمشق ) ( 8/106/2 ) بسند صحيح .
ففي الحديث الأول : إيجاب اتخاذ السترة، وأنه إذا فعل ذلك فلا يضره من مرّ وراءها .
وفي الحديث الثاني : إيجاب دفع المار بين يدي المصلي إذا كان يصلي إلى سترة، وتحريم المرور عمدا وأن فاعل ذلك شيطان . وليت شعري ما هو الكسب الذي يعود به الحاج إذا رجع وقد استحق هذا الاسم : (الشيطان؟!).
والحديثان وما في معناهما مطلقان لا يختصان بمسجد دون مسجد، ولا بمكان دون مكان، فهما يشملان المسجد الحرام والمسجد النبوي من باب أولى، لأن هذه الأحاديث إنما قالها – صلى الله عليه وسلم – في مسجده فهو المراد بها أصالة والمساجد الأخرى تبعا . والأثران المذكوران نصان صريحان على أن المسجد الحرام داخل في تلك الأحاديث، فما يقال من بعض المطوّفين وغيرهم أن المسجد المكي والمسجد النبوي مستثنيان من النهي، لا أصل له في السنة، ولا عن أحد من الصحابة، اللهم سوى حديث واحد رُوي في المسجد المكي لا يصح إسناده، ولا دلالة فيه على الدعوى كما سيأتي بيانه في (بدع الحج) (الفقرة 124).
خامسا : وعلى أهل العلم والفضل، أن يغتنموا فرصة التقائهم بالحجاج في المسجد الحرام وغيره من المواطن المقدسة، فيُعلموهم ما يلزم من مناسك الحج وأحكامه على وفق الكتابة السنة، وأن لا يشغلهم ذلك عن الدعوة إلى أصل الإسلام الذي من أجله بعثت الرسل وأنزلت الكتب، ألا وهو التوحيد فإن أكثر من لقيناهم حتى ممن ينتمي إلى العلم وجدناهم في جهل بالغ بحقيقة التوحيد وما ينافيه من الشركيات والوثنيات، كما أنهم في غفلة تامة عن ضرورة رجوع المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وكثرة أحزابهم، إلى العمل الثابت في الكتاب والسنة، في العقائد. والأحكام، المعاملات، والأخلاق، والسياسة، والاقتصاد، وغير ذلك من شؤون الحياة، وأن أي صوت يرتفع، وأي إصلاح يزعم على غير هذا الأصل القويم والصراط المستقيم فسوف لا يجني المسلمون منه إلا ذلا وضعفا، والواقع أكبر شاهد على ذلك والله المستعان .
وقد تتطلب الدعوة إلى ما سبق شيئا قليلا أو كثيرا من الجدال بالتي هي أحسن كما قال الله – عز وجل – : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [ سورة النحل 125 ] : فلا يصدنك عن ذلك معارضة الجهلة بقوله – تعالى – : { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [ سورة البقرة : 196 ] .فإن الجدال المنهي عنه في الحج هو : كالفسق المنهي عنه في غير الحج أيضا، وهو الجدال بالباطل وهو غير الجدال المأمور به في آية الدعوة.
قال ابن حزم – رحمه الله – ( 7/196) : (والجدال قسمان : قسم واجب وحق، وقسم في باطل، فالذي في الحق واجب في الإحرام وغير الإحرام، قال – تعالى – : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ }[ سورة النحل . [125] .
ومن جادل في طلب حق له، فقد دعا إلى سبيل ربه – تعالى -، وسعى في إظهار الحق والمنع من الباطل، وهكذا كل من جادل في حق لغيره أو لله – تعالى -.
والجدال بالباطل وفي الباطل عمداً ذاكراً لإحرامه مُبْطِل للإحرام وللحج لقوله – تعالى – : { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [ سورة البقرة : 196 ] " .
وهذا كله على أن ( الجدال ) في الآية بمعنى المخاصمة والملاحاة حتى تغضب صاحبك . وقد ذهب إلى هذا المعنى جماعة من السلف، وعزاه ابن قدامة في (المغني) (3/296) إلى الجمهور ورجحه .
وهناك في تفسيره قول آخر : وهو المجادلة في وقت الحج ومناسكه واختاره ابن جرير ثم ابن تيمية في ( مجموعة الرسائل الكبرى ) ( 2/361 ) وعلى هذا فالآية غير واردة فيما نحن فيه أصلا . والله أعلم .
ومع ذلك فإنه ينبغي أن يلاحظ الداعية أنه إذا تبين له أنه لا جدوى من المجادلة مع المخالف له لتعصبه لرأيه، وأنه إذا صابَره على الجدل فلربما ترتب عليه ما لا يجوز، فمن الخير له حينئذ أن يدع الجدال معه لقوله – صلى الله عليه وسلم : ( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا ) . رواه أبو داود بسند حسن عن أبي أمامة وللترمذي نحوه من حديث أنس وحسنه .
وفقنا الله والمسلمين لمعرفة سنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – واتباع هديه .
لا حـَــــرَج
وهذه الأمور يتحرج منها بعض الحجاج وهي جائزة :
1. الاغتسال لغير احتلام، ودَلك الرأس : ففي (الصحيحين) وغيرهما عن عبد الله بن حنين عن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة أنهما اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله بن عباس : يغسل المحرم رأسه، وقال المسور : لا يغسل المحرم رأسه، فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله عن ذلك فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستتر بثوب فسلمت عليه فقال : ( من هذا ؟ فقلت : أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يغسل رأسه وهو محرم ؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه : اصبب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر ثمّ قال : هكذا رأيته – صلى الله عليه وسلم – يفعل ) . زاد مسلم : ( فقال المسور لابن عباس : لا أماريك أبدا ) .
وروى البيهقي بسند صحيح عن ابن عباس قال : (ربما قال لي عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – : تعال أباقيك في الماء أينا أطول نفسا ونحن محرمون).
وعن عبد الله بن عمر (أن عاصم بن عمر وعبد الرحمن بن زيد وقعا في البحر يتمالقان ( يتغاطسان ) يغيب أحدهما رأس صاحبه وعمر ينظر إليهما فلم ينكر ذلك عليهما).
2. حكّ الرأس ولوْ سقط بعض الشعر : وحديث أبي أيوب المتقدم آنفا دليل عليه. وروى مالك ( 1/358/92 ) عن أم علقمة بن أبي علقمة أنها قالت" : سمعت عائشة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – تسأل عن المُحرِم : أيحك جسده ؟ فقالت : نعم فليحكه وليشدُدْ، ولو رُبـِطتْ يدايَ ولم أجد إلا رجلي لحككت " . وسنده حسن في الشواهد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (المجموعة الكبرى) (2/368) : وله أن يحك بدنه إذا حكه وكذلك إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره).
3. الاحتجام ولو بحلق الشعر مكان الحجم : لحديث ابن بحينة – رضي الله عنه – قال : (احتجم النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو محرم بـ ( لحي جمل ) – موضع بطريق مكة – في وسط رأسه) . متفق عليه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( مناسكه ) ( 2/338 ) : ( وله أن يحك بدنه إذا حكّه، ويحتجمَ فى رأسه وغير رأسه، وإن احتاج أن يحلقَ شعراً لذلك جاز فإنه قد ثبت في الصحيح) ثم ساق هذا الحديث ثم قال : (ولا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر، وكذلك إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره، وإن تيقن أنه انقطع بالغسل) .
وهذا مذهب الحنابلة كما في ( المغني ) ( 3/306 ) ولكنه قال : ( وعليه الفدية ).
وبه قال مالك وغيره . ورده ابن حزم بقوله : ( 7/257 ) عقب هذا الحديث : (لم يخبر – عليه السلام – أن في ذلك غرامة ولا فدية، ولو وجبت لما أغفل ذلك، وكان – عليه السلام – كثير الشعر أفرَع [7] وإنما نُهينا عن حلق الرأس في الإحرام ) .
4. شمّ الريحان وطرح الظفر إذا انكسر : قال ابن عباس – رضي الله عنه) : – المحرم يدخل الحمام، وينزع ضرسه، ويشم الريحان، وإذا انكسر ظفره طرحه. ويقول : أميطوا عنكم الأذى فإن الله – عز وجل – لا يصنع بأذاكم شيئا . ( رواه البيهقي (5/62 – 63) بسند صحيح .
وإلى هذا ذهب ابن حزم (7/246) . وروى مالك عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم أنه سأل سعيد بن المسيب عن ظفر له انكسر وهو محرم ؟ فقال سعيد : اقطعه .
5. الاستظلال بالخيمة أو المظلة ( الشمسية ) وفي السيارة، ورفع سقفها : من بعض الطوائف تشدد، وتنطع في الدين، ولم يأذن به رب العالمين . فقد صح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بنصب القبة له بـ(نمرة) ثم نزل بها، كما سيأتي في الكتاب فقرة (57 – 58) .
وعن أم الحصين – رضي الله عنه – قالت : (حججت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا – رضي الله عنهما – وأحدهما آخذ بخطام ناقته، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة ) رواه مسلم والبيهقي (5/69) .
وأما ما روى البيهقي عن نافع قال : (أبصر بن عمر – رضي الله عنه – رجلا على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس، فقال له : ضحّ لمن أحرمت له) .
وفي رواية من طريق أخرى : " أنه رأى عبد الله بن أبي ربيعة جعل على وسط راحلته عودا، وجعل ثوبا يستظل به من الشمس وهو محرم، فلقيه ابن عمر فنهاه " .
قلت : فلعل ابن عمر – رضي الله عنه – لم يبلغه حديث أم الحصين المذكور، وإلا فما أنكره هو عين ما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولذلك قال البيهقي : هذا موقوف وحديث أم الحصين صحيح ) . يعني فهو أولى بالأخذ به وترجَمَهُ له بقوله :(باب المحرم يستظل بما شاء ما لم يمس رأسه) .[8]
6. وله أن يشد المنطقة والحزام على إزاره وله أن يعقده عند الحاجة وأن يتختم وأن يلبس ساعة اليد ويضع النظارة لعدم النهي عن ذلك وورد بعض الآثار بجواز شيء من ذلك .
فعن عائشة – رضي الله عنها – أنها سُئلت عن الهيمان [9] للمحرم ؟ فقالت : وما بأس ؟ ليستوثق من نفقته . وسنده صحيح . وعن عطاء : يتختم – يعني المحرم – ويلبس الهيمان . رواه البخاري تعليقا .
قلت : ولا يخفى أن الساعة والنظارة في معنى الخاتم والمنطقة مع عدم ورود ما ينهى عنهما { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [سورة مريم : 64] .
{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [سورة البقرة 185] .
دمشق في 15 شوال 1384 هـ .
محمد ناصر الدين الألباني .
_____________
[1] أي : عند ذي الحليفة .
[2] وقد رددنا على القائلين بالخصوصية في التعليق على الفقرة المشار إليها من الكتاب الصفحة (63) .
[3] أي : مُلِـمّينَ بنسائهم .
[4] أي : في شجر الأراك، كناية عن التستر به وهو شجر من الحمض يستاك به . وهو أيضا موضع بعرفة، وليس مرادا هنا خلافا لبعض المعلقين على مسلم، فإن الحجاج في هذا الموضع يكونون مُحرمين لا يجوز لهم وطء نسائهم .
[5] حديثان صحيحان مخرجان في " صفة الصلاة " لنا ( 51 / 53 الطبعة الثالثة) .
[6] وهو تحت الطبع في مطابع المكتب الإسلامي .
[7] الأفرَع : التام الشعر .
[8] قلت : فقول شيخ الإسلام : " والأفضل للمحرم أن يضحي لمن أحرم له كما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه يحُجون " فيه نظر بيّن لا يخفى على القارئ .
[9] الهيمان : هو شِداد السراويل، وشِدادُ المِنـْطـَق [10]، وشِداد كيس النفقة يُشَدّ في الوسط. جمع هَمايـِن وهمايين . انظر : [ المعجم الوسيط 2/996]
[10] المِنـْطـَـق : ما يُشَدّ به الوسط . انظر : [ المعجم الوسيط 2/931] .
___________
المرجع :
مقدمــــــــــــة كتـــــــــــاب :
[حجة النبي – صلى الله عليه وسلم – كما رواها عنه جابر – رضي الله عنه – ص 4 – 31] لفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله
بدع الحــــــــج والعمــــــــرة والزيارة
وقد رأيت أن ألحق بالكتاب ذيلا أسرد فيه بدع الحج وزيارة المدينة المنورة وبيت المقدس ــ رده الله وسائر بلاد المسلمين إليهم ــ لأن كثيرا من الناس لا يعرفونها فيقعون فيها، فأحببت أن أزيدهم نصحا ببيانها والتحذير منها ذلك لأن العمل لا يقبله الله – تبارك وتعالى – إلا إذا توفر فيه شرطان اثنان :
الأول : أن يكون خالصا لوجهه عز وجل .
والآخر : أن يكون صالحا ولا يكون صالحا إلا إذا كان موافقا للسنة غير مخالف لها ومن المقرر عند ذوي التحقيق من أهل العلم أن كل عبادة مزعومة لم يشرعها لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقوله ولم يتقرب هو بها إلى الله بفعله فهي مخالفة لسنته، لأن السنة على قسمين :
سنة فعلية وسنة تركية، فما تركه – صلى الله عليه وسلم – من تلك العبادات فمن السنة تركها ألا ترى مثلا أن الأذان للعيدين ولدفن الميت مع كونه ذكرا وتعظيما لله عز وجل لم يجز التقرب به إلى الله – عز وجل – وما ذلك إلا لكونه سنة تركها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد فهم هذا المعنى أصحابه – صلى الله عليه وسلم – فكثر عنهم التحذير من البدع تحذيرا عاما كما هو مذكور في موضعه حتى قال حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه – :(كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلا تعبدوها) .
وقال ابن مسعود – رضي الله عنه – :(اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم عليكم بالأمر العتيق) .
فهنيئا لمن وفقه الله للإخلاص له في عبادته واتباع سنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – ، ولم يخالطها ببدعة ، إذا فليبشر بتقبل الله عز وجل لطاعته وإدخاله إياه في جنته . جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .
واعلم أن مرجع البدع المشار إليها إلى أمور :
الأول : أحاديث ضعيفة لا يجوز الاحتجاج بها ولا نسبتها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم – ومثل هذا لا يجوز العمل به عندنا على ما بينته في مقدمة (صفة صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم -) وهو مذهب جماعة من أهل العلم كابن تيمية وغيره .
الثاني : أحاديث موضوعة أو لا أصل لها خفي أمرها على بعض الفقهاء فبنوا عليها أحكاما هي من صميم البدع ومحدثات الأمور .
الثالث : اجتهادات واستحسانات صدرت من بعض الفقهاء خاصة المتأخرين منهم لم يدعموها بأي دليل شرعي بل ساقوها مساق المسلمات من الأمور حتى صارت سننا تتبع ولا يخفى على المتبصر في دينه أن ذلك مما لا يسوغ اتباعه إذ لا شرع إلا ما شرعه الله – تعالى – وحسب المستحسن إن كان مجتهدا أن يجوز له هو العمل بما استحسنه، وأن لا يؤاخذه الله به، أما أن يتخذ الناس ذلك شريعة وسنة فلا ثم لا .
فكيف وبعضها مخالف للسنة العملية كما سيأتي التنبيه عليه – إن شاء الله تعالى – ؟
الرابع : عادات وخرافات لا يدل عليها الشرع ولا يشهد لها عقل وإن عمل بها بعض الجهال واتخذوها شرعة لهم ولم يعدموا من يؤيدهم ولو قي بعض ذلك ممن يدعي أنه من أهل العلم ويتزيا بزيهم .
ثم ليعلم أن هذه البدع ليست خطوتها في نسبة واحدة بل هي على درجات فبعضها شرك وكفر صريح كما سترى وبعضها دون ذلك ولكن يجب أن يعلم أن أصغر بدعة يأتي الرجل بها في الدين هي محرمة بعد تبين كونها بدعة فليس في البدع كما يتوهم بعضهم ما وهو في رتبة المكروه فقط كيف ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول :( كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ) أي صاحبها .
وقد حقق هذا أتم تحقيق الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه العظيم (الاعتصام) ولذلك فأمر البدعة خطير جدا لا يزال أكثر الناس في غفلة عنه ولا يعرف ذلك إلا طائفة من أهل العلم وحسبك دليلا على خطورة البدعة قوله – صلى الله عليه وسلم – : (إن الله احتجر التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته) . رواه الطبراني والضياء المقدسي في (الأحاديث المختارة) وغيرهما بسند صحيح وحسنه المنذري. انظر : (سلسلة الأحاديث الصحيحة) (1620) .
وأختم هذه الكلمة بنصيحة أقدمها إلى القراء من إمام كبير من علماء المسلمين الأولين وهو الشيخ حسن بن علي البربمهاري من أصحاب الإمام أحمد – رحمه الله – المتوفى سنة (329) قال – رحمه الله تعالى – :
(واحذر من صغار المحدثات فإن صغار البدع تعود حتى تصير كبارا، وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيرا يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطيع المخرج منها، فعظمت وصارت دينا يُدانُ به، فانظر رحِمك الله كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة، فلا تعجلن، ولا تدخل في شيء منه حتى تسأل وتنظر : هل تكلم فيه أحد من أصحاب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو أحد من العلماء ؟ فإن أصبت أثرا عنهم فتمسك به ولا تجاوزه لشيء ولا تختر عليه شيء فتسقط في النار .
واعلم رحمك الله أنه لا يتم إسلام عبد حتى يكون متبعا، ومصدقا، مسلما، فمن زعم أنه قد بقي شيء من أمر الإسلام لم يكفوناه أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم – فقد كذبهم، وكفى بهذا فرقة وطعنا عليهم، فهو مبتدع ضال مضل محدث في الإسلام ما ليس فيه) .
قلت : ورحم الله الإمام مالك حيث قال : (لا يصلح آخر هذه الأمة، إلا بما صلح به أولها، فما لم يكن يومئذ دينا، لا يكون اليوم دينا) .
وصلى الله على نبينا القائل : (ما تركت شيئا يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، وما تركت شيئا يبعدكم عن الله ويقربكم إلى النار، إلا وقد نهيتكم عنه) .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
بــــــــــــدع ما قبل الإحــــــــــــرام :
1. الإمساك عن السفر في شهر صفر وترك ابتداء الأعمال فيه من النكاح والبناء وغيره .
2. ترك السفر في محاق الشهر وإذا كان القمر في العقرب .
3. ترك تنظيف البيت وكنسه عقب السفر المسافر .
4. صلاة ركعتين حين الخروج إلى الحج يقرأ في الأولى بعد الفاتحة و{قل يا أيها الكافرون} وفي الثانية (الإخلاص) فإذا فرغ قال : (اللهم بك انتشرت وإليك توجهت . . . .) ويقرأ آية الكرسي وسورة الإخلاص والمعوذتين وغير ذلك مما جاء في بعض الكتب الفقهية .
5. صلاة أربع ركعات .
6. قراءة المريد للحج إذا خرج من منزله آخر سورة (آل عمران) وآية الكرسي و{أنا أنزلناه} و(أم الكتاب) بزعم أن فيها قضاء حوائج الدنيا والآخرة .
7. الجهر بالذكر والتكبير عند تشييع الحجاج وقدومهم .
8. الأذان عند توديعهم .
9. المحمل والاحتفال بكسوة الكعبة، وقد قضي على هذه البدعة والحمد لله منذ سنين ولكن لا يزال في مكانها البدعة التي بعدها . وفي الباجوري على ابن القاسم (1/41) : (ويحرم التفرج على المحمل المعروف وكسوة مقام إبراهيم ونحوه) .
10. توديع الحجاج من قبل بعض الدول بالموسيقى .
11. السفر وحده أنسا بالله تعالى كما يزعم بعض الصوفية .
12. السفر من غير زاد لتصحيح دعوى التوكل .
13. (السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين) .
14. (عقد الرجل على المرأة المتزوجة إذا عزمت على الحج وليس معها محرم يعقد عليها ليكون معها كمحرم) (وهذا والذي بعده من أخبث البدع لما فيه من الاحتيال على الشرع والتعرض للوقوع في الفحشاء كما لا يخفى .
15. مؤاخاة المرأة للرجل الأجنبي ليصير بزعمهما محرما لها ثم تعامله كما تعامل محارمها .
16. سفر المرأة مع عصبة من النساء الثقات بزعمهن بدون محرم ومثله أن يكون مع إحداهن محرم فيزعمن أنه محرم عليهن جميعا .
17. أخذ المكس (أي ضريبة الجمارك) من الحجاج القاصدين لأداء فريضة الحج .
18. صلاة المسافر ركعتين كلما نزل منزلا وقوله : اللهم أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين .
19. قراءة المسافر في كل منزل ينزله سورة الإخلاص إحدى عشرة مرة وآية الكرسي مرة وآية { =وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ =} مرة .
20. الأكل من فحا (يعني البصل) كل أرض يأتيها المسافر .
21. (قصد بقعة يرجو الخير بقصدها، ولم تستحب الشريعة ذلك مثل المواضع التي يقال : إن فيها أثر النبي – صلى الله عليه وسلم – كما يقال في صخرة بيت المقدس، ومسجد القدم قبلي دمشق، وكذلك مشاهد الأنبياء والصالحين) (وقد صح عن عمر – رضي الله عنه – أنه رأى الناس في حجته يبتدرون إلى مكان فقال : ما هذا ؟ فقيل : مسجد صلى فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : هكذا هلك أصحاب الكتاب، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له منكم فيها الصلاة فليصل، وإلا فلا يصل) .
22. ( شهر السلاح عند قدوم تبوك ) .
يتبع باذن الله :بدع الاحرام و التلبية و الطواف