بسم الله الرحمن الرحيم
-يعد موضوع اللفظ والمعنى من الموضوعات التي شغلت بال القدامى من العرب وغيرهم فكان لليونان حظ السبق في استعراض حقيقة التعبير الأدبي وجمالياته سواء في الشعر أو النثر أنها ترتكز على الألفاظ ومعانيها وما لهما من صلة التواصل .
وقد أوعزوا جمال الاسلوب الى نظام الجملة وتوازي أجزائها كما نجد ذلك عند
*أفلاطون , وأرسطو * غير أن أرسطويذهب الى التحديد والدقة أكثر وهو يميز الفرق الكبير بين اللغة الجمالية ووظيفتها المنطقية وكأنه بذلك يرد على من يرى أنالقبيح يظل قبيحا مهما يكن التعبير عنه بل يرى أنه يمكن أن يدل عليها بكلمات تستر هذا القبح .
والكلمات عنده رموز للمعاني ووسيلة للمحاكاة , فيقول :" جمال الكلمات وقبحها ينشأ عن جرسها أو معناها " .
وكلمات " المجاز " عنده يجب أن تكون جميلة في الأذن وفي الفهم , وفي العين وفي كل حاسة من الحواس الأخرى . والألفاظ يراها تتفاوت فيما بينها
جمالا وقبحا من حيث دلالتها على المعنى وعلى جوانبه المختلفة .
-أما عند العرب :عالجوا مسألة اللفظ والمعنى على أساس المقابلة بين كل منهما , وانقسم النقاد في ذلك الى طوائف .
-1- طائفة تنظر الى مقومات العمل الأدبي من جانب المعنى غافلة اللفظ
-2- طائفة تنظر فقط الى الألفاظ
-3- طائفة ساوت بين اللفظ والمعنى
-4- طائفة نظرت الى الألفاظ من جهة دلالتها على معانيها في نظم الكلام
وهذه الفئة هي التي رجح رأيها للصواب .
فهذا *أبو عمرالشيباني * كان لا يحفل الا بالمعنى فمتى كان المعنى رائقا حسنا
لا يهم في أية عبارة وضع , وهناك من سار مساره ك * بن الرومي , والمتنبي
وغيرهم * ممن يطلبون صحة المعنى وقوته وليس معنى ذلك عدم الاهتمام باللفظ بل جعلوه في الدرجة الثانية بعد اللفظ وبالتالي هم يشبهون الألفاظ
بالمعرض أو الثوب للجارية الحسناء . التي تزداد حسنا في بعض الثياب دون أخرى . وكم من معنى حسن قبح بمعرضه الذي أبرز فيه وكم من معرض حسن ابتذل على معنى قبيح ألبسه .
-ترجح هذه الفئة الحديث الى أن المتأمل للكلام قد استفاد من آثار عقله أكثر
من استفادة آثار قوله ويمثل ذلك : * الآمدي ,وأبي تمام * وتتجلى قيمة هذا
الرأي حين التدقق في أصحاب التصنيع الذين اتخذوا الأدب صناعة لا يرون
فيه الا وصف الكلمات وجودة السبك دون العناية بالموضوع وأهمية الموقف.
فيأتي أدبهم خفيف الشأن لا يمس الا ظاهر الأمر , هذا الذي كان محل تذمر
العديد من النقاد وقد قال في هذا الصدد * ابن الأثير * في كتابه المثل السائر:
" قاتل الله القلم الذي يمشي في أيدي الجهال الأغمار " .
-وتعارض فئة أخرى هذا الرأي وترى أن مثلما يسير القصصي على نهج خاص في سرد حوادثه حتى تستكمل القصة قالبها الفني العام كذلك الكاتب والشاعر وهما يعالجان الأغراض لابد أن تستوفي الجمل والعبارات خصائص الصياغة الفنية ليدخل الكلام في باب الأدب , وبالتالي نادوا بأن قيمة الألفاظ فوق قيمة المعاني . ويقول الجاحظ في ذلك : " …والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي , والبدوي والقروي والمدني , وانما الشأن في
اقامة الوزن , وتخير اللفظ , وسهولة المخرج , وكثرة الماء , وفي صحة الطبع
وجودة السبك , فانما الشعر صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير ."
من كتابه الحيوان ج2 , ص 131.
– ويوافق قدامة بن جعفر الجاحظ فيما ذهب اليه , وهو أن المعاني مادة الشعر
والشعر فيها كالصورة , فلا ينبعي الحكم على الشعر بمادته ( بمعناه) وانما
يحكم عليه بصورته , كما لا يعيب النجار في صنعه رداءة الخشب في ذاته .
– ويستخلص من هذا الرأي أن الأدب عبارة جميلة وكفى وكأني بهم يقزمون
المضمون ويعملقون اللفظ والدليل على ذلك ما ذهب اليه الأصمعي لما سئل
من أشعر الناس ؟ فقال : " من يأتي الى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيرا , أو الى المعنى الكبير فيجعله بلفظه خسيسا ". وهذا في كتاب *نقد الشعر
لقدامةبن جعفر ص101* .
-وسلك هذا المسلك بن خلدون الذي يرى أن العبرة بالألفاظ وأن المعاني تبع
لها , فهو يريد أن يثبت أن الألفاظ هي مقياس براعة الكاتب دون المعاني
والالفاظ عنده كالقوالب للمعاني ,فهي كالأواني التي يغترف بها الماء تتفاوت
فيما بينها من حيث نوعها ما بين أوان ذهبية أو فضية أو زجاجية أو خزافية
والماء واحد .
-وما يلاحظ على هؤلاء على حد رأي النقاد أن الصواب حليفهم الى حد كبير خصوصا في الأهتمام بالصياغة .هذه التي استطاع *ابن سنان الخفاجي * أن
يحوصل جمالها في :-فصاحة اللفظ البعيد عن تنافر الحروف ك"الهعخع" ,
وضبط حسن اللفظ في مدى وقعها على السمع مثل :" الغصن " أحسن من
" العسلوج " , وبعدها عن العامية والغرابة , وجريانها على قواعد اللغة العربية في التصريف .
وقد اعتنى كثيرا *قدامة بن جعفر * بذكر أوجه حسن الكلام الذي يتجلى في اللفظ أكثر من المعنى – ارجع الى كتابه المثل السائر- . وهذه الأولوية للألفاظ حملت البلاغيون على الأعتناء بحسن اللفظ و جودة السبك وقاد معظم الأدباء والنقاد
الى الأعتراف بأن الحلية اللفظية هي المجال الأكبر للتجديد حتى وان ناقضهم
بعض النقاد الذين يميلون الى الوسطية بين اللفظ والمعنى كما نجد ذلك عند *ابن قتيبة * الذي يرى بأن خير الشعر ما حسن لفظه وجاد معناه وكذا البحتري
وله في ذلك أشعار كقوله:
-حجج تخرس الألد بألفا *** ظ فرادى كا لجوهر المعدود
-ومعان لو فصلتها القوافي*** هجنت شعر جرول ولبيد
-أما ** عبد القاهر الجرجاني ** حاول أن يمحص هذه الآراء بشيئ من التعقل
واعمال الفكر فنراه لم يمل الى من رجحوا المعنى على اللفظ بل كان من
أنصار الصياغة هاته التي تعمل على اجلاء الصورة الأدبية وفي ذلك يقول :
" واعلم أن الداء الدوي والذي أعيا أمره في هذا الباب , غلط من قدم الشعر
بمعناه وأقل الأحتفال باللفظ….ما في اللفظ لولا المعنى ؟ وهل الكلام الا بمعناه ؟ " ثم يقول:"ان سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة , وأن سبيل المعنى
الذي يعبر عنه سبيل الشيئ الذي يقع التصوير ولصوغ فيه ".
ويعيب على الجاحظ تشدده للفظ وخفته بالمعاني الى درجة أنه جعل العلم بالمعاني متركا وسوى فيه بين العامة والخاصة .
-فعبد القاهر الجرجاني من جهة يثور على الجامدين الذين يغفلون شأن الصياغة في التقدير وما يسوقونه من صور تقليد لا ابداع فيه وهم خطر على
البلاغة في رأيه, ومن جهة ثانية يثور على أنصار اللفظ الذين يجهدون أنفسهم
في ايجاد حسن اللفظ على حساب تناسي قوة المعاني مع اغفال قيمة هذه الصياغة وربطها بدقائق الصور , فيجرون وراء الحشد اللفظي ذي النغم الموسيقي والصور المبهرة محاولين في ذلك ستر الفقر الفكري !!..
وكأنه بهذا المفهوم أراد أن يصل الى التحكيم في رأيه بالاعجاز القرآني الذي هو كل متكامل بين اللفظ والمعنى دون تفاضل , فأثبت بذلك أن جلاء الفكرة
بوسائل الصياغة اللغوية والفنية . واستطاع أن يصل الى أن لا أهمية للمعنى
دون لفظ ولا للفظ دون أدائه للمعنى .
-وهكذا بمثل هذه الآراء النقدية تمكن الأدب العربي ان يرقى ويأخذ مساره الى
مصاف العالمية ويحمل المحتوى العربي والتطور العالمي بايجابياته و سلبياته
__________________