التصنيفات
اسلاميات عامة

فتوى الشيخ العثيمين حول قتل النفس


قال الشيخ العثيمين في شرحه للكبيرة التاسعة و العشرين التى جاءت تحت عنوان "قتل النفس" (الإنتحار):

"… و من ذلك فعل بعض الناس الذين ينتحرون، يلبس قنابل يحزمها على بطنه ثم يذهب إلى فئة من العدو و يطلقها، فيكون هو أول من يموت، و هذا يعتبر قاتلا لنفسه و يعذب بما قتل به نفسه في جهنم – و العياذ بالله-، و هؤلاء يطلقون على أنفسهم " الفدائيين"، و لكنهم قتلوا أنفسهم، فيعذبون في نار جهنم بما قتلوا به أنفسهم و ليسوا بشهداء، لأنهم فعلوا فعلا محرما. و الشهيد هو الذي يتقرب إلى الله تعالى بفعل ما أمره به لا بفعل ما نهاه عنه، و الله عزوجل يقول (و لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) – النساء 29- ، و يقول (و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة *** و أحسنوا، إن الله يحب المحسنين)
– البقرة 195- .

لكننا نقول، هؤلاء الذين نسمع عنهم يفعلون ذلك، نرجوا ألا يعذبوا لأنهم جاهلون متأولون لكنهم ليس لهم أجر و ليسوا بشهداء، لأنهم فعلوا ما لم يأذن به الله، بل ما نهى الله عنه.

فإن قال قائل: أليس الصحابة يغامرون فيدخلون صف الأعداء من الروم و غير الروم؟ قلنا : بلى، لكن هل هذا قتل لأنفسهم؟ ليس بقتل، صحيح أنهم على خطر، لكن فيهم احتمال النجاة. و لهذا يدخلون صفوف الروم فيقتلون من شاء الله ثم يرجعون إلى الجيش. و كذلك ما فعله البراء بن مالك في وقعة الحمامة، فإنهم لما وصلوا إلى حائط مسيلمة الكذاب وجدوا الباب مغلقا، و لم يتمكنوا من دخوله، فطلب من الجيش أن يلقوه من وراء الجدار ليفتح لهم الباب، فألقوه من وراء الجدار من أجل أن يفتح لهم الباب، و فعلا فتح لهم الباب و نجا.

فلا يمكن أن نستدل بمثل هذه الوقائع على جواز الإنتحار الذي يفعله هؤلاء، و لكن نقول: نرجو من الله عزوجل أن لا يؤاخذهم بما صنعوا. لأنهم صنعوا ذلك عن جهل و حسن نية، فمن قتل نفسه بشيء فإنه يعذب به في نار جهنم. و اعلم أنه قد ورد في الذي قتل نفسه بشيء (أنه يعذب به في جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا) ، فذكر التأبيد. فهل يعني ذلك أنه كافر، لأنه لا يستحق الخلود الؤبد إلا الكفار؟؟!
الجواب: لا ليس بكافر. بل يغسل و يكفن و يصلى عليه و يدعى له بالمغفرة كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم في الرجل الذي قتل نفسه بمشاقص. فقدم إلى الرسول صلى الله عليه و سلم ليصلى عليه. لكنه لم يصل عليه و قال صلوا عليه. فصلوا عليه بأمر الرسول صلى الله عليه و سلم، و هذا يدل على أنه ليس بكافر، وحينئذ لا يستحق الخلود الؤبد. فما ذكر في الحديث من ذكر التأبيد إن كانت اللفظة محفوظة عن النبي صلى الله عليه و سلم فالمراد شدة التنفير من هذا العمل، و إلا فليس بكافر.
سؤال و جوابه: الإضراب عن الطعام حتى يموت، هذا من قتل النفس.

"شرح الكبائر" شر ح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله رحمة واسعة

منقول




تعليمية




بارك الله فيكي اختاه وجزاكي الفردوس




التصنيفات
العقيدة الاسلامية

[شرح] الإيمان بالله ما يتضمنه وثمراته الجليلة للعلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الل

تعليمية تعليمية
[شرح] الإيمان بالله ما يتضمنه وثمراته الجليلة للعلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فهذا مقتطف من شرح العلامة محمد بن صالح العثيمين للثلاثة أصول للإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمهما الله- أسأل الله أن ينفع به:

((( المرتبة الثانية (1) : الإيمان (2) ، وهو بضع (3) وسبعون شعبة (4) ، فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى (5) عن الطريق، والحياء (6) شعبة من الإيمان، وأركانه ستة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾[البقرة:177]. )))

شرح العلامة محمد بن صالح العثيمين:

(1) أي مراتب الدين.
(2) الإيمان في اللغة التصديق.
وفي الشرع "إعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح وهو بضع وسبعون شبعة".
(3) البضع: بكسر الباء من الثلاثة إلى التسعة.
(4) الشبعة: الجزء من الشيء.
(5) أي إزالة الأذى وهو ما يؤذي المارة من أحجار وأشواك، ونفايات وقمامة وما له رائحة كريهة ونحو ذلك.
(6) الحياء صفة إنفعالية عند الخجل وتحجز المرء عن فعل ما يخالف المروءة.
والجمع بين ما تضمنه كلام المؤلف رحمه الله تعالى من أن الإيمان بضع وسبعون شعبة وأن الإيمان أركانه ستة أن نقول: الإيمان الذي هو العقيدة أصوله ستة وهي المذكورة في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: "الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"(1)

وأما الإيمان الذي يشمل الأعمال وأنواعها وأجناسها فهو بضع وسبعون شبعة ولهذا سمى الله تعالى الصلاة إيمانا في قوله: { وما كان الله ليضيع إيمانكم } {سورة البقرة، الآية: 143} قال المفسرون يعني صلاتكم إلى بيت المقدس لأن الصحابة كانوا قبل أن يؤمروا بالتوجه إلى الكعبة يصلون إلى بيت المقدس.

(1) الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:

الأول: الإيمان بوجود الله تعالى:
وقد دل على وجوده تعالى: الفطرة والعقل والشرع والحس.

1- أما دلالة الفطرة على وجوده: فإن كل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه عنها لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه" (2).

2- وأما دلالة العقل على وجود الله تعالى: فلأن هذه المخلوقات سابقها ولاحقها لابد لها من خالق أوجدها إذ لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها، ولا يمكن أن توجد صدفة.
لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها لأن الشيء لا يخلق نفسه، لأن قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقا؟
ولا يمكن أن توجد صدفة، لأن كل حادث لابد له من محدث، ولأن وجودها على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والإرتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنع منعا باتا أن يكون وجودها صدفة، إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده فكيف يكون منتظما حال بقائه وتطوره؟!
وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلوقات نفسها بنفسها، ولا أن توجد صدفة تعين أن يكون لها موجد وهو الله رب العالمين.
وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل العقلي والبرهان القطعي في سورة الطور، حيث قال: { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } {سورة الطور، الآية: 35} يعني أنهم لم يخلقوا من غير خالق، ولا هم الذين خلقوا أنفسهم، فتعين أن يكون خالقهم هو الله تبارك وتعالى، ولهذا لما سمع جبير بن مطعم رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور فبلغ هذه الآيات: { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون } {سورة الطور، الآيات: 35-37} وكان جبير يؤمئذ مشركا قال: "كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي" رواه البخاري مفرقا (3).

ولنضرب مثلا يوضح ذلك، فإنه لو حدثك شخص عن قصر مشيد، أحاطت به الحدائق، وجرت بينها الأنهار ، وملئ بالفرش والأسرة، وزين بأنواع الزينة من مقوماته ومكملاته، وقال لك: إن هذا القصر وما فيه من كمال قد أوجد نفسه، أو وجد هكذا صدفة بدون موجد، لبادرت إلى إنكار ذلك وتكذيبه، وعددت حديثه سفها من القول، أفيجوز بعد ذلك أن يكون هذا الكون الواسع بأرضه وسمائه، وأفلاكه وأحواله، ونظامه البديع الباهر، قد أوجد نفسه، أو وجد صدفة بدون موجد؟!

3- وأما دلالة الشرع على وجود الله تعالى: فلأن الكتب السماوية كلها تنطق بذلك، وما جاءت به من الأحكام المتضمنة لمصالح الخلق دليل على أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به.

4- وأما أدلة الحس على وجود الله فمن وجهين:

أحدهما: أننا نسمع ونشاهد من إجابة الداعين، وغوث المكروبين، ما يدل دلالة قاطعة على وجوده تعالى، قال الله تعالى: { ونوحاً إذ نادى من قبل فأستجبنا له } {سورة الأنبياء، الآية: 76} وقال تعالى: { إذ تستغيثون ربكم فأستجاب لكم } {سورة الأنفال، الآية: 9} وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه : "أن أعرابيا دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: يا رسول الله هلك المال ، وجاع العيال ، فادع الله لنا ، فرفع يديه ودعا فثار السحاب أمثال الجبال فلم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته. وفي الجمعة الثانية قام ذلك الأعرابي أو غيره فقال : يارسول الله تهدم البناء وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"، فما يشير إلى ناحية إلا أنفرجت" (4).
وما زالت إجابة الداعين أمرا مشهودا إلى يومنا هذا لمن صدق اللجوء إلى الله تعالى وأتى بشرائط الإجابة.

الوجه الثاني: أن آيات الأنبياء التي تسمى (المعجزات) ويشاهدها الناس، أو يسمعون بها، برهان قاطع على وجود مرسلهم، وهو الله تعالى، لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر، يجريها الله تعالى تأييدا لرسله ونصرا لهم.

مثال ذلك: آية موسى صلى الله عليه وسلم حين أمره الله تعالى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه فانفلق أثنى عشر طريقا يابسا، والماء بينها كالجبال، قال الله تعالى: { فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فأنفلك فكان كل فرق كالطود العظيم } {سورة الشعراء، الآية: 63}.
ومثال ثان: آية عيسى صلى الله عليه وسلم حيث كان يحيى الموتى، ويخرجهم من قبورهم بإذن الله، قال الله تعالى: { وأحي الموتى بإذن الله } {سورة آل عمران، الآية: 49} وقال: { وإذ تخرج الموتى بإذني } {سورة المائدة، الآية: 110}.
ومثال ثالث: لمحمد صلى الله عليه وسلم حين طلبت منه قريش آية، فاشار إلى القمر فأنفلق فرقتين فرآه الناس، وفي ذلك قوله تعالى { أقتربت الساعة وأنشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } {سورة القمر، الآيتين: 1-2}. فهذه الآيات المحسوسة التي يجريها الله تعالى تأييدا لرسله، ونصرا لهم ، تدل دلالة قطعية على وجوده تعالى.

الثاني: الإيمان بربوبيته:
أي بأنه وحده الرب لا شريك له ولا معين.
والرب: من له الخلق والملك، والأمر، فلا خالق إلا الله، ولا مالك إلا هو، ولا أمر إلا له، قال تعالى : { ألا له الخلق والأمر } {سورة الأعراف، الآية: 54} وقال: { ذالكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير } {سورة فاطر، الآية: 13}.
ولم يعلم أن أحدا من الخلق أنكر ربوبية الله سبحانه، إلا أن يكون مكابرا غير معتقد بما يقول،
كما حصل من فرعون حين قال لقومه: { أنا ربكم الأعلى } {سورة النازعات، الآية: 24} وقال: { يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري } {سورة القصص، الآية: 38} لكن ذلك ليس عن عقيدة، قال الله تعالى: { وجحدوا بها وأستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } {سورة النمل، الآية: 14}
وقال موسى لفرعون فيما حكى الله عنه: { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبورا } { سورة الإسراء، الآية: 102}.
ولهذا كان المشركون يقرون بربوبية الله تعالى، مع إشراكهم به في الألوهية، قال الله تعالى: { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون } {سورة المؤمنون، الآيات: 84-89}.
وقال الله تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } {سورة الزخرف، الآية: 9} وقال: { ولئن سألتهم من خلقهن ليقولن الله فأنى يؤفكون } {سورة الزخرف، الآية: 87}.
وأمر الرب سبحانه شامل للأمر الكوني والشرعي فكما أنه مدبر الكون القاضي فيه بما يريد حسب ما تقتضيه حكمته، فهو كذلك الحاكم فيه بشرع العبادت وأحكام المعاملات حسبما تقتضيه حكمته، فمن اتخذ مع الله تعالى مشرعا في العبادات أو حاكما في المعاملات فقد أشرك به ولم يحقق الإيمان.

الثالث: الإيمان بألوهيته:
أي ( بأنه وحده الإله الحق لا شريك له) و "الإله" بمعنى المألوه" أي "المعبود حيا وتعظيما،
وقال الله تعالى: { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } {سورة البقرة، الآية: 163}
وقال تعالى: { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } {سورة آل عمران، الآية: 18}.
وكل ما اتخذ إلها مع الله يعبد من دونه فألوهيته باطلة، قال الله تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير } {سورة الحج، الآية: 62}
وتسميتها آلهة لا يعطيها حق الألوهية قال الله تعالى في اللات والعزى ومناة : { إن هي إلا اسماء سميتموها أنتم واباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } {سورة النجم، الآية: 23}
وقال عن هود أنه قال لقومه: { اتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما نزل الله بها من سلطان } {سورة الأعراف، الآية: 71}
وقال عن يوسف أنه قال لصاحبي السجن: { أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما انزل الله بها من سلطان } {سورة يوسف، الآيتين: 39-40}
ولهذا كانت الرسل عليهم الصلاة والسلام يقولون لأقوامهم { أعبدوا الله ما لكم من إله غيره } ولكن أبى ذلك المشركون، واتخذوا من دون الله آلهة، يعبدونهم مع الله سبحانه وتعالى، ويستنصرون بهم، ويستغيثون.

وقد أبطل الله تعالى اتخاذ المشركين هذه الآلهة ببرهانين عقليين:
الأول: أنه ليس في هذه الآلهة التي أتخذوها شيء من خصائص الألوهية، فهي مخلوقة لا تخلق، ولا تجلب نفعا لعابديها، ولا تدفع عنهم ضررا، ولا تملك لهم حياة ولا موتا، ولا يملكون شيئا من السماوات ولا يشاركون فيه.
قال الله تعالى: { واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا } {سورة الفرقان، الآية: 3}.
وقال تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ومالهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } {سورة سبأ، الآيتين: 22-23}.
وقال: { أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون } {سورة الأعراف، الآيتين: 191-192}.
وإذا كانت هذه حال تلك الآلهة، فإن اتخاذها آلهة من أسفه السفه وأبطل الباطل.
الثاني: أن هؤلاء المشركين كانوا يقرون بأن الله تعالى وحده الرب الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وهذا يستلزم أن يوحوده بالألوهية
كما قال تعالى: { يأيها الناس أعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } {سورة البقرة ، الآيتين: 21-22}
وقال: { ولئن سأتلهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون } {سورة الزخرف، الآية: 87}
وقال: { قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون * فذلك الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون } {سورة يونس، الآيتين: 31-32}.

الرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته:

أي ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به من غير تحريف ولا تعطيل ، ولا تكييف ولا تمثيل،
قال الله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فأدعوه به وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } {سورة الأعراف، الآية: 180}
وقال: { وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } {سورة الروم، الآية: 27}
وقال: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } {سورة الشورى، الآية: 11}.

وقد ضل في هذا الأمر طائفتان:

إحداهما: (المعطلة) الذين أنكروا الأسماء والصفات أو بعضها، زاعمين أن إثباتها يستلزم التشبيه، أي تشبيه الله تعالى بخلقه، وهذا الزعم باطل لوجوه منها:
الأول: أنه يستلزم لوازم باطلة كالتناقض في كلام الله سبحانه، وذلك أن الله تعالى أثبت لنفسه الأسماء والصفات، ونفى أن يكون كمثله شيء، ولو كان إثباتها يستلزم التشبيه لزم التناقض في كلام الله، وتكذيب بعضه بعضا.
الثاني: أنه لا يلزم من أتفاق الشيئين في أسم أو صفة أن يكونا متماثلين، فأنت ترى الشخصين يتفقان في أن كلا منهما إنسان سميع، بصير، متكلم، ولا يلزم من ذلك أن يتماثلا في المعاني الإنسانية، والسمع والبصر، والكلام، وترى الحيوانات لها أيد وأرجل، وأعين ولا يلزم من أتفاقها هذا أن تكون أيديها وأرجلها، وأعينها متماثلة.
فإذا ظهر التباين بين المخلوقات فيما تتفق فيه من أسماء، أو صفات، فالتباين بين الخالق والمخلوق أبين وأعظم.

الطائفة الثانية: ( المشبهة) الذين أثبتوا الأسماء والصفات مع تشبيه الله تعالى بخلقه زاعمين أن هذا مقتضى دلالة النصوص، لأن الله تعالى يخاطب العباد يفهمون وهذا الزعم باطل لوجوه منها:
الأول: أن مشابهة الله تعالى لخلقه أمر باطل يبطله العقل والشرع، ولا يمكن أن يكون مقتضى نصوص الكتاب والسنة أمرا باطلا.

الثاني: أن الله تعالى خاطب العباد بما يفهمون من حيث أصل المعنى، أما الحقيقة والكنه الذي عليه ذلك المعنى فهو مما استأثر الله تعالى بعلمه فيما يتعلق بذاته وصفاته.
فإذا اثبت الله لنفسه أنه سميع، فإن السمع معلوم من حيث أصل المعنى ( وهو إدراك الأصوات) لكن حقيقة ذلك بالنسبة إلى سمع الله تعالى غير معلومة، لأن حقيقة السمع تتباين حتى في المخلوقات، فالتباين فيها بين الخالق والمخلوق أبين وأعظم.
وإذا أخبر الله تعالى عن نفسه أنه أستوى على عرشه فإن الإستواء من حيث أصل المعنى معلوم، لكن حقيقة الإستواء التي هو عليه غير معلومة بالنسبة إلى استواء الله على عرشه فإن الإستواء تتباين في حق المخلوق، فليس الإستواء على كرسي مستقر كالإستواء على رحل بعير صعب نفور، فإذا تباينت في حق المخلوق، فالتباين فيها بين الخالق والمخلوق أبين وأعظم.

والإيمان بالله تعالى على ما وصفنا يثمر للمؤمنين ثمرات جليلة منها:
الأولى: تحقيق توحيد الله تعالى بحيث لا يتعلق بغيره رجاء ولا خوفا، ولا يعبد غيره.
الثانية: كمال محبة الله تعالى وتعظيمه بمقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
الثالثة: تحقيق عبادته بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه.

ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــ

(1)
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه. ومسلم، كتاب القدر، باب: ما من مولود يولد إلا على الفطرة.
(3) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، سورة الطور ج4، ص1839.
(4) أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب: رفع اليدين في الدعاء. ومسلم، كتاب الإستسقاء، باب: الدعاء في الإستسقاء.

للامانة العلمية الموضوع منقول

تعليمية تعليمية




التصنيفات
اسلاميات عامة

فضل أيّام عشر ذي الحجة لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله.

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد ..

فإنّ من فضل الله ومنته أن جعل لعباده الصالحين مواسم يستكثرون فيها من العمل الصالح، ومن هذه المواسم عشر ذي الحجة..

فضـلها:

وقد ورد في فضلها أدلة من الكتاب والسنة منها:
1- قال تعالى: {وَالْفَجْرِ(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2)} [الفجر:1-2]، قال ابن كثير رحمه الله: "المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغيرهم".

2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما العمل في أيّام أفضل في هذه العشرة، قالوا: ولا الجهاد، قال: ولا الجهاد إلاّ رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشئ». [رواه البخاري].

3- قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج:28]، قال ابن عباس وابن كثير يعني : "أيام العشر".

4- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مامن أيّام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد». [رواه الطبراني في المعجم الكبير].

5- كان سعيد بن جبير – رحمه الله – إذا دخلت العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يُقدَر ُ عليه. [الدارمي].

6- قال ابن حجر في الفتح: "والذي يظهر أنّ السبب في امتياز عشر ذي الحجة، لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيره".

ما يستحب في هذه الأيام:

1- الصلاة: يستحب التبكير إلى الفرائض، والإكثار من النوافل فإنّها من أفضل القربات.
روى ثوبان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عليك بكثرة السجود لله فإنّك لا تسجد لله سجدة إلاّ رفعك إليه بها درجة، وحط عنك بها خطيئة» . [رواه مسلم]، وهذا في كل وقت.

2- الصيام: لدخوله في الأعمال الصالحة، فعن هنبدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيّام من كل شهر». [رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم]. وقال الإمام النووي عن صوم أيّام العشر أنّه مستحب استحباباً شديداً.

3- التكبير والتهليل والتحميد: لما ورد في حديث ابن عمر السابق: «فأكثروا من التهليل والتكبير والتحميد» ، وقال الإمام البخاري – رحمه الله -: "كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيّام العشر يكبران ويكبر النّاس بتكبيرهما"، وقال أيضا : "وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً".

وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيّام، وخلف الصلوات وعلى فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسه، وممشاه تلك الأيّام جميعا، والمستحب الجهر بالتكبير لفعل عمر وابنه وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين ..

وحري بنا نحن المسلمين أن نحيي هذه السنة التي قد أضيعت في هذه الأزمان، وتكاد تنسى حتى من أهل الصلاح والخير – وللأسف – بخلاف ما كان عليه السلف الصالح ..

صيغة التكبير:

ورد فيها عدة صيغ مروية عن الصحابة والتابعين منها:

– (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا)) .

– ((الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، والله أكبر، والله أكبر، ولله الحمد)).

– ((الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد)).

4- صيام يوم عرفة:

يتأكد صوم يوم عرفة، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال عن صوم يوم عرفة: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده». [رواه مسلم].

لكن من كان في عرفة حاجاً فإنّه لا يستحب له الصوم، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة مفطراً.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن.

محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله –




التصنيفات
العقيدة الاسلامية

[شرح] الإيمان بالملائكة ما يتضمنه وثمراته الجليلة للعلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه

تعليمية تعليمية
[شرح] الإيمان بالملائكة ما يتضمنه وثمراته الجليلة للعلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فهذا مقتطف من شرح العلامة محمد بن صالح العثيمين للثلاثة الأصول للإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمهما الله- أسأل الله أن ينفع به إنه ولي ذلك والقادر عليه:

((( المرتبة الثانية (1) : الإيمان (2) ، وهو بضع (3) وسبعون شعبة (4) ، فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى (5) عن الطريق، والحياء (6) شعبة من الإيمان، وأركانه ستة: الإيمان بالله وملائكته (7) وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾[البقرة:177]. )))


شرح العلامة محمد بن صالح العثيمين:

(1) أي مراتب الدين.
(2) الإيمان في اللغة التصديق.
وفي الشرع "إعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح وهو بضع وسبعون شبعة".
(3) البضع: بكسر الباء من الثلاثة إلى التسعة.
(4) الشبعة: الجزء من الشيء.
(5) أي إزالة الأذى وهو ما يؤذي المارة من أحجار وأشواك، ونفايات وقمامة وما له رائحة كريهة ونحو ذلك.
(6) الحياء صفة إنفعالية عند الخجل وتحجز المرء عن فعل ما يخالف المروءة.
والجمع بين ما تضمنه كلام المؤلف رحمه الله تعالى من أن الإيمان بضع وسبعون شعبة وأن الإيمان أركانه ستة أن نقول: الإيمان الذي هو العقيدة أصوله ستة وهي المذكورة في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: "الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره".(7)

وأما الإيمان الذي يشمل الأعمال وأنواعها وأجناسها فهو بضع وسبعون شبعة ولهذا سمى الله تعالى الصلاة إيمانا في قوله: { وما كان الله ليضيع إيمانكم } {سورة البقرة، الآية: 143} قال المفسرون يعني صلاتكم إلى بيت المقدس لأن الصحابة كانوا قبل أن يؤمروا بالتوجه إلى الكعبة يصلون إلى بيت المقدس.

(8) الملائكة: عالم غيبي مخلوقون، عابدون لله تعالى، وليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، خلقهم الله تعالى من نور، ومنحهم الإنقياد التام لأمره، والقوة على تنفيذه. قال الله تعالى: } ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون { {سورة الأنبياء، الآيتين: 19-20}. وهم عدد كثير لا يحصيهم إلا الله تعالى، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة المعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع له البيت المعمور في السماء يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم.(9)

والإيمان بالملائكة يتضمن أربعة أمور:

الأول: الإيمان بوجودهم.
الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه (كجبريل) ومن لم نعلم اسمه نؤمن بهم إجمالا.
الثالث: الإيمان بما علمنا من صفاتهم، كصفة (جبريل) فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه على صفته التي خلق عليها وله ستمائة جناح قد سد الأفق. (10) وقد يتحول الملك بأمر الله تعالى إلى هيئة رجل، كما حصل (لجبريل) حين أرسله تعالى إلى مريم فتمثل لها بشرا سويا، وحين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في أصحابه جاءه بصفة لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد من الصحابة، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، والإيمان والإحسان، والساعة، وأماراتها، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". رواه مسلم. (11)
وكذلك الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى إلى إبراهيم، ولوط كانوا في صورة رجال.
الرابع: الإيمان بما علمنا من أعمالهم التي يقومون بها بأمر الله تعالى، كتسبيحه، والتعبد له ليلا ونهارا بدون ملل ولا فتور.

وقد يكون لبعضهم أعمال خاصة:

مثل: جبريل الأمين على وحي الله تعالى يرسله به إلى الأنبياء والرسل.
ومثل: ميكائيل الموكل بالقطر أي بالمطر والنبات.
ومثل: إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور عند قيام الساعة وبعث الخلق.
ومثل: ملك الموت الموكل بقبض الأرواح عند الموت.
ومثل: مالك الروح بالنار وهو خازن النار.
ومثل: الملائكة الموكلين بالأجنة في الأرحام إذا تم للإنسان أربعة أشهر في بطن أمه، بعث الله إليه ملكا وأمره بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد.
ومثل: الملائكة الموكلين بحفظ أعمال بني آدم وكتابتها لكل شخص، ملكان: أحدهما عن اليمين، والثاني عن الشمال.
ومثل: الملائكة الموكلين بسؤال إذا وضع في قبره يأتيه ملكان يسألانه عن ربه، ودينه، ونبيه.

والإيمان بالملائكة يثمر ثمرات جليلة منها:

الأولى: العلم بعظمة الله تعالى، وقوته، وسلطانه، فإن عظمة المخلوق من عظمة الخالق.
الثانية: شكر الله تعالى على عنايته ببني آدم، حيث وكل من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم، وكتابة أعمالهم، وغير ذلك من مصالحهم.
الثالثة: محبة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله تعالى.

وقد أنكر قوم من الزائغين كون الملائكة أجساما، وقالوا إنهم عبارة عن قوى الخير الكامنة في المخلوقات، وهذا تكذيب لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين.
قال الله تعالى: } الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع { {سورة الفاطر، الآية: 1}.
وقال: } ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم { {سورة الأنفال، الآية: 50}.
وقال: } ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم { {سورة الأنعام، الآية: 93}.
وقال: } حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير { {سورة سبأ، الآية: 23}.
وقال في أهل الجنة: } والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار { {سورة الرعد، الآيتين: 23-24}.

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء، إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض". (12)
وفيه أيضا عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم الجمعة على كل باب من أبواب المساجد الملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر". (13)
وهذه النصوص صريحة في أن الملائكة أجسام لا قوى معنوية، كما قال الزائغون وعلى مقتضى هذه النصوص أجمع المسلمون.

ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــ

(7) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام.
(9)
أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة. ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض الصلوات.
(10) البخاري، كتاب بدء الخلق، 3232-3233
(11) تقدم تخريجه.
(12) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة. ومسلم، كتاب البر والصلة، باب: إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده.
(13) أخرجه البخارين كتاب الجمعة، باب: الإستماع إلى الخطبة. ومسلم، كتاب الجمعة، باب: فضل التهجير يوم الجمعة.

للامانة العلمية الموضوع منقول

تعليمية تعليمية




موضوع قيم

جزاك الله خيرا




التصنيفات
اسلاميات عامة

أحكام الأضحية و آداب العيد للعلامة محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله –

قال فضيلة الشيخ العلّامة محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – :


بعض أحكام الأضحية ومشروعيتها :

الأصل في الأضحية أنها مشروعة في حق الأحياء، كما كان رسول الله وأصحابه يضحون عن أنفسهم وأهليهم، وأما ما يظنه بعض العامة من اختصاص الأضحية بالأموات فلا أصل له، والأضحية عن الأموات على ثلاثة أقسام:
الأول: أن يضحي عنهم تبعاً للأحياء مثل أن يضحي الرجل عنه وعن أهل بيته، وينوي بهم الأحياء والأموات، وأصل هذا تضحية النبي عنه وعن أهل بيته وفيهم من قد مات من قبل.

الثاني: أن يضحي عن الأموات بمقتضى وصاياهم تنفيذاً لها وأصل هذا قوله تعالى: { فَمَن بَدَّلَهُ بَعدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيع عَلِيمٌ } [البقرة:181].

الثالث: أن يُضحي عن الأموات تبرعاً مستقلين عن الأحياء، فهذه جائزة. وقد نص فقهاء الحنابلة على أن ثوابها يصل إلى الميت وينتفع بها قياساً على الصدقة عنه، ولكن لا نرى أن تخصيص الميت بالأضحية من السنّة؛ لأن النبي لم يضح عن أحد من أمواته بخصوصه، فلم يضح عن عمه حمزة، وهو من أعزّ أقاربه عنده، ولا عن أولاده الذين ماتوا في حياته، وهنّ ثلاث بنات متزوجات وثلاثة أبناء صغار، ولا عن زوجته خديجة، وهي من أحب نسائه، ولم يرد عن أصحابه في عهده أن أحداً منهم ضحى عن أحد من أمواته.
ونرى أيضاً من الخطأ ما يفعله بعض الناس، يضحون عن الميت أول سنة يموت أضحية يسمونها ( أضحية الحفرة )، ويعتقدون أنه لا يجوز أن يشرك معه في ثوابها أحد، أَو يضحّون عن أمواتهم تبرعاً أو بمقتضى وصاياهم، ولا يضحّون عن أنفسهم وأهليهم، ولو علموا أن الرجل إذا ضحى من ماله عن نفسه وأهله شمل أهله الأحياء والأموات لما عدلوا عنه إلى عملهم ذلك.

فيما يجتنبه من أراد الأضحية :
إذا أراد أحد أن يضحي ودخل شهر ذي الحجة إما برؤية هلاله أو إكمال ذي القعدة ثلاثين يوماً فإنه يحرم عليه أن يأخذ شيئاً من شعره أو أضفاره أو جلده حتى يذبح أضحيته، لحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي قال: { إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره } [رواه أحمد ومسلم]، وفي لفظ: { فلا يمسَّ من شعره ولا بشره شيئاً حتى يضحي } وإذا نوى الأضحية أثناء العشر أمسك عن ذلك من حين نيته، ولا إثم عليه فيما أخذه قبل النية.
والحكمة في هذا النهي أنَّ المضحي لما شارك الحاج في بعض أعمال النسك وهو التقرب إلى الله تعالى بذبح القربان شاركه في بعض خصائص الإحرام من الإمساك عن الشعر ونحوه، وعلى هذا فيجوز لأهل المضحي أن يأخذوا في أيام العشر من شعورهم وأظفارهم وأبشارهم.
وهذا الحكم خاص بمن يضحّي، أما المضحَّى عنه فلا يتعلق به؛ لأن النبي قال: { وأراد أحدكم أن يضحي… } ولم يقل: أو يضحّى عنه؛ ولأن النبي كان يضحّي عن أهل بيته، ولم يُنقل عنه أنه أمرهم بالإمساك عن ذلك.
وإذا أخذ من يريد الأضحية شيئاً من شعره أو ظفره أو بشرته فعليه أن يتوب إلى الله تعالى ولا يعود، ولا كفارة عليه، ولا يمنعه ذلك عن الأضحية كما يظن بعض العوام.
وإذا أخذ شيئاً من ذلك ناسياً أو جاهلاً أو سقط الشعر بلا قصد فلا إثم عليه، وإن احتاج إلى أخذه فله أخذه ولا شيء عليه، مثل أن ينكسر ظفره فيؤذيه فيقصّه، أو ينزل الشعر في عينيه فيزيله، أو يحتاج إلى قصّه لمداواة جرح ونحوه.

أحكام وآداب عيد الأضحى المبارك :
أخي الحبيب: نُحييك بتحية الإسلام ونقول لك: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ونهنئك مقدماً بقدوم عيد الأضحى المبارك ونقول لك: تقبل الله منا ومنك، ونرجو أن تقبل منا هذه الرسالة التي نسأل الله عز وجل أن تكون نافعة لك ولجميع المسلمين في كل مكان.
أخي المسلم: الخير كل الخير في اتباع هدي الرسول في كل أمور حياتنا، والشر كل الشر في مخالفة هدي نبينا ، لذا أحببنا أن نذكرك ببعض الأمور التي يستحبّ فعلها أو قولها في ليلة عيد الأضحى المبارك ويوم النحر وأيام التشريق الثلاثة، وقد أوجزناها لك في نقاط هي:


التكبير: يشرع التكبير من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق وهو الثالث عشر من شهر ذي الحجة، قال تعالى: وَاذكُرُواْ اللهَ فِي أَيَامٍ مَعدُودَاتٍ [البقرة:203]. وصفته أن تقول: ( الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ) ويسن جهر الرجال به في المساجد والأسواق والبيوت وأدبار الصلوات، إعلاناً بتعظيم الله وإظهاراً لعبادته وشكره.
ذبح الأضحية: ويكون ذلك بعد صلاة العيد لقول رسول الله : { من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح } [رواه البخاري ومسلم]. ووقت الذبح أربعة أيام، يوم النحر وثلاثة أيام التشريق، لما ثبت عن النبي أنه قال: { كل أيام التشريق ذبح } [السلسلة الصحيحة:2476].


الاغتسال والتطيب للرجال، ولبس أحسن الثياب: بدون إسراف ولا إسبال ولا حلق لحية فهذا حرام، أما المرأة فيشرع لها الخروج إلى مصلى العيد بدون تبرج ولا تطيب، فلا يصح أن تذهب لطاعة الله والصلاة ثم تعصي الله بالتبرج والسفور والتطيب أَمام الرجال.


الأكل من الأضحية: كان رسول الله لا يطعم حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته [زاد المعاد:1/441].
الذهاب إلى مصلى العيد ماشياً إن تيسّر.
والسنة الصلاة في مصلى العيد إلا إذا كان هناك عذر من مطر مثلاً فيصلى في المسجد لفعل الرسول .


الصلاة مع المسلمين واستحباب حضور الخطبة: والذي رجحه المحققون من العلماء مثل شيخ الإسلام ابن تيمية أن صلاة العيد واجبة؛ لقوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِكَ وَانحَر [الكوثر:2] ولا تسقط إلا بعذر، والنساء يشهدن العيد مع المسلمين حتى الحُيَّض والعواتق، ويعتزل الحُيَّض المصلى.


مخالفة الطريق: يستحب لك أن تذهب إلى مصلى العيد من طريق وترجع من طريق آخر لفعل النبي .


التهنئة بالعيد: لثبوت ذلك عن صحابة رسول الله .

واحذر أخي المسلم من الوقوع في بعض الأَخطاء التي يقع فيها الكثير من الناس والتي منها:


– التكبير الجماعي بصوت واحد،أو الترديد خلف شخص يقول التكبير.
– اللهو أيام العيد بالمحرمات كسماع الأغاني، ومشاهدة الأفلام، واختلاط الرجال بالنساء اللآتي لسن من المحارم، وغير ذلك من المنكرات.
– أخذ شيء من الشعر أو تقليم الأظافر قبل أن يُضَحّى من أراد الأضحية لنهي النبي عن ذلك.
– الإسراف والتبذير بما لا طائل تحته، ولا مصلحة فيه، ولا فائدة منه لقول الله تعالى: وَلا تُسرِفُوا إِنّهُ لا يُحِبُّ المُسرِفِينَ [الأنعام:141].


وختاماً: لا تنس أخي المسلم أن تحرص على أعمال البر والخير من صلة الرحم، وزيارة الأقارب، وترك التباغض والحسد والكراهية، وتطهير القلب منها، والعطف على المساكين والفقراء والأيتام ومساعدتهم وإدخال السرور عليهم.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يفقهنا في ديننا، وأن يجعلنا ممن عمل في هذه الأيام – أيام عشر ذي الحجة – عملاً صالحاً خالصاً لوجهه الكريم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.




التصنيفات
العقيدة الاسلامية

[سؤال] الشيخ العثيمين : كتب شيخ الإسلام وتلميذه و الإمام بن عبد الوهاب، كتب سلفية أثر

تعليمية تعليمية
[سؤال] الشيخ العثيمين : كتب شيخ الإسلام وتلميذه و الإمام بن عبد الوهاب، كتب سلفية أثرية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

السؤال:

بارك الله فيكم فقرة أخيرة تقول شيخ محمد بأنها تحتاج إلى تكوين عقيدة صحيحة تواجه بها العائلة علما بأن الأم تغضب منها بشدة وتناقشها في الموضوع وكذلك الأخت الكبرى التي قالت بأنها ستفارقني؟

الشيخ رحمه الله

: أقول اثبتي على العقيدة الصحيحة السليمة وادعي الناس إليها ولا يضرك إذا أحد جادلك في ذلك لأن الحق منصور بلا شك قال الله تبارك وتعالى (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) فأنت استمري في العقيدة الصحيحة وفي الدعوة إليها وعليك بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعا فإنها كتب سلفية أثرية على العقيدة الصالحة الصحيحة.

مكتبة الفتاوى : فتاوى نور على الدرب (نصية) : النساء
المصدر

للامانة العلمية الموضوع منقول

تعليمية تعليمية




التصنيفات
القران الكريم

حكم قول صدق الله العظيم بعد الانتهاء من القراءة الشيخ العثيمين

السؤال:

تقف علي وعلى كثير من الناس أسئلة كثيرة فهل لكم أن تشرحوها لنا في برنامجكم نور على الدرب جزاكم الله عنا كل خير يسأل يا فضيلة الشيخ ويقول ما حكم قول صدق الله العظيم عند نهاية كل قراءة من القرآن الكريم.

الجواب
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين قبل الإجابة على هذا السؤال أود أن أبين ما ذكره أهل العلم قاطبة بأن العبادة لا بد فيها من شرطين أساسيين أحدهما: الإخلاص لله عز وجل والثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الإخلاص فمعناه أن لا يقصد الإنسان بعبادته إلا وجه الله والدارة الآخرة فلا يقصد جاهاً ولا مالاً ولا رئاسةً ولا أن يمدح بين الناس بل لا يقصد إلا الله والدار الآخرة فقط وأما الشرط الثاني: فهو الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا يخرج عن شريعته لقول الله تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) وقوله تعالى (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) ولقوله تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فهذه النصوص النصية تدل على أنه لا بدُّ لكل عمل يتقرب به الإنسان لله عز وجل بأن يكون مبيناً على الإخلاص. الإخلاص لله موافقاً لشريعة الله عز وجل ولا تتحقق الموافقة والمتابعة ألا بأن تكون العبادة موافقة للشرع في سببها وجنسها وقدرها وهيئتها و زمانها ومكانها فمن تعبد لله تعالى عبادة معلقة بسبب لم يجعله الشرع سبباً لها فإن عبادته لم تكن موفقة للشرع فلا تكون مقبولة وإذا لم تكن موافقة للشرع فإنها بدعة وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) وبناء على هاتين القاعدتين العظيمتين بل بناء على هذه القاعدة المتضمنة لهذين الشرطين الأساسيين فإننا نقول إن قول الإنسان عند انتهاء قراءته "صدق الله العظيم" لاشك أنه ثناء على الله عز وجل بوصفه سبحانه وتعالى بالصدق: (ومن أصدق من الله قيلاً) والثناء على الله بالصدق عبادة والعبادة لا يمكن أن يتقرب الإنسان بها إلا إذا كانت موافقة للشرع وهنا ننظر هل جعل الشرع انتهاء القراءة سبباً لقول العبد صدق الله العظيم إذا نظرنا إلى ذلك وجدنا أن الأمر ليس هكذا بل أن الشرع لم يجعل انتهاء القاري من قراءته سبباً لأن يقول:( صدق الله العظيم) فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه:" اقرأ قال يا رسول كيف أقرأ عليك وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأ حتى بلغ قوله تعالى (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) فقال النبي صلى الله عليه وسلم حسبك" ولم يقل عبد الله بن مسعود (صدق الله العظيم) ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وهكذا أيضاً قرأ زيد بن ثابت على النبي صلى الله عليه وسلم سورة "النجم" حتى ختمها ولم يقل (صدق الله العظيم) وهكذا عامة المسلمين إلى اليوم إذا انتهوا من قراءة الصلاة لم يقل أحدهم عند قراءة الصلاة قبل الركوع (صدق الله العظيم) فدل ذلك على أن هذه الكلمة ليست مشروعة عند انتهاء القارئ من قراءته وإذا لم تكن مشروعة فإنه لا ينبغي للإنسان أن يقولها فإذا انتهيت من قراءتك فاسكت واقطع القراءة أما أن تقول صدق الله العظيم وهي لم ترد لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه فإن هذا قول يكون غير مشروع قد يقول قائل أليس الله تعالى قال:(قُلْ صَدَقَ اللَّهُ) فنقول: بلى إن الله تعالى قال :(قُلْ صَدَقَ اللَّهُ) ونحن نقول صدق الله لكن هل قال الله تعالى قل عند انتهاء قراءتك قل صدق الله الجواب لا إذا كان كذلك فإننا نقول صدق الله ويجب علينا أن نقول ذلك بألسنتنا ونعتقده بقلوبنا وأن نعتقد أنه لا أحد أصدق من الله قيلا ولكن ليس لنا أن نتعبد إلى الله تعالى بشيء معلقاً بسبب لم يجعله الشارع سبباً له لأنه كما أشرنا من قبل لا تكون العبادة موافقة للشرع حتى يتحقق فيها أو بعبارة أصح لا تتحقق المتابعة في العبادة حتى تكون موافقة للشرع في الأمور الستة السابقة أن تكون موافقة للشرع في سببها وجنسها وقدرها وصفتها و زمانها ومكانها وبناء على ذلك فلا ينبغي إذا انتهى من قراءته أن يقول (صدق الله العظيم).

المصدر







جزاك الله خيرا تقبلي مروري اختاه.




التصنيفات
الفقه واصوله

صفة الصلاة لابن العثيمين

الفـقه : الشرح الممتع على زاد المستقنع – المجلد الثالث</b>
باب صفة الصلاة

باب صفة الصلاة

للعلامة بن العثيمين رحمه الله

صِفةُ الصَّلاة: أي: الكيفية التي تكون عليها. وعلماء الفقه رحمهم الله تكلموا على صِفةِ الصَّلاة، وعلى صِفةِ الحَجِّ وغيرهما؛ وذلك لأنَّ شرط العبادة أمران:
1 ـ الإخلاصُ لله تعالى.
2 ـ المتابعةُ للرَّسول صلّى الله عليه وسلّم.
فأما الإِخلاصُ لله؛ فيتكلَّمُ عليه أهلُ التوحيد والعقائد.
وأما المتابعةُ للرسول صلّى الله عليه وسلّم فيتكلَّمُ عليها الفقهاءُ.
وضِدُّ الإِخلاصِ: الإِشراك، وضِدُّ المتابعةِ: البدعة.
فمَن تابع الرَّسولَ بدون إخلاص لم تصحَّ عبادتُه؛ لقوله تعالى في الحديث القُدسي: «أنا أغنى الشُّركاءِ عن الشِّركِ، مَن عَمِلَ عملاً أشركَ فيه معي غيري تركْتُهُ وشِرْكَهُ»[(1)]، ومَن أخلص لله ولم يَتَّبعْ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم فإن عبادتَه مردودة؛ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَن عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»[(2)]. ومن ثَمَّ اضطرَّ العلماءُ إلى بيان صِفةِ الصَّلاةِ والحجِّ وغيرهما، لكن؛ لم نجدهم ذكروا باباً لصِفة الصِّيام، ولا الزَّكاة.
بل بيَّنوا ما يتركه الإِنسان ببيان المفطرات، وقالوا: إنَّ الصِّيامَ هو الإِمساكُ عن المفطرات بنيَّة التعبُّد لله تعالى؛ مِن طُلوعِ الفجر إلى غُروبِ الشمس. وهذا هو الكيفيَّة.
وفي الزَّكاةِ ذكروا الأموال الزكوية ومقدار الأنصبة، والواجب وأهل الزكاة. وهذا في الحقيقة هو الكيفية.
والصَّلاةُ كما نعلم هي أعظم أركان الإِسلام بعد الشهادتين، وهي التي إذا تركها الإِنسان تهاوناً وكسلاً كان كافراً[(3)]، وإنْ جَحَدَ وجوبَها كان كافراً ولو صَلَّى، فإذا قال: أنا أصلِّي هذه الصلوات الخمس على أنها نافلة. كان كافراً ـ وإن كان يصلِّيها ـ إلا أن يكون حديث عهد بإسلام، أو نَشأ في بادية بعيدة؛ لا يَعرفُ عن أركان الإسلام؛ فَيُعَرَّفُ بوجوبِها أولاً، ثم يُحكم بكفره إنْ جَحَدَ الوجوبَ بعد تعريفه به.
والصَّلاةُ إما في جماعة، وإما في انفراد. فإذا كان في جماعةٍ فأحسن ما يكون: أن يتوضَّأ الإِنسانُ في بيته، ويُسْبِغَ الوُضُوءَ، ثم يخرج من بيته بنيَّة الصَّلاةِ مع الجماعةِ. فإذا فَعَلَ ذلك لم يَخْطُ خَطوةً إلا رَفَعَ اللَّهُ له بها درجةً، وحَطَّ عنه بها خطيئة؛ قَرُبَ بيته أو بَعُدَ[(4)]. ولا يعني هذا أنه ينبغي أن يتقصَّد الأبعدَ مِن المساجد، بل يعني ذلك أنه إذا بَعُدَ منزلك مِن المسجد فلا تستبعد المسجدَ، وتقل: إن في ذلك تعباً عَليَّ، بلِ اسْعَ إليه، ولك في كلِّ خَطوة إذا خرجت مُسبغاً للوُضُوء قاصداً المسجد أنْ يرفعَ الله لك بها درجة؛ ويَحطَّ عنك بها خطيئةً.
وينبغي أن يأتي إليها بسكينةٍ ووَقَار، سكينة في الألفاظ والحركة، ووقار في الهيئة، فلا يأتي إليها وهو منزعجٌ، أو يمشي مشية الإِنسانِ الذي ليس بمنتظم، بل يكون وَقوراً؛ لأنه مُقبلٌ على مكانٍ يقفُ فيه بين يدي الله عزّ وجل. ونحن نعلم أن الإنسان لو أقبل على قصر مَلِكٍ مِن الملوك؛ لوجدته يتهيَّأ، وينظر كيف وجهه؟ وكيف ثوبه؟ ويأتي بسكينة ووَقار، ويظهر عليه ذلك، فكيف بمن يأتي إلى بيت الله عزّ وجل ليقف بين يديه؟ فلا يسرع حتى وإن خاف أن تفوته الصلاة؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سمعتم الإِقامة فامشوا إلى الصَّلاةِ؛ وعليكم السَّكينةُ والوَقارُ؛ ولا تسرعوا» [(5)]. فما أدركت فصلِّ وما فاتك فأتم؛ لأن هذا هو حقيقة الأدب مع الله عزَّ وجلَّ.
ثم إذا حضرت المسجدَ فصَلِّ ما تيسَّرَ لك، فإن كان قد أذَّنَ فإنه يمكنك أن تُصلِّي الرَّاتبةَ؛ إذا كانت لهذه الفريضة راتبةٌ قبلَها، وإن لم يكن لها راتبة قبلها فسُنَّة ما بين الأذانين؛ لأن بين كلِّ أذانين صلاةً، وتجزئ هذه الصلاة ـ أعني: سُنَّة ما بين الأذانين أو الراتبة ـ عن تحيَّة المسجد؛ لأن قول الرَّسول عليه الصلاة والسلام: « إذا دَخَلَ أحدُكم المسجد فلا يجلس حتى يُصلِّيَ ركعتين»[(6)]. يَصْدق بما إذا صَلَّى الإِنسانُ الراتبةَ، أو سُنَّةَ ما بين الأذانين[(7)].
ثم اجْلسْ بنيَّة انتظار الصَّلاة، واعلمْ أنك إذا أتيت المسجدَ على هذا الوجه لا تزال في صلاة ما انتظرتَ الصَّلاةَ؛ حتى لو تأخَّر الإِمامُ وزاد خمسَ دقائق أو عشراً فإنك على خير؛ لأنك لا تزال في صلاة ما انتظرتَ الصَّلاةَ، ثم مع ذلك الملائكةُ تُصلِّي عليك ما دمت في مصلاك، ورَجلٌ تُصلِّي عليه الملائكة حَريٌّ بأن يستجيبَ اللَّهُ سبحانه وتعالى دعاءَ الملائكة له.

يُسَنُّ القِيَامُ عِنْدَ «قَدْ» مِنْ إِقامَتِها،…………..
قوله: «يُسنُّ القيامُ عند قد من إقامتها» . أي: يُسنُّ للمأموم أن يقوم إذا قال المقيم: «قد» من «قد قامت الصلاة»، لأن «قد» تفيدُ التحقيقَ، و«قامت» تفيدُ الواقعَ، وحينئذٍ يكون موضع القيام للصَّلاةِ عند قوله: «قد» من «قد قامت الصلاة»، وظاهر كلام المؤلِّفِ أنه يُسنُّ القيامُ عند هذه الجملة؛ سواء رأى المأمومون الإِمامَ أم لم يَروه، وهذا أحدُ الأقوال في المذهب[(8)].
والمشهورُ مِن المذهب[(9)]: أنهم لا يقومون عند إقامتها؛ إلا إذا رأوا الإِمامَ، فإنْ لم يَروه انتظروا حتى يَروا الإِمامَ؛ لأنهم تابعون، ولو قاموا في الصَّفِّ قبل أن يَروا الإِمامَ لكانوا متبوعين؛ لأن الإِمامَ سيأتي بعدَهم بعد أن يصطفُّوا ويقوموا، والغالب أنها لا تُقام عندنا في هذا البلد حتى يدخل الإِمامُ المسجدَ، ويراه الناسُ ثم يقيم المؤذِّنُ.
وقيل: يقوم إذا رأى الإِمام مطلقاً. وقيل: يقوم إذا شُرع بالإِقامة. وقيل: يقوم إذا قال: «حيَّ على الصلاة». وقيل: يقوم إذا كبَّرَ الإِمامُ تكبيرة الإِحرام. وقيل: الأمر في ذلك واسع[(10)]، والسُّنَّة لم تردْ محدِّدة لموضع القيام؛ إلا أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أُقِيمَت الصلاةُ فلا تقوموا حتى تَرَوْنِي»[(11)]. فإذا كانت السُّنَّةُ غيرَ محدِّدة للقيام؛ كان القيامُ عند أوَّل الإِقامة، أو في أثنائها، أو عند انتهائها، كلُّ ذلك جائز.
المهمُّ: أن تكون متهيِّئاً للدُّخول في الصلاة قبل تكبيرةِ الإمامِ؛ لئلا تفوتك تكبيرةُ الإِحرام.

وتسوِيةُ الصَّفِ …………………
قوله: «وتسويةُ الصفِّ» يعني: تُسنُّ تسويةُ الصَّفِّ؛ لأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يأمرُ بذلك فيقول: «سَوُّوا صُفُوفَكُم»[(12)]، ويُرشِدُ أصحابَه لهذا حتى فهموا ذلك عنه وعَقَلوه عَقْلاً جيداً. وفي يوم من الأيام خَرَجَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأُقيمتِ الصَّلاةُ؛ فالتفتَ فإذا رَجُلٌ قد بَدَا صدرُه[(13)]؛ فقال: «عباد الله، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أو لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بين وُجُوهِكُم» [(14)]، فقوله: «لتسوُّنَّ صُفُوفكم» «اللام» واقعة في جواب قَسَم مقدَّر، وتقدير الكلام: «والله لتسوُّنَّ»، فالجملة مؤكَّدة بثلاث مؤكِّدات، وهي: القسم، واللام، والنون. وهذا خَبرٌ فيه تحذير؛ لأنه قال: «لتسوُّنَّ صُفُوفكم، أو ليُخَالفَنَّ اللَّهُ بين وُجُوهِكم» أي: بين وجهات نظركم حتى تختلف القلوب، وهذا بلا شكٍّ وعيدٌ على مَن تَرَكَ التسويةَ، ولذا ذهب بعضُ أهل العِلم إلى وجوب تسوية الصَّفِّ[(15)]. واستدلُّوا لذلك: بأمْرِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم به، وتوعُّدِه على مخالفته، وشيء يأتي الأمرُ به، ويُتوعَّد على مخالفته لا يمكن أن يُقال: إنه سُنَّة فقط.
ولهذا كان القولُ الرَّاجحُ في هذه المسألة: وجوب تسوية الصَّفِّ، وأنَّ الجماعة إذا لم يسوُّوا الصَّفَّ فهم آثمون، وهذا هو ظاهر كلام شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله[(16)]. لكن إذا خالفوا فلم يسوُّوا الصَّفَّ فهل تبطل صلاتهم؛ لأنهم تركوا أمراً واجباً؟
الجواب: فيه احتمالٌ، قد يُقال: إنها تبطل؛ لأنهم تركوا الواجب. ولكن احتمال عدم البطلان مع الإِثم أقوى؛ لأن التسويةَ واجبةٌ للصلاةِ لا واجبة فيها، يعني أنها خارج عن هيئتها، والواجبُ للصَّلاةِ يأثمُ الإِنسانُ بتَرْكِه، ولا تبطلُ الصَّلاةُ به، كالأذان مثلاً، فإنه واجبٌ للصَّلاةِ، ولا تبطل الصَّلاةُ بتَرْكِه.
وتسوية الصَّفِّ تكون بالتساوي، بحيث لا يتقدَّم أحدٌ على أحد، وهل المعتبر مُقدَّم الرِّجْلِ؟ الجواب: المعتبر المناكب في أعلى البَدَن، والأكعُب في أسفل البَدَن، وهذا عند الاعتدال، أما إذا كان في الإِنسان احديداب فلا عِبرة بالمناكب؛ لأنه لا يمكن أن تتساوى المناكبُ والأكعُب مع الحَدَب، وإنما اعتُبرت الأكعب؛ لأنها في العمود الذي يَعتمد عليه البدنُ، فإن الكعب في أسفل السَّاق، والسَّاقُ هو عمودُ البَدَن، فكان هذا هو المُعتبر. وأما أطراف الأرجُل فليست بمعتبرة؛ وذلك لأن أطراف الأرجُلِ تختلف، فبعض الناس تكون رِجْلُه طويلة، وبعضهم قصيرة، فلهذا كان المعتبر الكعب.
ثم إن تسوية الصَّفِّ المتوعَّد على مخالفتها هي تسويته بالمحاذاة، ولا فَرْقَ بين أن يكون الصَّفُّ خلف الإِمام أو مع الإِمام، وعلى هذا؛ فإذا وقف إمامٌ ومأموم فإنه يكون محاذياً للمأموم، ولا يتقدَّم عليه خلافاً لمن قال من أهل العلم: إنه ينبغي تقدُّم الإِمام على المأموم يسيراً؛ ليتميَّز الإِمامُ عن المأموم.
فيقال: إنَّ هذا خِلافُ ظاهرِ النَّصِّ، فابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أخَذَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم برأسه مِن ورائِه، وجعله عن يمينه. ولم يُنقل أنه أخَّره قليلاً[(17)]، ثم إن الإِمامَ والمأموم يُعتبران صفًّا، فإذا اعتبرناهما صفًّا كان المشروعُ تسويةَ الصَّفِّ.
وهناك تسوية أخرى بمعنى الكمال؛ يعني: الاستواء بمعنى الكمال كما قال الله تعالى: {{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى}} [القصص: 14] أي: كَمُلَ، فإذا قلنا: استواءُ الصَّفِّ بمعنى كماله؛ لم يكن ذلك مقتصراً على تسوية المحاذاة، بل يشمَل عِدَّة أشياء:
1 ـ تسويةَ المحاذاة، وهذه على القول الرَّاجح واجبة، وقد سبقت[(18)].
2 ـ التَّراصَّ في الصَّفِّ، فإنَّ هذا مِن كماله، وكان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يأمر بذلك، ونَدَبَ أمَّتَهُ أن يصفُّوا كما تصفُّ الملائكةُ عند ربِّها، يتراصُّون ويكملون الأول فالأول[(19)]، ولكن المراد بالتَّراصِّ أن لا يَدَعُوا فُرَجاً للشياطين، وليس المراد بالتَّراص التَّزاحم؛ لأن هناك فَرْقاً بين التَّراصِّ والتَّزاحم؛ ولهذا كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب… ولا تذروا فُرُجَات للشيطان»[(20)] أي: لا يكون بينكم فُرَج تدخل منها الشياطين؛ لأن الشياطِين يدخلون بين الصُّفوفِ كأولاد الضأن الصِّغارِ[(21)]؛ من أجل أن يُشوِّشوا على المصلين صلاتَهم.
3 ـ إكمالَ الأول فالأول، فإنَّ هذا مِن استواءِ الصُّفوف، فلا يُشرع في الصَّفِّ الثاني حتى يَكمُلَ الصَّفُّ الأول، ولا يُشرع في الثالث حتى يَكمُلَ الثاني وهكذا، وقد نَدَبَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إلى تكميل الصفِّ الأول فقال: «لو يعلم الناسُ ما في النِّداءِ والصَّفِّ الأولِ؛ ثم لم يجدوا إلاّ أن يَسْتَهِمُوا عليه لاسْتَهَمُوا»[(22)]. يعني: يقترعون عليه؛ فإذا جاء اثنان للصفِّ الأول، فقال أحدهم: أنا أحقُّ به منك، وقال الآخر: أنا أحقُّ، قال: إذاً نقترعُ، أيُّنا يكون في هذا المكان الخالي. ومِنْ لَعِبِ الشيطان بكثير من الناس اليوم: أنهم يرون الصفَّ الأول ليس فيه إلا نصفُه، ومع ذلك يشرعون في الصفِّ الثاني، ثم إذا أُقيمت الصلاة، وقيل لهم: أتمُّوا الصفَّ الأول، جعلوا يتلفَّتون مندهشين، وكل ذلك في الحقيقة سببه:
أولاً: الجهل العظيم.
وثانياً: أن بعضَ الأئمة لا يبالون بهذا الشيء، أي: بتسوية المأمومين، وتراصِّهم وتكميلِ الأول فالأول، والأمرُ بالتسوية سُنَّة عند الحاجة إليها، أي: مع عدم استواء الصَّفِّ، وليست سُنَّةً مطلقةً، لكن ينبغي أن تكون سُنَّة مؤثِّرة، بحيث إذا وَجَد الإِمامُ واحداً متقدِّماً قال له: تأخَّر يا فلان، ولقد سبق قول الرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينما رأى رَجُلاً بادياً صدره[(23)]، وكان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُسوِّي الصفوفَ بيده، ويمسحُ المناكبَ[(24)] والصُّدورَ مِن طَرَف الصفِّ إلى طَرَفه[(25)]، والواجب على الإِمامِ أن يصبرَ ويعوِّدَ النَّاسَ على تسويةِ الصَّفِّ، حتى يسوُّوا الصفوفَ، ولا يمكن لإنسان مؤمن يبلُغُه أنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال: «لتُسوُّنَّ صفوفَكم، أو ليُخَالفنَّ اللَّهُ بينِ وجوهِكم»[(26)]. ثم لا يبالي بتسوية الصفِّ. وهاهنا حديث مشهور بين النَّاسِ، وليس له أصلٌ وهو: «إنَّ اللَّهَ لا ينظرُ إلى الصَّفِّ الأعوج».
4 ـ ومِن تسوية الصُّفوف: التقاربُ فيما بينها، وفيما بينها وبين الإِمام؛ لأنهم جماعةٌ، والجماعةُ مأخوذةٌ مِن الاجتماع: ولا اجتماع كامل مع التباعد، فكلما قَرُبَت الصُّفوفُ بعضها إلى بعض، وقَرُبَت إلى الإِمام كان أفضل وأجمل، ونحن نرى في بعض المساجد أنَّ بين الإِمام وبين الصَّفِّ الأول ما يتَّسع لصفٍّ أو صفَّين، أي: أنَّ الإِمام يتقدَّم كثيراً، وهذا فيما أظنُّ صادر عن الجهل، فالسُّنَّةُ للإمام أن يكون قريباً مِن المأمومين، وللمأمومين أن يكونوا قريبين مِن الإِمام، وأن يكون كلُّ صفٍّ قريباً مِن الصَّفِّ الآخر.
وحَدُّ القُرب: أن يكون بينهما مقدار ما يَسَعُ للسُّجودِ وزيادة يسيرة.
مسألة: وهل الصَّفُّ الثاني بالنسبة للصفِّ الثالث صفٌّ أول؛ بحيث يدخل في قول الرسول عليه الصَّلاةِ والسَّلامُ: «لو يعلمُ الناسُ ما في النِّداءِ والصَّفِّ الأولِ؛ ثم لم يجدوا إلاّ أن يستهمُوا عليه لاستهموا»[(27)] أو لا؟.
الظاهر: لا؛ وذلك لأن الصفَّ الأول يقتضي المبادرة والتبكير، بخلاف الصفِّ الثاني، والتقدُّم إلى المسجدِ أمرٌ مطلوبٌ.
5 ـ ومِن تسوية الصُّفوفِ وكمالها: أن يدنوَ الإِنسانُ مِن الإِمامِ؛ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «لِيَلِنِي منكم أولُو الأحْلامِ والنُّهَى»[(28)] وكلَّما كان أقربَ كان أَولى، ولهذا جاء الحثُّ على الدُّنوِّ مِن الإِمام في صلاة الجُمعة[(29)] لأن الدُّنوَّ مِن الإِمام في صلاة الجُمعة يحصُل به الدُّنُو إليه في الصَّلاةِ، وفي الخطبة، فالدُّنُو مِن الإِمام أمرٌ مطلوب، وبعضُ الناس يتهاون بهذا؛ ولا يحرِصُ عليه.
6 ـ ومِن تسوية الصُّفوف: تفضيل يمين الصفِّ على شماله، يعني: أنَّ أيمن الصَّفِّ أفضل مِن أيسره، ولكن ليس على سبيل الإِطلاق؛ كما في الصَّفِّ الأول؛ لأنه لو كان على سبيل الإِطلاق، كما في الصف الأول؛ لقال الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلام: «أتمُّوا الأيمن فالأيمن» كما قال: «أتمُّوا الصَّفَّ الأول، ثم الذي يليه»[(30)]. وإذا كان ليس مِن المشروع أن تبدأ بالجانب الأيمن حتى يكمُلَ، فإننا ننظرُ في أصول الشَّريعة، كيف يكون هذا بالنسبةِ لليسار؟ نجد أن هذا بالنسبة لليسار إذا تحاذى اليمينُ واليسار وتساويا أو تقاربا فالأفضل اليمين، كما لو كان اليسار خمسة واليمين خمسة؛ وجاء الحادي عشر؛ نقول: اذهبْ إلى اليمين؛ لأنَّ اليمين أفضلُ مع التَّساوي، أو التقارب أيضاً؛ بحيث لا يظهر التفاوتُ بين يمين الصَّفِّ ويسارِه، أما مع التَّباعد فلا شكَّ أنَّ اليسار القريبَ أفضل من اليمين البعيد. ويدلُّ لذلك: أنَّ المشروع في أول الأمر للجماعة إذا كانوا ثلاثة أن يقف الإِمام بينهما، أي: بين الاثنين[(31)]. وهذا يدلُّ على أن اليمينَ ليس أفضلَ مطلقاً؛ لأنه لو كان أفضلَ مطلقاً؛ لكان الأفضل أن يكون المأمومان عن يمينِ الإِمامِ، ولكن كان المشروعُ أن يكون واحداً عن اليمين وواحداً عن اليسار حتى يتوسَّط الإِمام، ولا يحصُل حَيْفٌ وجَنَفٌ في أحد الطرفين.
7 ـ ومِن تسوية الصُّفوفِ: أن تُفرد النِّساءُ وحدَهن؛ بمعنى: أن يكون النِّساءُ خلف الرِّجال، لا يختلط النِّساء بالرِّجال لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «خيرُ صُفوفِ الرِّجَالِ أوَّلُهَا، وشرُّها آخِرُها، وخيرُ صُفوفِ النِّساءِ آخرُها، وشرُّها أوَّلُها»[(32)] فبيَّن عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنه كلما تأخَّرت النِّساءُ عن الرِّجالِ كان أفضلَ.
إذاً؛ الأفضلُ أن تُؤخَّر النِّساءُ عن صفوفِ الرِّجَالِ لما في قُربهنَّ إلى الرِّجَال مِن الفتنة. وأشدُّ مِن ذلك اختلاطُهنَّ بالرِّجال، بأن تكون المرأةُ إلى جانب الرَّجُلِ، أو يكون صَفٌّ مِن النِّساءِ بين صُفوفِ الرِّجَال، وهذا لا ينبغي، وهو إلى التَّحريمِ مع خوف الفتنة أقربُ.
ومع انتفاء الفتنة خِلافُ الأَولى، يعني: إذا كان النِّساءُ مِن محارمه فهو خِلافُ الأَولى، وخلاف الأفضل.
8 ـ هل مِن استواء الصُّفوفِ أن يتقدَّمَ الرِّجَالُ ويتأخَّرَ الصبيان؟.
قال بعض العلماء[(33)]: إنَّ هذا مِن تسوية الصُّفوفِ وكمالِها، أنْ يكون الرِّجالُ البالغون هم الذين يلون الإِمامَ، وأن يكون الصبيانُ في الخلفِ، فإذا كان عندنا مِئَةُ رجُل يمثِّلون صَفًّا، ومِئَةُ صبيٍّ يمثِّلون نصف الصَّفِّ، نجعلُ المِئَةَ الرَّجُل الصفَّ الأول، ومِئَةَ الطفل الصفَّ الثاني، حتى لو تقدَّم صبيٌّ إلى الأول أخَّرْنَاه؛ لأنَّ استواء الصفِّ أن يكون الرِّجالُ البالغون هم المقدَّمون.
واستُدِلَّ لذلك: بقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لِيَلِني منكم أُولُو الأحْلامِ والنُّهى»[(34)].
ولكن في هذا نظرٌ، بل نقول: إنَّ الصبيان إذا تقدَّموا إلى مكان، فهم أحقُّ به مِن غيرهم؛ لعموم الأدلَّة على أنَّ مَن سبقَ إلى ما لم يسبق إليه أحدٌ فهو أحقُّ به، والمساجدُ بيوتُ الله، يستوي فيها عباد الله، فإذا تقدَّم الصبيُّ إلى الصفِّ الأول ـ مثلاً ـ وجَلَسَ فليكنْ في مكانِه، ولأننا لو قلنا بإزاحة الصِّبيان عن المكان الفاضل، وجعلناهم في مكان واحد أدى ذلك إلى لَعبِهم؛ لأنَّهم ينفردون بالصَّفِّ، ثم هنا مشكل، إذا دخل الرِّجالُ بعد أن صفَّ الجماعة هل يُرجعونهم، وهم في الصلاة؟ وإن بَقَوا صفًّا كاملاً فسيُشوِّشون على مَنْ خلفَهم مِن الرِّجَال.
ثم إنَّ تأخيرهم عن الصَّفِّ الأول بعد أن كانوا فيه يؤدِّي إلى محذورين:
المحذور الأول: كراهة الصَّبيِّ للمسجدِ؛ لأن الصَّبيَّ ـ وإنْ كان صبيًّا ـ لا تحتقره، فالشيء ينطبع في قلبه.
المحذور الثاني: كراهته للرَّجُل الذي أخَّره عن الصَّفِّ.
فالحاصل: أنَّ هذا القولَ ضعيفٌ، أعني: القول بتأخير الصِّبيان عن أماكنهم، وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لِيَلِني منكم أُولُو الأحلامِ والنُّهى»[(35)] فمرادُه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ حَثُّ البالغين العقلاء على التقدُّم؛ لا تأخير الصِّغار عن أماكنهم.
وقوله: «وتسوية الصفِّ» «أل» هنا للعموم، ولهذا عَبَّرَ بعضُ الفقهاءِ بقوله: تسوية الصُّفوف. فالصفُّ هنا اسمُ جنسٍ يشمَلُ جميعَ الصُّفوف: الأول، والثاني، والثالث… إلخ.
مسألة: إذا كان يمينُ الصَّفِّ أكثرَ مِن يساره؛ فهل يَطلبُ الإمامُ مِن الجماعة تسوية اليمين مع اليسار؟.
الجواب: إذا كان الفَرْقُ واضحاً فلا بأس أنْ يطلبَ تسويةَ اليمينِ مع اليسار، لأجل بيان السُّنَّة؛ لأنَّ كثيراً مِن النَّاسِ الآن يظنُّونَ أن الأفضل اليمين مطلقاً؛ حتى إنه ليكمُل الصفُّ أحياناً مِن اليمين، وليس في اليسار إلا واحدٌ أو اثنان. قال في «الفروع»: ويتوجَّه احتمال أنَّ بُعْدَ يمينه ليس أفضلَ مِن قُرْبِ يسارِه ولعله مرادهم[(36)] اهـ.
مسألة: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا توضَّأ فأحسنَ الوُضُوء، لم يخطُ خَطوة إلا رُفعت له بها درجة…» الحديث[(37)]، فهل إذا خرجَ الإِنسانُ مِن بيته قاصداً المسجدَ، ثم توضَّأ في دورةِ المياه التي في المسجد، يكون له هذا الأجر؟
الجواب: ظاهرُ الحديثِ أنَّه لا يكون له هذا الأجر؛ لأنَّ هناك فَرْقاً بين مَن يخرج مِن بيتِه متهيِّئاً للصَّلاةِ قاصداً لها، وبين إنسان يأتي إلى المسجدِ غير متهيِّئ للصَّلاةِ. نعم؛ لو كان بيتُه بعيداً، ولم يتهيَّأ له الوُضُوء منه فيُرجى أن ينال هذا الأجر.

وَيَقُولُ: «اللَّهُ أكبرُ» ……………
قوله: «ويقول: الله أكبر» أي: يقول المصلِّي: «الله أكبر» والقول إذا أُطلق فإنما هو قول اللِّسان، أما إذا قُيِّد فقيل: يقول في قلبه، أو يقول في نفسِه، فإنه يتقيَّد بذلك، وهذا التكبيرُ رُكْنٌ، لا تنعقدُ الصَّلاةُ بدونه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال للمسيء في صلاتِه: «إذا قُمتَ إلى الصَّلاةِ فأسْبِغ الوُضُوءَ، ثم اسْتقبل القِبْلةَ فكبِّر» مع أنه قال في الأول: «ارجِعْ فَصَلِّ فإنك لم تُصلِّ»[(38)]. وعلى هذا؛ فيكون كلُّ ما أمَرَ به الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المسيءَ في صلاتِه رُكناً لا تصِحُّ الصَّلاةُ بدونه، وإنْ شئت فقل: واجباً لا تصلحُ الصَّلاةُ بدونه؛ لأجل أن يشمَلَ إسباغَ الوُضُوء؛ لأنه ليس برُكنٍ في الصَّلاةِ، بل هو شرط.
وإذا عَجَزَ الإِنسانُ عنها؛ لكونه أخرسَ لا يستطيع النُّطقَ، فهل تسقطُ عنه، أو ينويها بقلبِه، أو يحرِّك لسانَه وشفتيه[(39)]؟
الجواب: نقول: ينويها بقلبِه؛ لأن قول الإِنسان: «الله أكبر» متضمِّن لقول اللسان وقول القلب؛ لأنه لم يقل بلسانه: «الله أكبر» إلا حين قالها بقلبه وعَزَم عليها، فإذا تعذَّر النُّطقُ باللِّسان وَجَبَ القولُ بالقلبِ، فيقولُها بقلبِه، ولا يحرِّك لسانَه وشفتيه، خِلافاً لمن قال مِن أهل العِلم: إنه يحرِّكُ لسانَه وشفتيه؛ مُعَلِّلاً ذلك بأن في القول تحريك اللِّسان والشفتين، فلما تعذَّر الصَّوتُ وَجَبَ التحريكُ.
والردُّ على هذا: أنَّ تحريك اللِّسان والشفتين ليس مقصوداً لذاته؛ بل هو مقصودٌ لغيره؛ لأنَّ القول لا يحصُلُ إلا به، فإذا تعذَّر المقصودُ الأصلي سقطت الوسيلةُ، وصارت هذه الوسيلةُ مجرَّد حركة وعبث، فما الفائدة مِن أن يُحرِّك الإِنسانُ شفتيه ولسانه، وهو لا يستطيع النُّطقَ، فالقول الرَّاجح في هذه المسألة: أنَّ الإِنسانَ إذا كان أخرسَ لا يستطيعُ أن يقول بلسانه فإنه ينوي ذلك بقلبه، ولا يحرِّك شفتيه ولا لسانه، لأن ذلك عبث وحركة في الصَّلاة لا حاجة إليها.
وقوله: «ويقول» إذا قلنا: إن القول يكون باللسان؛ فهل يُشترط إسماع نفسه لهذا القول؟
في هذا خِلافٌ بين العلماء[(40)]، فمنهم مَن قال: لا بُدَّ أن يكون له صوتٌ يُسمعَ به نفسَه. وهو المذهب[(41)]، وإن لم يسمعه مَنْ بجنبه، بل لا بُدَّ أنْ يُسمع نفسَه، فإنْ نَطَقَ بدون أن يُسمعَ نفسَه فلا عِبْرَة بهذا النُّطقِ، ولكن هذا القول ضعيف. والصَّحيحُ: أنه لا يُشترط أن يُسمِعَ نفسَه؛ لأن الإسماعَ أمرٌ زائدٌ على القول والنُّطقِ، وما كان زائداً على ما جاءت به السُّنَّةُ فعلى المُدَّعي الدليلُ. وعلى هذا: فلو تأكَّدَ الإنسان من خروج الحروف مِن مخارجها، ولم يُسمعْ نفسَه، سواء كان ذلك لضعف سمعه، أم لأصوات حولَه، أم لغير ذلك؛ فالرَّاجحُ أنَّ جميعَ أقواله معتبرة، وأنه لا يُشترط أكثر مما دلَّت النُّصوصُ على اشتراطِه وهو القول.
وقوله: «الله أكبر» أي: بهذا اللفظ: «الله أكبر» فلا يُجزئُ غيرها، ولو قام مقامها، كما لو قال: «الله الأجلُّ، أو الله أجلُّ، أو الله أعظمُ» أو ما شابه ذلك، فإنه لا يُجزئُ؛ لأن ألفاظَ الذِّكر توقيفية؛ يُتوقَّفُ فيها على ما وَرَدَ به النصُّ، ولا يجوز إبدالها بغيرها؛ لأنها قد تحمل معنًى نظنُّ أنَّ غيرَها يحملُه، وهو لا يحملُه، فإن قال: الله الأكبرُ، فقال بعضُ العلماء: إنه يجزئُ، وقال آخرون: بل لا يجزئ[(42)]. والصَّحيح: أنه لا يجزئ؛ لأن قولك: «أكبر» مع حذف المفضَّل عليه يدلُّ على أكبريَّة مطلقة، بخلاف الله الأكبرُ، فإنك تقول: ولدي هذا هو الأكبر. فلا يدلُّ على ما تدلُّ عليه «أكبر» بالتنكير، ثم إن هذا هو الذي وَرَدَ به النصُّ، وقد قال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «مَن عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ»[(43)] فالواجب أن يقول: «اللَّهُ أكبرُ».
مسألة: وإذا كان لا يعرفُ اللغةَ العربيةَ، ولا يستطيع النُّطقَ بها فماذا يصنع؟.
نقول: لدينا قاعدة شرعية قال الله فيها: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] . وقال تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، وقال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم»[(44)]. فليكبِّر بلغتِه ولا حَرَجَ عليه؛ لأنه لا يستطيع غيرَها.
فإذا قال قائل: لماذا لا تقولون له: اسكتْ وانوِ التكبير بقلبِك؟
فالجواب: لأن التكبير يشتملُ على لفظٍ، ومعنًى، وقول بالقلب، فهو يشتمل على ثلاثة أشياء: قول القلب، واللفظ الذي جاء به النصُّ وهو العربي، والثالث المعنى.
وهذا الرَّجُلُ الذي لا يعرف اللغةَ العربيةَ يستطيع أن يكبِّر بقلبِه ويستطيع أن يكبِّر بالمعنى، ولا يستطيع أن يكبِّر باللفظ، وإذا أخذنا بالآية الكريمة: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] . قلنا: أنت الآن تستطيع شيئين وتعجز عن الثالث فقم بالشيئين، وهما: تكبير القلب والمعنى، ويسقط عنك الثالث، وهو التكبير اللفظي؛ لأنك عاجزٌ عنه.
ثم نرجع إلى معنى هذه الكلمة: «اللَّهُ أكبرُ» ما معناها؟ وما مناسبةُ الابتداءِ بها؟
الجواب: معناها: أنَّ الله تعالى أكبر مِن كلِّ شيء في ذاتِه وأسمائِه وصفاتِه، وكلُّ ما تحتمله هذه الكلمة مِن معنى. قال الله عزّ وجل: {{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ}} [الزمر: 67] وقال عزّ وجل: {{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ *}} [الأنبياء] ومن هذه عظمته فهو أكبر مِن كل شيء. وقال الله تعالى: {{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *}} [الجاثية] . فكلُّ معنى لهذه الكلمة مِن معاني الكبرياء فهو ثابتٌ لله عزّ وجل.
تـنـبـيـه: زعم بعضُ العلماء أن معنى «الله أكبر»: الله كبير[(45)]، ولكن هذا زعمٌ ضعيف جدًّا؛ لأن كلَّ إنسانٍ يعرفُ الفَرْقَ بين كبير وأكبر.
صحيحٌ أنَّ الله تعالى سمَّى نفسَه {{الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}} [الرعد: 9] لكن معنى «أكبر» غير معنى «الكبير»، فهم فَرُّوا مِن المفاضلة بين الخالق والمخلوق، ولكن هذا الفرار الذي فروا منه أوقعهم في شرٍّ ممَّا فَرُّوا منه، أوقعهم بأن يأتوا بوصف لو أخذنا بظاهره لكان المخلوق والخالق سواء، وهذا نظير تفسير بعضهم قول الله: {{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ}} [القلم: 7] . قالوا: هو عالِمٌ؛ لأنك إذا قلت: أعلم اقتضى مفضَّلاً ومفضَّلاً عليه، فيُقال: وما المانع أن يكون الله أعلَمُ مِن كلِّ عالِم؟ لكن لو قلت: الله عالِمٌ أتيت بلفظ لا يمنع المشاركة؛ لأنك تقول: الله عالِمٌ، وفلان عالِمٌ، وأيُّهما أبلغ في الوصف؛ أن تأتيَ بلفظٍ يمنعُ المشاركةَ وهو الأفضلية المطلقة، أو بلفظ لا يمنع المشاركة؟
الجواب: الأول هو الأفضل، والله يقول عن نفسه: الله أعلَمُ فكيف تقول: اللَّهُ عالِمٌ؟ هذا فيه شيء مِن نقص المعنى.
إذاً؛ نقول: «الله أكبر» اسمُ تفضيلٍ على بابه، وحُذف المفضَّل عليه ليتناول كلَّ شيء، فهو أكبر مِن كلِّ شيء عزَّ وجلَّ وهكذا يُقال في «أَعْلم».
مسألة: كيف النُّطقُ بهذه الكلمة؟
الجواب: قال العلماء: يُكره تمطيط التَّكبير[(46)]، حتى في النهوض من السُّجود إلى القيام مع طول النُّهوضِ، وحتى في الهويِّ إلى السُّجود مع طول ما بين القيامِ والسُّجودِ. قالوا: لأن هذا لم تَرِدْ به السُّنَّةُ، فيكون مكروهاً، هكذا نصَّ عليه الفقهاءُ رحمهم الله.
ولكن؛ الظاهرُ ـ والله أعلم ـ أنَّ الأمرَ في هذا واسعٌ ما لم يُخِلَّ بالمعنى، ولكن ليس مدَّها بأفضل مِن قصرها كما يتوهَّمُه بعض الناس، فبعضُ النَّاسِ يقول: تجعل للرُّكوعِ هيئة في التكبير، وللسُّجودِ هيئة وللجلوس هيئة، وللتشهُّدِ هيئة، وبين السجدتين؛ لأجل أن يكون المأموم خلفك آلة متحرِّكة، لأن المأموم إذا صارت التكبيرات تختلف فإنه يتابع هذا التكبير، حتى ولو كان سارحَ القلبِ إن كبَّرتَ تكبيرةَ السُّجودِ سَجَدَ، وإن كبَّرتَ تكبيرةَ النُّهوضِ نَهَضَ، لكن إذا قصرت التَّكبير كلَّه؛ ولم تميِّز بين التكبيرات؛ صار المأمومُ قد أحضر قلبَه وفِكرَه، يُخشى أن يقومَ في موضع الجلوس، أو أن يجلس في موضع القيام، وأمَّا المسبوق فقد يلتبس عليه الأمر إذا لم تميِّز بين التَّكبير. ولكن هذا محذورٌ يُمكن إزالتُه بأن يقال: إنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لم يُنقل عنه أنه كان يفرِّقُ بين التَّكبيراتِ، بل إن ظاهر صنيعه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنه لا يُفرِّقُ؛ لأنه لما صُنع له المنبر صَلَّى عليه وقال: «يا أيُّها النَّاسُ، إنَّما صنعتُ هذا لتأتمُّوا بي؛ ولتعلموا صلاتي»[(47)]، فلو كان يخالفُ بين التَّكبير لكان النَّاسُ يأتمُّونَ به، ولو لم يكن على المنبر، ثم نقول: هذا المسبوقُ سيلي شخصاً آخر غير مسبوق فيقتدي به.
وأهمُّ شيءٍ هو اتِّباعُ السُّنَّةِ مع حصول الفائدة في كون المأموم يُحضِر قلبَه حتى يعرف عدد الرَّكعات.
وقال بعضُ الفقهاءِ:[(48)] يمدُّ التَّكبيرَ في الهويِّ إلى السُّجودِ، وفي القيامِ مِن السُّجودِ لطول ما بين الرُّكنين. ولكن لا دليل لذلك.

رَافِعاً يَدَيْهِ ……………..
قوله: «رافعاً يديه» . «رافعاً» حال من فاعل «يقول»، أي: حال مقارنة، يعني: حال القول يكون رافعاً يديه.
ودليله: جاءت به السُّنَّةُ في عِدَّة أحاديث؛ كحديث ابن عُمرَ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يرفعُ يديه حذوَ مَنكبيه؛ إذا افتتح الصَّلاةَ، وإذا كبَّرَ للرُّكوع، وإذا رفع رأسه من الرُّكوع»[(49)]. وصَحَّ عنه أيضاً أنه يرفعُ يديه إذا قام مِن الجلسة للتشهُّدِ الأول[(50)]، فهذه أربعة مواضع تُرفع فيها اليدان جاءت بها السُّنَّةُ، ولا تُرفع في غير هذه المواضع.

مَضْمُومَتَي الأصابعِ مَمْدُودَةً …………..
قوله: «مضمومتي الأصابع» . يعني: يضمُّ بعضها إلى بعض، يعني: يرصُّ بعضها إلى بعض، وقال بعضُ العلماء: إنه ينشرها[(51)]، ولكن الصحيح ما ذكره المؤلِّفُ؛ لأنه الوارد عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم.
قوله: «ممدودة» يعني: غير مقبوضة، والمدُّ: فتحها ضدُّ القبض، والقبض أن يضمَّ الأصابع إلى الراحة. وقد جاء هذا في «السُّنن»[(52)].
وقوله: «رافعاً يديه» لم يبيِّن المؤلِّفُ هل هذا عامٌّ للرِّجَال والنِّساءِ، أو خاصٌّ بالرِّجَال؟ ولكنه سيأتي إن شاء الله في آخر صفة الصلاة[(53)] أن المرأةَ كالرَّجُلِ، إلا أنها تسدل رجليها، وتضمُّ نفسَها، فلا تتجافى عند السُّجودِ، ولا ترفع يديها، فتخالفَ في هذه الأمور الثلاثة، وربما في أكثر كما سننظر إن شاء الله. ولكن الصَّحيحُ أنَّ ذلك عامٌّ في حقِّ الرَّجُل وحقِّ المرأة، وأنَّ المرأةَ ترفع يديها كما يَرفع الرَّجُل، فإذا قال قائل: فما الدَّليلُ على عموم هذا الحُكم للرِّجَال والنساء؟.
قلنا: الدَّليلُ عَدَمَ الدَّليلِ على التخصيص، والأصل: أن ما ثَبَتَ في حقِّ الرِّجَال ثبت في حقِّ النساء، وما ثبت في حقِّ النساءِ ثَبَتَ في حقِّ الرِّجَال إلا بدليل، ولا دليلَ هنا على أن المرأةَ لا ترفعُ يديها، بل النصوص عامَّة، وقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «صَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي»[(54)]؛ الخطاب فيه للرِّجَال والنِّساءِ.
فإنْ قال قائل: ما الحكمة مِن رَفْعِ اليدين؟.
فالجواب على ذلك: أنَّ الحكمةَ في ذلك الاقتداءُ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو الذي يَسْلَم به المرءُ مِن أن يتجوَّل عقلُه هنا وهناك، ولهذا لما سُئلت أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما بالُ الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ قالت: «كان يصيبنا ذلك، فنُؤمر بقضاء الصَّومِ، ولا نُؤمر بقضاءِ الصَّلاةِ»[(55)] وإنَّما علَّلت بالنَّصِّ؛ لأن النَّصَّ غايةُ كلِّ مؤمن؛ كما قال تعالى: {{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}} [الأحزاب: 36] . فالمؤمن إذا قيل له: هذا حكمُ اللَّهِ ورسولِه، وظيفتُه أن يقول: سمعنا وأطعنا. ومع ذلك يمكن أن نتأمَّلَ لعلنا نحصُلُ على حكمة مِن فِعْلِ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم. ونقول: الحكمة في رَفْعِ اليدين تعظيم الله عزَّ وجلَّ، فيجتمع في ذلك التعظيم القولي والفعلي والتعبُّد لله بهما، فإن قولك: «اللَّهُ أكبرُ» لا شكَّ أنك لو استحضرت معنى هذا تماماً لغابت عنك الدُّنيا كلُّها؛ لأن الله أكبرُ مِن كلِّ شيء، وأنت الآن واقفٌ بين يدي مَنْ هو أكبر مِن كلِّ شيء.
ثم إن بعض العلماء علَّل بتعليل آخر: أنه إشارة إلى رَفْعِ الحِجاب بينك وبين الله، والإِنسانُ عادة يرفع الأشياء بيديه ويعمل بيديه[(56)].
وعلَّل بعضُهم بتعليل ثالث: وهو أنَّ ذلك مِن زينة الصَّلاةِ؛ لأنَّ الإِنسان إذا وَقَفَ وكبَّر بدون أن يتحرَّك لم تكن الصَّلاةُ على وَجْهٍ حَسَنٍ كامل، ولا مانع أن تكون كلُّ هذه مقصودة.

حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ……….
قوله: «حذو منكبيه» أي: موازيهما. والمنكبان: هما الكتفان، فيكون منتهى الرَّفْعِ إلى الكتفين، فإذا قُدِّر أن في الإِنسان آفة تمنعه من رَفْعِ اليدين إلى المنكبين فماذا يصنع؟
الجواب: يرفعُ إلى حيث يقدِرُ عليه؛ لقول الله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، كذلك إذا قُدِّرَ أنَّ في الإِنسان آفةً لا يستطيعُ أن يرفعهما إلى حَذوِ المنكبين، بل إلى أكثر مِن ذلك، كما لو كانت مرافقُه لا تنحني، بل هي واقفة، فهل يرفع؟
الجواب: يرفع، لقوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] . وإذا كان لا يستطيع رَفْعَ واحدةٍ رَفَعَ الأُخرى للآية، ولأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لمَّا كان واقفاً بعرفة فَسَقَطَ خِطامُ ناقتِه، وكان رافعاً يديه يدعو؛ أخذه بإحدى يديه، والأخرى مرفوعة يدعو اللهَ بها[(57)].
وله أن يرفعهما إلى فُروع أُذنيه؛ لورود ذلك عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم[(58)]، فتكون صفة الرَّفْعِ مِن العبادات الواردة على وجوهٍ متنوِّعة.
والعلماءُ ـ رحمهم الله ـ اختلفوا في العبادات الواردة على وجوهٍ متنوِّعة، هل الأفضل الاقتصار على واحدة منها، أو الأفضل فِعْلُ جميعها في أوقات شتَّى، أو الأفضل أنْ يجمعَ بين ما يمكن جَمْعُه[(59)]؟ والصَّحيح: القول الثاني الوسط، وهو أن العبادات الواردة على وجوهٍ متنوِّعة تُفعل مرَّة على وجهٍ، ومرَّة على الوجه الآخر، فهنا الرَّفْعُ وَرَدَ إلى حَذوِ منكبيه، ووَرَدَ إلى فُرُوع أُذنيه؛ وكُلٌّ سُنَّة، والأفضل أن تَفعلَ هذا مرَّة، وهذا مرَّة؛ ليتحقَّقَ فِعْلُ السُّنَّةِ على الوجهين، ولبقاء السُّنَّةِ حيَّة؛ لأنك لو أخذت بوجهٍ، وتركت الآخر مات الوجهُ الآخر، فلا يُمكن أن تبقى السُّنَّةُ حيَّة إلا إذا كُنَّا نعمل بهذا مرَّة، وبهذا مرَّة، ولأن الإِنسان إذا عَمِلَ بهذا مرَّة، وبهذا مرَّة صار قلبُه حاضراً عند أداء السُّنَّة، بخلاف ما إذا اعتاد الشيء دائماً فإنه يكون فاعلاً له كفعل الآلة عادة، وهذا شيء مشاهد، ولهذا مَن لزم الاستفتاح بقوله: «سبحانك اللهمَّ وبحمدك» دائماً تجده مِن أول ما يُكبِّر يشرع «بسبحانك اللهم وبحمدك» مِن غير شعور؛ لأنه اعتاد ذلك، لكن لو كان يقول هذا مرَّة، والثاني مرَّة صار منتبهاً، ففي فِعْلِ العباداتِ الواردة على وجوهٍ متنوِّعة فوائد:
1 ـ اتِّباعُ السُّنَّة.
2 ـ إحياءُ السُّنَّة.
3 ـ حضورُ القلب.
وربما يكون هناك فائدة رابعة: إذا كانت إحدى الصِّفات أقصرَ مِن الأخرى، كما في الذِّكرِ بعد الصَّلاةِ؛ فإن الإِنسان أحياناً يحبُّ أن يُسرع في الانصراف؛ فيقتصر على «سبحان الله» عشر مرات، و«الحمد لله» عشر مرات، و«الله أكبر» عشر مرات، فيكون هنا فاعلاً للسُّنَّة قاضياً لحاجته، ولا حَرَجَ على الإِنسان أن يفعل ذلك مع قصد الحاجة، كما قال تعالى في الحُجَّاج: {{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}} [البقرة: 198] .
وقال بعضُ العلماءِ: إلى فُروع الأذنين باعتبار أعلى الكفِّ، وإلى حَذوِ المنكبين باعتبار أسفله[(60)]. ولكنَّا نقول: لا حاجة إلى هذا الجَمْعِ؛ لأنَّ الأصلَ أنَّ المراد الكفُّ نفسُه؛ لا أعلاه ولا أسفله؛ والظَّاهر أنَّ الأمر في هذا واسع؛ لتقارب الصِّفات بعضها مِن بعض.
وقوله: «رافعاً يديه» . الأحاديث الواردة في ابتداءِ رَفْعِ اليدين وَرَدَتْ أيضاً على وجوهٍ متعدِّدة؛ فبعضُها يدلُّ على أنه يرفع ثم يكبِّر[(61)]، وبعضها على أنه يكبِّر ثم يرفع[(62)]، وبعضها على أنه يرفع حين يكبِّر[(63)] يعني يكون ابتداء التَّكبير مع ابتداء الرَّفْعِ، وانتهاؤه مع انتهاء الرَّفْعِ، ثم يضع يديه. ونحن نقول: إن الأمرَ أيضاً في هذا واسع، يعني سواء رَفعتَ ثم كبَّرت، أو كبَّرت ثم رفعتَ، أو رَفعتَ مع التَّكبيرِ، فإنْ فعلتَ أيَّ صفة مِن هذه الصِّفات فأنت مصيبٌ للسُّنَّة.

كَالسُّجُودِ ………….
قوله: «كَالسُّجُودِ» أي: كما يفعل في السجود إذا سَجَدَ، فإنه يَجعلُ يديه حَذوَ منكبيه، وهذه إحدى الصفتين في السُّجودِ، وسيأتي إن شاء الله كيف تكون الذراعان. والصِّفة الأخرى: أن يَسجدَ بين كفَّيه، لكن المؤلِّف ذكر هذا استطراداً؛ لأنه ليس هذا موضع ذِكُر اليدين في حال السُّجود.

وَيُسْمِعُ الإِمَامُ مَنْ خَلْفَهُ ………..
قوله: «ويسمع الإِمام من خلفه» أي: حسب ما تقتضيه الحال، إنْ كان مَن خلفَه واحداً فالصوت الخفي يكفي، وإنْ كان مَن خلفَه جمعاً فلا بُدَّ مِن رَفْعِ الصَّوت، وإذا كان لا يسمع صوته مَنْ وراءه استعان بمبلِّغٍ يُبلِّغُ عنه؛ كما فَعَلَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم حين جاء وأبو بكر رضي الله عنه يُصلِّي بالناس، وكان صلوات الله وسلامه عليه مريضاً لا يُسْمِعُ صوته المأمومين، فصلَّى أبو بكر رضي الله عنه عن يمينه؛ وجعل يبلِّغُ الناسَ تكبيرَ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، إذا كَبَّرَ الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بصوتٍ منخفضٍ كَبَّرَ أبو بكر بصوت مرتفع فسمعه الناسُ[(64)]، وهذا هو أصل التبليغ وراء الإِمام، فإن كان لا حاجة إلى المبلغ بأن كان صوت الإِمام يبلغ الناسَ مباشرة، أو بواسطة، فلا يُسنُّ أن يبلِّغ أحدٌ تكبيرَ الإِمام باتِّفاقِ المسلمين.
وقول المؤلِّف: «ويُسمع الإِمامُ مَنْ خَلْفَه» هل هذا على سبيل الاستحباب، أو على سبيل الوجوب؟.
المشهور مِن المذهب: أنه على سبيل الاستحباب، وليس على سبيل الوجوب[(65)]، وأن الإِمام له أن يكبِّر تكبيراً خفيًّا لا يُسْمَع، كما أن المنفرد والمأموم لا يرفعان الصوت؛ فللإِمام أن يفعل كذلك؛ فلا يرفع صوتَه، ولكن الأفضل أن يرفع صوتَه. وظاهر كلام المؤلِّفِ: أن هذا على سبيل الوجوب، لا على سبيل الاستحباب؛ لأنه قال: «وغَيْرُه نفسَه» وإسماع غير الإِمام نفسه واجب فيكون قوله: «ويُسمعُ الإِمامُ مَنْ خَلْفَه» واجباً.
وظاهر كلام المؤلِّف: هو القول الصَّحيح؛ أنه يجب على الإِمامِ أن يُكبِّر تكبيراً مسموعاً يَسمعه مَنْ خلفَه:
أولاً: لفعل النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لو كان الأمر غير واجب لم يكن هناك داعٍ إلى أن يُبلِّغ أبو بكر رضي الله عنه التَّكبيرَ لمَن خلفَ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم.
ثانياً: لأنَّه لا يتمُّ اقتداء المأمومين بالإِمام إلا بسماع التكبير، وما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به فهو واجب، ولو أن الإِمام إذا قام مِن السُّجودِ لم يرفع صوتَه بالتكبير فمتى يقوم النَّاسُ؟ لا يقومون إلا إذا شرع في الفاتحة وجَهَرَ بها، مع أن جَهْرَه بالفاتحة على سبيل الاستحباب، وليس في كُلِّ صلاة، ولا في كُلِّ ركعة؛ ما عدا الفجر.

كَقِرَاءَتِهِ في أولتي غَيْر الظُّهْرَين،……….
قوله: «كقراءته في أولتي غير الظُّهَرين» أي: كما يسمع القراءة في أولتي غير الظُّهرين، وقوله: «أولتي» مثنَّى حُذفت النونُ للإِضافة؛ لأنه يُحذف التنوين والنون عند الإِضافة.
والظُّهران: هما الظُّهر والعصر، وأُطلق عليهما اسمُ «الظُّهْرين» تغليباً، كما نقول: العشائين، والعُمَرَين، والقمرين. فيَجهر في كُلِّ ركعتين أوليين في غير الظُّهرين، ويشمَلُ المغربَ والعشاءَ والفجرَ، لكن الفجر ليس إلا ركعتين، ويشمَلُ الجُمعةَ، والعيدين، والاستسقاءَ، والتراويحَ، والوِترَ، والكسوفَ، وكُلُّ ما تُشرع فيه الجماعةُ، فإنه يُسنُّ أن يجهرَ بالقراءة، ما عدا الظُّهرين، فإذا قال قائل: صلاةُ الليلِ جهريَّة؛ وصلاةُ النَّهارِ سريَّة؛ لماذا؟
فالجواب: أن الليل تَقِلُّ فيه الوساوسُ، ويجتمعُ فيه القلبُ واللِّسانُ على القراءةِ، فيكون اجتماعُ النَّاسِ على صوتِ الإِمامِ وقراءتِهِ أبلغَ من تفرقهم، ولهذا لا يُشرع الجهر في النهار إلا في صلاة جامعة كصلاة الجُمعة، والعيدين، والاستسقاء، والكسوف، لأنَّ النَّاسَ مجتمعون، ولا شَكَّ أن إنصاتهم على قراءةِ الإِمامِ تجعل قراءتهم قراءة واحدة؛ لأن المستمع كالقارئ، ولو كان الإِمام يُسِرُّ لكان كُلُّ واحد يقرأ لنفسه، فيكون الجهر أجمع على القراءة، بخلاف السِرِّ، هذا ما ظهر لي مِن الحكمة في الجهر في صلاة الجمعة والعيدين وشبههما، وكذلك في صلاة الليل. والله أعلم.

وَغَيْرُهُ نَفْسَهُ.…………
قوله: «وغيره نفسه» . أي: ويُسمِعُ غيره، أي: غيرُ الإِمامِ نفسَه، وهو المأموم، والمنفرد يُسمعُ نفسَه، يعني: يتكلَّم وينطق بحيث يُسمعُ نفسَه، فإن أبان الحروفَ بدون أن يُسمعَ نفسَه لم تصحَّ قراءته، بل ولم يصحَّ تكبيره، ولو كبَّر وقال: «الله أكبر»، ولكن على وجه لا يُسمعُ نفسَه لم تنعقد صلاتُه؛ لأن التكبير لم يصحَّ، ولكن يُشترط لوجوب إسماعِ نفسِه أن لا يكون هناك مانع مِن الإسماعِ، فإن كان هناك مانع؛ سقط وجوبُ الإسماع؛ لوجود المانع، فلو كان يُصلِّي وحولَه أصواتٌ مرتفعة، فهذا لا يمكن أن يُسمعَ نفسَه إلا إذا رَفَعَ صوته كثيراً، فنقول: يكفي أن تنِطقَ بحيث تُسمعُ نفسَك لولا المانع. ولكن سبق لنا أنه لا دليلَ على اشتراطِ إسماعِ النَّفْسِ[(66)]، وأنَّ الصحيح أنه متى أبان الحروفَ فإنه يصحُّ التكبيرُ والقراءةُ، فكلُّ قولٍ فإنه لا يُشترط فيه إسماعُ النَّفْسِ. والغريب أنهم قالوا هنا رحمهم الله: يُشترط إسماعُ النَّفْسِ في التكبيرِ والقراءةِ، وقالوا فيما إذا قال الإِنسان لزوجته: أنت طالق، تَطْلُقُ، وإن لم يُسمع نفسَه، وكان مقتضى الأدلَّة أن تكون المعاملة بالأسهل في حقِّ الله، فكيف نعامله بحقِّ الله بالأشدِّ ونقول: لا بُدَّ أن تسمعَ نفسَك. وفي حقِّ الآدمي ـ ولا سيما الطلاق الذي أصله مكروه ـ نقول: يقع الطلاق وإن لم تُسمعْ نفسَك؟!

ثَم يَقْبِضُ كُوعَ يُسْراه ………….
قوله: «ثم يقبض كوع يُسراه» أي: بعد التكبيرِ ورَفْعِ اليدين يقبضُ كُوعَ يُسراه، وبعضُ الناس يقول: الله أكبر، ثم يرسل يديه، ثم يرفعهما ويقبضهما، وهذا ليس له أصل، بل مِن حين أن ينزلهما مِن الرَّفْعِ يقبض الكُوعَ.
والكُوعُ: مفصل الكفِّ مِن الذِّراع، ويقابله الكُرسوع، وبينهما الرُّسغ.
فالكُوعُ: العظم الذي يلي الإِبهام. والكُرسوع: هو الذي يلي الخنصر.
والرسغ: هو الذي بينهما. وأنشدوا على ذلك:
وعظمٌ يلي الإِبهامَ كوعٌ وما يلي
لخنصره الكرسوعُ والرُّسغُ ما وسط
وعظمٌ يلي إبهامِ رِجْلٍ ملقب
ببُوعٍ فخذ بالعِلم واحْذرْ مِن الغلط
ومراد المؤلِّف بقوله: «يقبض كُوعَ يسراه»: المفصل.
فأفادنا المؤلِّف رحمه الله: أن السُّنَّةَ قَبْضُ الكُوعِ، ولكن وَرَدَت السُّنَّةُ بقَبْضِ الكوعِ [(67)]، ووَرَدَت السُّنَّةُ بوضع اليد على الذِّراع مِن غير قَبْضٍ[(68)]، إذاً؛ هاتان صفتان: الأُولى قَبْض، والثانية وَضْع.
مسألة: نرى بعضَ النَّاس يقبض المرفق، فهل لهذا أصل؟
الجواب: ليس لهذا أصلٌ، وإنما يقبض الكُوعَ أو يضع يده على الذِّراع، ففي «صحيح البخاري» من حديث سهل بن سعد أنه قال: «كان النَّاسُ يؤمرون أن يضعَ الرَّجُلُ يدَه اليُمنى على ذِرِاعِهِ اليُسرى في الصَّلاةِ» (68) .

تَحْتَ سُرّتِهِ،…………
قوله: «تحت سرته» يعني يجعل اليدَ اليمنى واليسرى تحت السُّرَّة. وهذه الصفة ـ أعني: وَضْع اليدين تحت السُّرَّة ـ هي المشروعة على المشهور مِن المذهب[(69)]، وفيها حديث علي رضي الله عنه أنه قال: «مِن السُّنَّةِ وَضْعُ اليدِ اليُمنى على اليُسرى تحت السُّرَّةِ»[(70)].
وذهب بعضُ العلماء: إلى أنه يضعها فوق السُّرة، ونصَّ الإِمام أحمد على ذلك[(71)].
وذهب آخرون مِن أهل العِلم: إلى أنه يضعهما على الصَّدرِ[(72)]، وهذا هو أقرب الأقوال، والوارد في ذلك فيه مقال، لكن حديث سهل بن سعد الذي في البخاري ظاهرُه يؤيِّد أنَّ الوَضْعَ يكون على الصَّدرِ، وأمثل الأحاديث الواردة على ما فيها من مقال حديث وائل بن حُجْر أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم: «كان يضعُهما على صدرِه»[(73)].
مسألة: نرى بعضَ النَّاسِ يضعُهما على جنبِه الأيسر، وإذا سألته لماذا؟ قال: لأنَّ هذا جانب القلب، وهذا تعليل عليل لما يلي:
أولاً: لأنَّه في مقابل السُّنَّة، وكلُّ تعليلٍ في مقابلِ السُّنَّةِ فإنَّه مردودٌ على صاحبِه؛ لأنَّ السُّنَّةَ أحقُّ بالاتِّباعِ.
وثانياً: أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يُصلِّيَ الرَّجلُ متخصراً[(74)] أي: واضعاً يده على خاصرتِه، وهذا إن لم ينطبقْ عليه النَّهيُ فهو قريبٌ منه.
لهذا؛ إذا رأيتَ أحداً يفعل هكذا فانصحه، ثم إنَّ فيه شيئاً آخر، وهو أنَّ فيه إجحافاً؛ لعدم التوسُّط في البدن؛ لأنه فَضَّلَ جانب اليسار على جانب اليمين، فنقول: خيرُ الأمورِ الوسط، فَكُنْ بين اليمين وبين اليسار، وضَعْ اليدين على الصَّدرِ.

وَيَنْظُرُ مَسْجِدَهُ،……….
قوله: «وينظر مسجده» أي: موضع سجوده، والضَّميرُ يعودُ على المُصلِّي، وهو شاملٌ للإِمام والمأموم والمنفرد؛ أنه ينظر موضعَ سجودِه، وعلى هذا كثير مِن أهلِ العلمِ[(75)]، واستدلُّوا بحديث رُويَ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا: «أنه كان ينظر إلى موضع سجودِه في حال صلاتهِ»[(76)]، وكذلك قالوا في تفسير قوله تعالى: {{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *}} [المؤمنون] الخشوع: أن ينظر إلى موضع سجوده.
وقال بعضُ العلماءِ: ينظرُ تلقاء وجهِهِ، إلا إذا كان جالساً، فإنَّه ينظر إلى يدِه حيث يُشير عند الدُّعاء[(77)].
وفصل بعض العلماء بين الإِمام والمنفرد وبين المأموم فقال: إن المأموم ينظر إلى إمامه ليتحقق من متابعته[(78)]؛ ولهذا قال البراء بن عازب: «كان رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قال: سَمِعَ اللَّهُ لمن حَمِده، لم يَحْنِ أحدٌ منَّا ظهرَه؛ حتى يقعَ النبي صلّى الله عليه وسلّم ساجداً، ثم نقعُ سجوداً بعده»[(79)] قالوا: فهذا دليل على أنهم ينظرون إليه.
واستدلُّوا أيضاً: بما جرى في صلاةِ الكسوفِ، حيث أخبرَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم الصحابةَ أنه عُرضت عليه الجنَّةُ، وعُرضت عليه النَّارُ[(80)]، وقال فيما عُرضت عليه الجنَّةُ: «حيث رأيتموني تقدَّمت»، وفيما عُرضت عليه النَّارُ قال: «فيما تأخَّرت» وهذا يدلُّ على أنَّ المأمومَ ينظر إلى إمامه.
والأمر في هذا واسع، ينظر الإِنسان إلى ما هو أخشع له؛ إلا في الجلوس، فإنه يرمي ببصره إلى أصبعه حيث تكون الإِشارة كما وَرَدَ ذلك[(81)].
واستثنى بعضُ أهلِ العِلمِ: فيما إذا كان في صلاة الخوف[(82)]، لقوله تعالى: {{وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}} [النساء: 102] وبأن النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بعثَ عيناً يوم حُنين، فجعل رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم ينظر إلى ناحية الشِّعْبِ وهو يُصلِّي[(83)]؛ لينظر إلى هذا العين، والعين هو الجاسوس، ولأنَّ الإِنسان يحتاج إلى النَّظَرِ يميناً وشمالاً في حال الخوف، والعملُ ـ ولو كان كثيراً ـ في حال الخوف مغتفر، فكذلك عَمَلُ البصر، وهذا الاستثناء صحيحٌ.
واستثنى بعضُ العلماءِ أيضاً: المُصلِّي، في المسجد الحرام وقالوا: ينبغي أن ينظر إلى الكعبة؛ لأنها قِبْلةُ المصلِّي، ولكن هذا القول ضعيف؛ فإن النَّظَرَ إلى الكعبة يشغل المُصلِّي بلا شَكٍّ؛ لأنه إذا نَظَرَ إلى الكعبة نَظَرَ إلى النَّاسِ وهم يطوفون فأشغلوه، والصَّحيح أنَّ المسجدَ الحرامَ كغيره؛ ينظر فيه المصلِّي إما إلى موضع سجودِه، أو إلى تلقاءِ وجهه.
وأما النَّظَرُ إلى السَّماءِ فإنه محرَّم، بل مِن كبائر الذُّنوب؛ لأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم نَهى عن ذلك، واشتدَّ قوله فيه حتى قال: «لينتهينَّ ـ يعني الذين يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة ـ أو لتُخطفنَّ أبصارُهم»[(84)]، وفي لفظ: «أو لا ترجع إليهم»[(85)]. وهذا وعيد، والوعيد لا يكون إلا على شيء مِن كبائر الذنوب، بل قال بعضُ العلماءِ: إن الإِنسان إذا رَفَعَ بصرَه إلى السماءِ وهو يُصلِّي بطلتْ صلاتهُ، واستدلُّوا لذلك بدليلين:
الأول: أنَّه انصرفَ بوجهِه عن جهِة القِبْلةِ، لأنَّ الكعبةَ في الأرض، وليست في السَّماءِ.
الثاني: أنَّه فَعَلَ محرَّماً منهيًّا عنه في الصَّلاةِ بخصوصها، وفِعْلُ المحرَّمِ المنهيُّ عنه في العبادة بخصوصها يقتضي بطلانَها.
ولكن؛ جمهورُ أهل العِلم على أنَّ صلاتَه لا تبطل برَفْعِ بصرِه إلى السَّماءِ، لكنَّه على القول الرَّاجح آثمٌ بلا شَكٍّ؛ لأن الوعيد لا يأتي على فِعْلِ مكروه فقط.
إذاً؛ ينظرُ المصلِّي إما إلى تلقاء وجهه، وإما إلى موضعِ سجودِه في غير ما استُثنيَ. ولكن أيُّهما أرجح؟
الجواب: أن يختارَ ما هو أخشعُ لقلبِه؛ إلا في موضعين: في حال الخوف، وفيما إذا جَلَسَ، فإنه يرمي ببصره إلى موضع إشارته إلى أصبعه؛ كما جاءت به السُّنَّةُ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم[(86)].
ومِن العجيب أن الذين قالوا: ينظر إلى الكعبة، علَّل بعضهم ذلك بأن النظر إلى الكعبة عبادة، وهذا التَّعليلُ يحتاجُ إلى دليلٍ، فمِن أين لنا أنَّ النَّظَرَ إلى الكعبة عبادةٌ؟ لأن إثبات أيِّ عبادةٍ لا أصل لها مِن الشرع فهو بدعة.
مسألة: إغماض العينين في الصَّلاةِ.
الصَّحيحُ أنَّه مكروهٌ؛ لأنه يُشبه فِعْلِ المجوس عند عبادتهم النيران، حيث يُغمضون أعينَهم. وقيل: إنه أيضاً مِن فِعْلِ اليهودِ، والتشبُّه بغير المسلمين أقلُّ أحواله التحريم، كما قال شيخ الإِسلام رحمه الله، فيكون إغماضُ البَصَرِ في الصَّلاةِ مكروهاً على أقل تقدير، إلا إذا كان هناك سبب مثل أن يكون حولَه ما يشغلُه لو فَتَحَ عينيه، فحينئذٍ يُغمِضُ تحاشياً لهذه المفسدة.
فإِن قال قائل: أنا أجِدُ نفسي إذا أغمضت عينيَّ أخشعُ، فهل تُفْتُونَني بأن أُغمِضَ عينيَّ؟
الجواب: لا، لأن هذا الخشوعَ الذي يحصُلُ لك بفِعْلِ المكروه مِن الشيطان، فهو كخشوعِ الصوفية في أذكارهم التي يتعبَّدونَ بها وهي بدعة، والشيطان قد يبعد عن قلبك إذا أغمضت عينيك فلا يوسوس، من أجل أن يوقعك فيما هو مكروه، فنقول: افْتَحْ عينيك، وحاول أن تخشعَ في صلاتِك.
أما أن تُغمِضَ عينيك بدون سببٍ لتخشعَ فلا؛ لأنَّ هذا مِن الشيطان.

ثُمَّ يَقُولُ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلاَ إلهَ غَيْرُكَ».
قوله: «ثم يقول» أي: بعد ما سبق من التكبير ووضع اليدين وغير ذلك «سبحانك اللهم وبحمدك» وهذه جملة تتضمَّن التنزيه والإِثبات.
تتضمَّن التنزيه في قوله: «سبحانك اللَّهُمَّ»، والإِثبات في قوله: «وبحمدِك» لأنَّ الحمدَ هو وَصْفُ المحمودِ بالكمالِ مع محبَّتِه وتعظيمِه، فتكون هاتان الجملتان جامعتين للتنزيه والإِثبات.
وقوله: «سبحانك» اسمُ مصدر من سَبَّحَ يُسبِّحُ، والمصدر تَسْبيح، واسمُ المصدر سُبحان، دائماً منصوب على المفعولية المطلقة، محذوف العامل، مضاف. ففيه ثلاثة أشياء:
أولاً: أنَّه منصوب على المفعولية المطلقة دائماً.
والثاني: أنَّه محذوف العامل دائماً.
والثالث: أنَّه مضاف دائماً.
ومعناه: تنزيهاً لك يا ربِّ عن كُلِّ نَقْصٍ، والنَّقصُ إما أن يكون في الصِّفاتِ، أو في مماثلة المخلوقات، فصفاتُه التي يتَّصف بها منزَّه فيها عن كُلِّ نقص، يتَّصف بالعِلمِ الكاملِ، وبالحياةِ الكاملةِ، وبالسَّمْعِ الكامل، وبالبصر الكامل… وهكذا جميع الصفات التي يتَّصف بها هو فيها مُنزَّه عن النَّقْصِ، كذلك مُنزَّه عن أن يوصف بصفة نَقْصٍ محضة، مثل أن يوصف بالعجز، أو الظُّلم، أو ما أشبه ذلك.
مُنزَّه عن مماثلة المخلوقات، ولو فيما هو كمال في المخلوقات فإن الله تعالى مُنزَّه عنه، فمُنزَّه عن أن تكون صفاتُه الخبريَّة كصفات المخلوقين، مثل: الوجه، واليدين، والقدم، والعينين، ومُنزَّه أن تكون صفاتُه الذاتية المعنوية كصفات المخلوقين، فعلمُه ليس كعِلْمِ المخلوق؛ لأنَّ عِلْمَ المخلوق كلُّه نَقْصٌ، نَقْصٌ في ابتدائِه؛ لأنَّه مسبوقٌ بجهلٍ، وفي غايته؛ لأنه ملحوق بالنسيان، وفي شُمولِه؛ لأنَّه قاصرٌ، حتى رُوحك التي بين جنبيك لا تعلم عنها شيئاً. كما قال تعالى: {{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً *}} [الإسراء] حتى ما تريد أن تفعله غداً لست على يقينٍ مِن أنْ تفعلَه، لكنك ترجو وتؤمِّل، وإلاّ فلا تعلم نفسٌ ماذا تكسب غداً، إذاً؛ هذا نَقْصٌ عظيمٌ في العِلْمِ، أما الله عزَّ وجلَّ فإنَّه كاملُ العِلْمِ.
كذلك أيضاً لا يماثل المخلوق في صفاته الفعلية، مثل: الاستواء على العرش، والنُّزول إلى السَّماءِ الدُّنيا، والمجيء إلى الفصل بين العباد، والرِّضى والغضب، وما أشبه ذلك، وإنْ وافقها في الاسم، فالاسمُ هو الاسمُ، ولكن المُسمَّى غير المُسمَّى، فالصِّفةُ هي الصفة، ولكن الموصوف غير الموصوف؛ فلا تماثل بين الخالق والمخلوق. إذاً؛ يُنزَّه اللَّهُ عن ثلاثة أشياء:
1 ـ عن النَّقصِ في صفات الكمال.
2 ـ عن صفات النَّقصِ المجردة عن الكمال.
3 ـ عن مماثلة المخلوقين.
وتمثيله بالمخلوقين نَقصٌ؛ لأنَّ تسويةَ الكاملِ بالنَّاقصِ تجعله ناقصاً قال الشاعر:
ألم تَرَ أنَّ السَّيفَ ينقصُ قَدْرَه
إذا قيل إنَّ السَّيفَ أمضى مِن العَصَا
إذا قلت: عندي سيفٌ عظيم، ومَدحته مدحاً كثيراً، ثم قلت: هو أمضى مِن العصا؛ فإنه يهبط هبوطاً عظيماً، ولا ترى لهذا السَّيفِ قَدْراً؛ لأنك نفيت أن يكون مماثلاً للعصا، وسيفٌ يمكن أن يَتصوَّرَ الإِنسانُ مماثلته للعصا ناقصٌ لا ريب في ذلك.
أما «الحمد» فهو: وصفُ المحمود بالكمال، الكمال الذَّاتي والفعلي، فالله سبحانه وتعالى كاملٌ في ذاته، ومِن لازمِ كمالِه في ذاتِه أن يكون كاملاً في صفاته.
كذلك في فِعْلِه، فَفِعْلُه دائرٌ بين العدل والإِحسان؛ لا يمكن أن يظلم، بل إما أن يعامل عبادَه بالعدلِ، وإما أن يعاملَهم بالإِحسان، فالمسيءُ يعاملُه بالعدل كما قال تعالى: {{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}} [الشورى: 40] لا يمكن أن يزيد. والمحسن يعامله بالفضل كما قال تعالى: {{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}} [الأنعام: 160] فَفِعْلُه عزَّ وجلَّ دائرٌ بين الأمرين، ومَن كان فِعْلُه دائراً بين هذين الأمرين: العدل والفضل، فلا شَكَّ أنه محمودٌ على أفعالِه، كما هو محمودٌ على صفاته.
إذاً؛ جمعتَ بين التَّنزيهِ والكمالِ في قولك: «سُبحانكَ اللَّهُمَّ وبحمدِك» فعلى هذا؛ فالواو تفيد معنى المعيَّة، يعني: ونزَّهتُك تنزيهاً مقروناً بالحمد.
قوله: «وتبارك اسمك» «اسم» هنا مفرد، لكنه مضاف فيشمل كُلَّ اسمٍ مِن أسماءِ الله.
وهل المراد بالاسم هنا المُسمَّى كما في قوله: «تباركت يا ذا الجلال والإِكرام» ويكون المراد بـ «تَباركَ اسمُكَ» أي: تباركتَ، كقوله: {{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *}} [الأعلى] والمُسبَّح الله المُسَمَّى، أو أن المراد أنَّ اسمَ الله نفسَه كلَّه بَركة، وإذا كان اسم المُسمَّى بركة فالمُسمَّى أعظم بركة وأشدُّ وأَولى؟
الجواب: الثاني أظهر؛ لأننا نَسْلَم فيه مِن التجوُّز بالاسم عن المُسمَّى، ولأنه يلزم منه تبارك المُسمَّى.
أمثلة مِن بَرَكة اسمِ الله:
لو ذبحتَ ذبيحةً بدون تسميةٍ؛ لكانت ميتةً نجسةً حراماً، ولو سمَّيت اللَّهَ عليها لكانت ذكيةً طيبةً حلالاً.
وأيضاً: إذا سمَّيتَ على الطَّعام لم يشاركك الشيطانُ فيه، وإن لم تسمِّ شاركك.
وإذا سمَّيت على الوُضُوء ـ على قول مَن يرى وجوبَ التَّسمية ـ صَحَّ وضوؤك، وإن لم تسمِّ لم يصحَّ وضوؤك.
وعلى قول مَن يرى استحبابها يكون وضوؤك أكمل مما لو لم تسمِّ، فهذه مِن بركة اسمِ الله عزَّ وجلَّ.
قوله: «وتعالى جدُّك» «تعالى» أي: ارتفعَ ارتفاعاً معنوياً، والجَدُّ: بمعنى العظمة، يعني: أنَّ عظمتَك عظمة عظيمة عالية؛ لا يساميها أي عظمة مِن عظمة البشر، بل مِن عظمة المخلوقين كلهم.
قوله: «ولا إله غيرك» هذه هي كلمةُ التوحيدِ التي أُرسل بها جميعُ الرُّسل كما قال تعالى: {{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *}} [الأنبياء] وكما قال صلّى الله عليه وسلّم: «ومَن كان آخرُ كلامِه مِن الدُّنيا لا إله إلا الله دَخَلَ الجنَّةَ»[(87)] فهي أفضلُ الذِّكرِ، ومعناها: لا معبودَ حقٌّ إلا الله. فـ «إله» : بمعنى مألوه، وهو اسمٌ، «لا» : النافية للجنس، وخبرها محذوف تقديره: حقّ، «إلا الله» : «إلا» أداة استثناء، و«الله» بدل مِن الخبر المحذوف، هذا أصحُّ ما قيل في معناها وفي إعرابها.
إذاً معناها: لا معبودَ حقٌّ إلا الله، فهل هناك معبودٌ باطلٌ؟
الجواب: نعم، هناك معبودٌ باطلٌ وهو مَنْ سِوى الله؛ لقوله تعالى: {{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}} [الحج: 62] . وهذه الآلهة وإن سُمِّيت آلهة فما هي إلا أسماء لا حقيقة لها، فهي باطلة كما قال تعالى: {{إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}} [النجم: 23] . وهذه الكلمة لها مقتضى، فمقتضاها التسليم التام لله عزَّ وجلَّ؛ لأن العبادة مأخوذة من الذُّلِّ، ومنه: طريق معبَّد، أي: مذلَّل مُسهَّل. فمقتضى هذه الكلمةِ العظيمةِ الاستسلامُ لله تعالى ظاهراً وباطناً، فأنت إذا قلتها تخبر خبراً تنطِقُه بلسانك، وتعتقدُه بجَنَانك بأنَّ اللَّهَ هو المعبودُ حقًّا، وما سواه فهو باطل، ثم تأمَّل كيف جاءت هذه الكلمةُ التي فيها توحيد الله بألوهيَّته بعد الثناء عليه؛ ليكون توحيده بالألوهية مبنيًّا على كماله. «سبحانك اللَّهُمَّ وبحَمْدِكَ، وتباركَ اسمُكَ، وتعالى جَدُّكَ» كُلُّ هذا ثناءٌ على الله بالكمال، ثم قال: «ولا إله غيرُكَ» فيكون هذا السَّابق كالسبب المبني عليه اللاحق، يعني: أنه لكمال صفاتِك لا معبودَ حقٌّ إلا أنت، ولا إلهَ غيرُك.
هذا هو دعاء الاستفتاح، وكان عُمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه يستفتحُ به، رواه مسلم بسند فيه انقطاع[(88)]؛ لكن وصله البيهقيُّ[(89)]. وعُمرُ أحدُ الخلفاء الراشدين الذين أُمرنا باتِّباعهم. وقد رُويَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم مرفوعاً[(90)].
هل هناك دعاءٌ آخر يُستفتح به؟
الجواب: نعم؛ فيه أنواع ـ ولشيخ الإِسلام ابن تيمية رسالة في أنواع الاستفتاحات[(91)] ـ منها ما ثَبَتَ في «الصَّحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إذا كبَّرَ للصَّلاةِ سَكَتَ هُنَيَّةً، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أرأيتَ سكوتَك بين التكبير والقراءة؛ ما تقول؟ قال: أقول: «اللَّهُمَّ بَاعدْ بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللَّهُمَّ نقِّني مِن خطاياي كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ مِن الدَّنسِ، اللَّهُمَّ اغسلني مِن خَطَايَاي بالماءِ والثَّلجِ والبَرَدِ»[(92)]. وهذا أصحُّ من الحديث الذي فيه الاستفتاح بـ«سُبحانكَ اللَّهُمَّ وبحمدِك…»، وكلٌّ مِن النوعين جائزٌ وسُنَّةٌ، وينبغي للإِنسان أن يستفتحَ بهذا مرَّة، وبهذا مرَّة؛ ليأتي بالسُّنَنِ كلِّها، وليكون ذلك إحياءً للسُّنَّة. ولأنه أحضرُ للقلب؛ لأن الإِنسان إذا التزم شيئاً معيَّناً صار عادةً له، حتى إنه لو كَبَّر تكبيرةَ الإِحرام وغَفَلَ ومِن عادته أن يستفتح بـ «سُبحانكَ اللَّهُمَّ وبحمدِك» يَجِدُ نفسَه قد شَرَعَ فيه بدون قصد.
شرح الاستفتاح الوارد في حديث أبي هريرة: «اللَّهُمَّ باعِدْ بيني وبين خَطاياي…».

ثَبَتَ في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إذا كَبَّرَ للصلاة سكت هُنيَّةً» ومِن حِرْصِ أبي هريرة رضي الله عنه على العِلم بشهادةِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم له حين قال له: يا رسول الله، مَنْ أسعدُ النَّاسِ بشفاعتِكَ يومَ القيامةِ؟ قال: «لقد ظَنَنتُ ـ يا أبا هريرة ـ أن لا يسألَنِي عن هذا الحديث أحدٌ أوَّلُ منك، لِمَا رأيتُ مِن حرصِك على الحديثِ. ثم قال: أسعدُ النَّاسِ بشفاعتِي يومَ القيامةِ: مَنْ قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه»[(93)]. أنه لما رأى النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يسكتُ بين التكبيرِ والقراءة، عَلِمَ أنه لا بُدَّ أن يقول شيئاً، لأنَّ الصلاة ليس فيها سكوتٌ مطلقٌ فقال: «أرأيتَ سكوتَك بين التكبير والقراءةِ؛ ما تقولُ؟» وكلمة «ما تقول» تدلُّ على أنه يعتقد أنه يقول شيئاً؛ لأنه لم يقل: هل أنت ساكتٌ؟ قال: أقول: «اللَّهُمَّ باعِدْ بيني وبين خَطَايَاي كما باعدت بين المشرق والمغرب» ومعناه: أنه سأل الله أن يُباعد بينه وبين خطاياه؛ كما باعَدَ بين المشرقِ والمغربِ، والمباعدة بين المشرق والمغرب هو غاية ما يبالغ فيه النَّاسُ، فالنَّاسُ يبالغون في الشيئين المتباعدين إمَّا بما بين السماء والأرض، وإما بما بين المشرقِ والمغربِ، ومعنى «باعِدْ بيني وبين خَطَاياي» أي: باعِدْ بيني وبين فِعلِها بحيث لا أَفْعَلُها، وباعِدْ بيني وبين عقوبِتها.
وقوله: «اللَّهُمَّ نقِّني مِن خطاياي كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ مِن الدَّنس»، هذه الجملةُ تدلُّ على أنَّ المرادَ بذلك الخطايا التي وقعت منه، لأنه قال: «نقِّني منها كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ مِن الدَّنس». أي: كما يُغسل الثوبُ الأبيضُ إذا أصابه الدَّنس فيرجع أبيض، وإنما ذَكَرَ الأبيضَ؛ لأن الأبيض هو أشدُّ ما يؤثِّر فيه الوسخ؛ بخلاف الأسود، ولهذا في أيام الشتاء الثياب السوداء تبقى شهراً أو أكثر، لكن الأبيض لا يبقى أسبوعاً إلا وقد تدنَّسَ، فلهذا قال: «كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ مِن الدَّنَسِ» وهذا ظاهرٌ أنه في الذُّنوب التي فَعَلَهَا يُنقَّى منها، وبعد التنقية قال: «اللَّهُمَّ اغسلْنِي مِن خطاياي بالماءِ والثَّلجِ والبَرَدِ».
إذاً؛ فالذي يظهر: أنَّ الجملةَ الأُولى في المباعدة، أي: أن لا أفعلَ الخطايا، ثم إن فَعلتُها فنقِّني منها، ثم أزِلْ آثارَها بزيادة التطهير بالماء والثَّلجِ والبَرَدِ، فالماء لا شَكَّ أنه مطهِّرٌ، لكن الثَّلجُ والبَرَدُ مناسبته هنا أنَّ الذُّنوب آثارها العذابُ بالنَّارِ، والنَّارُ حارَّة، والحرارةُ يناسبها في التنقية منها الشيء البارد، فالماء فيه التنظيف، والثَّلجُ والبَرَدُ فيهما التبريدُ.
هذا هو معنى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وبقي أن يُقال: هل الخطأ يقع مِن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم؟
الجواب: قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ اغسلْنِي مِن خطاياي» فأضاف الخطايا إلى نفسِه، وكان يقول: «اللَّهُمَّ اغفِرْ لي ذنبي كُلَّه، دِقَّهُ وجِلَّهُ، وأوَّلَه وآخره، وعَلانيته وسِرَّه»[(94)] وقال الله تعالى: {{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}} [محمد: 19] وقال الله: {{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}} [الفتح: 2] ولكن الشأن كلُّ الشأن هل الذُّنوب هذه تبقى أم لا؟
الجواب: لا، فالنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم معصومٌ مِن الإِقرارِ على الذَّنبِ، ومغفورٌ له، بخلاف غيره، فإنه يذنب، وقد يُقَرُّ على ذلك ويستمرُّ في معصيته، وقد لا يُغفر له، أما النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم فلا بُدَّ أن يُنبَّه عليه مهما كان الأمر: {{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *}} [التحريم] .
هذا هو فَصْلُ الخطاب في هذه المسألة التي تنازعَ النَّاسُ فيها، لكن هناك مِن الذنوب ذَنْبٌ لا شَكَّ أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم معصومٌ منه، وهو الكذبُ والخيانة؛ لأنه لو قيل بجواز ذلك عليه؛ لكان في ذلك قَدْحٌ في رسالته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فلا يمكن أن يقعَ منه. كذلك أيضاً معصوم مما يُخلُّ بأصل العبادة وأصلِ الأخلاق، كالشِّركِ، وكسفاسف الأخلاق مثل الزِّنا وشبهه، لكن الخطايا التي بينه وبين ربِّه هذه قد تقعُ منه ولكنها خطايا صغيرة تُكَفَّر، وقد غَفَرَ اللَّهُ له ما تقدَّم مِن ذَنْبِه وما تأخَّر.
قلتُ: ذلك؛ لأن بعض العلماء رحمهم الله قالوا: إن كلَّ شيء وَصَفَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم نفسَه به من الذُّنوبِ فالمراد ذنوبُ أُمَّتِه؛ لا ذنبه هو؛ لأنه هو لا يُذنب، وكلُّ خطيئة أضافها لنفسه فالمراد خطايا أُمَّتِه، ولا شَكَّ أن هذا قول فيه ضعف؛ لأن الله قال: {{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}} [محمد: 19] فإن العطف يقتضي المغايرة، وليس في ذلك أيُّ قَدْح في أنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقعُ منه الذُّنوب الصغيرة، ولكنه لا يُقَرُّ عليها، ثم هو مغفورٌ له، وما أكثر ما يكون الإِنسان منَّا بعد المعصية خيراً منه قبلها، وفي كثير من الأحيان يخطئ الإِنسان ويقع في معصية، ثم يَجدُ مِن قلبِه انكساراً بين يدي الله عزّ وجل وإنابةً إلى الله، وتوبةً إليه حتى إن ذَنْبَه يكون دائماً بين عينيه يندم عليه ويستغفر، وقد يرى الإِنسانُ نفسَه أنه مطيع، وأنه من أهل الطاعة فيصير عنده من العُجب والغرور وعدم الإِنابة إلى الله ما يفسد عليه أمر دينه، فالله عزّ وجل حكيم قد يبتلي الإِنسان بالذنب ليُصلح حالَه، كما يبتلي الإِنسانَ بالجوع لتستقيم صحَّته. وهل حصل لآدم الاجتباء إلا بعد المعصية والتوبة منها.
كما قال: {{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ}} [طه: 122] أي: بعد أن أذنبَ وتابَ؛ اجتباه ربُّه فتاب عليه وهداه، وانظر إلى الذين تخلَّفوا في غزوة تبوك ماذا حصل لهم؟ لا شَكَّ أنه حصل لهم من الإِيمان، ورِفْعَةِ الدرجات، وعلوِّ المنزلة ما لم يكن قبل ذلك، وهل يمكن أن تنزل آيات تُتلى إلى يوم القيامة في شأنهم لولا أنهم حصل منهم ذلك ثم تابوا إلى الله؟
والمُهمُّ أن الإِنسان لا يُعصم مِن الخطأ، ولكن الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ معصومون مما أشرنا إليه، ومعصومون مِن الإِقرار على الصغائر، بل لا بُدَّ أن يتوبوا منها.
مسألة: هل يجمع بين أنواع الاستفتاح؟
الجواب: لا يجمع بينها، لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أجاب أبا هريرة رضي الله عنه حين سـأله بأنه يقول: «اللَّهُمَّ باعِدْ بيني وبين خطاياي»… إلخ. ولم يذكر «سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدِك» فدلَّ على أنه لا يجمع بينها.
فهذان نوعان من الاستفتاحات، وبقيت أنواعٌ أُخرى بعضُها في صلاة الليل خاصَّة، فليُرجع إليها في المطوَّلات.
مسألة: هل يستفتح في صلاة الجنازة؟ فيه خلاف[(95)]:
قال بعض العلماء: يَستفتح، لأنها صلاة، والنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَستفتح في الصَّلاةِ.
والمشهور من المذهب:[(96)] أنه لا يَستفتح؛ لأنها مبنيَّة على التَّخفيف، فلا ركوع فيها، ولا سجود، ولا تشهُّد؛ مما يدلُّ على أن الشارع لاحَظَ فيها التخفيفَ؛ وهذا أقربُ.

من موقع الشيخ رحمه الله
يتبع باذن الله

تعليميةرب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاءتعليمية