بسم الله ، و الحمد الله و الصلاة و السلام على رسول الله
قال تعالى :
" يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌوَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [(219) البقرة] "
يخطأ الكثير من الناس – هداهم الله- في فهم هذه الأية الكريمة إما لجهلهم أو قلة اطلاعهم أو تجرأهم على القول في تفسير كلام رب العالمين و يوردونها و يستشهدون بها في غير موضعها ، حيث يستشهد بها الواحد منهم على جواز التداوي بالخمر أصالة و بسائر المحرمات تبعا و قياسا .
والناظر في كتب التفسير المتتبع لمعنى هذه الآية يجد أن أغلب المفسرين قصروا نفعها على اللذة و الشهوة و الفرح بشربها و حصول الأموال و التجارة ببيعها .
جاء في تفسير أبو جعفر الطبري (جامع البيان في تأويل القرآن):
حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية عن علي، عن ابن عباس:" ومنافع للناس"، قال: يقول فيما يصيبون من لذتها وفرَحها إذا شربوها… [وكذا قال السيوطي في (الدر المنثور في التأويل بالمأثور)]
حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" وإثمهما أكبرُ من نفعهما"، يقول: ما يذهب من الدِّين والإثمُ فيه، أكبر مما يصيبون في فرحها إذا شربوها.
قال مقاتل في تفسيره :
{ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } ، يعنى بالمنافع اللذة والتجارة فى ركوبهما قبل التحريم .
قال ابن عباس –رضي الله عنه- في ما ينسب إليه من التفسير (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس)
{ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } قبل التحريم بالتجارة بها .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) :
فأخبر أن إثمهما ومضارهما، وما يصدر منهما من ذهاب العقل والمال، والصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، والعداوة، والبغضاء – أكبر مما يظنونه من نفعهما، من كسب المال بالتجارة بالخمر .
وحتى من قال بوجود المنافع الطبية و منهم الحافظ ابن كثير في (تفسير القرآن العظيم) :
وقوله: { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أما إثمهما فهو في الدين، وأما المنافع فدنيوية، من حيث إن فيها نفع البدن، وتهضيم الطعام، وإخراجَ الفضلات، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذّة الشدّة المطربة التي فيها، كما قال حسان بن ثابت في جاهليته: ونشربها فتتركنا ملوكًا … وأسْدًا لا يُنَهْنهها اللقاءُ …
وكذا بيعها والانتفاع بثمنها …
والألوسي في (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني) :
{ ومنافع لِلنَّاسِ } من اللذة والفرح وهضم الطعام وتصفية اللون وتقوية الباه وتشجيع الجبان وتسخية البخيل وإعانة الضعيف ، وهي باقية قبل التحريم وبعده .
فهذه المنافع – على فرض صحتها – فلا تجوز التداوي بها و بالتالي لا تجوز الاستدلال بها على حِلِيَةِ [شرعية] ذلك .
– قال صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللهَ خَلَقَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، فَتَدَاوَوْا، وَلاَ تَتَدَاوَوْا بِحَرَامٍ[1] " .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أن رجلا [و في مسلم أنه : طارق بن سويد الجُعفي] سأله عن الخمر يصنعها للدواء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ((ليست بدواء ولكنها داء)).
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح
قال الشيخ الألباني : صحيح
– عن أبي هريرة –رضي الله عنه – قال : قال رسول الله : "صلى الله عليه و سلم من تداوى بحرام لم يجعل الله له فيه شفاء" . "الصحيحة" (2881)
– وعن ابن مسعود –رضي الله عنه -:"إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم". أخرجه البخاري (10/6) تعليقاً في الطب ، باب شراب الحلواء والعسل.
– وعن أبي هريرة –رضي الله عنه – ، قال: " نهى رسول الله صل الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث".[2]
– ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :"من تداوى بالخمر ، فلا شفاه الله".
أورده السيوطي في "الجامع الصغير" بلفظ "من تداوى بحرام كخمر ، لم يجعل الله له فيه شفاء" . قال الألباني : "ضعيف" ، انظر ضعيف الجامع حديث رقم: (551).
– قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى :
وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه وتحريمه له حمية لهم وصيانة عن تناوله ، فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل ، فإنه وإن أثر في أزالتها لكنه يعقب سقما أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه فيكون المداوي به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب وأيضا فإن تحريمه يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته وهذا ضد مقصود الشارع ، وأيضا فإنه داء كما نص عليه صاحب الشريعة فلا يجوز أن يتخذ دواء وأيضا فإنه يكسب الطبيعة والروح صفة الخبث لأن الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالا بينا ، فإذا كانت كيفته خبيثة أكسب الطبيعة منه خبثا ، فكيف إذا كان خبيثا في ذاته ، ولهذا حرم الله سبحانه على عباده الأغذية والأشربة والملابس الخبيثة لما تكتسب النفس من هيأة الخبث وصفته ، وأيضا فإن في إباحة التداوي به لا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تناوله لشهوة واللذة لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها مزيل لاسقامها جالب لشفائها ، فهذا أحب شيء إليها والشارع سد الذريعة إلى تناوله بكل ممكن ، ولا ريب أن بين سد الذريعة إلى تناوله وفتح الذريعة إلى تناوله تناقضا وتعارضا ، وأيضا فإن في هذا الدواء المحرم من الأدواء ما يزيد على ما يظن فيه من الشفاء وليفرض الكلام في أم الخبائث التي ما جعل الله لنا فيها شفاء قط ، فإنها شديدة المضرة بالدماغ الذي هو مركز العقل عند الأطباء وكثير من الفقهاء والمتكلمين ، قال أبقراط في أثناء كلامه في الأمراض الحادة ضرر الخمرة بالرأس شديد لأنه يسرع الارتفاع إليه ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التي تعلو في البدن وهو لذلك يضر بالذهن ، وقال صاحب الكامل : إن خاصية الشراب الإضرار بالدماغ والعصب . أهـ . الطب النبوي (1/122).
– و عليه فلا يكون الشفاء في شيئ خالف الشرع ، قال الشيخ العلامة عبد العزيز ابن باز في مقال بعنوان هل من الطب العربي الحبس في غرفة مظلمة : (فالحاصل من هذا أن الشيء أنه جرب وينفع سواءً كان كياً أو ثمرةً تؤكل، أو حبوباًَ تؤكل أو دهاناً أو حمية عن أشياء أخرى، أو ما أشبه ذلك مما ليس فيه مخالفة للشرع ، فكل هذا لا بأس به، والحمد لله. (عباد الله تداووا ولا تتداووا بحرام). هذا شيء معروف. والله -جل وعلا- جعل لكل داءٍ دواءً، فإذا أصيب دواء الدواء برء -بإذن الله-، هكذا جاء الحديث ، يقول عليه الصلاة والسلام-: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برء بإذن الله -سبحانه وتعالى).
و أن العبرة بالأدلة الشرعية لا ما يظنه الإنسان من المصالح ، قال الشيخ العلامة ابن باز في مقال بعنوان كلمة في المعضد : (ومما تقدم تعلمون أن المعيار في التحليل والتحريم ليس هو اعتقاد الإنسان، وإنما المعيار هو الأدلة الشرعية؛ لأن الإنسان قد يعتقد أن الشفاء من الله، ويتعاطى أسباباً محرمة كأهل الشرك فإنهم يتعلقون بآلهتهم ويعبدونها من دون الله، ويقولون إنها تقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم لديه، ولا يعتقدون أنها تتصرف بذاتها في شفائهم، أو رد غائبهم أو الدفاع عنهم، كما قال الله سبحانه: }وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ{الآية، وقال تعالى}: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ{والأدلة في هذا المعنى كثيرة).
و العلم عند الله تعالى ، و الحمد لله رب العالمين .
———————————