الابتلاء بالمرض
الحمد لله، إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ؛ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل؛ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلهِ، وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعدُ:
فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.
عباد الله، إن العافية في البدن من نعم الله على العبد التي يلزم عليه شكر الله عليها وسؤاله تمامها ودوامها وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الدعاء لا يرد بين الآذان والإقامة"، قالوا ماذا نقول يا رسول الله قال: "سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة"، وقال له رجل يا رسول الله علمني دعاء أدعوا الله به قال: "سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة"، ثم سأله من الغد فقال: "سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة"، فإنك إذا أعطيت العافية في الدنيا والآخرة كنت من أهل الفلاح.
أيها المسلم، وسأله العباس بن عبدالمطلب يا رسول الله علمني شيء أسأله الله قال: "سل الله العافية"، فجاءه بعد أيام فقال له علمني شيئًا أسأل الله به قال: "يا عباس يا عم رسول الله سل الله العافية في الدنيا والآخرة"، والعافية نعمة من أجل نعم الله على العبد بعد الإيمان والاستقامة على الهدى يقول صلى الله عليه وسلم: "من أصبح آمنًا في سربه معافًا في جسده عنده قوت يومه وليلته فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"، ولكن هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان واختبار للعبد لا بد فيها من منغصات ومكدرات ومن تلك المنغصات المرض فالمرض من أعظم البلاء لا سيما إن استعصى علاجه وطال أمده فلا شك أنه بلاء ولكن للمسلم في هذا البلاء مع الصبر والاحتساب مصالح تعود عليه بالخير في عاجل أمره وآجله فمن تلكم المصالح أن هذا المرض سبب لتكفير الذنوب والسيئات يقول الله جل وعلا: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: "ما يصب المؤمن من نصب ولا وصب ولا حزن ولا هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله بها من خطاياه"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا يزال البلاء بالمسلم في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة"، وحم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له الصحابة إن حماك عن رجلين كما يحمى رجلين قال: "نعم"، قال لأن لك الأجر مرتين قال: "أجل"، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة وهي تشكوا الحمى فسبت الحمى فقال: "لا تدعي على الحمى فإن الحمى يذهب بها الأذى عن العبد كما يذهب الكير خبث الحديد"، ومن مصالح العبد له في ذلك أيضا علو منزلته قال الله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)، وجاء في الحديث أن العبد ليكون له عند الله منزلة في الجنة لا يبلغها بعمله فيبتليه الله حتى يبلغ تلك المنزلة ومن مصالحها على العبد قربه من الله قال جل وعلا: (الذين أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ)، وفي الحديث يقول الله لابن آدم: (مرضت فلم تعدني)، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال: (مرض عبدي فلم تعده فلو عدته لو جدتني عنده)، ومن مصالح المرض للعبد أيضا السعادة والهناء بقضاء الله وقدره قال جل وعلا مبينًا ذلك: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)، وجاء في الحديث أن أهل العافية إذا رأوا ما أعطي أهل البلاء تمنوا أن جلودهم قد قرضت بالمقاريض وجاء في الحديث إذا قبض الملك ابن المسلم قال الله: (قبضت ابن عبدي وثمرة فؤاده)، قالوا: نعم قال: (ماذا قال؟)، قالوا: حمدك واسترجع قال: (ابنوا له بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد)، ومن آثار ذلك المرض أنه يذهب عن العبد الكبرياء والعلو والطغيان في نفسه فإن العافية الدائمة والنعمة الدائمة قد تطغي العبد وتؤثر عليه (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)، فيذكره المرض ضعفه وعجزه وأنه لا يستطيع أن يحقق النفع والعافية (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ومن مصالح ذلك المرض أيضا توفر الأعمال الصالحة استمرار ثواب العمل الصالح وانتظار الفرج من الله فإن العبد إذا أصيب بمصيبة فإن كان ذا عمل صالح أبقى الله له ثواب أعماله جاء للنبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله صحيحا مقيما"، وجاءه أنه إذا أصيب في بدنه قال الله للملك اكتبوا لعبدي ما كان يعمله من صالح الأعمال فيستمر ثواب عمله إذا كان صابرًا محتسبا وانتظار الفرج بعد الشدة وانتظار العافية بعد البلاء كل ذلك من قوة اليقين والرضا عن الله جل وعلا.
أيها المسلم، وللمريض آداب ينبغي أن يلتزم بها فمنها صبره على قضاء الله وقدره فإن عواقب الصبر عظيمة قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، وقال جل وعلا: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ)، وقال: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن عظم البلاء مع عظم الجزاء وإن الله إذا أحب قومُا ابتلاهم"، فمن رضي فله الرضاء ومن سخط فعليه السخط ومن آداب المريض أيضا أن يكون محسن الظن بربه وأن الله أرحم به من أمه الشفيقة عليه يرحمه فلا يعذبه ويعفو عنه فلا يعاقبه فيحسن الظن بربه ويرضى بقضاء الله ويطمأن بذلك وكلما أحس في نفسه شدة استغفر الله وأكثر من ذكره وقال ربي: (أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، ويكثر من ذكر الله والثناء عليه فإن الله جل وعلا يرحم ضعفه ويرحم عجزه ويضاعف حسناته ويحط من سيئاته، ومن آداب ذلك أيضا أن يكون في مرضه جامعًا بين خوف الله وبين رجاء الله فيكون في قلبه تعظيمًا لله ورجاءًا لله وخوف من ذنوبه ومعاصيه دخل النبي على مريض فقال: "كيف تجدك؟"، قال: أرجو الله وأخاف ذنبي قال: "ما اجتمع في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما تمنى وصرف عنه ما يكره"، ومن آداب ذلك أيضا أن يكثر من دعاء الله ويكثر من التداوي فإن الدواء نعمة يقول صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله"، ولكن لا بد أن يكون الدواء مباحا فإن الله لم يجعل شفاءنا فيما حرم علينا ومنها دعاء الله جل وعلا ورجاءه فإن النبي صلى الله عليه وسلم علم مريضًا فقال: "ضع يدك على البلاء وقل بسم الله ثلاث مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من كل ما أجد وأحاذر سبع مرات"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد ودعا له بقوله أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات"، فإن الله يشفيه إذا كان أجله متأخر وكان صلى الله عليه وسلم يرقي المريض بقوله: "أذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما"، مرض صلى الله عليه وسلم فرقيه جبريل بقوله: (بسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك من كل نفس وعين حاسدة الله يشفيك بسم الله أرقيك).
أيها المسلم، فهذا آداب المرض فأشكر الله على العافية لا شك أن العبد لا يتمنى الأمراض والأسقام بل يسأل الله العافية دائما لأنه لا يعلم من نفسه هل يصبر أم لا ، يقول صلى الله عليه وسلم: "لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموه فاصبروا"، فالمسلم يسأل الله العافية دائما ولكن إذا ابتلي صبر واحتسب ورضي عن الله واطمأن قلبه بقضاء الله ورجاء من الله المثوبة عما أصابه من البلاء أسأل الله أن يعافيني وإياكم في الدين والدنيا والأهل والمال اللهم إنا نسألك العفو في ديننا وأبداننا وأهلينا وأموالنا اللهم استر عوراتنا وأمن روعاتنا واحفظنا من بين أيدينا وعن يميننا وعن شمائلنا نعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.