شرح كشف الشبهات والأصول الستة
المؤلف : محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
السابق ……………… الفهرس ……………. التالي
الشـرح
قوله: "بيان العلم والعلماء، والفقه والفقهاء . . .إلخ"
المراد بالعلم (*) هنا العلم الشرعي وهو: علم ما أنزل الله على رسوله من البينات والهدى" والعلم الذي فيه المدح والثناء هو علم الشرع
علم ما أنزله الله على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الكتاب والحكمة قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}، [سورة الزمر، الآية: 9] وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين) [أخرجه البخاري / كتاب العلم / باب من يرد الله به خيراً ، ومسلم/ كتاب الزكاة / باب النهي عن المسألة.] وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) [أخرجه الإمام أحمد جـ5 ص196 ، وأبو داود (3641) والترمذي (2681) وابن ماجه (223) والدرامي (338) والبغوي في " شرح السنة" جـ 1 ص 275 برقم (129) ، والهيثمي في "موارد الظمآن" (80) ن قال الحافظ في "الفتح" جـ1 ص 160 "وله شواهد يتقوى بها".] ومن المعلوم أن الذي ورثه الأنبياء إنما هو علم الشريعة، ومع هذا فنحن لا ننكر ان يكون للعلوم الأخرى فائدة، ولكنها فائدة ذات حدين: إن أعانت على طاعة الله وعلى نصر دين الله وأنتفع بها عباد الله كانت خيرًا ومصلحة، وقد ذكر بعض أهل العلم أن تعلم الصناعات فرض كفاية وهذا محل نظر ونزاع.
وعلى كل حال فالعلم الذي الثناء فيه وعلى طالبيه هو فقه كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما عدا ذلك فإن كان وسيلة إلى خير فهو خير، وإن كان وسيلة إلى شر فهو شر، وإن لم يكن وسيلة لهذا وهذا فهو ضياع وقت ولغو.
والعلم له فضائل كثيرة:
منها: أن الله يرفع أهل العلم في الآخرة وفي الدنيا، أما في الآخرة فإن الله يرفعهم درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله والعمل بما عملوا، وفي الدنيا يرفعهم الله بين عباده بحسب ما قاموا به قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [سورة المجادلة، الآية: 11] .
ومنها : أنه إرث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) [تقدم أنظر ص 164.] .
ومنها : أنه مما يبقى للإنسان بعد مماته فقد ثبت في الحديث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا مات العبد انقطع عمله إلا ثلاث صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح) [أخرجه مسلم/ كتاب الوصية/ باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته].
ومنها : أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يرغب أحدًا أن يغبط أحدًا على شيء من النعم إلا على نعمتين هما:
1 ـ طلب العلم والعمل به.
2 ـ الغني الذي جعل ماله خدمة للإسلام، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (لا حسد إلا في اثنتين رجل آناه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها) [رواه البخاري / كتاب العلم / باب الاغتباط في العلم والحكمة، ومسلم / كتاب المسافرين من كتاب الصلاة / باب من يقوم بالقرآن ويعلمه.] .
ومنها: أن العلم نور يستضيء به العبد فيعرف كيف يعبد ربه وكيف يعامل غيره، فتكون مسيرته في ذلك على علم وبصيرة.
ومنها : أن العالم نور يهتدي به الناس في أمور دينهم ودنياهم، ولا يخفى على كثير من الناس قصة الرجل الذي من بني إسرائيل قتل تسعًا وتسعين نفسًا فسأل رجلًا عابدًا هل له من توبة . فكأن العابد أستعظم الأمر فقال: "لا" فقتله السائل فأتم به المئة، ثم ذهب إلى عالم فسأله فأخبره أن له توبة وأنه لا شيء يحول بينه وبين التوبة، ثم دله على بلد أهله صالحون ليخرج إليه
فخرج فأتاه الموت في أثناء الطريق، والقصة مشهورة [نص القصة: عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا فسأل عن أعلم أهل الأرض؛ فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا فهل له من توبة؟ فقال: لا فقتله فكمل به امئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم فقال : إنه قتل مئة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم ؛ ومن يحول بينك وبين التوبة؟! أنطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فأعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها ارض سوء، فأنطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فأختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله تعالى! وقالت ملائكة العذاب، إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم-أي حكمًا -فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة" وفي رواية الصحيح: فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها" وفي رواية في الصحيح : "فاوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي" . وقال : "قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له" . وفي رواية : "فنأى بصدره نحوها" أخرجه البخاري / كتاب الأنبياء/ باب ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم / كتاب التوبة / باب قبول توبة القاتل رقم {46-47-48} جـ4 ص 2118 ولمزيد من الفائدة راجع شرح فضيلة شيخنا على هذا الحديث في "شرح رياض الصالحين"جـ1 / كتاب التوبة حديث رقم (21) ولا يزال العمل فيها جارٍ.] فأنظر الفرق بين العالم والجاهل.
إذا تبين ذلك فلابد من معرفة من هم العلماء حقًا، هم الربانيون الذين يربون الناس على شريعة ربهم حتى يتميز هؤلاء الربانيون عمن تشبه بهم وليس منهم، يتشبه بهم في المظهر والمنظر والمقال والفعال، لكنه ليس منهم في النصيحة للخلق وإرادة
الحق، فخيار ما عنده أن يلبس الحق بالباطل ويصوغه بعبارات مزخرفة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، بل هو البدع والضلالات الذي يظنه بعض الناس هو العلم والفقه وأن ما سواه لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون.
هذا معنى كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ وكأنه يشير إلى أئمة أهل البدع المضلين الذين يلمزون أهل السنة بما هم بريئون منه ليصدوا الناس عن الأخذ منهم، وهذا إرث الذين طغوا من قبلهم وكذبوا الرسل كما قال الله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [سورة الذاريات، الآية : 52] . قال الله تعالى : {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . [سورة الذاريات، الآية: 53].