على من يجب الصوم ومن يسقط عنه:
الصيام يجب أداءً على كل مسلم، بالغ، عاقل، قادر، مقيم، خال من الموانع ،فمن هذا التعريف يتبين لنا أنه كل من لم تتوقر فيه هاته الاوصاف السته سقط عنه الصيام
فبقولنا كل مسلم فخرج عن ذلك الكافر : لأن الكافر لا يجب عليه الصوم ولا غيره من العبادات، ومعنى قولنا: لا يجب عليه الصوم أنه لا يلزم به حال كفره، ولا يلزمه قضاؤه بعد إسلامه، لأن الكافر لا تقبل منه عبادة حال كفره، لقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَـٰتُهُمْ إِلاّۤ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ ٱلصَّلَوٰةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَـٰرِهُونَ } [التوبة : 54] ولا يلزمه قضاء العبادة إذا أسلم، لقوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ ٱلأَْوَّلِينِ } [الأنفال :38 ]
وأما بقولنا بالغ يخرج منه الصبي الذي لم يبلغ الحلم : والبلوغ يحصل بواحد من ثلاثة بالنسبة للذكر: إتمام خمس عشرة سنة وإنبات العانة، وإنزال المني بشهوة، وللأنثى بأربعة أشياء هذه الثلاثة السابقة ورابع، وهو الحيض، فإذا حاضت فقد بلغت حتى ولو كانت في سن العاشرة.
فإذا لم يكن الإنسان بالغاً فإن الصوم لا يجب عليه، لقوله صلى الله عليه سلم ( رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المعتوه حتى يبرأ ) (1)
ولكن ذكر أهل العلم أن ولي الصبي مأمورٌ بأن يأمر موليه الصغير من ذكر أو أنثى بالصوم ليعتاده، حتى يتمرن عليه ويسهل عليه إذا بلغ، وهذا ما كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يفعلونه، فإنهم كانوا يصوِّمون أولادهم الصغار، حتى إن الواحد منهم ليبكي فيعطى لعبة من العهن يتلهى بها حتى تغرب الشمس.
وأما قولنا عاقل فيخرج بذلك غير العاقل: و العقل هو ما يحصل به التمييز بين الأشياء، فإذا لم يكن الإنسان عاقلاً فإنه لا صوم عليه، كما أنه لا يجب عليه شيء من العبادات سوى الزكاة.وينقسم هذا إلى قسمين
1 المجنون : والمجنون لا يجب عليه الصيام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم ).(2) ، لا يصح منه الصيام لأنه ليس له عقل يعقل به العبادة وينويها، والعبادة لا تصح إلا بنية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى) (3). فإن كان يجن أحياناً ويفيق أحياناً لزمه الصيام في حال إفاقته دون حال جنونه، وإن جُنَّ في أثناء النهار لم يبطل صومه كما لو أغمى عليه بمرض أو غيره، لأنه نوى الصوم وهو عاقل بنية صحيحة ولا دليل على البطلان، خصوصاً إذا كان معلوماً أن الجنون ينتابه في ساعات معينة. وعلى هذا فلا يلزم قضاء اليوم الذي حصل فيه الجنون. وإذا أفاق المجنون أثناء نهار رمضان لزمه إمساك بقية يومه، لأنه صار من أهل الوجوب، ولا يلزمه قضاؤه كالصبي إذا بلغ، والكافر إذا أسلم.
2 الهرم الذي بلغ سن الهذيان وسقط تمييزه.
فلا يجب عليه الصيام ولا الإطعام عنه لسقوط التكليف عنه بزوال تمييزه، فأشبه الصبي قبل التمييز، فإن كان يميز أحياناً ويهذي أحياناً وجب عليه الصوم في حال تمييزه دون حال هذيانه، والصلاة كالصوم لا تلزمه حال هذيانه وتلزمه حال تمييزه.
وقولنا قادر يخرج من ذلك غير القادر وهو العاجز: فالعاجز ليس عليه صوم لقول الله تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184] .
لكن بالتتبع والاستقراء بين أهل أن العجز ينقسم إلى قسمين: قسم طارئ، وقسم دائم.
فالقسم الطارئ: هو الذي يرجى زواله، وهو المذكور في الآية فينتظر العاجز حتى يزول عجزه ثم يقضي لقوله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
والدائم: هو الذي لا يرجى زواله وهو المذكور في قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 184] حيث فسرها ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بالشيخ والشيخة إذا كانا لا يطيقان الصوم فيطعمان عن كل يوم مسكيناً (4) ، والحقيقة أنه بالنظر إلى ظاهر الآية ليس فيها دلالة على ما فسره ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ؛ لأن الآية في الذين يطيقون الصوم (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة: 184] وهذا واضح أنهم قادرون على الصوم، وهم مخيرون بين الصوم والفدية، وهذا أول ما نزل وجوب الصوم كان الناس مخيرين إن شاؤوا صاموا، وإن شاؤوا أفطروا وأطعموا، وهذا ما ثبت في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ قال: «لما نزلت هذه الآية: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها» (5) .
لكن غور فقه ابن عباس وعلمه بالتأويل يدل على عمق فقهه ـ رضي الله عنه ـ؛ لأن وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى جعل الفدية عديلاً للصوم لمن قدر على الصوم، إن شاء صام وإن شاء أطعم، ثم نسخ التخيير إلى وجوب الصوم عينا، فإذا لم يقدر عليه بقي عديله وهو الفدية، فصار العاجز عجزاً لا يرجى زواله، يجب عليه الإطعام عن كل يوم مسكيناً.
أما كيفية الإطعام، فله كيفيتان:
الأولى: أن يصنع طعاماً فيدعو إليه المساكين بحسب الأيام التي عليه، كما كان أنس بن مالك رضي الله عنه يفعله لما كبر.
الثانية: أن يطعمهم طعاماً غير مطبوخ، قالوا: يطعمهم مد برٍ أو نصف صاع من غيره، أي: من غير البر، ومد البر هو ربع الصاع النبوي، فالصاع النبوي أربعة أمداد، والصاع النبوي أربعة أخماس صاعنا، وعلى هذا يكون صاعنا خمسة أمداد، فيجزئ من البر عن خمسة أيام خمسة مساكين، لكن ينبغي في هذه الحال أن يجعل معه ما يؤدمه من لحم أو نحوه، حتى يتم قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ).
وأما وقت الإطعام فهو بالخيار إن شاء فدى عن كل يوم بيومه، وإن شاء أخر إلى آخر يوم لفعل أنس رضي الله عنه.(6)
أما قولنا مقيماً يخرج من ذلك المسافر، والمسافر هو الذي فارق وطنه فلا يلزمه الصوم، وعليه القضاء، لقول الله تعالى: (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) لقد رخص الله عز وجل للمسافر الفطر في رمضان وأوجب عليه القضاء مثل المريض .
ولكن اهل العلم إختلفوا هل الصوم أفضل للمسافر ام الفطر؟
فمنهم من قال أنه يجب على المسافر أن يفطر وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ) (7) وكذلك للحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رحمه الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر. فمنا الصائم ومنا المفطر. قال: فنزلنا منزلا في يوم حار. أكثرنا ظلا صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده. قال: فسقط الصوام. وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذهب المفطرون اليوم بالأجر).(8) وكذلك لما رواه أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يظلل عليه والزحام عليه فقال:( ليس من البر الصيام في السفر) (9) ولم يستثنوا من ذلك إن سافرة راجلا أو بواسطة مركوب .
ومن هم من قال إنما المسافر مخير بين الفطر والصوم ، فان كان في سفره مشفة وجب عليه الافطار والصيام في حقه مكرره لقوله صلى الله عليه وسلم (ليس من البر الصيام في السفر ) وإن لم يكن في سفره مشقة فصيامه صحيح وأولى له لأن ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يصوم في سفره ودليل ذلك الحديث الذي رواه ابي داود في سننه قال : حدثنا أحمد بن صالح ووهب بن بيان المعنى قالا ثنا بن وهب حدثني معاوية عن ربيعة بن يزيد أنه حدثه عن قزعة قال : أتيت أبا سعيد الخدري وهو يفتي الناس وهم مكبون عليه فانتظرت خلوته فلما خلا سألته عن صيام رمضان في السفر فقال خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان عام الفتح فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ونصوم حتى بلغ منزلا من المنازل فقال (إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم) فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر قال ثم سرنا فنزلنا منزلا فقال (إنكم تصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا) فكانت عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو سعيد ثم لقد رأيتني أصوم مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك وبعد ذلك ( 10)
أما قولنا أن يكون خالياً من الموانع: أي من موانع الوجوب، وهذا يختص بالمرأة، فيشترط في وجوب الصوم عليها أداءً ألا تكون حائضاً ولا نفساء، فإن كانت حائضاً أو نفساء فإنه لا يلزمها الصوم، وإنما تقضي بدل الأيام التي أفطرت، لقول النبي صلى الله عليه وسلم مقرراً ذلك: (أليست إذا حاضت لم تصل ولم تصم) (11) أي إذا حاضت المرأة فلا صوم عليها، ولكن تقضيه في أيام أخر: كالمريض.
_______________________
1 راوه أبي داود في سننه كتاب الحدود باب في المجنون يسرق أ يصيب حد وصححه الالباني رحمه الله
2 رواه أبي داود في سننه سننه كتاب الحدود باب في المجنون يسرق أ يصيب حد وصححه الالباني رحمه الله
3 متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه
4 أخرجه البخاري في التفسير باب قوله تعالى: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) رقم 4505.
5 أخرجه البخاري في التفسير باب(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) رقم 4507؛ ومسلم في الصيام باب بيان نسخ قول الله تعالى(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) بقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) رقم 1145.
6 الشرح الممتع لفضيلة الشيخ محمد بن صالع العثيمين رحمه الله في باب الصوم
7 خرجه السيوطي رحمه الله عن عن ابن عمر عن ابن عباس وعن ابن مسعود وصححه الالباني رحمه الله
8 رواه مسلم في صحيحه في كتاب الصيام ، باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل رقم 1119 ، عن أنس بن مالك
9 رواه أبي داود في سننه ،كتاب الصوم ، باب إختيار الفطر عن جابر بن عبد الله (وصححه الالباني رحمه الله)
10 رواه ابي داود في سننه ، كتاب الصوم ، باب الصوم في السفر وصححه الالباني رحمه الله
11 أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الحيض باب ترك الحائض الصوم برقم 298عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفي كتاب الصيام باب الحائض تترك الصوم والصلاة برقم 1850 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه