اللغـة العربيــــــة وعلومهــــــــا
اللغة العربية إحدى أكثر لغات العالم استعمالاً، وإحدى اللغات الخَمْس الرسمية في هيئة الأمم المتحدة ومُنظَّماتها، وهي اللغة الأولى لأكثر من 290 مليون عربي، كما يُجيدها أو يُلِمُّ بها نحو 200 مليون مُسْلم من غير العرب إلى جانب لغاتهم أو لهجاتهم الأصلية. ويُقبِل على تعلُّمها كثيرون آخرون من أنحاء العالم لأسباب تتعلَّق بالدين أو بالتجارة أو العمل أو الثقافة أو غير ذلك.
والعربية هي اللغة السَّامية الوحيدة التي قُدِّر لها أن تحافظ على كيانها وأن تصبح عالمية. وما كان ليتحقَّق لها ذلك لولا نزول القرآن الكريم بها؛ إذْ لا يمكن فَهْم ذلك الكتاب المبين الفَهْم الصحيح والدقيق وتذوُّق إعجازه اللغويّ إلا بقراءته بلغته العربية. كما أن التُّراث الغني من العلوم الإسلامية مكتوب بتلك اللغة. ومن هنا كان تعلُّم العربية مَطْمَحًا لكلِّ المسلمين الذين يبلغ عددهم نحو مليار مُسلم في شتَّى أنحاء العالم. ويمكن القول إن أكثر من نصف سكان إفريقيا يتعاملون بالعربية.
خصائص اللغة العربية
الأصوات.
تتميَّز العربية بما يمكن تسميته مركز الجاذبية في نظام النُّطق، كما تتميَّز بأصوات الإطباق؛ فهي تستخدم الأعضاء الخلفية من جهاز النُّطق أكثر من غيرها من اللغات، فتوظِّف جذْر اللسان وأقصاه والحنجرة والحَلْق واللَّهاة توظيفًا أساسيًّا. ولذلك فهي تحتوي على مجموعة كاملةً لا وجود لها في أيِّ لغة سامية فضلاً عن لغات العالم، وهي مجموعة أصوات الإطباق: الصَّاد والضَّاد والطَّاء والظَّاء والقاف، ومجموعة الأصوات الخلفية، وتشمل الصَّوتين الجِذْريَّيْن الحَلْقيَّيْن: الحاء والعين، والصَّوت القصي الطَّبقي: الغين، والصَّوت القصي اللهوي: القاف، والصَّوت الحنجري: الهمزة.
المفردات.
يُعَدُّ مُعجم العربية أغنى معاجم اللغات في المفردات ومرادفاتها (الثروة اللفظية)؛ إذْ تضُمُّ المعاجم العربية الكبيرة أكثر من مليون مفردة. وحَصْرُ تلك المفردات لا يكون بحَصْر مواد المعجم؛ ذلك لأن العربية لغة اشتقاق، والمادة اللغوية في المعجم العربي التقليدي هي مُجرَّد جذْر، والجِذْر الواحد تتفرَّع منه مفردات عديدة، فالجذْر ع و د مثلاً تتفرَّع منه المفردات: عادَ، وأعادَ، وعوَّدَ، وعاودَ، واعْتادَ، وتَعوَّدَ، واستعادَ، وعَوْد، وعُود، وعَوْدة، وعِيد، ومَعَاد، وعِيادَة، وعادة، ومُعاوَدَة، وإعادة، وتَعْوِيد، واعتِياد، وتَعَوُّد، واسْتِعَادَة، وعَادِيّ. يُضاف إليها قائمة أخرى بالأسماء المشتقَّة من بعض تلك المفردات. وكلُّ مفردة تؤدِّي معنًى مختلفًا عن غيرها.
والعربية تتطوَّر كسائر اللغات؛ فقد أُميتَتْ مفردات منها واندثرت، وأُضيفَتْ إليها مفردات مُولَّدة ومُعَرَّبة ودخيلة، وقامت مجامع اللغة العربية بجهد كبير في تعريب الكثير من مصطلحات الحضارة الحديثة، ونجحت في إضافتها إلى المعجم المستَخدَم، مثل: سيَّارة، وقطار، وطائرة، وبرقيَّة، وغير ذلك.
التلفُّظ والتهجِّي.
تتكوَّن الألفباء العربية من 28 حرفًا، فضلاً عن ألف المدِّ. وكان ترتيب تلك الحروف قديمًا أبجديًا على النحو الآتي: أبجد هوَّز حطِّي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ
وتُكتب لغات كثيرة في العالم بالحروف العربية، مع استبعاد أحرف وإضافة أخرى، منها الفارسية، والأُردية، والبَشْتُو، ولغة الملايو، والهَوْسا، والفُلانيَّة، والكانوري. وكانت التُّركيَّة والسَّواحيليَّة والصُّوماليَّة تُكتَب إلى عهد قريب بالحروف العربية.
وتعتمد العربية على ضَبْط الكلمة بالشَّكْل الكامل لتؤدِّي معنًى محدَّدًا؛ فالكلمات: عَلِمَ، وعُلِم، وعَلَّمَ، وعِلْمٌ، وعَلَمٌ، هذه الكلمات كلها مُتَّفِقة في التَّهجِّي، مختلفة في التَّلفُّظ والمعنى. إلا أن مُجيد العربية يمكنه أن يفهم معنى الكلمة دون ضَبْط من خلال السِّياق، وكان القدماء يقولون: شَكْلُ الكتابِ سُوءُ ظنٍّ بالمكتوب إليه.
ومن سِمات العربية أن تهجِّي الكلمة فيها موافقٌ للتلفُّظ بها، وهذه ميزة تمتاز بها العربية عن بعض اللغات الأوروبية. وهي ظاهرة عامة في العربية، إلا في بعض الحالات القليلة، كنُطق ألف لايُكتب في نحو: هَذَا، ولكنْ، وكتابة الألف الليِّنة على هيئة ياء، نحو: مَضَى الفَتَى.
الصَّرْف.
تقوم الصِّيغ الصَّرفية في العربية على نظام الجِذْر، وهو ثلاثي غالبًا، رباعي أحيانًا. ويُعبِّر الجِــذْر ـ وهو شيء تجريدي ـ عن المعنى الأساسي للكلمة، ثمَّ يُحدَّد المعنى الدقيق للكلمة ووظيفتها بإضافة الحركات أو مقاطع من أحرف مُعيَّنة في صَدْر الكلمة أو وسطها أو آخرها.
وتُقسِّم العربية الاسم إلى جامد ومُشتقّ، ثم تُقسِّم الجامد إلى أسماء الذَّوات المادية، مثل: شجرة، وأسماء المعاني، مثل: قراءة، ومصادر
الأسماء المشتقَّة، مثل: قارئ، ومقروء. ولا تعرف العربية الأسماء المركَّبة إلا في كلمات نادرة تُعَبِّر عن الأعلام، مثل: ¸حَضَرَمَوْت· المركَّبة تركيبًا مَزْجيًّا، و ¸جاد الحقّ· المركَّبة تركيبًا إسناديًّا. إلا أن المضاف والمضاف إليه يرتبطان ارتباطًا وثيقًا، يصل أحيانًا إلى حالة شبيهة بالتركيب، وخاصة في الأَعلام، مثل: عبدالله، وصلاح الدِّين.وتتميَّز العربية
عن لغات كثيرة بوجود صيغة للمُـثـنَّى فيها. وتنفرد هي والحبشية عن سائر اللغات السَّامية باستعمال جمع التَّكسير، فإلى جانب الجمع السَّالم الذي ينتهي بنهاية تَلْحَق الاسم، كما هي الحال في اللغات الأوروبية، تصوغ هاتان اللغتان جمع التَّكسير بتغيير الاسم داخليًّا. وتُصنِّف العربية أسماءها إلى مذكَّر ومؤنَّث، وتترك المذكَّر دون تمييزه بأيِّ علامة، وتميِّز طائفة من الأسماء المؤنَّثة، إمَّا بالتَّاء، مثل: شجرة، وإمَّا بالألف المقصورة، مثل ليلى، وإمَّا بالألف الممدودة، مثل: صحراء، ثم تترك الطائفة الأخرى من الأسماء المؤنَّثة دون علامة، مثل: شَمْس، ونَفْسالنَّحو.
من خصائص در
س النحو الإسناد. والإسناد هو نواة الجملة العربية، ويُمثِّل في ذاته جملةً بسيطة: اسميَّة أو فعليَّة. ويتكوَّن الإسناد إما من مبتدأ وخبر، وإما من فعل وفاعل أو نائب فاعل، ثم يمكن تنمية تلك الجملة البسيطة بالفضلات أو المكمِّلات المفردة. ثم تتكوَّن الجملة المركَّبة من جملتين بسيطتين أو أكثر، ويتمُّ هذا بالربط بين الجمل البسيطة بأدوات معيَّنة أو بالضمائر، فتنشأ من ذلك الربط دلالاتٌ كالشَّرط أو الملابسة أو الوصفية أو العطف أو غيرها.ويقوم الإسناد في الجملة الاسمية بغير رابط ممَّا يُسمَّى في اللغات الأوروبية بأفعال الكينونة، وكذلك تقوم الإضافة دون رابط، ويُراعى أن يكون المضاف خاليًا من أداة التعريف. وحين يَدْخُل الاسم المُعرب في جملة فلا بُدَّ له أن يتَّخذ حالة من ثلاث حالات: إما أن يكون مُعرَّفًا بأل، أو مضافًا، أو مُنَوَّنًا. ولا تجتمع حالتان من تلك الحالات في الاسم الواحد. وتعتمد العربية في تركيب الجملة على قرائن تُعين على تحديد المعنى، وتتمثَّل في العلامة الإعرابية، والبِنْية الصَّرفية، والمطابقة، والرُّتبة، والرَّبط، والأداة، والنَّغمة. والعربية من اللغات السَّامية القليلة التي احتفظت بنظام الإعراب. ويستطيع مُجيد العربية أن يقرأ نصًّا غير مضبوط، وينطق العلامات الإعرابية نُطقًا صحيحًا، كما يستطيع من خلال ذلك أن يفهم النص فهمًا تامًّا.
والرُّتبة في
العربية محفوظة (أي: واجبة)، وغير محفوظة (أي: جائزة)، وعُرفية. فالرُّتبة المحفوظة مثل: وجوب تقديم الفعل على الفاعل، والمضاف على المضاف إليه، والاسم الموصول على صلته، والمتبوع على التابع إلا في حالة العطف بالواو. والرُّتبة غير المحفوظة متروكة لتصرُّف المتكلِّم حسب مقتضيات السِّياق، مثل رتبة الخبر، ورتبة المفعول به، ورتبة الحال، ورتبة المعطوف بالواو مع المعطوف عليه. والرُّتبة العُرفية هي ماجرى عليه عُرْفُ العرب، ولا يُعَدُّ الخروج عنه خطأ نحويًّا، مثل تقديم الليل على النهار، وتقديم العاقل على غير العاقل، وتقديم الذَّكَر على الأنثى.وتنقسم الكلمة في العربية إلى اسم وفِعْل وحَرْف، ولكنَّ بعض الباحثين المعاص
رين قسَّموها تقسيمات أخرى لم تطبَّق حتى الآن في برامج تعليم العربيةومن أهم خصائص العربية ميلها إلى الإيجاز المعبِّر عن المعنى، وتلجأ في سبيل التعبير عن المعاني المختلفة ومناسبتها للمقام إلى وسائل، منها: التقديم والتأخير (وهو الرُّتبة غير المحفوظة)، والفَصْل والوَصْل، والحَذْف، والتَّأكيد، والقَصْر، والمجاز
الخَط العربي.
يحتلُّ الخطُّ العربيُّ مكانة فريدة بين خطوط اللغات الأخرى من حيث جماله الفنِّي وتنوُّع أشكاله، وهو مجالٌ خصب لإبداع الخطَّاطين، ح
يث بَرَعُوا في كتابة المصاحف، وتفنَّنوا في كتابة لوحات رائعة الجمال، كما زَيَّنوا بالخطوط جدران المساجد وسقوفها. وقد ظهرت أنواع كثيرة من الخطوط على مرِّ تاريخ العربية، والشَّائع منها الآن: خطوط النَّسخ والرُّقعة والثُّلُث والفارسي والدِّيواني، والكوفي والخطوط المغربية.يتبع
تطوُّر العربيَّة
الأُصول. العربية إحدى اللغات السَّامية، وهي تنتمي إلى الفرع الجنوبي من اللغات السًامية الغَرْبية، ويشمل هذا الفرع شمالي الجزيرة العربية وجنوبيها والحبشة. وقد نشأت العربية الفصيحة في شمالي الجزيرة، ويرجع أصلها إلى العربية الشمالية القديمة التي كان يتكلَّم بها العدنانيُّون. وهي مختلفة عن العربية الجنوبية القديمة التي نشأت في جنوبي الجزيرة وعُرفَتْ قديمًا باللغة الحِمْيَريَّة وكان يتكلَّم بها القحطانيون.
وتُعَدُّ النقوش القليلة التي عُثِرَ عليها الدليل الوحيد لمعرفة المسار الذي سارت فيه نشأة العربية الفصيحة. ويمكن القول من خلال تلك النقوش إن أسلاف العربية الفصيحة هي: الثَّمودية واللحيانية والصَّفويَّة، وتشمل معًا فترة تقارب ألف عام؛ إذْ يُؤرَّخ أقدم النقوش الثمودية بالقرن الخامس قبل الميلاد، ويُؤرَّخ أحدثها بالقرن الرابع أو الخامس الميلاديين، وترجع النقوش اللحيانية والصَّفوية إلى زمن يقع في الفترة ذاتها.
أمَّا أقدم نصٍّ وُجِدَ مكتوبًا بالعربية الفصيحة فهو نقش النَّمارة الذي يرجع إلى عام 328م، ولكنه كان مكتوبًا بالخط النَّبطي. ويُلاحَظ في ذلك النَّص التطوُّر الواضح من الثمودية واللحيانية والصَّفَوِية إلى العربية الفصيحة. وأمَّا أقدم نصٍّ مكتوب بالخط العربي فهو نَقْشُ زَبَد الذي يرجع إلى سنة 513م، ثم نَقْشَا حَرَّان وأم الجِمَال اللذان يرجعان إلى عام 568م. وقد لوحظ أن الصورة الأولى للخَـط العربي لا تبعـد كثيرًا عن الخــط النَّـبطي، ولم يتحـرَّر الخط العربي من هيئته النَّبطية إلا بعد أن كَتَبَ به الحجازيُّون لمدة قرنين من الزَّمان. وظلَّت الكتابة العربية قبيل الإسلام مقصورة على المواثيق والأحلاف والصُّكوك والرسائل والمعلَّقات الشعرية، وكانت الكتابة آنذاك محصورة في الحجاز
ويُعدُّ القرن السابق لنزول القرآن الكريم فترة تطوُّر مُهمَّة للعربية الفصيحة، وصلَتْ بها إلى درجة راقية. ويدلُّ على ذلك ما وصل إلينا على ألسنة الرُّواة من الشِّعر والنَّثر الجاهليين.
العربية بعد نزول القرآن الكريم
كان نزول القرآن الكريم بالعربية الفصحى أهمَّ حَدَث في مراحل تطوُّرها؛ فقد وحَّد لهجاتها المختلفة في لغة فصيحة واحدة قائمة في الأساس على لهجة قريش، وأضاف إلى معجمها ألفاظًا كثيرة، وأعطى لألفاظٍ أخرى دلالات جديدة. كما ارتقى ببلاغة التراكيب العربية. وكان سببًا في نشأة علوم اللغة العربية كالنحو والصرف والأصوات وفقه اللغة والبلاغة، فضلاً عن العلوم الشرعية، ثمَّ إنه حقَّق للعربية سعة الانتشار والعالمية.
لقد حَمَلَت العربية الفصيحة القرآن الكريم، واستطاعت من خلال انتشار الإسلام أن تبدأ زَحْفَها جنوبًا لتحلَّ محلَّ العربية الجنوبية القديمة، ثمَّ عَبَرَت البحر الأحمر إلى شرقي إفريقيا، واتَّجهت شمالاً فقَضَتْ على الآرامية في فلسطين وسوريا والعراق، ثم زَحَفَتْ غربًا فحلَّت محلَّ القبطية في مصر. وانتشرت في شمال إفريقيا فَخَلَفَتْ لهجات البَرْبَر، وانفتح لها الطريق إلى غرب إفريقيا والسودان، ومن شمال إفريقيا انتقلت إلى أسبانيا وجُزُر البحر المتوسط.
كما كان للعربية أثرٌ عميق في لغات الشعوب الإسلامية؛ فتأثيرها واضح في الفارسية والأردية والتُّركية والبَشْتُو ولغة الملايو واللغات واللهجات الإفريقية. ومن غير الممكن الآن معرفة لغة أيِّ بلد إسلامي وأدبه ومناحي تفكيره معرفة جيّدة دون الإحاطة الجيِّدة بالعربية. وحين أخذ الأوروبيون ينهلون من الحضارة الإسلامية في الأندلس دَخَلَتْ ألفاظ عربية كثيرة إلى اللغات الأوروبية، ففي الإنجليزية مثلاً ألفاظ عديدة ترجع إلى أصل عربي، كالجَبْر، والكحول، وتَعْرِيفَة، ومَخْزَن، وعُود، وغير ذلك كثير.
العربية في العصر الأُموي
ظلَّت العربية تُكتَب غير مُعْجَمة (غير منقوطة) حتى منتصف القرن الأول الهجري، كما ظلَّت تُكتَب غير مشكولة بالحركات والسَّكنات. فحين دخل أهل الأمصار في الإسلام واختلط العرب بهم، ظََهَرَ اللَّحْن على الألسنة، وخيف على القرآن الكريم أن يتطرَّق إليه ذلك اللَّحْن. وحينئذ توصَّل أبوالأسود الدُّؤَليُّ إلى طريقة لضَبْط كلمات المصحف، فوَضَع بلَوْن مخالِف من المِداد نُقْطة فوق الحرف للدَّلالة على الفتحة، ونُقْطة تحته للدَّلالة على الكسرة، ونُقْطةً عن شِماله للدَّلالة على الضَّمَّة، ونقطتين فوقه أو تحته أو عن شِماله للدَّلالة على التَّنوين، وتَرَكَ الحرف السَّاكن خاليًا من النَّقْط. إلا أن هذا الضبط لم يكن يُستعمل إلا في المصحف. وفي القرن الثاني الهجري وضع الخليل بن أحمد طريقة أخرى، بأن جعل للفتحة ألفًا صغيرة مُضطجِعة فوق الحرف، وللكسرة ياءً صغيرة تحته، وللضمَّة واوًا صغيرة فوقه، وكان يُكرِّر الحرف الصغير في حالة التنوين. ثم تطوَّرت هذه الطريقة إلى ماهو شائع اليوم.
أما إعجام الحروف (تنقيطها) فتم في زمن عبد الملك ابن مروان، وقام به نصر بن عاصم الليثي ويحيى بن يَعْمُر العَدْواني، كما قاما بترتيب الحروف هجائيًّا حسب ماهو شائع اليوم، وتركا الترتيب الأبجدي القديم (أبجد هوَّز).
وخَطَت العربية خطواتها الأولى نحو العالمية في الثلث الأخير من القرن الأول الهجري، وذلك حين أخذت تنتقل مع الإسلام إلى المناطق المحيطة بالجزيرة العربية. وفي تلك الأمصار، أصبحت العربية اللغة الرسمية للدولة، وأصبح استخدامها دليلاً على الرُّقي والمكانة الاجتماعية. وظلَّت لغة البادية حتى القرن الثاني الهجري الحجَّة عند كلِّ اختلاف. وكان من دواعي الفخر للعربي القدرة على التحدُّث بالعربية الفصحى كأحد أبناء البادية. أما سُكان الأمصار الإسلامية، فقد بدأت صلتهم بلغاتهم الأصلية تضعف شيئًا فشيئًا، وأخذ بعضهم يتكلَّم عربية مُوَلَّدة متأثِّرة باللغات الأم. وقد كانت منطقة الشام أُولى المناطق تعرُّبًا. ويُلاحَظ اختلاف لهجات أهل الأمصار في العربية تبعًا لاختلاف القبائل العربية الوافدة، ومن هنا كان اختلاف لهجات الكوفة والبصرة والشام والعراق ومصر بعضها عن بعض.
وقبيل نهاية العصر الأُموي، بدأت العربية تدخل مجال التأليف العلمي بعد أن كان تراثها مقصورًا على شِعْر وأمثال على ألسنة الرُّواة.
العربية في العصر العباسي
شهد العصر العباسي الأول مرحلة ازدهار الحضارة الإسلامية في مشرق العالم الإسلامي وفي مغربه وفي الأندلس، وبدأت تلك المرحلة بالترجمة، وخاصة من اليونانية والفارسية، ثم الاستيعاب وتطويع اللغة، ثم دخلت طَوْر التأليف والابتكار. ولم يَعُد معجم لغة البادية قادرًا وحده على التعبير عن معاني تلك الحضارة، فحمل العلماء على عاتقهم مهمَّة تعريب مصطلحات غير عربية، وتوليد صيغ لمصطلحات أخرى، وتحميل صيغ عربية دلالات جديدة لتؤدِّي معاني أرادوا التعبير عنها. وبهذا استطاعت العربية التعبير عن أدقِّ المعاني في علوم تلك الحضارة الشامخة وآدابها.
وفي مطلع ذلك العصر، بدأ التأليف في تعليم العربية، فدخلت العربية مرحلة تعلُّمها بطريق الكتاب، وكان هذا هو الأساس الذي قام عليه صَرْح العلوم اللغوية كالنحو والصرف والأصوات وفقه اللغة والبلاغة والمعاجم.
وعلى الرغم من انقسام العالم الإسلامي إلى دويلات في العصر العباسي الثاني، واتخاذ لغات أخرى للإدارة كالفارسية والتُّركية، فإن اللغة العربية بقيت لغةً للعلوم والآداب، ونَمَت الحركة الثقافية والعلمية في حواضر متعدِّدة، كالقاهرة وحَلَب والقيروان وقرطبة.
العربية في العصر الحديث
حين ضَعُفَ شأن المسلمين والعرب منذ القرن السادس عشر الميلادي، وتعرَّضت بلادهم للهجمات الاستعمارية، رأى المستعمرون أن أفضل وسيلة لهَدْم تماسُك المسلمين والعرب هي هَدْم وحدة الدِّين واللغة. وقد حاولوا هَدْم وحدة اللغة بإحلال اللهجات العامية محلَّ العربية الفصيحة، وبدأت تلك الدَّعوة في أوائل الثمانينيات من القرن التاسع عشر الميلادي، فأخذ دعاتهم يروِّجون لفكرة كتابة العلوم باللغة التي يتكلَّمها عامة الناس، وطَفِقَ بعضُهم يضع قواعد للهجة أبناء القاهرة، واقترح آخرون كتابة العربية الفصيحة بالحروف اللاتينية. إلا أن كلَّ تلك الدَّعوات أخفقَت إخفاقًا تامًّا.
ولكن كان من آثار تلك الهجمات الاستعمارية ضَعْفُ شأن العربية في بعض البلاد العربية، وخاصة دول الشمال الإفريقي، واتخاذ اللغات الأوروبية وسيلة لدراسة العلوم والفنون الحديثة فيما يُعرف بمدارس اللغات وفي أغلب الجامعات. وقد بدأت في البلاد العربية حركة نشِطة للتعريب تتمثَّل في اتجاهين: الأول، تعريب لغة الكتابة والتخاطب في بلاد الشمال الإفريقي، والثاني تعريب لغة العلوم والفنون على مستوى البلاد العربية كلِّها. وقد نجحت في الاتِّجاه الأخير سوريا والعراق، وأحرزت بلاد عربية أخرى بعض النجاح. وتحدو القائمين بالجهد في هذا الاتجاه الثِّقة بأن العربية التي وَسعَت الحضارة الإسلامية في الماضي لن تكون عاجزة عن أن تَسَعَ الحضارة الحديثة.
والعربية الفصيحة اليوم هي لغة الكتابة، وتُستخدم لغةً للحديث في المحافل العلمية والأدبية، وفي الإذاعة والتلفاز، وأحيانًا في المسرحيات والأفلام، ولها سحْرٌ عجيب إذا صَدَرَتْ عمَّن يجيدها. أمَّا لغة التخاطب العامي فلهجاتٌ عديدة في العالم العربي. لكن اللغة العربية الفصيحة، مع ذلك، مفهومة فهمًا تامًّا في كلِّ أنحاء العالم العربي.
يتبع
علم الصرف
تدل مادة (ص ر ف) على التغيّر، ومنها أخذ المصطلح ليدل على نظام تغيّر الكلمات تغيرًا داخليًا أو خارجيًا، سوى التغير الإعرابي. أما علم الصرف فهو ¸العلم الذي يصف الظواهر الصرفية، ويفسر حدوثها، ويقرر قواعدها·. ولما كان الصرف يبين تغير الكلمات اقتصر على درس الأسماء المعربة والأفعال المتصرفة، فخرج من ذلك الحروف والمبني من الأسماء والجامد من الأفعال. وللدراسة الصرفية جوانب مختلفة، منها ما هو مشترك بين الفعل والاسم، ومنها ما هو خاص بأحدهما.
يتناول علم الصرف تقسيم الكلم إلى ثلاثة أقسام وظيفية، هي : الاسم والفعل والحرف. ثم يدرس كيفية تولد الكلمات وتزايدها في مبحث الاشتقاق والزيادة، فتقسم الأسماء إلى جامدة ومشتقة، والجامدة ما ارتجل لفظها لدلالة معينة مثل (شجرة، أسد، رجل). أما المشتقة فهي أسماء أخذت من الأفعال، كاسم الفاعل أو المفعول، وذلك بتغيير داخلي في الفعل، نحو (ضارِب، مضروب) من (ضَرَبَ). وتقسم الأفعال إلى جامدة وهي ما جاءت على زمن صرفي واحد مثل: (ليس)، وإلى متصرفة وهي ما جاءت على ثلاثة أزمنة مثل: (ذهبَ، يذهبُ، اذهبْ). وتقسم الأسماء والأفعال إلى مجرد ومزيد، والمجرد هو ما يأتي على الجذور المعجمية وحدها مثل رجلٌ، ذَهَبَ). والمزيد هو ما زيد على الجذور حروف معجمية أخرى لمزيد دلالة، مثل: (رجال، أَذْهبُ).
ويهتم الصرف ببيان الزيادة، والغرض منها، ويذكر أبنية المجرد من الأسماء والأفعال، وكذلك أبنية المزيد من الأسماء والأفعال. ويهتم بدراسة دلالات الأبنية. وتقسم الأسماء والأفعال ـ حسب حروفها ـ إلى صحيحة وغير صحيحة، والاسم الصحيح هو ما انتهى بحرف صحيح مثل: (محمد، دار، صوت)، أما غير الصحيح فقد يكون شبيهًا بالصحيح مثل: (ظبي، دلو) وهو ما انتهى بواو أو ياء مسبوقتين بساكن. أو مقصورًا مثل: (فتى، عصا)، وهو ما ا نتهى بألف لازمة. أو ممدودًا مثل: (أخطاء، سماء، صحراء)، وهو ما انتهى بهمزة مسبوقة بألف زائدة. أو منقوصًا مثل: (القاضي)، وهو ما انتهى بياء لازمة. والصحيح من الأفعال ما كانت جميع جذوره صحيحة، والمعتل هو ما كان أحد جذوره علة مثل (وجد، سار، مضى، وقى، روى). ولا يكتفي علم الصرف بالتقسيم بل يبين الأحكام الصرفية المترتبة على هذا التنوع.
ويدرس الصرف قضايا الفعل الصرفية، من تقسيمه إلى متعدٍ ولازم، فيبين أبنية اللازم وأبنية المتعدي. ويدرس تقسيم الفعل إلى مبني للفاعل (للمعلوم) أو مبني للمفعول (للمجهول). ويبين التغييرات الصوتية والصرفية التي تنتج عن تحويل الفعل من البناء للفاعل إلى البناء للمفعول. ويشرح ما يعرض للفعل من تغييرات عند إسناده للضمائر التي تلصق بالفعل، وكذلك يشرح التغييرات الناتجة عن إلصاق نون التوكيد.
ويدرس الصرف الظواهر الخاصة بالأسماء من تنكير وتعريف، ومن تذكير وتأنيث، وبيان اللواحق الدالة على التأنيث. ويبين أقسام الاسم من حيث العدد، فيبين طرق التثنية، والجموع التي منها ما يكون بإلحاق لاحقة، وهو جمع السلامة، ومنها ما يكون بتغيير داخلي في لفظ المفرد، وهو جمع التكسير.
ويتناول علم الصرف الظواهر الصرفية مثل: ظاهرة التصغير، فيبين التغييرات التي تطرأ على الاسم عند تصغيره، ويدرس ظاهرة النسب، ويبين التغييرات التي تجري على الاسم بسبب إلصاق لاحقة النسب.
وثمة طائفة من التغييرات الصوتية التي اهتم علم الصرف العربي بها اهتمامًا كبيرًا، منها درس مخارج الأصوات وصفاتها، تمهيدًا لدرس ظاهرة الإبدال والإعلال، وهي التغييرات الصوتية الناتجة عن تجاور الأصوات. والإبدال تغيير صوت إلى آخر مثل: تغيير الواو تاء في (تقوى)؛ لأنها من (وقى)، أما الإعلال فهوتغيير حرف العلة إلى حرف آخر، مثل: جعل الواو ألفًا في (قال) أو ياءً في (قيل)، وجعل الياء ألفًا في (باع) أو واوًا في (موسر)، أو جعلهما همزة في (قائل وبائع).
ومن أهم مظاهر هذه التغييرات ما يحدث عند إدغام حرف في آخر، إذ يسبق الإدغام بمماثلة تامة للأصوات غير المتماثلة، والمماثلة التامة هي الاتحاد في المخرج الصوتي والصفات الصوتية الأخرى ؛ ولذلك يهتم الصرف بظاهرة الإدغام. والإدغام هو إدخال الحرفين المتماثلين أو المتقاربين في بعضهما حتى يصيرا حرفًا واحدًا مشددًا. ومن التغييرات الصوتية ما هو من قبيل المماثلة غير التامة، أي أن الصوت يماثل مجاوره ببعض الصفات، من ذلك ما يحدث في مثل: (ازدان). فالأصل (ازتان) لكن الزاي المجهورة أثرت على التاء فأكسبتها صفة الجهر فنطقت دالاً، ومثل: (اضطرب) أصلها (اضترب) لكن الضاد أثرت على التاء فأكسبتها صفة الإطباق فنطقت طاء.
ويدخل في درس الإبدال والإعلال ما يعرض للكلمة من حذف بعض حروفها، مثل: حذف همزة الفعل على بناء (أفعل) مثل: (أكرم) من مضارعه (يُفعل) : (يُكرم). وقد تلتقي الحروف الساكنة فيجري التخلص من هذا اللقاء بكيفيات مختلفة، يبينها الصرف في درسه لظاهرة التقاء الساكنين، مثل: إقحام الكسر بين (قد) والفعل (انطلق): قَدِ انْطَلَق. ويتصل بهذا درسه لهمزتي الوصل والقطع. فهمزة الوصل همزة مجتلبة للتخلص من البدء بساكن مثل: (ابنك، انطلق، الرجل)، أما همزة القطع فهي همزة من صلب الكلمة.
كما يهتم علم الصرف بدراسة التغييرات الناتجة عن الوقف على الكلمات. مثل: حذف الحركة أو تحويل التنوين إلى ألف. ويتناول بعض الظواهر الصوتية الخاصة بلغة (لهجة) من لغات العرب الفصيحة مثل (الإمالة)، وهي نطق الألف أو الفتحة على نحو يقربهما من الياء والكسرة.
علم النحو
النَّحو النظام الذي يحكم وضع الكلمات في الجملة، أما علم النحو فهو العلم الذي يدرس قواعد هذا النظام دراسة علمية ويصف ظواهره التركيبية. ويعتمد النظام النحوي على تخير اللفظ المؤدي للمعنى، ووضعه في موضعه الملائم في التركيب، وربطه بعناصر التركيب وإظهار العلامات اللفظية الدالة على وظيفته التركيبية. ومثال ذلك قولك: شاهدَ أوسٌ صالحًا في المسجد. وتتبين أهمية الاختيار حين نعمد إلى اختيار كلمات لا تؤلف تركيبًا مثل: شاهد، عاون، سالم، جاء فهذه الأفعال لا تؤلف تركيبًا ذا معنى، وتتبين أهمية وضع اللفظ في موضعه الملائم، حين نعمد إلى تغيير الجملة المذكورة على هذا النحو: شاهد المسجد أوس صالحًا، ومن ربط الكلمات بعناصر التركيب وجود حرف الجر الذي دل على أن المسجد هو موضع حدوث الفعل، وقد أظهر في التركيب الفاعل مرفوعًا والمفعول به منصوبًا، والمعلق بحرف الجر مجرورًا.
ومن أجل هذه الشروط التركيبية عمد علم النحو إلى دراسة التراكيب دراسة وصفية، تكشف عن نظامه، فميز علم النحو ثلاثة أقسام من الكلم، نظرًا للدلالات الكبرى التي تدل عليها، وهي الأسماء والأفعال والحروف، فدرس النحو ما يأتلف من هذه الأقسام فيؤلف جملاً ذات معنى، ثم درس الظواهر التركيبية المختلفة.
وأبرز ما يهتم به النحو العربي ظاهرة التغيّر الإعرابي لصلتها المباشرة بالفصاحة والسلامة اللغوية. ومن أجل ذلك يميز بين الكلمات التي تتصف بهذا التغيّر الإعرابي والكلمات التي لا تتصف به، ومن هنا يأتي درس المبنيّ والمعرب، وتفصيل القول في الأسماء المبنية والأفعال المبنية وأحوال بنائها، ثم تفصيل القول في الإعراب وعلامات الإعراب الأصلي منها والفرعي. ولما كانت ظاهرة التغيّر الإعرابي دالة على وظائف الأسماء في الجملة من جهة، ودالة على مواقعها المحددة في الجملة من جهة أخرى، جاء درس الأسماء المختلفة حسب وظائفها في التركيب، فيدرس المبتدأ والخبر في الجملة الإسمية، مثل: محمد قائم والأنماط المختلفة التي يأتي عليها المبتدأ ويأتي عليها الخبر، ثم يدرس ما يعرض للجملة الاسمية من توسيع بإدخال النواسخ عليها، وأثر ذلك في تغير العلامات الإعرابية الظاهرة على الأسماء. مثل: كان محمد قائمًا، أو إن محمدًا قائم.
ويدرس علم النحو الفاعل والمفعول به وجملة المفعولات والمنصوبات الأخرى في الجملة الفعلية، نحو: قاوم الفدائيون العدو مقاومة شديدة عند الجسر مساءً، ثم يدرس الاسم الواقع بعد حرف الجر، وبعد المضاف. وتأتي دراسة الفعل لتكشف عن تغير إعرابه، نتيجة لمجيئه مع أدوات معينة ولوقوعه في مواقع وظيفية معينة، فتدرس نواصب الفعل وجوازمه. إذ ينصب المضارع بعد (أن، وكي، ولن، وحتى…) مثل: أحب أن أقرأَ كي أتعلمَ حتى أستفيدَ من خبرات الآخرين التي لن أجدها بغير العلم، ويجزم الفعل بعد لم ولما ولام الأمر، ولا الناهية نحو: لم يحضرِ القطار أمس ولما يحضر اليوم فلتترقبْ مجيئه ولا تغفلْ عنه، ويجزم الفعل لوقوعه بعد أدوات الشرط الجازمة، ولكونه فعلاً لجواب الشرط دلالة على شدة ارتباطه بفعل الشرط، مثل : إن يحضر زيد غدًا يحضرْ والده معه.
ويتناول النحو ظاهرة تركيبية أخرى هي الرتبة أي موقع الكلمات في التركيب، إذ لكل كلمة ترتيب أساسي غير أن ظاهرة التغيّر الإعرابي تعطي الكلمات قابلية الانتقال من مواقعها، حسب ما يقتضي المعنى لدلالة العلامات الإعرابية على الرتبة الأساسية، مثال: أكرم محمد فهدًا إذ يمكن القول: أكرم فهدًا محمدٌ، أو فهدًا أكرمه محمد.
ويبين علم النحو الأحوال التي يجب فيها التزام الرتبة، والأحوال التي يجب فيها مخالفة الموقع الأساسي، والأحوال التي يجوز فيها انتقال الكلمة من موقعها. فيجب التزام الرتبة حين تنعدم العلامات الإعرابية مثل سألت سعدى ليلى، ويجب تقديم ما له الصدارة مثل أين محمد؟ ومن قابل زيد؟ وإنما منطلق زيد.
ومن الظواهر التركيبية المطابقة. إذ يدرس النحو أحوال المطابقة بين المبتدأ والخبر، من حيث الجنس والعدد مثل: ليلى قائمة فالخبر مؤنث مفرد كالمبتدأ، وكذا أحوال مطابقة الفعل والفاعل مثل: قامت الفتاة إذ اتصلت تاء التأنيث بالفعل دلالة على أن الفاعل مؤنث، والحال وصاحبها، مثل: قدمت السيارتان مسرعتين إذ جاءت الحال متصفة بالتثنية والتأنيث مطابقة لصاحبها، وهو السيارتان.
ويدرس النحو أيضًا ظاهرة توسيع التركيب وتضييقه بإضافة بعض عناصر التركيب أو حذفها، ويبين أحوال الوجوب والجواز في ذلك. مثال ذلك: حذف الخبر في جواب السؤال مَن في المكتبة؟ حين يقال: زيد.
كذلك يدرس النحو ظاهرة التعلّق، فيبين تعلق الفعل بالفاعل وتعلق الخبر بالمبتدأ والروابط الدالة على هذا التعلق. مثال ذلك ربط جملة الخبر بالمبتدأ بضمير عائد إليه، نحو محمد أبوه قادم، وربط جملة الصلة بالاسم الموصول بضمير عائد إليه نحو: جاء الرجال الذين أكرمونا أمس، ويدرس تعلق المجرورات بما قبلها.
ومن الظواهر التركيبية ظاهرة الإتباع فيدرس النحو ما يكون في التركيب تابعًا لغيره كالمعطوف والبدل والنعت، إذ هو لا ينفك عن متبوعه ويشاركه في إعرابه. مثل: جاء زيدٌ ابنُهُ ورجلٌ غريبٌ، فكلمة ابنه بدل من زيد معرب بإعرابه، وهو الرفع، ورجل معطوف عليه معرب بإعرابه، وغريب نعت لـ رجل معربٌ بإعرابه وهو الرفع.
المدارس النحوية
المدارس النحوية مصطلح يشير إلى اتجاهات ظهرت في دراسة النَّحو العربي، اختلفت في مناهجها في بعض المسائل النحوية الفرعيّة، وارتبط كل اتجاه منها بإقليم عربي مُعيّن، فكانت هناك مدرسة البصرة، ومدرسة الكوفة، ومدرسة بغداد وهكذا. ولم يكن لهذا الارتباط المكاني دلالة علميّة خاصة. ويرى بعض الباحثين أن القدماء لم يطلقوا على مسائل الخلاف في النحو القديم كلمة مدرسة، فلم يؤثر عنهم مصطلح المدرسة البصرية، ولا مصطلح المدرسة الكوفية ولا مدرسة بغداد ولكننا نقرأ من قولهم: مذهب البصريين، ومذهب الكوفيين، ومذهب البغداديين، وربما ورد في قولهم: مذهب الأخفش، ومذهب الفراء، ومذهب سيبويه وغير ذلك. غير أن المعاصرين استحسنوا لفظ المدرسة فاستعاروها في مادة الخلاف النحوي، كما استعاروها في مسائل أدبية أخرى، فأطلقوا على بناء القصيدة عند أوس بن حجر ـ على سبيل المثال ـ بناءً خاصًا يختلف عما عند غيره من الجاهليين ـ واستمرأ هذا النهج في الاصطلاح بعض الباحثين، فكانت مدرسة الديوان، وهكذا قيل عن الأدب في المهجر، على الرغم من الخلاف الكبير بين أدباء المهجر في منازعهم الفكرية.
ولعل من هذا ماذهب إليه الباحثون المعاصرون في تاريخ النحو والنحاة، فأثبتوا مصطلح المدرسة في نحو البصريين، ومثله مدرسة الكوفة، ومدرسة بغداد أو غير ذلك. غير أنك حين تنظر في التراث النحوي لاتجد جمهرة النحاة ـ بصريين وكوفيين وغيرهم ـ قد اختلفوا في أصول هذا العلم، ولم ينطلق هؤلاء من أفكار متعارضة، ولكنهم قد اختلفوا في مسائل فرعية تتصل بالتعليل والتأويل، فكان لهؤلاء طريقة أو مذهب، ولأولئك طريقة أو مذهب آخر، وقد يكون الاختلاف بين بصري وبصري كما كان بين كوفي وكوفي آخر، ولا تعدم أن تجد بصريَّا قد وافق الكوفيين، وكذلك العكس.
أما كلمة مذهب فترد كثيرًا في الكلام عن الخلاف النحوي، فيقولون، مذهب البصريين كما قالوا: مذهب الكوفيين، ومذهب البغداديين، وقد تطلق كلمة مذهب على الطريقة التي سار عليها أحد النحاة فقالوا: مذهب سيبويه كذا، أو قولهم: مذهب الأخفش والفرَّاء كذا.
والمتصفح لكتب التراث التي تعرضت للبحث في تاريخ النحو والنحاة، يلحظ خلوّها من مصطلح المدرسة ولكنه يجد أخبارًا مجموعة لعلماء كل عصر على حدة، ففي الفهرست لابن النديم مثلاً نجد بابًا يفرد للكلام في النحو وأخبار النحويين واللغويين من البصريين، وبابًا آخر لأخبار النحويين واللغويين الكوفيين، ثم باباً ثالثًا لأخبار جماعة من علماء النحو واللغويين ممن خلط المذهبين، وقد عرف هؤلاء الأخيرون عند الدارسين بالبغداديين. على أن أبا سعيد السيرافي أفرد كتابًا لأخبار النحويين البصريين بدءًا بأبي الأسود الدؤلي، وانتهاء بأبي بكر محمد بن السري المعروف بابن السراج، وأبي بكر محمد بن علي المعروف بمبرمان اللذين أخذ السيرافي عنهما النحو، وعليهما قرأ كتاب سيبويه، ونص على أن في طبقة أستاذيه هذين ممن خلط علم البصريين بعلم الكوفيين، أبو بكر بن شقير، وأبو بكر بن الخياط.
وعندما ألّف أبو الطيب عبـدالواحد بن علي اللغوي (ت351هـ) كتابه في مراتب النحويين، عرض لعلماء الأمصار الثلاثة ممن اشتغلوا باللغة والنحو، بدءًا من أبي الأسود، ومن أخذ عنه، وبعض اللغويين والنحويين من البصريين، دون أن يعقد لذلك عنوانًا، حتى إذا فرغ من البصريين عقد بابًا لـعلماء الكوفة، لكن الناظر فيمن سلكهم ضمن الكوفيين يرى بعض العلماء البصريين يسلكون خلال هذه المجموعة، وعلى سبيل المثال ترى الجرمي وأبا عثمان المازني وأبا العباس المبرد، ولعله لم يُرد ذلك، فعقد بعد ذلك بابًا لعلماء الكوفة بعد الكسائي، حتى إذا فرغ من ذكرهم خصص الباب الأخير لعلماء بغداد.
أما الزبيدي، فقد وضع النحويين واللغويين في طبقات، فابتدأها بطبقات النحويين البصريين، وصنفهم إلى عشر طبقات، وانتقل بعدها إلى طبقات النحويين الكوفيين فكانوا ست طبقات، ثم عاد للغويي البصرة فكانوا سبع طبقات، فلغويي الكوفة وهم خمس طبقات، بعد ذلك خصص أبواباً لطبقات النحويين واللغويين المصريين، فالنحويين واللغويين القرويين، ثم النحويين واللغويين الأندلسيين.
وعلى كل حال، فقد شاع بين المحدثين استقلال كل مصر من هذه الأمصار بمذهب شاع بين علمائها ونحاتها، وألفّت الكتب في هذا التواطؤ، فهناك كتاب عن مدرسة الكوفة وآخر عن مدرسة البصرة النحوية، وصنف الدكتور شوقي ضيف كتابًا في المدارس النحوية أجمل فيه الجهود الخصبة لكل مدرسة، وكل شخصية نابهة فيها، فابتدأه بالمدرسة البصرية؛ لأنها هي التي وضعت أصول النحو وقواعده، وكل مدرسة سواها فإنما هي فرع لها، وثمرة تالية من ثمارها، وذهب إلى أن الخليل بن أحمد الفراهيدي هو المؤسس الحقيقي لمدرسة البصرة النحوية، ولعلم النحو العربي بمعناه الدقيق، ثم تلاه سيبويه فالأخفش الذي أقرأ النحو لتلاميذ من البصرة والكوفة، ثم جاء بعده المازني، فتلميذه المبرِّد وهو آخر أئمة المدرسة البصرية النابهين.
أما نشاط مدرسة الكوفة فبدأ متأخرًا عند الكسائي الذي استطاع هو وتلميذه الفراء أن يستحدثا في الكوفة مدرسة نحوية تستقل بطوابع خاصة من حيث الاتساع في الرواية، وبسط القياس وقبضه، ووضع بعض المصطلحات الجديدة، والتوسع في تخطئة بعض العرب، وإنكار بعض القراءات الشاذة.
أما المدرسة البغدادية فقد قامت على الانتخاب من آراء المدرستين (البصرية و الكوفية) مع فتح الأبواب للاجتهاد، والوصول إلى الآراء المبتكرة. ولم يتخلص علماء هذه المدرسة من نزعتهم إلى إحدى المدرستين السابقتين، أو ميلهم إلى مناهجها أكثر من ميلهم إلى المذاهب الأخرى، أو إلى الاستقلال عنهما.
ثم ظهرت بعد ذلك المدرسة الأندلسية بدءًا من القرن الخامس الهجري، ومثلها المدرسة المصرية، إلا أن علماءهما لم يكونوا إلا تابعين لعلماء البصرة أو الكوفة أو بغداد، ولم يتجاوزوا الاجتهاد في الفروع.
طبقات النحويين واللغويين
طبقات النحويين واللُّغويين مُصنف من المصنفات القديمة والمصادر الأصيلة لتراجم النحاة وعلماء اللُّغة. وضعه أبو بكر، محمد بن الحسن الزُّبيدي الأندلسي (ت379هـ، 989م)، وأهداه للخليفة الأموي الحكم بن الناصر.
افتتح الزُّبيدي كتابه بمقدمة تحدث فيها عن اللغة العربية وما طرأ عليها من اللّحن بعد أن كان المتحدثون بها ينطقون بها صحيحةً على سجيّتهم.
وقد صدر الزُّبيدي عن منهج حسن في كتابه؛ وذلك أنه قسَّمه على الأقاليم، فذكر البصريين والكوفيين والمصريين والأفارقة ثم الأندلسيين. وقد أحسن صنعًا حيث راعى التمييز بين المذاهب والمدارس، والتجانس بين علماء كل إقليم.
ومضى الزُّبيدي إلى أكثر من ذلك حيث عمد إلى علماء المصر الواحد فجعلهم طبقات حسب أزمانهم لا على أقدارهم في العلم. وقد تطول الطبقة الواحدة عنده فتصل إلى ثلاثين عالمًا وقد تقصر حتى يعقدها لعالم أو عالمين تبعًا للجيل الذي عاشوا فيه.
وحين تناول المؤلّف البصريين والكوفيين، فصل علماء النحو وتناولهم في باب، ثم علماء اللغة في باب آخر، ولم يطبق هذا النهج على بقية تراجمه، ويبدو أنه وجد صعوبة في تصنيفهم على هذا الوجه. والأمر لا يخلو من هذه الصعوبة حقاً لأن أكثر علماء النحو كانوا لغويين بالضرورة. وهذا ما أشكل على الزُّبيدي وقاده إلى وضع أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر وثعلب في النحاة مرة وفي اللغويين مرة ثانية. ولعله احتار في أمر الخليل فوضعه مع النحاة ولم يذكره في اللغويين مع أنه من أكابر أهل اللغة أيضًا.
وقد قام الزُّبيدي بهذا العمل في أسلوب موجز حاول أن يأتي فيه بخلاصة أخبار العلماء وينفي عنها كثيرًا من الحشو والاستطراد الذي لا فائدة منه. ومع ذلك فقد كانت بعض تراجمه قليلة الفائدة لأنها لا تزيد على سطر أو سطرين بل كان يضع أحيانًا اسم المترجم له دون أن يذكر عنه كلمة واحدة.
وقدّم المؤلف البصريين على غيرهم، وهو يقصد هذا التقديم ويعنيه، لأن البصريين متقدمون في علم العربية ولهم السبق في مجال التأليف في ذلك.
بلغ عدد المترجم لهم في الكتاب نحو 300 عالم من أئمة اللغة والنحو، وكانت فيهم طائفة صالحة من علماء الأندلس، ومن هنا جاءت أهمية هذا الكتاب الذي احتوى على تراجم مهمّة لعلماء هذا العصر خاصة.
طُبع الكتاب أكثر من مرة، وطبعته المتداولة محقّقة ومذيَّلة بفهارس.
يتبع
علوم البلاغة
علم المعاني
المعاني: يُعَدُّ علم المعاني واحدًا من ثلاثة فروع تكوِّن علم البلاغة (المعاني، والبيان، والبديع). وأول من فصّل القول في فرع المعاني ونظم مباحثه هو الإمام عبد القاهر الجرجاني وذلك في كتابه دلائل الإعجاز.
تحدث عبد القاهر في جميع الموضوعات التي أصبحت تشكل هذا الفرع، ثم جاء اللاحقون من البلاغيين فأعادوا صياغة ما أصّله عبد القاهر، واختصروا أقواله، ومن أبرز هؤلاء البلاغيين فخر الدين الرازي، والسكَّاكي، والخطيب القزويني. ولم يطلق عبدالقاهر الجرجاني على هذا الفرع اسم علم المعاني وإنما الذي أطلق عليه هذه التسمية جارالله الزمخشري في تفسيره الكشَّاف.
عَرّف البلاغيون علم المعاني بأنه "علم تُعرَف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال". وتندرج تحت هذا العلم الموضوعات الآتية:
أحوال الإسناد الخبري: يبحث هذا الموضوع في قصد المخبر بخبره وهل هو إفادة المخاطب بمضمون الخبر أم الإشارة إلى أن المتكلم نفسه عالم بالخبر ويريد أن يشعر المخاطَب بمعرفته به. كما يبحث هذا الموضوع في حالات المخاطَب، من ناحية كونه خالي الذهن، أو مترددًا في الحكم شاكًا فيه، أو منكرًا له ، وما ينبغي لصاحب الخبر أن يتوخاه في خطابه مما تستدعيه هذه الحالات من تأكيدات.
أحوال المسنَد إليه: المسند إليه هو الفاعل، أو نائب الفاعل، أو المبتدأ الذي له خبر، وما أصله المبتدأ. والمراد بأحواله، ما يعرض له من ذكر وحذف، وتعريف وتنكير، وتقديم وتأخير، وتقييد وقصر، وغير ذلك.
أحوال المسنَد: المسنَد هو الفعل، أو اسم الفعل، وخبر المبتدأ، أو المبتدأ المكتفي بمرفوعه، وما أصله خبر المبتدأ، أو المصدر النائب عن فعل الأمر. أما أحواله، فهي ما يعرض له من ذكر وحذف، وتعريف وتنكير، وتقديم وتأخير، وتقييد وقصر وغير ذلك.
القَصْر: هو تخصيص أمر بآخر بطريق مخصوص. وللقصر طرق كثيرة أشهرها مايلي: أ- النفي والاستثناء، والمقصور عليه فيهمـا مايلي أداة الاستثنـاء. ب- إنما، والمقصور عليه هو المؤخَّر. ج- العطف بـ لا، أو بل، أو لكن. والمقصور عليه في العطف بـ لا هو المقابل لما بعدها، وفي العطـف بـ بل، لكـن هو ما بعدهما. د- تقديم ما حقه التأخير كتقديم الخبر على المبتدأ، وتقديم المعمول على العامل. والمقصور عليه في هذا النوع هو المقدم.
الإنشاء: هو الكلام الذي لا يحتمل الصدق ولا الكذب، أي الذي لا يُنسب لقائله صدق أو كذب. وهو نوعان: أ- طلبي: وهو مايستدعي مطلوبًا غير حاصل وقت الطلب، ويكون بالأمر والنهي والاستفهام والتمني والنداء. ب- غير طلبي: وهو ما لايستدعي مطلوبًا، وله صيغ كثيرة كصيغ المدح والذم، وصيغ العقود (كبِعتُ، واشتريتُ)، والقَسَم، والتعجب، وأفعال الرجاء.
الفصل والوصل: الوصل هو عطف جملة على أخرى بالواو فقط دون غيرها من حروف العطف، والفصل هو ترك هذا العطف. وهناك مواضع يتعين فيها الفصل، ومواضع يتعـين فيها الوصل. يتعين الفـصل: أ- حين يكون بين الجملتين تباين تام، وذلك بأن تختلفا خبرًا وإنشاء، أو بألا تكون بينهما مناسبة ما، ويُطلق على هذا مصطلح كمال الانقطاع. ب- حين يكون بينهما اتحاد تام، وذلك بأن تكون الثانية مؤكدة للأولى أو بيانًا لها، أو تكون بدلاً منها، ويُطلق على هذا مصطلح كمال الاتصال. ج- حين تكون الجملة الثانية جوابًا لسؤال نشأ عن الجملة الأولى فتفصل الثانية عنها كما يفصل الجواب عن السؤال، ويُطلق على هذا مصطلح شبه كمال الاتصال.
والمواضع التي يتعين فيها الوصل هي: أ- إذا قُصد إشراك الجملتين في الحكم الإعرابي. ب- إذا اتفقت الجملتان خبرًا أو إنشاء وكانت بينهما مناسبة تامة ولم يكن هناك سبب يقتضي الفصل بينهما. ج- إذا اختلفتا خبرًا وإنشاء وأوهم الفصل خلاف المقصود.
الإيجاز والإطناب والمساواة: الإيجاز هو أداء المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة مع الوفاء بالمعنى المراد وهو نوعان: أ- إيجاز القصر، وهو مالا يكون فيه لفظ محذوف. ب- إيجاز الحذف، وهو ماكان بحذف كلمة أو جملة، أو أكثر، مع قرينة تحدّد المحذوف.
أما الإطناب: فهو أداء المعنى بعبارة زائدة عما يستحق بشرط أن تكون الزيـادة لفائـدة، ولـه طرق كثـيرة منهـا: أ- الإيضاح بعد الإبهام، وذلك لتقرير المعنى في ذهن السامع. ب- ذكر الخاص بعد العام للتنبيه على فضل الخاص. ج- الاعتراض، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب. د- التكرار المفيد. هـ- الاحتراس، وهو أن يكون في الكلام احتمال لإيهام خلاف المراد فيؤتى بما يزيل ذلك الإيهـام ويحـدد المراد. و- التذييل، وهو تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها توكيدًا لها.
وأما المساواة: فهي أداء المعاني بألفاظ مساوية لها دون زيادة أو نقصان.
علوم البلاغة
علم البيان
علم البيان أحد علوم البلاغة. والبيان في اللغة الكشف والظهور، وفي اصطلاح البلاغيين: ما يُعْرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة على المعنى المراد ،والبيان بهذا المعنى يعد أحد أقسام البلاغة الثلاثة: البيان والمعاني، والبديع. والمباحث التي يتكون منهاعلْمُ البيان هي:
التشبيه: وهو الدلالة على مشاركة أمر لآخر في معنى من المعاني بإحدى أدوات التشبيه الملفوظة أو المقدّرة. مثل: خالد كمحمد في الشجاعة. والتشبيه له أربعة أركان هي: المشبَّه، والمشبَّه به، ووجه الشبه، وأداة التشبيه. وينقسم التشبيه بحسب هذه الأركان إلى أقسام كثيرة، فمن ذلك أن التشبيه الذي يُصرَّح فيه بالأداة يسمى تشبيهًا مرسلاً. والتشبيه الذي تحذف منه الأداة يسمى تشبيهًا مؤكداً. والتشبيه الذي يُصرَّح فيه بوجه الشَّبَه يسمى تشبيهًا مفصّلاً، والتشبيه الذي يُحذف منه وجه الشبه يسمى تشبيهًا مُجْمَلاً. والتشبيه الذي تحذف منه الأداة ووجه الشبه يسمى تشبيهًا بليغًا.
الحقيقة والمجاز: الحقيقة هي استعمال اللفظ في المعنى الذي وضع له عند العرب كاستعمال لفظ الأسد في الحيوان المفترس. أما المجاز فهو إما أن يكون في إسناد اللفظ إلى غيره، وإما أن يكون في ذات اللفظ. فإن كان المجاز في الإسناد سُمي مجازًا عقليًا كما إذا قال المؤمن لمن يعلم إيمانه: أنضج الحَرُّ الرُّطَب. فالمتكلم والسامع يعرفان أن المسبِّب الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى. وإن كان المجاز في اللفظ سُمِّي مجازًا لغويًا. فالمجاز اللغوي هو استعمال اللفظ في غير المعنى الذي وضع له عند العرب على وجه يصح به مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي.
المجاز المرسل: الكلمةُ المستعملة في غير المعنى الذي وضعت له لعلاقة غير المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الموضوعة له. وللمجاز المرسل علاقات كثيرة من بينها: المسبَّبية كقوله تعالى: ﴿وينزِّل لكم من السماء رزقًا﴾ غافر: 13. والسبَّبية مثل: "رعت الإبل الغيث"، والجزئية كقوله تعالى: ﴿فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا﴾ المجادلة: 3. و الكليَّة كقوله تعالى: ﴿يجعلون أصابعهم في آذانهم﴾ نوح: 7. واعتبار ماكان كقوله تعالى: ﴿وآتوا اليتامى أموالهم﴾ النساء: 2. والآليَّة كقوله تعالى: ﴿واجعل لي لسان صدق في الآخرين﴾ الشعراء: 84.
والحالِّية كقول الشاعر:
قل للجبان إذا تأخر سَرْجُه ===== هل أنت من شَرَك المنية ناجي
والمحلِّية كقوله تعالى: ﴿فليدع ناديه﴾ اقرأ: 17.
الاستعارة: الكلمة المستعملة في غير المعنى الذي وُضعت له لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الموضوعة له كقولك: رأيت أسدًا يحمل سيفًا.
وتنقسم الاستعارة إلى قسمين رئيسيين: أ- الاستعارة التصريحية وهي ماصُرِّح فيها بلفظ المشبَّه به (المستعار منه)، ففي قولك رأيت أسدًا يحمل سيفًا صرَّحت بلفظ المشبه به وهو الأسد. ب- الاستعارة المَكْنيَّة، وهي ماحذف فيها المشبه به (المستعار منه)، ورُمز له بشيء من لوازمه كقول الشاعر:
وإذا العناية لاحظتك عيونُها ===== نَمْ فالمخــاوف كلهـــن أَمـــانُ
فقد شبه الشاعر العناية بإنسان ثم حذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو العيون.
الكِناية: لفظ أُطلق وأريد به لازم معناه مع جواز إرادة المعنى كقولك: خالد كثير الرماد تعني أنه كريم. وتنقسم الكناية إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي: أ ـ كناية عن صفة، والمراد بالصفة هنا الصفة المعنوية مثل: الكرم، والشجاعة، والجود، وليس النعت النحوي. وضابطها أن يصرَّح بالموصوف وبالنسبة إليه، ولا يصرَّح بالصفة المطلوب نسبتها، ولكن يذكر مكانها صفة تستلزمها كقولك: خالد كثير الرماد. ب ـ كناية عن موصوف، وضابطها أن يصرَّح بالصفة وبالنسبة، ولا يصرَّح بالموصوف المطلوب النسبة إليه، ولكن يذكر مكانه صفة تختص به كقول الشاعر:
الضاربين بكل أبيض مِخْذَمٍ ===== والطاعنين مجامع الأضغان
ج ـ كناية عن نسبة، وضابطها أن يصرَّح بالموصوف والصفة، ولا يصرَّح بالنسبة بينهما، ولكن يذكر مكانها نسبة أخرى تستلزمها كقول الشاعر يصف امرأة بالعفة:
يبيت بمنجاة من اللوم بيتها===== إذا مابيوت بالملامة حلَّـتِ
علم البديع
علم البديع فرع من علوم البلاغة يُعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية مطابقته لمقتضى الحال ووضوح الدلالة. وأول من وضع قواعد هذا العلم وجمع فنونه الخليفة العباسي الأديب عبدالله بن المعتز، وذلك في كتابه الذي يحمل عنوان البديع، ثم تلاه قدامة بن جعفر الذي تحدث عن محسّنات أخرى في كتابه نقد الشعر، ثم تتابعت التأليفات في هذا العلم وأصبح الأدباء يتنافسون في اختراع المحسّنات البديعية، وزيادة أقسامها، ونظمها في قصائد حتى بلغ عددها عند المتأخرين مائة وستين نوعًا.
ويقسم علماء البلاغة المحسنات البديعية إلى قسمين: محسّنات معنوية، ومحسنات لفظية.
المحسّنات المعنوية: هي التي يكون التحسين بها راجعًا إلى المعنى، وإن كان بعضها قد يفيد تحسين اللفظ أيضًا. والمحسّنات المعنوية كثيرة، من بينها:
الطباق: هو الجمع بين الشيء وضده في الكلام، مثل قوله تعالى: ﴿وتحسبهم أيقاظًا وهم رقود﴾ الكهف:18. وقول الشاعر:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ولاينكرون القول حين نقول
المقابلة: هي أن يؤتى بمعنيين غير متقابلين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابـل ذلك على الترتيـب، مثـل قولـه تعـالى: ﴿فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرًا﴾ التوبة: 82
التورية: هي أن يُذكر لفظٌ له معنيان؛ أحدهما قريب ظاهر غير مراد، والثاني بعيد خفي هو المراد كقول الشاعر:
أبيات شعرك كالقصـور ===== ولا قصور بها يعوق
ومن العجائب لفظهـــــا ===== حُرّ ومعناها رقـيـــــق
فكلمة رقيق لها معنيان؛ أحدهما بمعنى مملوك وهو غير مراد، والثاني بمعنى لطيف سهل وهو المراد.
حسن التعليل: هو أن ينكر القائل صراحة أو ضمنًا علة الشيء المعروفة ويأتي بعلة أدبية طريفة تناسب الغرض الذي يقصد إليه،كقول الشاعر معللاً اصفرار الشمس:
أما ذُكاء فلم تصفر إذ جنحت ===== إلا لفرقة ذاك المنظر الحسن
المشاكَلة: هي أن يُذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك الشيء كقول الشاعر:
قالوا اقترح شيئًا نُجد لك طبخه ===== قلت اطبخوا لي جبة وقميصًا
عبر عن خياطة الجبة بالطبخ لوقوع الخياطة في صحبة طبخ الطعام.
التوجيه أو الإيهام: هو أن يؤتى بكلام يحتمل، على السواء، معنيين متباينين، أو متضادين كهجاء ومديح ليصل القائل إلى غرضه بما لا يؤخذ عليه، ومثال ذلك قول بشار في خياط أعور اسمه عمرو خاط له قباء:
خاط لي عمرو قبـاء ليت عينيه سواء ==== قل لمن يعـرف هـذا أمديح أم هجاء؟
المحسّنات اللفظية: هي التي يكون التحسين بها راجعًا إلى اللفظ أصالة، وإن حــسّنت المعنى تبعًا لتحسين اللفظ، ومن المحسّنات اللفظية:
الجناس: هو أن يتشابه اللفظان في النطق ويختلفا في المعنى، وهو نوعان:
تام. وهو ما اتفق فيه اللفظان في أمور أربعة هي: نوع الحروف، وشكلها، وعددها، وترتيبها، مثل قوله تعالى: ﴿ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون مالبثوا غير ساعة﴾ الروم: 55.
غير تام. وهو ما اختلف فيه اللفظان في واحد من الأمور الأربعة المتقدمة، مثل قول الشاعر:
يمدون من أيد عواص عواصم === تصول بأسياف قواض قواضب
السجع: هو توافق الفاصلتين من النثر على حرف واحد في الآخر، ومثاله قول النبي صلى الله عليه وسلم : (اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفًا) .
رد العجز على الصدر: هو أن يجعل أحد اللفظين المكررين أو المتجانسين في اللفظ دون المعنى، في أول الفقرة والآخَر في آخرها، مثل قوله تعالى: ﴿وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه﴾ الأحزاب: 37. ومثل قول الشاعر:
سريعٌ إلى ابن العم يلطم وجهه ===== وليس إلى داعي الندى بسريع
يتبع
علامات الترقيم
الكتابة تعبر عن الكلام ، وهذا يعني أن يكون في الكتابة سمات الكلام ، من وقفات ، ومن رفع الصوت وخفضه ، ومن تمييز الخبر من الإنشاء … والذي يعبر عن ذلك كله هو علامات الترقيم .
1) نقصد بالترقيم ، وضع رموز اصطلاحية معينة بين الجمل أو الكلمات ، وعلامات التّرقيم في اللغة العربية ذات أهمية كبيرة في توضيح معاني الجمل للقارئ، وهي في الكتابة تُغني عن الإشارة بالوسائل الأخرى التي يستخدمها المتحدّث للتعبير عمّا في نفسه .
الفَاصِلَةُ (،)
وتسمى " الفَصْلة " وهي تَدُلُّ على وَقْفٍ قصير ، بَيْنَ مَعَاني الْجمّلة لتمييز أجزاء الكلام بعضه عن بعض ، وهي أكثر علامات الترقيم استعمالاً في الكتابة ، ومن مواضعها :
بين الجمل المترابطة وأشباه الجمل ، مثل :
كتب أحدهم إلى صديق له : "مثلي هفا ، ومثلك عفا " فأجابه : "مثلك اعتذر ، ومثلي اغتفر " .
كان لبعضِ الأطباء تلميذٌ ذكيٌ ، يُحبّهُ كثيراً ، وكانَ التلّميذُ يَحبُّ استاذه ، وَيُلازِمُه وَيَخْدِمُه .
بين الشرط والجواب ، مثل :
كتب أحدهم : أما بعد ، فإن كان إخوان الثقة كثيراً ، فأنت أولهم ، وإن كانوا قليلاً ، فأنت أوثقهم ، وإن كانوا واحداً ، فأنت هو .
بعد المنادى ، مثل :
يا سامرُ ، سِرْ على رصيف الشارِعِ .
يا سائِقَ السَّيّارَةِ ، لا تُسْرِعْ .
يا أبي ، عُدْ إلَينْا .
بين أنواع الشيء وأقسامه ، مثل :
المؤمنون ثلاثة : واحد مشغول بآخرته ، وآخر مشغول بدنياه ، وثالث جمع بين الدنيا والآخرة .
للقائل على السامع ثلاث : جمع البال ، والكتمان ، وبسط العذر .
الفاصلة المنقوطة (؛)
ويقف القارئ عندها وقفة أطول من وقفته على الفاصلة بقليل ، وتجيء هذه العلامة في الغالب بين جملتين تكون إحداهما سبباً في الأخرى ، أو بين الجمل الطويلة التي يتألف من مجموعها كلام مفيد ، وذلك ليتمكن القارئ من الاستراحة والتنفس بين هذه الجمل .
أمثلة :
فُصِل الموظف من عمله ؛ لأنَّهُ مُهملٌ.
كن ببعضك لي ؛ حتى أكون بكلي لك .
”إياك والعَجَلَة ، فإن العربَ تُكنّيها أُمَّ الندامة ؛ لأن صاحِبها يقولُ قبْلَ أن يَعْلَمَ ، ويُجيبُ قبل أن يَفْهمَ ، … " .
النُقْطَةُ ( . ) :
وتعبر عن وقف طويل ، وتوضع في نهاية الجملة التامة المعنى ، وتوضع في نهاية الفقرة أو المقطع وكما توضع في نهاية البحث أو الموضوع المكتوب .
الأمثلة :
تُكْتَبُ الهمزة في آخر الكلمة منفردة إذا جاءت بعد ساكن .
أعْطونَا السَّلامَ .
النُقطَتانِ ( : )
وهي علامة وقف متوسط ، تستعمل في التوضيح ، لتمييز ما بعدهما عما قبلهما .
تُوضع النقطتان الرأسيتان :
بَعْدَ فِعْلِ القَوْلِ ، مثل : قال حكيمٌ : الإتحاد قوة .
عند إعراب الجمل . مثل :
العملُ مقدسٌ
العملُ : مبتدأ مرفوع بالضمة .
مقدسٌ : خبر مرفوع بتنوين الضم .
بين الشيء وأقسامه ، مثل:
أصابع اليد خمس : الإبهام ، والسبابة ، والوسطى ، والبنصر ، والخنصر .
الكلمة ثلاثة أقسام : اسم ، وفعل ، وحرف .
عَلاَمةُ التّعَجُّبِ ( ! )
وتسمىَّ عَلاَمة التأثر وهي علامة وقف طويل ، تُستْعَمْلُ بَعْدَ تَعجُّبٍ ، أو فَرَحٍ ، أو خَوْفٍ ، أو استغاثة .
أمثلة :
ما أجمل البحر !
أهْلاً بِمدْرَستي ! .
واأسفاه !
ودهراً تولي يا بثين ، يعود !
ألا ليت أيام الصفاء جديد !
ويل للظالمِ !
عَلاَمةُ الاستفِهْامِ ( ؟ )
من علامات الوقف الطويل ، وتوضع في نهاية الجمل المستفهم بها عن شيء .
الأمثلة:
ماذا تُفضِّلُ ؟
كَمْ هو عُمْرُك ؟
هل فهمت الدرّس ؟
أينَ دفتركَ ؟
الوصلة ( _ )
وتوضع للفصل بين متلازمين ، مثل المبتدأ والخبر ، أو بين ركني الجملة إذا طالَ الركن الأول فيها ، أو بين العدد والمعدود إذا كانا في أول السطر ، وكذلك بين المتحاورين .
أمثلة :
ماذا تعمل في هذه الأيام ؟
اكتب خاطرة للصحافة.
وما أخبار عمرو ؟
– يقوم ببناء بيتٍ .
التبكير في النوم واليقظة يكسب :
أولاً – صحة البدن.
ثانياً – سلامة العقل.
إنَّ التاجر الصغير الذي يُراعي الصدق والأمانة مع جميع من يعامله من كل الطبقات – يصبح بعد سنوات قليلة تاجراً كبيراً .
علامة الاعتراض
1. الشرطتان ( _ _ )
2. القوسان ( )
وتوضع بينهما الجملة المعترضة ، أو الجملة التفسيرية ، كما توضع بينهما الألفاظ الأجنبية .
الأمثلة :
عُمان ( بضم العين ) قطر عربي .
ضَيَّعَ – هداه الله – عمره وثروته .
القاهرة ( حرسها اللّه ) أكبر مدينة في أفريقيا .
علامة التنصيص وصورتها " "
ويوضع بين قوسيها المزدوجين كل كلام مقتبس بنصه .
الأمثلة :
تحب الفتاة أباها ، وتعجب به ، وقديماً قالوا : " كل فتاة بأبيها معجبة "
علامة الحذف وصورتها ( … )
تُوْضعُ مكان الكلام المحذوف من النص.
القوسان المركنان وصورتهما [ ]
وتوضع بينهما زيادة قد يُدْخِلُها الكاتب على النص المقتبس أو يثبت بينهما عبارة من عنده يراها ساقطة من النص الذي يحققه ، أو يكتمل بوجودها هذا النص .
علامة المماثلة ( = )
توضع تحت الألفاظ المكررة ، بدل إعادة كتابتها
علم اللغة
لم يقف تأثير اختلاط العرب بالعجم إبان مرحلة الفتوح الإسلامية عند حد فساد ملكة اللسان العربي، الذي بدأ يلحن في إعراب الكلمات وعدم ضبطها الضبط الصحيح، بالفتح حين تكون مفتوحة، والكسر حين تكون كذلك… بل تعدى التأثير لذلك الاختلاط إلى فساد موضوعات الألفاظ، بمعنى أنك أصبحت مع مرور الزمن ترى من العرب من يستعمل الكلمة في غير معناها الموضوعة له في لغة العرب أصلا.
مواجهة فساد الإعراب وفساد الموضوعات:
وإذا كان المسلمون قد واجهوا فساد ملكة الإعراب باللسان بوضع قواعد علم النحو، وسعوا فيه سعياً حثيثاً، واجتهدوا فيه اجتهادا كبيراً، حتى تم لهم ذلك فيه… فإن علماء المسلمين لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام النوع الآخر من فساد موضوعات الألفاظ ـ الذي رأوا فيه خطراً داهماً يهدد كيان اللغة العربية لغة القرآن نفسها ـ بل اخترعوا علم اللغة، أو علم متن اللغة، أو مانسميه اليوم بالمعاجم اللغوية أو كتب قواميس اللغة.
تعريف علم اللغة:
ولقد عرف صديق بن حسن القنوّجي علم اللغة في كتابه ( أبجد العلوم) فقال: هو علم باحث عن مدلولات جواهرالمفردات وهيئاتها الجزئية التي وضعت تلك الجواهر معها لتلك المدلولات بالوضع الشخصي، وعما حصل من تركيب كل جوهر، وهيئاتها من حيث الوضع والدلالة على المعاني الجزئية.
هدف علم اللغة:
وغاية هذا العلم أولاً: الاحتراز عن الخطأ في فهم المعاني الوضعية، والوقوف على مايفهم من كلمات العرب، أي أن نعلم مامعنى كلمة الحكمة مثلاً، أو معنى كلمة اختَضَرَ الشجرَ، فإذا راجعنا كتاباً من كتب اللغة ـ كالقاموس المحيط مثلاً ـ وبحثنا عن كلمة الحكمة علمنا أنها تعني: معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، وعلمنا أن كلمة اختضر الشجر تعني: قطعه أخضرا.. وهكذا.
ولاشك أن هذا العلم قد حفظ كيان اللغة العربية وألفاظها ومعانيها، بحيث نستطيع رغم مرور الزمن الطويل بواسطة هذا العلم، أن نعلم المعنى الحقيقي للكلمات التي نطق بها العرب الأقحاح، الذين نزل القرآن بلغتهم الفصيحة الخالية من الألفاظ الأعجمية أوالتراكيب الفاسدة.
وإضافة إلى ذلك فإن هذا العلم ـ علم اللغة ـ يفيد في التفنن في الكلام وفضل طلاقة العبارة وجزالتها، ويحصر في قوالب ثابتة قياسية وسماعية جميع ماورد عن العرب من كلمات، مع ذكر الشواهد للغريب منها من شعر أو نثر أو آية أو حديث، كما يضع الضوابط والقواعد لاستحداث مانحتاج إليه من مصطلحات أو كلمات مولّدة.
الخليل بن أحمد وعلم اللغة:
وإذا كانت المصادر تجمع على أن سابق الحلبة في هذا العلم الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة 175هـ، فما ذلك إلا لأنه جمع فأوعى، وكتب فأحسن وأجاد، وإلا فإن غيره قد سطر فيه قليلاً وكتب فيه رسائل.
يقول الأستاذ السيد أحمد الهاشمي في كتابه (جواهر الأدب) عن علم اللغة: وأول ماوضع الأئمة فيه رسائل وكتباً صغيرة في موضوعات خاصة، فلما ظهر الخليل أحصى ألفاظ اللغة بطريقة حسابية في كتاب، ورتبه على حروف المعجم، مقدماً حروف الحلق، ومبتدئاً منها بالعين، ولذلك سميَّ معجمه كتاب ( العين).
ولنا أن نتساءل كيف بنى المسلمون هذا العلم ولموا به شمل اللغة وجمعوا متناثرها.
ويجيبنا على هذا التساؤل خير إجابة الإمام ابن خلدون في مقدمته… يقول عن الخليل وكتابه العين وأسلوبه في حق كلمات اللغة:
( فحصر فيه مركبات حروف المعجم كلها، من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، وهو غاية ماينتهي إليه التركيب في اللسان العربي، وتأتّى له حصر ذلك بوجوه عديدة حاصرة، وذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة وعشرين، وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد، لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة والعشرين فتكون سبعاً وعشرين كلمة ثنائية، ثم يؤخذ الثاني مع الستة والعشرين كذلك).
ويتابع ابن خلدون شرح طريقة تراكيب الكلمات عند الخليل حتى يقول بعد ذلك: ( فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه، ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف، واعتمد فيه ترتيب المخارج، فبدأ بحروف الحلق ثم مابعده من حروف الحنك، ثم الأضراس، ثم الشفة وجعل حروف العلة آخراً، وهي الحروف الهوائية، وبدأ من حروف الحلق بالعين لأنه الأقصى منها، فلذلك سمى كتابه (العين) لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا، وهو تسميتةُ بأول مايقع فيه من الكلمات والألفاظ، ثم بيّن المهمل منها من المستعمل، وكان المهمل في الرباعي والخماسي أكثر، لقلة استعمال العرب له لثقله، ولحق به الثنائي لقلة دورانه، وكان الاستعمال في الثلاثي أغلب، فكانت أوضاعه أكثر لدورانه.
ويقصد بالثلاثية طبعاً ماكان ثلاثة أحرف من الكلمات ككلمة نَصَرَ، والرباعية ماكان رباعياً كزلزل وهكذا.
طريقة علماء اللغة:
وتابع العلماء الجهود المباركة في تدوين علم اللغة على اختلاف طرائقهم وأساليبهم.
ويبين بعض تلك الطرق ومستندها صاحب كتاب (أبجد العلوم) فيقول: واعلم أن مقصد علم اللغة مبني على أسلوبين:
لأن منهم من يذهب من جانب اللفظ إلى المعنى بأن يسمع لفظا ويطلب معناه.
ومنهم من يذهب من جانب المعنى إلى اللفظ.
فلكل من الطريقين قد وضعوا كتباً ليصل كلٌ إلى مبتغاه، إذ لاينفعه ماوضع في الباب الآخر.
فمن وضع بالاعتبار الأول ـ أي أسلوب البحث عن معاني الكلمات بعد سماع ألفاظها ـ فطريقه ترتيب حروف التهجي، إما باعتبار أواخرها أبواباً وباعتبار أوائلها فصولا، تسهيلاً للظفر بالمقصود، كمـا اخـتاره الجوهري في الصحاح، ومجد الدين في القاموس، وإما بالعكس أي اعتبار أوائلها أبواباً وباعتبار أواخرها فصولا كما اختاره ابن فارس في (المجمل) والمطرزي في (المغرب).
ومن وضع بالاعتبار الثاني، فالطريق إليه أن يجمع الأجناس بحسب المعاني، ويجعل لكل جنس باباً، كما اختاره الزمخشري في قسم الأسماء من ( مقدمة الأدب).
ولاشك أن تلك الطرق قد توحدت هذه الأيام عملياً، بالطريقة الدارجة في قواميس اللغة، حيث إن من أراد العثور على معنى كلمة ما فما عليه إلا أن يعود إلى أصل الكلمة، ثم يبحث عنها في باب أول حرف لها، ثم ينزل إلى الحرف الثاني ليجدها في فصله، فكلمة (استنبات) يعود المرء بأصلها إلى (نبت) فيبحث عنها في حرف النون، ثم يتجاوز حرف النون مع الألف إلى حرف النون مع الباء الذي هو ثاني حرف من الكلمة.
مفردات الموضوعات:
علما أن هناك علماء آخرين أحدثوا طرقاً أخرى لعلم اللغة، حيث قسموه أقساماً وأجزاء، فكتبوا لكل باحث عن مفردة من مفردات اللغة كتباً مستقلة في موضوع من الموضوعات.
يقول صاحب (أبجد العلوم): ثم إن اختلاف الهمم قد أوجب إحداث طرق شتى: فمن واحد أداه رأيه إلى أن يفرد لغات القرآن، ومن آخر إلى أن يفرد غريب الحديث، وآخر إلى أن يفرد لغات الفقه كالمطرزي في المغرب، وأن يفرد اللغات الواردة في أشعار العرب وقصائدهم ومايجري مجراها( كنظام الغريب).. والمقصود هو الإرشاد عند مساس أنواع الحاجات.
كتب علم اللغة:
وقد كثرت كتب علم متن اللغة بعد كتاب العين، فهذا أبو بكر بن دريد يؤلف كتابه ( الجمهرة) على حروف المعجم بترتيبها المعروف الآن، كما ألف الجوهري كتابه ( الصحاح)، وابن سيده الأندلسي كتابه ( المحكم)، والصاحب بن عباد كتابه (المحيط)، وابن فارس كتاب ( المجمل).
ثم من بعد هؤلاء الأوائل جاء المتأخرون، أمثال ابن الأثير في (النهاية) وابن مكرّم في (لسان العرب) والفيومي في (المصباح) والفيروزآبادي في (القاموس) وغيرهم.
الجهود المتأخرة في علم اللغة:
وقبل أن نختم نشير إلى جهد جديد حري بالتنويه والذكر في علم اللغة، وهو جهود المجامع اللغوية المكونة من علماء متخصصين في اللغة العربية، والذين يكون من صلب عملهم وضع ضوابط علمية لكلمات المصطلحات الحديثة، التي تحتاجها اللغة العربية لتكون وافية بمطالب العلوم والفنون وتقدمها، ليتحدد ماينبغي استعماله أو تجنبه من الألفاظ والتراكيب..
وفي مقدمة (المعجم الوسيط) الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة شرح وافٍ وجهد بارز.