بسم الله الرحمان الرحيم
غادة السمان
تروي غادة السمان كيف تعرفت على أحلام مستغانمي في باريس عندما أجرت معها حوارا صحفيا ثم عرفتها على قريبها نزار قباني وناشرها سهيل إدريس، بنفس الصراحة وروح التمرد تفتح عاشقة ألبوم دفاتر ذاكرتها وتكشف أنها ستكتب عن الذين أحبتهم حقا في مذكراتها القادمة.
- غادة السمان أيضا رحالة تعشق التجوال وقد جالت بنصف مدن العالم لكن اختارت باريس كمنفى للاستقرار، ماذا قدمت لك باريس ولماذا باريس تحديدا؟
- باريس ليست منفى وليست وطني ولكنها تغلي حضارة وفيها أصوات كثيرة تحب الآخر وتدعمه. إنها بمعنى ما أحد أوطان القلب العاشق للحرية. بالمقابل، اعترف أنني لست أنا التي اخترت باريس كمساحة للعيش حين سقطت قنبلة في ساحة مدرسة إبني وكان صغيرا وقررنا مغادرة بيروت… لقد كان الخيار لمصلحة دراسة ابني وعمل زوجي ولكنني لم أندم لأنني أنحزت ديمقراطيا لمصلحة الأكثرية في البيت.
- أنت أيضا من جيل عايش زمن ازدهار خطاب القومية العربية، ماذا بقي اليوم من هذا الخطاب. واستنادا إليه كيف تنظر غادة السمان، كمبدعة، للصراع العربي الإسرائيلي وهل ترين من جدوى للتطبيع الثقافي؟
- ** أنتمي إلى جيل العزة العروبية سابقا وأيتام العروبة حاليا الجيل الذي انكسر قلبه في مطلع تفتحه لهزيمة حزيران 1967، وما كتبته يومئذ في مجموعتي القصصية »رحيل المرافئ القديمة« لايزال يمثل إيقاع قلبي… والأسف الشديد بعدما كنت أكتب عن حقوق الشعب الفلسطيني صار حلمي التطبيع العربي بين قطر وآخر قبل الحديث عن أي تطبيع غير ذلك. هذا ناهيك عن تطبيع العلاقات الثقافية بين المرء وذاته… فثمة زلزال بين القلب والخطاب السياسي ولعلّ مأساتنا كعرب هي فيما بيننا ومع صوتنا الداخلي، قبل أن تكون مع العالم الخارجي… نمر بفترة زلزالية في القيم ولا مفر لنا من الصلح مع الذات والتراث والعصر قبل الإقدام على خطوة أخرى خاطئة مع العالم الخارجي. بقي من الخطاب الأمل بمستقبل أفضل له، بعد مراجعة ذاتية لأخطائنا التاريخية وتجنبها في ممارستنا الآتية؛ بقي التفاؤل بأن إصلاح الأمور مازال ممكنا و»الحياة بدأت للتو« كما في عنوان قصة من قصصي في كتابي »زمن الحب الآخر«.
- يقال أن نساء اليوم أقل تحررا من نساء الأمس برغم سقف الحقوق التي حصلت عليها المرأة اليوم، ما رأيك كواحدة من اللواتي مارسن الحرية عن قناعة ووعي؟
- لا نستطيع التعميم، لكننا للأسف نستطيع القول، بلا تحامل، إن الحركة العربية النسائية التحررية الواعية لم تتابع مسيرتها على الوتيرة التصاعدية ذاتها التي كانتها قبل عقود وثمة مويجات ردة، وهبوط في سقف المطالبة بالحد الأدنى من الحقوق الإنسانية، وخلخلة في قناعات بعض النساء وبمشروعية مطالبهن تمارس بنشاط عليهم تحت قناع المقدس لأسف ويمارسنها على بعضهن بعضا أيضا. وهذا ليس بجدي على مجتمعنا العربي، فقد سبق أن عايشت في الستينيات رفض بعض نساء سوريا لمنحهن حق الانتخاب، وكتبت يومها على ذلك مقالتي »فلنصلّ من أجل الجارية التي تجلد« فالمأساة الحقيقية هي تحالف الضحية مع جلاّدها. مع كل زلزال ثمة موجات ارتدادية لكن مسيرة المرأة نحو انتزاع حقوقها العادلة لازالت تمضي و»لو بتمهل آني«، وتمضي بمساعدة الرجل العربي الواعي ـ رفيق الدرب ـ لانتزاع المزيد من الحريات الإنسانية لهما معا.
- برزت في السنوات الأخيرة ما يعرف بظاهرة الرواية النسوية في السعودية، كيف تنظر غادة كمبدعة لهذه التجارب؟
- بكثير من التعاطف ولكن بمقياس فني أيضا يميز بين كاتبة وأخرى. التعاطف لأنني أعرف مدى معاناة المرأة في مجتمعها كي تصير ببساطة »أو تطمع إلى أن تصير كاتبة«. لكن الرواية ليست منشورا دعائيا فجّا، بل عليها أولا أن تكون عملا فنيا أي أنني أنظر إليها أيضا بكثير من الشك في التسميات فأنا أرفض تصنيف الأدب انطلاقا من ال*** البيولوجي للكاتب وأطالع تجارب السعوديين والسعوديات بعين تبحث عن الفن لا عن الخطاب الاجتماعي، بالنسبة لي فنية الرواية هي المقياس.
- على ذكر التجارب ما هي نظرتك للتجارب الجزائرية وخاصة النسوية منها؟
- لا أميّز شخصيا بين إبداع المرأة أو إبداع الرجل، فالإبداع عطاء إنساني، بالمقابل أتمنى أن أعرف المزيد عن التجارب الجزائرية، كي يحق لي إطلاق الأحكام. ثمة كاتبات جزائريات مبدعات تكرّمن بإهدائي أعمالهن وفرحت واحتفيت بها وكتبت عنها، ولكنني بالتأكيد مقصرة عن الاطلاع على أعمال أخرى كان عليّ السعي للحصول عليها في منبري الأسبوعي في مجلة الحوادث احتفي دائما بتلك الأقلام الجزائرية المبدعة.
- كتبت إحدى الصحف العربية نقلا عن أحلام مستغانمي قبل سنتين، أنها قالت ما يلي »غادة السمان امرأة بلا قضية واضحة ومحددة«. ما تعليقك؟
- هذا رأيها وهي حرّة فيه ولعلي قصرت في إهدائها كتبي مثل »الرغيف ينبض كالقلب« وهو في معظمه مكرس لجرح الفقراء و»الجسد حقيبة سفر« ومعظمه مكرس لجرح فلسطين كما »رحيل المرافئ القديمة وصفارة إنذار داخل رأسي« بكل القلق العروبي وسواها لا يحصى من كتبي الأربعين، كما قصرت في إهدائها كتاب »قضايا عربية في أدب غادة« تأليف ابنة القدس حنان عواد الصادر بالانجليزية وله ترجمة عربية، وكتاب »التمرد والالتزام في أدب غادة« وهو بالإيطالية وله ترجمة عربية، وكتاب الدكتورة إلهام غالي شكري »غادة الحب والحرب«. بالفرنسية ـ أطروحتها للسوربون ـ وكتاب »قضية المرأة بين سيمون دو بفوار وغادة«. وهو أيضا بالفرنسية ـ أطروحتها للسوربون ـ لها ترجمات عربية. وهذا الشهر يصدر عن منشورات »لامارتان« الباريسية كتاب الناقد اللبناني وفيق غريزي عني وقد ترجمته للفرنسية الدكتورة كنزة باربو الأستاذة الجامعية في فرنسا.
- من طرفي سررت بلقاء صحافية جزائرية هي أحلام حين اتصل بي صديق قائلا، إنها تريد حوارا صحفيا معي، وقد نشرت فيما بعد ذلك الحوار في كتابي، »القبيلة تستجوب القتيلة ـ ص208«، ورحبت بها وكان ذلك منذ ألف عام وبالأحرى عام 1975 أي منذ 34 سنة وجاءت أحلام مستغانمي تزوروني في »قصر الداعوق« حيث كنت أقيم مع زوجي؟؟؟؟؟؟؟؟ ألا منسي؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ والارستقراطي البروليتاري العروبي الراحل بشير الداعوق. وكنت سعيدة بلقائها كأخت كاتبة جزائرية، وحين حدثتني عن رغبتها في النشر في بيروت وكانت قد أصدرت كتابا في الجزائر كما ذكرت لي رحبت بها، واتصلت فورا في حضورها بناشري المرحوم الدكتور سهيل إدريس وضربت لها موعدا معه، كما اتصلت بقريبي الشاعر نزار قباني وحدثته عنها فتعارفا بعدها وهذا بشهادتها في إحدى أحاديثها الصحافية، ولن أنسى أنها كانت تحفظ عن ظهر قلب مقاطع من قصيدتي »عصفور على الشجرة خير من عشرة في اليد« من كتابي »أعلنت عليك الحب« وأسعدني ذلك »لدي ذاكرة فيل«، ثم أن لحظات الود الصادقة عندي ليست رمادا انفخه ليتلاشى وأقلب الصفحة لأبدأ من أول السطر أنني أحفظ المودات…
- قلت يوما إنك لم تتمردي بما فيه الكفاية، ما هي حدود التمرد عند غادة الإنسانة والمبدعة؟
- لا حدود للتمرد وإلا لتوقفت الإنسانية عند مرحلة ما… لا مفر من الركض بالشعلة قدر الإمكان ثم تسليمها إلى آخر ليركض بها… والمهم أن تكون الشعلة مكرسة للضوء، لا لإحراق الآخر… ليس ثمة ما يدعى «نهاية التاريخ» كل يوم واليوم الأول من بقية أيام عمر العطاء الإنساني…
- ما هو النص الذي تحلمين به ولم تكتبيه بعد؟
- إنه النص الذي أعمل عليه. وبعد إنجازه أعرف أنه لن يرضيني وسأتابع محاولة كتابة نص جديد وآخر وآخر وسأحتضر وأنا أهذي بنص جديد لم أكتبه بعد، وستلتفّ حولي مخلوقات استثنائية هي أبطال قصصي وأنا أموت لتهدئة روعي وتطميني إلى أنني كتبت الكثير ولم أهدر الكثير من وقتي في الاستمتاع بوقتي.
- من أين تستمد غادة كل هذه الطاقة على التمرد والإبداع المستمر؟
- أنا مواطنة عربية لا تعاني من الإحساس بالنقص ولا التفوق نحو الحضارات الأخرى واستمد قوتي من جذوري وحاضري العنيد رغم الضربات كلها والمستقبل العربي الذي أتمناه. لعلي سمكة تسبح منذ عقود صعودا ونزولا في شلال التيار متمردة ولعلي نملة تظل تحاول الركض بحبة القمح في فمها، أو بومة أحرقت أجنحتها مرات عديدة ولم تهجر طيران الفضول الليلي، ولعلي فراشة لا أكثر، عرفت نشوة الطيران منذ اليوم الذي ثقبت فيه شرنقتها وأعلنت حبّها للحرية وهي تطير وتطير.
- بعد كل هذا المسار، ما هو الشيء الذي ندمت عليه غادة والشيء الذي تفتخرين به؟
- أندم على الكثير من الذنوب التي لم اقترفها. أندم أولا على أخطائي والمأساة الحقيقية هي أنه لو عاد الزمان إلى الوراء لاقترفت أخطائي كلها ولكن الخطأ الأكبر هو ما لم نقترفه من أخطاء أفتخر بأن كل ما مررت به من قسوة وعداء مجاني نحوي وأذى حاسد دونما مبرر، ذلك كله لم يسلب مني القدرة على حب الآخر وأرفض قول ذلك الأديب الذي أعلن أن معرفته بالناس زادته حبّا بكلبه فأنا الكاتبة التي لدغت من جحر مرتين وأكثر فظلت تعذر الأفاعي.
- الذي يقرأ روايتك «كوابيس بيروت» لن يشك أبدا أن تلك الكوابيس كانت حقيقة فعلا، أين ينتهي الواقع وأين يبدأ الخيال في أدب غادة السمان؟
- في الرواية كل شيء حقيقي وكل شيء وهمي والحدود بين الحقيقة والوهم تتلاشى، حتى في ذاكرة الكاتب، وتصير خيطا لامرئيا شفافا تهزه رياح شهوة الإبداع الفني.
- هل بوسعك رسم خط واضح فاصل بين موجة وأخرى في البحر؟
- في الرواية، موجة الحقيقة وموجة الخيال وهمٌ متبدل متأرجح متداخل والمؤلف نفسه ينسى غالبا ما الذي حدث حقا، وما الذي كان خياليا. وأحيانا يتبنى الخيال كحقيقة أكثر مما حدث له حقا، ويضيع بينهما وتسود الحقيقة الافتراضية و»الحبيب الافتراضي« كما في عنوان أحد كتبي.
- يقال إن رائعتك »ليل المليار« كتبتها لشخص معيّن أحبّته غادة بجنون من هو ذلك الشخص؟
- هذا صحيح، فقد كتبتها لحبي الأوحد الكبير ويدعى القارئ.
- على ذكر الحب، قرأت من سنتين حديثا للصحافي المعروف ناصر الدين النشاشبي يقول إن غادة السمان أحبّته بجنون لكن كان حبّا من طرف واحد. هل حدث هذا فعلا؟
- وأنا أيضا سمعت ذلك وجوابي لا تعليق.
- بالمناسبة لقد قرأت منذ شهرين مقالة تتحدث عن حياتي الشخصية جاء فيها ذكر العديد من أحبابي الافتراضيين انطلاقا من قيل عن قال، والكثير من أقوال البعض الذين يخلطون بين أمانيهم والحقائق.
- وإذا كان ثمة من يحبّ أن يعرف شيئا حقا عن براري قلبي سيجد بعض تلك الحقائق في مذكراتي التي حان وقت كتابتها. ولا أكتمك أن أملي خاب في الشائعات عني.
- وأكرر أنني أستحق شائعات أفضل من هذه شائعات تتضمن حدا أدنى من الحقيقة ومن الأسماء التي أشعلت قلبي وحرفي ذات يوم… ومازالت مجهولة ولم يقل أصحابها كلمة واحدة عنها.
- وفي نفس السياق تساءل الصحافي لماذا لم تقدم غادة على نشر رسائلها إليه كما نشرت رسائل غسان كنفاني إليها دون رسائلها إليه وهذا ما اعتبره البعض أنانية منك، كيف تنظرين إلى هذه المسألة؟
- لم أنشر رسائلي إلى غسان لأنه ليس بوسع أحد نشر ما ليس بحوزته قبل أن أقوم بإصدار رسائل غسان لي أعلنت أنني أنوي ذلك وكان ذلك في مجلة الحوادث في أسبوعين متتابعين بتاريخ 21/4/1989 و28/4/1989 حيث ذكرت أنني سأنشر الرسائل ووجهت النداء إلى من بحوزتها أو بحوزته رسائلي إلى غسان لتزويدي بها أو بنسخة عنها لنشرها معا »رسائله ورسائلي«، كما تعاهدنا ذات يوم. ومرة ثانية وجهت النداء في حوار صحفي بتاريخ 9/1/1990 مع الأستاذ نديم نحاس، أي قبل نشري لرسائل غسان بعامين، لم يجب أحد ولم يعترض أحدا، فقط حين صدرت الرسائل »قامت القيامة« وهذه الحكاية تدل على نجاح حرب الشائعات في بلادنا حيث يحتل الكذب العدواني مساحة الحقيقة التي يسهل إثباتها شرط أن يكلف أحد نفسه عناء قراءة ما هو مكتوب بالأسود فوق الأبيض، وتكفي مراجعة كتابي »محاكمة الحب« لتتضح الصورة.
- ولنقس على ذلك بقية الأساطير عن رسائل منى لهذا وذاك وبعضهم أعرفه معرفة سطحية عابرة لكنه يدعى وصلا بليلى.
- ولا أكتمك أن بعض ما قيل من حياتي الشخصية يحرضني على التفرغ لكتابة مذكراتي حتى قبل إنجازي لروايتي »أيام الحب والياسمين«.
- عندما تعودين إلى أيام أسبوعية الحوادث اللبنانية ومشوارك الصحفي، كيف تذكرين بيروت والجو الصحفي والكبار الذين وقفت إلى جانبهم؟.
- وقفوا إلى جانبي ووقفت إلى جانبهم، لكن أولئك الكبار ليسوا تلويحه وداع، فالكبار يحطون بنا دائما. وطننا العربي ليس عاجزا فالكبار في كل زمن. وفي مسيرتي الطويلة التقيت دوما بمبدعين من الجيل الماضي وأيضا من الحاضر والمستقبل والكبار ينبتون كل يوم في أرضنا العربية في الحقول كلها. لدي هلع من الذين يتوهمون أن زمن صباهم كان أفضل وزاخرا بالكبار. الأزمنة العربية كلها زاخرة بالكبار والصغار أيضا. وثقتي بالحاضر والمستقبل أكبر من ثقتي بالماضي وليس ثمة ما يسعدني كالحرف الجديد المبدع والعطاء المتوهج الشاب في أي حقل كان.