صاحب الفضيلة: جاء في مقدمة صحيح مسلم أثرًا عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-، قال: (إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-ابتدرته أبصارنا. وأصغينا إليه بآذاننا. فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف)، هل هذا الكلام من حَبر الأمة-رضي الله عنه-ينطبق على وُعَّاظ هذا الزمان، مثل مواعظ أبي اسحق الحويني التي ابتلي بها الشباب عندنا في الجزائر؟.
الحمد لله، هذا الحديث حديث ابن عباس أو أثر ابن عباس-رضي الله عنهما-في قصته مع نوف البكاري، وذلك حينما حدثه وكان يتشاغل-رضي الله عنه-عن حديثه، فقال له: (عجبًا يا ابن عباس أحدثك عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ولا تسمع لي؟)، أو كلمة نحوها، فقال له عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-هذا الأثر.
وذلك أن الناس إذا نزلت بهم الفتن، وحَلَّتْ النوازل واختلطت فيها الأمور، فإن الأخذ والسماع إنما يكون عن الموثوقين في العلم والدين، لأنه يقتدى بفعالهم ويؤخذ بأقوالهم.
وهذا بابٌ معروف عند أئمة الدين، (باب تجنب الرواية عن أهل الأهواء والبدع وتحمل العلم عنهم) معروف، فإنه قد تكاثر حتى تواتر عنهم قولهم: (إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم).
ولقد ذكر طرفًا من هذا الإمام مسلم في مقدمة صحيحه التي نقلت منها هذا الخبر، ولا شك أنه في زمن انتشار البدع والأهواء، وتشعب الآراء، واختلاف الطرق في المسلمين، فإن المرء يجب عليه ألَّا يأخذ إلا عن أهل السنة والجماعة، المعروفين بذلك، المشهود لهم بذلك، المقتفين لآثار رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، الصادقين في قولهم وفعالهم، لأنهم مأمونون وهم أمناء على حمل الشريعة، وهم أهل الحديث والخبر، ونَقَلَة الآثار عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، هم المأمونون في هذا، لأنهم يخافون الله-سبحانه وتعالى-ويتقونه، وبهم حفظ الله الْمِلَّة والشريعة، وأقام الصراط لهذه الأمة كما تركها عليه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-.
فأين أمثال الحسن وابن سيرين، أيوب السختياني، والْحَمَّادَيْن، والْسُفْيانَيْن، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، واسحق بن راهويه، والإمام أبا داوود، وغيرهم من بقية أصحاب الكتب الستة، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وابن أبي حاتم ووالده أبو حاتم، وأبو زرعة الدمشقي، وغيرهم كثير حَدِّثْ عنهم ولا حرج، وأيضًا في المشرق، من أمثال الإمام الذي جمع الله فيه جميع خصال الخير-عبد الله بن المبارك-، رضي الله عنهم جميعًا وأرضاهم.
فإن أمثال هؤلاء كانوا في أزمانهم القدوة وبهم الأسوة، وبهم عصم الله-سبحانه وتعالى-الأمم، كُلٌ منها في منطقتها، أو في جهتها، أو في قطرها وعصرها من الفتن، ومن الأهواء التي ظهرت في أعصارهم وأمصارهم، حتى أسلم الله-سبحانه وتعالى-الدين غلى من جاء بعدهم، وسَلَّمَه أيضًا من عبث العابثين ولعب اللاعبين.
وهذا هو الوعد الذي قطعه الله-سبحانه وتعالى-على نفسه في قوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(الحجر:9).
والذِكْر ذِكْرَان:
ذِكْرٌ مَتْلو: وهو كتاب الله العظيم، وكلامه الْمُنَزَّل-القرآن الكريم-.
ذِكْرٌ غير مَتْلو: وهو بيان هذا الكتاب الْمُنَزَّل، وهو السنة النبوية المطهرة، فهي وحيٌ من الله كالقرآن، شاهده في سورة النجم (فاحفظه ولا تهن)كما ذلك شيخ شيوخنا الشيخ حافظ-رحمه الله تعالى-في ميميته في وصاياه لطالب العلم في الآداب التي يجب أن يتحلى بها، في قوله: (وحيٌ من الله كالقرآن، شاهده في سورة النجم فاحفظه ولا تهن)يعني قول الله-سبحانه وتعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6))النجم، فهذه السنة وحيٌ يوحى، فهي وحيٌ من الله كالقرآن.
وقولنا كالقرآن هذا قول النبي-صلى الله عليه وسلم-: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) يعني: السنة النبوية.
فحفظ الله القرآن بحفظه له-سبحانه وتعالى-، وحفظ الله-سبحانه وتعالى-السنة النبوية المطهرة، بتهيئة هؤلاء الجهابذة الأعلام، فحفظوها حتى بلغوها إلينا.
وإذا كان هذا حال الأسلاف-رضي الله عنهم-، (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم)في زمن الفتنة التي حصلت في زمن الخوارج، حدوث الفتنة في عهد عثمان، ثم خروج الخوارج، وتشيع الشيعة، إذا كان هذا قولهم مع قربهم من عهد النبي-صلى الله عليه وسلم-وتواكل كثير من الصحابة.
فما بالنا نحن في هذه الأعصار المتأخرة، وما عسى أن نقول نحن، إننا يجب علينا مرات ومرات أن نقول بمقالهم هذا وهو أن نحترز لأنفسنا، فلا نأخذ هذا العلم إلا عمن عرفنا صدقه، وأمانته، وديانته، واستقامته، وإخلاصه، وإتباعه لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-بحقٍ وصدقٍ وعدل، لا بالدعاوى والجعجعة التي لا دليل ولا برهان عليها.
قام بتفريغه: أبو عبيدة منجد بن فضل الحداد