.-~•*’¨ تاريخ القدس منذ الفتح العربي ¨’*•~-.¸
الحلقة الأولى
بيت المقدس عين القلب من العالم الإسلامي جغرافياً ودينياً
الدعاية الصهيونية في العالم تزعم علاقة خاصة لليهود بالمدينة
دخلها العرب في الألف الرابعة قبل الميلاد وفتحها الخليفة عمر سلما فأسلمت وتعربت
قدس برس (الدكتور/ أحمد صدقي الدجاني)
هذا حديث عن الفتح العربي لمدينة القدس , وهو يأتي في وقت تشتد فيه الحملة الصهيونية الاستعمارية على القدس , لاستكمال اغتصابها وتهويدها ، وفي وقت تستكمل انتفاضة الأقصى فيه عاماً كاملاً , دفاعاً عن القدس , وسعياً لتحريرها وتحرير فلسطين .
وقد تضمنت تلك الحملة الشريرة محاولة الصهيونية تزييف تاريخ القدس , بتقديم قراءة صهيونية له , تتحدث عن ارتباط القدس باليهود دون غيرهم ، وتطرح عدداً من المقولات الصهيونية بشأنه . وقد فصلنا الحديث عن هذه الحملة في بحوثنا وفندناها . وصادفنا ونحن نكتب هذا الحديث كتاب "لمن القدس Whose Jerusalem" لتيرنس بريتي "Terrence Prittie", وبتقديم تيدي كوليك ، مثلاً آخر على الدعاية الصهيونية , التي تتحدث عن "العاصمة الأبدية", وتحاول أن تنفي عروبة القدس .
وكان الغرب قد شهد منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي حركة تأليف تاريخي صهيونية استعمارية , موّلها صندوق استكشاف فلسطين ، قدمت صورة مشوهة لتاريخ فلسطين . كما تضمنت الحملة الصهيونية الاستعمارية على القدس محاولة اغتصاب الحرم القدسي خاصة , التي تولى كبرها في مفاوضات الوضع النهائي (رئيس الوزراء الصهيوني السابق) إيهود باراك و(الرئيس الأمريكي السابق) بيل كلينتون صيف 2000 ، ثم تابعها آرائيل شارون وجورج بوش في هذا العام . وهاهي الأحداث تتصاعد في القدس وفلسطين ، ثم في أمريكا والعالم بعد يوم الثلاثاء 11 أيلول (سبتمبر) 2001 , الذي شهد زلزلة الهجوم على نيويورك وواشنطن , التي استهدفت رمزي السلاح والمال فيهما "البنتاجون ومركز التجارة الدولي" .
ما نود التأكيد عليه فيما يتصل ببعد المكان , الموقع المتميز من أرض فلسطين , الذي قامت عليه مدينة القدس , الذي جعل منها "صرة الوطن المقدس, وملتقى أقطاره" , على حد قول إسحاق موسى الحسيني في كتابه عروبة بيت المقدس .
ولهذا الموقع أهمية استراتيجية بالغة بالنسبة لجميع "الحواضر" في منطقتنا عواصم الأقطار . وقد شاء الله أن يجعل أهل القدس وفلسطين , من خلال هذا الموقع , في رباط إلى يوم القيامة . وبيت المقدس في منظور الجغرافيا السياسية هو أيضاً "عين القلب من العالم الإسلامي جغرافياً ودينياً" , على حد تعبير عالم الجغرافيا السياسية جمال حمدان في كتابه "العالم الإسلامي اليوم" . فالصلة وثيقة بين القدس ودائرتها الحضارية . والخطر الذي يتهددها يتهدد هذه الدائرة بعالميها العربي والإسلامي .
نشير أيضاً إلى أن هذا الموقع جعل فلسطين حلقة اتصال بين القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا ، ومركزاً لتفاعل الثقافات . وقد اتصف الوضع الجغرافي لفلسطين وبلاد الشام عامة , بتجاور السهل مع الجبل , والصحراء والغور , وتتالى الفصول الأربعة . واحتوت فلسطين على نمطي البداوة والحضارة ، مما جعلها مسرح تفاعل متواصل بين النمطين , فيه التعاون غالباً والتدافع أحياناً .
كما جاورت فلسطين منذ فجر الحضارة أقدم مركزين حضاريين عرفهما الإنسان في بلاد الرافدين شرقاً , وفي وادي النيل إلى الجنوب الغربي ، وتعرضت في الوقت نفسه لتأثيرات من جهة البحر المتوسط , حيث كريت واليونان وإيطاليا ، ومن جهة البر حيث فارس والهند شرقاً . وكانت بفعل ذلك جزءاً من طريق دولي قديم . وقد كانت القدس قبلة ومحجاً للمؤمنين منذ تأسست على هضبة ممتدة مرتفعة عن سطح البحر , بحوالي 750 متراً , وعلى بعد 50 كم منه , في مرتفع الضهور , على مقربة من عين الماء جيحون .
بقى أن نقول إننا في تناولنا لتاريخ القدس منذ الفتح العربي , وإلقاء أضواء عليه ، سوف نبدأ بتقديم حدث الفتح العظيم , ونوليه حقه من التفصيل ، ثم نعرض بإيجاز لتاريخ القدس في المراحل التالية من الحكم العربي الإسلامي فيها , ضمن دولة الخلافة , حتى وقوع الغزو الفرنجي ، ثم نقف أمام هذا الغزو وما حدث للقدس أثناءه ، لنتابع عرض المراحل التالية من تاريخها العربي الإسلامي، وصولاً إلى الوقوف أمام الصهيونية الاستعمارية لها منذ القرن التاسع الميلادي ، الثالث عشر الهجري .
بانطلاقة العرب المسلمين بدعوة الإسلام في القرن السابع الميلادي , الأول الهجري في عصر الفتوحات الإسلامية ، دخلت القدس وما حولها مرحلة جديدة من تاريخها الممتد . كان ذلك في عهد دولة الخلافة الإسلامية , التي قامت في المدينة المنورة , إثر هجرة محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها . وقد دخلت فلسطين ، كجزء من بلاد الشام ، هذه الدولة , بعد معركة اليرموك الفاصلة سنة 13 هـ ، 633م . وصولح على إيلياء (القدس) سنة 15 هـ ، 635 م في عهد الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وبقيت فلسطين والقدس تحت ظل الخلافة الإسلامية حتى آخر عام 1917, بغض النظر عن مركز الخلافة , أو أن يكون الخليفة أموياً أو عباسياً أو عثمانياً .
وتعرضت في عام 1099م للغزو الفرنجي لمنطقتنا , الذي تم القضاء عليه عام 1187م ، على مدى حوالي قرنين (493هـ – 583هـ) ، ثم في القرن العشرين الميلادي , حين تعرضت للغزو والاستعمار الصهيوني , في القرن الرابع عشر الهجري , ولا تزال ترزح تحت وطأته .
كان ذلك الفتح عربياً إسلامياً . وقد سبقه بقرون الوجود العربي في فلسطين والقدس , منذ أن اعتُمرت فلسطين بالكنعانيين العرب , الذين قدموا من الجزيرة العربية في الألف الرابعة قبل الميلاد , وتلاهم العموريون والأراميون في هجرات متتابعة , ومنذ أن أسست قبيلة يبوس العربية الكنعانية مدينة القدس , حوالي سنة 3000 ق.م. كما يقول عارف العارف في كتابه "المفصل في تاريخ القدس" .
وقد نهج عدد من المؤرخين الثقاة العرب والأجانب في الربط بين الهلال الخصيب وشبه جزيرة العرب , التي كانت مركز طرد سكاني . وهذا ما دعاهم إلى أن ينبهوا إلى "أن الفتح العربي الإسلامي سبقه فتح عربي من قديم العصور والأزمان" .
كان عرب الجزيرة العربية , الذين قاموا بهذا الفتح يعرفون جيداً "أدنى الأرض" , أي أقربها إلى الحجاز ، وهي فلسطين في جنوب سوريا . وكانوا قد تابعوا الحرب , التي جرت هناك بين الفرس والروم , في مطلع البعثة المحمدية , وأشار إليها مطلع سورة "الروم" في القرآن الكريم . وتعوَّد تجَّارهم القيام برحلة الصيف إلى بلاد الشام شمالاً . وكانت محطتها الكبرى في البتراء عاصمة الأنباط . ومنها كانت القوافل تتجه إلى دمشق وإلى غزة , التي توفي فيها هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويذكر عبد اللطيف الطيباوي في كتابه "القدس الشريف في تاريخ العرب والإسلام" أن عمرو بن العاص ، أحد تجار مكة ، عرف جنوب فلسطين حتى بيت المقدس , قبل أن يعرفها قائداً للجيش الإسلامي الذي حاصر تلك المدينة . وقد فصّل نبيه عاقل الحديث عن الوجود القبلي العربي في بلاد الشام قبل الإسلام ، والصلات التي قامت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم ، وذلك في بحثه القيم في الموسوعة الفلسطينية "فلسطين من الفتح العربي الإسلامي إلى أواسط القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي" . وتذكر كتب تاريخ العرب اسم فلسطين , الذي اتخذه الرومان للقسم الجنوبي من سوريا , واسم "إيلياء" عند الكلام عن الروم , أو بيت المقدس عند الكلام عن المسلمين .
قبيل هذا الفتح رفع الله شأن بيت المقدس حين أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . و أنزل عليه في ليلة الإسراء ، كما ورد في تفسير الطبري ، آية من سورة الزخرف هي الوحيدة , التي لم تنزل في مكة أو المدينة . وهي "واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون" , وذلك بعد أن لقيهم وصلّى بهم إماماً قرب الصخرة المشرفة . وسمي محمد صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى واحداً من المساجد الثلاثة , التي يشد إليها الرحال ، مع المسجد الحرام ومسجده .
وقد روي عنه أنه بشَّر الصحابي معاذ بن جبل بفتح بلاد الشام وبيت المقدس ، ووصف الذين يقيمون فيها من الرجال والنساء بأنهم "مرابطون إلى يوم القيامة . فمن احتل ساحلاً من سواحل الشام وبيت المقدس ، فهو في جهاد إلى يوم القيامة" . كما بشَّر شداد بن أوس بهذا الفتح أيضا ، وقال له "وتكون أنت وولدك أئمة بها إن شاء الله" , كما يورد عارف العارف في كتابه , نقلاً عن "مثير الغرام بفضائل القدس والشام لابن سرور" . وتروي السيرة النبوية العطرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مهَّد لفتح الشام والقدس بقيامه بثلاث من الغزوات على الروم , في معركة مؤتة 629م – 8هـ , ومعركة تبوك ، ثم جهَّز في السنة الحادية عشر للهجرة 632م جيشاً أمَّر عليه أسامة بن زيد ، ولكن المنية وافته قبل أن يتحرك الجيش .
بات فتح بيت المقدس من أهم أهداف الدولة الإسلامية . وجاء في المرحلة الثالثة من مراحل فتحها بلاد الشام . فقد أكمل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وصية النبي صلى الله عليه وسلم , وأرسل الجيش بقيادة أسامة وزوده بالنصيحة "لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكله. وسوف تمرون بأقوام فرّغوا أنفسهم في الصوامع , فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له" . ثم استنفر أبو بكر العرب ، وجهّز أربعة جيوش لفتح بلاد الشام , خصص واحداً منها لفلسطين بقيادة عمرو بن العاص .
ونجح عمرو بن العاص في فتح معظم أرض فلسطين , غزة وسبسطية ونابلس ، ثم اللد ويُبنى وعمواس وبيت جبرين و يافا و رفح ، ثم حاصر القدس . وحين تولى عمر بن الخطاب الخلافة بعد وفاة الصديق عام 13 هـ , أوعز إلى أبي عبيدة بن الجراح , بعد أن فتح قنسرين في شمال سورية ، أن يزحف إلى القدس ، وسيّر إلى الشام سبع فرق , بخمسة وثلاثين ألفاً من الجند , وسبعة قواد هم خالد بن الوليد و يزيد بن أبي سفيان و شرحبيل بن حسنة و المرقال بن هاشم و قيس بن المرادي و عروة بن مهلهل بن يزيد الخليل .
تضمن كتاب الفتوحات تفاصيل كثيرة عن فتح القدس والشام ، لا يتسع مجال هذا الحديث لذكرها . ونكتفي هنا بالإشارة , بشأن فتح القدس , إلى أن أبا عبيدة حين وصل إلى الأردن , بعث الرسل إلى أهل إيلياء برسالة الفاتح المسلم المتضمنة الدعوة إلى الإسلام وأخوَّته , "فإن شهدتم بذلك حرمت علينا دماؤكم وأموالكم وذراريكم ، وكنتم لنا أخواناً" ، أو الإقرار بأداء الجزية ، أو القتال . وقد وقع القتال من قبل جيش الروم المرابط في المدينة . ونشبت معركة دامية حتى اليوم العاشر . "وفي اليوم الحادي عشر أشرقت راية أبي عبيدة ، وفي رفقته عبد الرحمن بن أبي بكر ، ونفر من الأبطال المجاهدين , فاستقبله المسلمون بالتهليل والتكبير , فدب الرعب في قلوب الروم . ودام الحصار أربعة شهور .. فرأوا التسليم , وخرجوا إلى أبي عبيدة مستأمنين , يتقدمهم البطريرك صفرنيوس , حاملاً على صدره الصليب ، وعلى جانبيه القسس والرهبان , كل منهم يحمل إنجيلاً ، فطلبوا الصلح … فتلقاهم أبو عبيدة بالترحيب . واشترطوا أن لا يسلموا المدينة إلا لشخص الخليفة فوافقهم .. فسارت هدنة استمرت إلى أن جاء عمر بن الخطاب ، كما أورد عارف العارف , وهو يشير إلى كتاب "تاريخ القدس الشريف" لركيس . ويورد العارف أيضاً كتاب ابن عبيدة إلى الخليفة ، ومشاورة عمر الصحابة ، وأخذه برأي علي بن أبي طالب بالسفر ، ونزوله بالجابية من قرى حوران بالجولان , واستقباله فيها وفداً من أهل إيلياء , على رأسهم "العوام" ، وتوجهه من ثم إلى بيت المقدس ليتسلمها "صلحاً" .
يصف ميخائيل مكسي في كتابه "القدس عبر التاريخ" كيف وصل الخليفة "ممتطياً جملاً صغيراً ، ولم يكن معه سوى عبده وسلاحه ، واستقر على جبل الزيتون , ثم رحل إلى القدس ، ففتحت له المدينة أبوابها سنة 638 م ، دون أن يتم تدمير أي شيء فيها ، وتسلم مفاتيحها من البطريرك صفرنيوس في حفل كبير ، ثم زار كنيسة القيامة .
وتجمع كل المصادر التاريخية الإسلامية والمسيحية على أنه لما حان موعد الصلاة طلب منه البطريرك أن يؤديها حيث كان , فاعتذر عمر حفاظاً على المقدسات المسيحية , كي لا تكون صلاته هناك سنة لمن يجيء بعده . ولهذا اختار مكاناً آخر إلى الجنوب , وصلى هناك , وذلك نقلاً عن مار ماردش .
وقد فصّل العارف وصف دخول عمر إلى بيت المقدس , نقلاً عن المؤرخين العرب المسلمين . وأعطى عمر البطريرك صفرنيوس "العهدة العمرية" , التي جاء فيها بعد البسملة: "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان . أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم , أنه لا تُسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها .. ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ، ولا يضار أحد منهم . ولا يسكن إيلياء أحد من اليهود".
وتضمنت أيضاً أن على أهل إيلياء أن يخرجوا من المدينة الروم واللصوص، "فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم" , ومن كان فيها من أهل الأرض , فمن شاء منهم قعد ، وعليه ما على أهل إيلياء من الجزية ، ومن شاء سار مع الروم ، ومن رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء من الجزية حتى يحصدوا حصادهم" .
ويفسر الطيباوي عبارة أهل الأرض بأنهم الفلاحون , الذين التجأوا إلى المدينة قبل حصارها . وهو يلاحظ أن الوثيقة تفرق بين طائفتين من الناس: الروم وأهل البلاد . فأما الروم فهم حكام غرباء , عليهم أن يخرجوا . وأما أهل البلاد , الذين كانوا نصارى , يحكمون الآرامية من الجنس العربي , فهم باقون في بلادهم , مع ضمان الحرية الدينية , وسلامة الأرواح والأموال والكنائس . وقد وضعت هذه الوثيقة نواة الاستقلال الطائفي "الملي" , الذي قدر له أن يكون أساس السماحة الإسلامية مع أهل الكتاب , الذين صالحوا المسلمين .
قام عمر بزيارة مكان الصخرة المشرفة ، وكانت قد تجمعت عليها الأقذار ، مما طرحته الروم إغاظة لليهود . "فأخذ الخليفة ينظفها هو بنفسه ، فحذا حذوه من كان معه من الصحابة والقواد وغيرهم , حتى رفعت الأقذار" . ويتابع مصطفى مراد الدباغ في كتابه "بلادنا فلسطين" قائلاً : "ثم أمر عمر ببناء الحرم ، فبني من الخشب ما يتسع لحوالي ثلاثة آلاف من المصلين" . وهو ينقل عن ابن البطريق وصفه لما حدث ، ويذكر أن أمير المؤمنين أقام في بيت المقدس بضعة أيام , متفقداً معالمها , باحثاً شؤونها , قبل أن يغادرها راجعاً إلى المدينة المنورة . وقد خطب في الناس وصلى ، وعيَّن يزيد بن أبي سفيان عاملاً على إدارتها تحت إمرة أبي عبيدة . وعيِّن سلامة بن قيصر إماماً للصلاة ، وعلقمة بن مجزر مشرفاً على شؤونها العسكرية , كما جاء في "الأنس الجليل في تاريخ مصر والخليل" .
ويذكر عارف العارف عن هذا المصدر أن عمراً , كما أعطى أهل إيلياء عهداً ، أخذ عليهم عهداً . كما يذكر أنه زار القدس مرة أخرى عام 17هـ ، 639م في عام الرماد الشهير وطاعون عمواس . ويختم ميخائيل مكسي عرضه لهذه الصفحة من تاريخ القدس بالحديث عن سماحة الحكم الإسلامي , ويورد شهادة أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" , وما نقله توماس المرجا عن أحد البطاركة عن معاملة العرب الحسنة , وعن مودتهم للنصرانية . ويقول "و الخلاصة أن الحكم الإسلامي دخل إلى القدس مصحوباً بالتسامح والسلام والنظام .. وأكد كثير من الكتاب الغربيين أن فلسطين ازدهرت في بداية العصر العربي ، وصارت أهم طريق للقوافل , بسبب موقعها في وسط الدولة الإسلامية في الشام وشمال إفريقيا" .
ولم يتغير وضع السكان إلا قليلاً . فقد هاجر عدد من الإغريق , وحل محلهم العرب المسيحيون والمسلمون , وخلت المدينة المقدسة من اليهود في تلك الفترة . وعنى المؤرخون العرب المسلمون بذكر أسماء جميع الصحابة , الذين اشتركوا في فتح بيت المقدس .
إن لنا في ختام هذا الحديث عن فتح العرب المسلمين لبيت المقدس في 20ربيع الأول 15هـ الموافق 2 أيار (مايو) 632م ، أن نلاحظ أن المدينة المباركة و فلسطين و بلاد الشام والمنطقة دخلت بهذا الفتح مرحلة جديدة من تاريخها الطويل ، تأكدت فيها عروبتها ، وانتشرت وعمت فيها رسالة الإسلام ، وقامت فيها حضارته . وبقيت القدس في هذه المرحلة فلسطينية عربية كما كانت ، واستمرت مركزاً روحياً للمؤمنين ، ومطمعاً للغزاة الطغاة الباغين .
نلاحظ أيضاً أن أهل القدس و فلسطين و بلاد الشام عامة تعاطفوا مع هذا الفتح . وقد علل فيليب حتّي ذلك بقوله "وغالب الظن أن السوريين من أبناء القرن السابع , اعتبروا العرب المسلمين أقرب إليهم عنصراً ولغة ، وربما ديناً من أسيادهم الروم البيزنطيين" , وذلك في كتابه "تاريخ سوريا و لبنان و فلسطين" . وتذكر كتب الفتوحات أن اليهود عبروا بقوة عن هذا التعاطف , ليتخلصوا من اضطهاد الروم لهم , بسبب وقوفهم قبل ذلك مع الفرس . وقد أورد البلاذري أن السامرة "كانوا عيوناً وأدلاء" للعرب المسلمين ، وأن يهود حمص قاموا بحراسة أبواب المدينة , حين خرج منها جيش المسلمين للالتحاق بمعركة اليرموك , "وكذلك فعل أهل المدن , التي صولحت من النصارى واليهود" .
الحلقة الثانية
تاريخ القدس منذ الفتح وحتى الغزو الفرنجي
عاش اليهود فيها بأمان وبرز منهم كتاب وعلماء كبار في الدولة الإسلامية
تلقى فيها الخلفاء المسلمون البيعة وألزموا عمالهم بزيارتها وجاور فيها علماؤهم
غدت فلسطين بعد الفتح العربي الإسلامي إقليماً تابعاً للدولة الإسلامية في المدينة , يحمل اسم جند فلسطين . وحين نشبت الفتنة الكبرى في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان , كان معاوية بن أبي سفيان والياً على الشام ، واعتزل عمرو بن العاص الفتنة في ضيعة له بالسبع , هي عجلان , قرب قرية بربرة شمال شرق غزة . وبقيت فلسطين مع بقية بلاد الشام تحت حكم معاوية زمن خلافة علي بن أبي طالب .
حين آل أمر الخلافة إلى معاوية بعد معركة صفين ، استهل عهده بالذهاب إلى بيت المقدس, حيث أعلن خلافته منها عام 40هـ – 661 م , ومن ثم بايعه الناس . وروي أنه بعد مبايعته زار جبل الجلجلة , وصلى هناك , ثم قصد إلى الجثمانية , وهبط إلى قبر السيدة مريم وصلى هناك . وقد زار القدس في عهده الأسقف الفرنسي أركولفوس حاجاً عام 760 م , وقضى فيها تسعة شهور , وكتب وصفاً مسهباً لكنيسة القيامة والكنائس الأخرى ، وذكر أن المسلمين بنوا مسجداً مربع الأضلاع , يتسع لثلاثة آلاف من المصلين .
كان من أهم ما قام به الأمويون بناء الحرم القدسي الشريف ، في بقعة مقدسة منذ القديم , تعود إلى نشأة المدينة . ويتألف هذا الحرم من المسجد الأقصى ومسجد الصخرة وما بينهما وما حولهما من منشآت , على مساحة 140900 متراً مربعاً . وقد بناها عبد الملك بن مروان عام 66هـ – 685م ، وأوقف على نفقاتهما خراج مصر لمدة سبع سنين . واكتمل بناء بقية الصخرة سنة 70هـ – 691م . ويسهب المؤرخون القدماء والحديثون عرباً وأجانب في وصف تكوينه الرائع , الذي جاء آية في فن الهندسة على مر العصور . وقد سجل الدباغ والعارف في كتابيهما العديد من الشهادات على ذلك .
حفظ التاريخ لعبد الملك بن مروان أنه حوّل الدواوين إلى العربية ، ونقش الدراهم والدنانير بالعربية ، "الله أحد" على وجه و"الله الصمد" على الوجه الآخر . ويذكر أنه اعتنى بفتح الطرق وتعبيدها .
وهنا ازدهرت القدس في عهده وعهد ابنه الوليد . وغدت – على قول الدباغ – "واحدة من المراكز العظيمة في الدولة الأموية . ففضلاً عن إقامتهما مباني الحرم الشريف , فإنهما أعادا بناء الأسوار المحيطة بالمدينة , وبنوا القصور والأبنية الفخمة بجوار الزاوية الجنوبية لسور الحرم , التي استمرت مسكونة من قبل أمراء القدس في العهود الأموية والعباسية والفاطمية .
وحين ولي سليمان بن عبد الملك الخلافة بعد أخيه الوليد سنة 96هـ – 715م ، أتى بيت المقدس , كما يقول صاحب "الأنس الجليل" ، "و أتته الوفود بالبيعة , فلم يروا وفادة كانت أهنى من الوفادة إليه .. وقد همَّ بالإقامة في بيت المقدس , واتخاذها منزلاً , وجمع الأموال والناس بها . وحين تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز بعد وفاة سليمان , طلب من جميع ولاته أن يزوروا القدس , ويقسموا يمين الطاعة والعدل في المعاملة بين الناس في مسجدها ، كما يذكر الدباغ نقلاً عن محمود العابدي في كتابه "قدسنا" .
في تتبعنا لأخبار القدس في عهد الدولة العباسية ، نذكر أن الخليفة المنصور زارها عام 154هـ ، وقد طلب منه أهل بيت المقدس ترميم ما أصاب الحرم الشريف من خراب , بسبب زلزال حدث عام 130هـ فقام بذلك . ووضع تقليداً أن يزور كل خليفة عباسي القدس . وقد زارها الخليفة المهدي . وزارها الخليفة المأمون سنة 216هـ وهو في طريقه إلى مصر ، وفق ما ذكره الدباغ عن صاحب "الأنس الجليل" , وهو يعدد ما جاء في الكتب من أخبارها.
وخرج عارف العارف من تتبعه للقدس في العصر العباسي بأن "تأثير العباسيين في فلسطين , ولا سيما في عهدهم الأخير كان ضئيلاً" , وعلل ذلك بسبب بعد المسافة . وعني الطيباوي بتقديم مقتبسات مختصرة من مؤلفات أربعة من الكتاب المسلمين , الذي عرفوا القدس والخليل في ذلك العصر . وهم ابن واضح اليعقوبي , الذي ألف كتاب "البلدان" ، وشمس الدين المقدسي الجغرافي الرحالة ، صاحب كتاب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" ، وناصر خسرو الرحالة الفارسي , الذي وصل القدس في رمضان 438هـ – 1047م ، وأبو حامد الغزالي الذي زار القدس والخليل , وكتب "المنقذ من الضلال", الذي تحدث فيه عن اعتكافه في مسجد قبة الصخرة . وقد التفوا جميعهم على الإشادة بفضائل بيت المقدس . واستنتج الطيباوي مما كتبوه عنها "وجود أوقاف فيها وفي الخليل , كان يصرف ريعها على الحجاج وطلاب العلم والضيوف . وكذلك وجود بيوت وزوايا لإيواء القادمين للمجاورة , أو المارين في طريقهم إلى مكة , أو العائدين منها . وأيضاً وجود مستشفى واحد على الأقل في القدس , لمنفعة المقيمين والقادمين" .
أعلام مرموقون ولدوا في القدس أو زاروها أو جاوروها . وقد قام مصطفى الدباغ بذكر أربعين علماً في موسوعة "بلادنا فلسطين" . وعني أيضاً مع مؤرخين آخرين بذكر من زار القدس من الرحالة الأجانب . فبعد المطران فرنك أركولف , الذي سبق ذكره ، زارها عام 870م السائح برنارد الحكيم , وكتب عن زيارته , مشيداً بما بين المسلمين والمسيحيين من تفاهم تام ، وباستتباب الأمن ، ومتحدثاً عمن لقي من الحجاج المسيحيين , الذين كانوا ينزلون معه في نزل أسسه الملك شارلمان , الذي قامت بينه وبين هارون الرشيد صلات ودية . وقد فصل الحديث عن هذا الرحالة نقولا زيادة في كتابه "رواد الشرق العربي في العصور الوسطى" .
كانت السماحة الدينية أبرز سمات العيش في القدس وفي الدولة الإسلامية عامة ، كما سبق أن ذكرنا . وقد عني ميخائيل مكسي بالوقوف أمام ذلك في كتابه "القدس في التاريخ" ، وقال في ذلك "امتاز العباسيون بحسن معاملة المسيحيين , خصوصاً في عهد هارون الرشيد 786م , الذي سمح للإمبراطور شارلمان بترميم الكنائس , وبناء كنيسة باسم العذراء ، وعمل على حماية الحجاج المسيحيين" .
هذا بشأن المسيحيين من أهل الكتاب , الذين حكم التعامل الإسلامي معهم مبدأ "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" . فماذا بشأن اليهود؟ .
لقد عني كاتب هذا الحديث بتناول هذا الموضوع في بحثه "الوجود اليهودي في القدس منذ أقدم العصور" ، فعرض لوجودهم قبل الغزو الفرنجي منذ الفتح ، في ظل انتمائهم لحضارة الإسلام ، قائلاً :
نستدل من العهدة العمرية على عدم وجود أحد من اليهود في إيلياء في يوم الفتح , حيث طلب أهلها الذين كانوا يدينون بالنصرانية "ألا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود" , وقد استجاب الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهذا الطلب , الذي تقدم به باسم أهل إيلياء البطريرك صفرنيوس , وكان هذا البطريرك قد اشترط حين اشتد حصار المسلمين للمدينة أن يسلمها للخليفة نفسه , فلبى عمر وجاء بنفسه , وأعطى عهده الشهير إلى أهل إيلياء من الأمان "لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم , ولا يكرهوا على دينهم , ولا يضار أحد منهم" , ولبّى طلبهم ألا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود , الذين كانوا كما مر بنا قد حالفوا الفرس ضد الروم وآذوا النصارى .
وبقيت القدس خالية من اليهود تنفيذاً لما جاء في هذا العهد فترة من الزمن , لم تطل , لأن الحكم الإسلامي الذي كفل حرية الاعتقاد فلا إكراه في الدين , واحترم أهل الكتاب من اليهود والنصارى , وترك لكل ملة أن تنظم شؤونها الدينية , ورحب بمشاركة جميع الأقوام والملل في الحياة العامة ، سمح لليهود بزيارة القدس , ثم بالعمل فيها وسكناها .
ويذكر إسحاق موسى الحسيني في كتابه "عروبة بيت المقدس" نقلاً عن مجير الدين الحنبلي أن عبد الله بن مروان الأموي أتاح لعشرة من اليهود أن يخدموا صناعاً في المسجد الأقصى , يعملون القناديل والأقداح والثريات وغير ذلك , "لا يؤخذ منهم جزية جارياً عليهم وعلى أولادهم" , وقد انتهت خدمتهم في عهد عمر بن عبد العزيز . ويقول عبد اللطيف الطيباوي في معرض وقوفه أمام هذا الأمر "وكذلك لا يوجد سند تاريخي يثبت نقص ما جاء في العهد العمري لنصارى إيلياء بمنع إقامة اليهود فيها . كلا ، ولا بينة تفسر سبب إهمال العمل بهذا النص , والغالب أن الشرط لم يلغ , بل قلّ الالتفات إليه تدريجياً في جو التسامح العام , وكان هناك عدد من اليهود في مدن فلسطين الأخرى ، عسقلان وقيسارية وغزة وطبرية ، وقد رأوا سماحة الحكم العربي بالإسلام , فرحبوا به , وهللوا له , وكتب عراف يهودي عن هذا الحكم فجعل ملاكاً يقول لكاهن "لا تخف يا بن يهوه فالخالق تبارك اسمه لم يضع مملكة إسماعيل إلا ليخلصكم من هذا الشر" , يقصد حكم الروم البيزنطيين , كما نقل برنارد لويس في كتابه العرب في التاريخ , وكان اليهود يطلقون على دولة العرب المسلمين اسم مملكة إسماعيل .
في ظل هذا الحكم عاش في القدس نفر من اليهود إلى جانب أهلها من النصارى والمسلمين , وقد تزايد عدد العرب المسلمين فيها , لما اتصفت به من جاذبية لهم , بحكم قدسيتها , فجذبت مهاجرين منهم إليها ، ولأن الدين الإسلامي كان ينشر تدريجياً في أوساط المسيحيين واليهود .
وتشير مصادر يهودية اعتمد عليها بن زيون دينور في بحثه المنشور في كتاب "اليهود في أرضهم" , إلى أن سبعين أسرة سكنت القدس في العصر الأموي , وذلك بعد أن عبرت سماحة العرب تجاه الجماعات الدينية عن نفسها في العهد الأموي , على حد قوله , وبوضوح أشد في العهد العباسي . وقد سجل دينور هذه الحقيقة , وحاول إلقاء ظلال من الشك عليها , بإيراد تعليلات غير موضوعية لها , جعلت حديثه حافلاً بالمتناقضات . ويستدل من حديث الرحالة المسلم ناصر خسرو , الذي زار القدس سنة 438هـ الموافق لـ 1047م أن عدد سكان المدينة كان عشرين ألفاً , وأن مثل هذا العدد من الحجاج كان يزورها سنوياً .
استمر الوجود اليهودي في القدس منذ الفتح العربي الإسلامي لها إلى أن احتلها الفرنجة عام 1099م , وفي فلسطين و المنطقة , التي أصبحت تعرف بدار الإسلام عامة ، وساهم في هذا الاستمرار هجرات أفراد من اليهود إلى فلسطين , طلباً للأمن أو العلم , أو بغرض التعبد , سواء من دار الإسلام أو من خارجها . وقد لاحظ باركس في كتابه "تاريخ فلسطين من 135 إلى الزمن الحديث" أن الحكام المسلمين لم يرفضوا في أية فترة السماح ليهود من بلاد أجنبية أن يدخلوا فلسطين , ويقيموا فيها , وبدون هذه الهجرة ما كان لوجودهم أن يستمر , وذلك لأن أعداداً منهم كانت تعتنق الإسلام بكامل رغبتها , وألحق هذا السماح , الذي يشير إليه باركس , لليهود المستأمنين , الذين يأتون مسالمين , وهو نابع من تعاليم الدين الحنيف .
عاش أهل فلسطين والقدس في ظل الحكم الإسلامي التحول العظيم , الذي حدث في القرن الأول الهجري , بفعل نشوء العمران الحضاري العربي الإسلامي , وشاركوا بمختلف مللهم في ازدهار هذا العمران الحضاري , من موقع الانتماء الحضاري إليه . وهذه ظاهرة يوقف أمامها , وقد كانت لها تجلياتها في طابع حياتهم في القدس ودار الإسلام . ومن الذين وقفوا أمام هذه الظاهرة أحد يهود الإسلام , كما يصف نفسه , إلى جانب كونه أحد يهود العرب , هو جدع جلادي , الذي كتب "إسرائيل نحو الانفجار الداخلي" , وخصص الفصل الأول من كتابه هذا لتأمل هذه الظاهرة ، واختار عنواناً للفصل "الوئام بين يهود العالم الإسلامي والأمة الإسلامية" . وقد أحسن جلادي الإحاطة بالظاهرة فيما كتب , وتتبع جذورها , فعرض بداية تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود , وحلل مضمون الصحيفة , ثم تحدث عن اليهود والفتوحات الإسلامية , وترحيبهم بها , ثم شرح نظام الملل الإسلامية , وأطلق عليه مصطلحاً حديثاً هو "الحكم الذاتي اليهودي" , ثم فصل الحديث عن اليهود في الحكم الإسلامي , وإسهامهم في ازدهار الاقتصاد , ثم وقف أمام تعرب اليهود في الإسلام لساناً وثقافة وحضارة ، وعرض أسماء من برزوا منهم في مختلف العلوم والآداب , وفصل الحديث عن التسامح الإسلامي , وختم بحديث عن يهود الغرب ويهود العراق .
وكان كاتب هذا الحديث قد وقف أمام هذه الظاهرة في بحثه "تطور حياة اليهود في فلسطين" , وفي بحثه عن "التعددية الدينية في الإسلام" , المنشور في كتابه "وحدة التنوع" . كما تناولت كتابات عربية وأجنبية الظاهرة بالدراسة . ولافت للنظر أن الكتابات الصهيونية حين وقفت أمامها حارت في كيفية التعامل معها , فحفلت بالتناقض مع نفسها ، ومثّل عليها الفصل الذي كتبه بن زيون دينور في كتاب "اليهود في أرضهم" .
إن هذه الظاهرة تفسر خلو تاريخ يهود الحضارة الإسلامية من أية ثورات على الحكم , على ما رأيناه في تاريخ اليهود , في ظل حضارتي اليونان والرومان , كما تفسر الإسهام الإيجابي لليهود في هذه الحضارة , وانعكاسها الإيجابي على حياتهم . وقد عرض فؤاد حسنين في كتابه "المجتمع (الإسرائيلي) منذ تشريده حتى اليوم" مثلاً على ذلك ظهور مذهب القرائين , الذي هو و لا شك وليد الإسلام والمجتمع الإسلامي ، وكان اليهود قبله يخضعون دينياً لنظام تلمودي شديد , يقيد حريتهم ، فإذا بالحضارة العربية الإسلامية تهزهم وتزعزع ثقتهم في التلمود , فكان أن ظهر هذا المذهب الجديد , وطور "الربانيون" منهم مذهبهم .. وهكذا برز عنان الذي أسس القرائين في العصر العباسي , وتأثر بتيارات الفكر الإسلامي . وبرز أيضاً سعيد الفيومي , الذي دافع عن اليهودية "السنية" ضد القرائين , وألف عدداً من الكتب .
والحديث عن انتماء يهود الإسلام إلى الحضارة العربية الإسلامية , وإسهامهم فيها , يغري بالاستطراد , ولكن مجال هذا الحديث يضيق عنه , ونكتفي بالإشارة إلى أعلام يهود برزوا , من أمثال موسى بن ميمون , وابن كمونة , والسمؤل بن حنفي , وغيرهم
الحلقة الثالثة
"القدس إبان الغزو الفرنجي"
الفرنجة قتلوا آلاف المسلمين وأحرقوا اليهود في الكنس وصلاح الدين أعادهم إليها
تحالف الاستعمار الغربي والحركة الصهيونية لتهويد فلسطين والانتفاضة بداية مشوار التحرير الثاني
نصل في بحثنا هذا عن تاريخ القدس منذ الفتح العربي ، إلى صفحة سوداء من تاريخها , تتصل بأطماع الغزاة الطغاة فيها .
منذ غزا الفرنجة دار الإسلام والقدس عام 1099م – 492هـ رافعين شعار "الصليبية" , وتمكنوا من احتلال المدينة المقدسة ، عاشت القدس وما حولها محنة وصفها مجير الدين الحنبلي في كتابه "الأنس الجليل في تاريخ القدس و الخليل" بقوله "لم يُر في الإسلام مصيبة أعظم من ذلك" , ونقل عن ابن الأثير قوله "لبث الإفرنج في البلدة أسبوعاً يقتلون المسلمين ، وقتلوا في المسجد ما يزيد على السبعين ألفاً , منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم و زهادهم , ممن فارقوا الأوطان , وجاوروا ذلك الموقع الشريف" . وأضاف الحنبلي : "حصروا المسلمين في الحرم الشريف , وأعطوهم ثلاثة أيام للخروج من المدينة , والمتأخرون يقتلون ، وأما من كان في المدينة من اليهود "فقد جمعهم الفرنجة في الكنيسة وأحرقوها عليهم" , كما جاء في ذيل "تاريخ دمشق" للقلانسي , وفي "النجوم الزاهرة" لابن تغري بردى . و أما أهل القدس من العرب النصارى فقد أبقاهم الفرنجة , لكن جردوهم من السيادة الدينية , بإلغاء البطريركية الأرثوذكسية , وإقامة أخرى لاتينية مكانها .
واستمرت محنة حروب الفرنجة 192 عاماً . ويدعو ما قام به الفرنجة الغزاة من فظائع خلالها , إلى الخاطر كيف تم الفتح العربي الإسلامي لبيت المقدس , من باب تداعي الأضداد ، ويصل بنا إلى المقارنة بين سلوك العرب المسلمين الفاتحين , حين انطلقوا بالإسلام , وفي ظل الحضارة العربية الإسلامية , وسلوك الفرنجة الأوروبيين الغزاة , حين انطلقوا طامعين بمغانم الشرق , رافعين شعار التعصب الأعمى , في ظل حضارتهم الغربية , كما يدعو قتل الفرنجة اليهود في القدس , وقبل ذلك في طريقهم إلى القدس , إلى الخاطر قيام أحفادهم بعد سبعة قرون بتنظيم اضطهادات لليهود في أوروبا , ثم باستغلال اليهود الأوروبيين في إقامة قاعدة استعمارية استيطانية لهم في فلسطين , واستخدامهم للتسلط على دائرة الحضارة العربية الإسلامية .
انتهت محنة القدس بعد تسعين عاماً من احتلال الفرنجة لها , حين حررها صلاح الدين الأيوبي بعد انتصاره في موقعة حطين الفاصلة , ودخل المدينة في ذكرى الإسراء والمعراج يوم 27 رجب سنة 583هـ الموافق 20 تشرين أول (أكتوبر) 1187م , وأعطى هذا الفاتح المسلم نموذجاً رائعاً في الرحمة والتسامح , "حيث عفا و رحم و أعطى الأمان لأنفس الفرنجة وأموالهم , حتى بلغوا مأمنهم في الساحل" .
وقد سجل ستانلي لين بول في تاريخه لصلاح الدين أنه إذا كان أخذ القدس هو الحقيقة الوحيدة التي نعرفها عن صلاح الدين , فإن ذلك كاف لإثبات أن صلاح الدين هو أكثر المنتصرين فروسية , وأعظمهم قلباً في زمانه , ولعله في كل زمان , و الحديث عما قام به صلاح الدين لتعمير بيت المقدس من جديد , بعد تطهيرها من رجس الاحتلال , ذو شجون .
لقد سمح صلاح الدين لليهود بالإقامة في المدينة فأقام فيها نفر منهم , تماماً كما أعاد للبطريركية الأرثوذكسية , التي ألغاها الفرنجة اعتبارها . ويفيض المؤرخون في الحديث عن سماحة صلاح الدين مع اليهود في فلسطين , وقد نقل بن زيون دينور عنهم ما كتبه يهودي من القدس إلى يهود الحريزي : "لقد رفع الله روح ملك الإسماعيليين (أي العرب المسلمين) في سنة أربعة آلاف وتسعمائة وخمسة من الخلق, لتنزل فيه روح الحكمة والشجاعة، وهكذا جاء هو وجيشه من مصر, وحاصروا أورشليم (القدس), فسلمهم الله المدينة بين أيديهم , وأمر الملك (أي صلاح الدين) أن ينادي بصوت عال في المدينة للكبار والصغار , معلماً أهل القدس أن أي واحد يرغب من أبناء أفرايم , من الذين بقوا بعد المنفى الأشوري , والذين توزعوا في أنحاء الأرض , يمكنهم العودة إلى المدينة".
وينقل علي السيد علي في كتابه "القدس في العصر المملوكي" عن بعض المراجع أن عدداً من اليهود وفد إلى بيت المقدس من البلاد العربية وأوروبا , فزادوا بضعة مئات ، وأن صموئيل بن سيمون – وهو يهودي زار فلسطين سنة 1215- ذكر أن أكثر من 300 من الربابنة من جنود إنجلترا وفرنسا ذهبوا إلى الأرض المقدسة . ويقول دينور إن الملك العادل أخا صلاح الدين أحسن استقبالهم , وسمح لهم ببناء الكنيسة والكلية . وقد برز في عهد صلاح الدين من اليهود موسى بن ميمون (1135 – 1204) , الذي أصبح طبيباً من أطبائه ، وهو عند اليهود موسى الثاني , لعلمه وفقهه , وأشهر كتبه الفقهية "دلالة الحائرين" باللغة العربية .
عاشت فلسطين في العهد المملوكي مرحلة أخرى من مراحل العمران الحضاري الإسلامي ، وقد نهج المماليك نهج الأيوبيين في العناية بمدارس العلم , وبناء المساجد والمنافع العامة ، وتركوا آثاراً كثيرة في بيت المقدس , نجد ثبتاً كاملاً بها في كتاب "الأبنية الأثرية في القدس" , لإسحاق موسى الحسيني , الذي اعتمد فيه على ما قام به الأثريون البريطانيون .
كما نهج المماليك نهج الأيوبيين في سماحتهم مع أهل الكتاب نصارى ويهوداً . وقد ذكر مسلم الفولتيري الذي زار القدس عام 1481 أنه وجد فيها 250 يهودياً ، وحين زارها الرحالة اليهودي عبودية عام 1488 ذكر أن سبعين عائلة يهودية تسكنها , وأن فيها معبداً لهم ملاصق لمسجد للمسلمين . وتؤكد رسالة بعث بها رهبان الفرنسيسكان إلى البابا مارتن الخامس أن أعداداً من المسيحيين و اليهود الأوروبيين كانوا يأتون لزيارة القدس والإقامة فيها ، وقد ذكر هؤلاء الرهبان أن خلافاً نشب بينهم وبين اليهود في القدس على تملك القبو , الذي يوجد فيه قبر النبي داود سنة 1443، وطلبوا إليه أن يحرم على المسيحيين نقل اليهود الأوروبيين على سفنهم , ففعل و أصدر منشوراً بذلك .
عاش اليهود في بيت المقدس في العصر المملوكي في حارة لهم , شأنهم في المدن العربية الأخرى . وقد نقل علي حسن الخربوطلي في كتابه "العرب واليهود" عن ابن حوقة , أنه كان على رأس يهود الدولة الإسلامية رئيس يحمل اسم رأس الجالوت ، و أن اليهود من أهل الذمة اشتهروا بأعمال التجارة وصناعة الدباغة والخياطة والأحذية وصك النقود والصيرفة , وعملوا مرشدين سياحيين أيضاً ، وذلك في ظل رعويتهم للدولة الإسلامية .
وفي عام 1516م ، ضمت الدولة العثمانية بلاد الشام , بعد انتصار السلطان سليم على قونصوه الغوري في معركة مرج دابق قرب حلب . و أصبحت القدس سنجقاً من ولاية دمشق ، وقد عرج عليها السلطان سليم , فاستقبله علماؤها ووجهاؤها , وأولموا له في ساحة الحرم الشريف . وحين تولى ابنه السلطان سليمان (1520 – 1560م) عني بالقدس , فرمم قبة الصخرة , وأعاد تبليط المسجد , وعمّر جدران الحرم الشريف وأبوابه , وأنشأ عدداً من السبل , وأصبح يعرف بخادم الحرمين في القدس والخليل , إضافة إلى لقب خادم الحرمين في مكة والمدينة ، وزارت زوجته السلطانة القدس , وأوقفت أوقافاً عليها ، وأمّن السلطان سليمان الطريق بين يافا والقدس حماية للحجيج .
واستمر الوجود اليهودي في القدس في العهد العثماني شأنه في عهود الحكم الإسلامي السابقة ، ويذكر إسحاق بن زفي في بحثه في كتاب "اليهود في أرضهم" أن عدد اليهود عام 1526 كان مائتين , حسب إحصاء رسمي ، وأنه أصبح تبعاً لأحد المصادر 324 رب أسرة و 19 عازباً سنة 1555. وترجع هذه الزيادة إلى هجرة أعداد من يهود الأندلس السفارديم إلى الدولة العثمانية , بعد نكبة المسلمين في الأندلس منذ سنة 1492م .
وينوه المؤرخون اليهود بسماح العثمانيين للاجئين اليهود بالإقامة في دار الإسلام , في الوقت الذي رفضت فيه بعض الأقطار الأوروبية استقبالهم . ويقول إسحاق بن زفي إن حارة اليهود ضمت سفارديم و أشكناز ويهود مغاربة ويهود مستعربين , وهو يعني بالمستعربين اليهود العرب , الذين عاشوا في فلسطين والأقطار العربية , وقد تحسنت أحوالهم في عهد السلطان سليمان , الذي بنى السور العظيم , وفي عام 1551 أصدر السلطان فرماناً ولّى فيه الشيخ أحمد الدجاني أمر خدمة ضريح النبي داوود , الذي كان الخلاف احتدم بشأنه بين الفرنسيسكان الرهبان واليهود في عهد سلاطين المماليك , فتولت العائلة الدجانية هذا الأمر حتى نكبة فلسطين عام 1948.
نصل في تناولنا لتاريخ القدس منذ الفتح العربي إلى ما أصاب بيت المقدس بفعل الغزوة الصهيونية الاستعمارية في القرنين الأخيرين . ونستذكر مرة أخرى أن القدس التي كانت وطناً لشعبها , ومركزاً روحياً للمؤمنين بقيت مطمعاً للغزاة المعتدين ، وأن جميع الغزوات العدائية انتهت بالاندحار .
لقد عاد الغزو الفرنجي في صورة جديدة يستهدف فلسطين والقدس والمنطقة في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي , حين قام نابليون بونابرت بقيادة الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، ومع أن هذه الحملة كان مصيرها الاندحار والهزيمة ، و اضطر بونابرت أن يرتد عند أسوار عكا , ثم يقفل راجعاً إلى مصر , ويخرج منها مهزوماً , بعد أن واجه مقاومة قادها الأزهر ، الذي منه خرج سليمان الحلبي , ليقتل كليبر المعتدي , الذي خلف بونابرت .. مع ذلك بقي الاستعمار الأوروبي في فصائله المختلفة مستهدفا القدس وفلسطين والمنطقة ، من ذلك الحين ، و باشر مرحلة الاستعمار الاستيطاني في فلسطين والقدس , التي لا نزال نعيشها ونخوض الصراع لإنهائها .
حين نقف أمام تاريخ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في القدس , نستذكر بداية أن الاستيطان هو اغتصاب لأرض شعب آخر، يتخذ مفاهيم عدة .. اقتصادي و عقيدي وسياسي وديني وأمني . ونستحضر ما وصل إليه جمال حمدان في كتابه "استراتيجية الاستعمار والتحرير" , بشأن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني , الذي يمثله الكيان الصهيوني ، ونلخصه بسمتين رئيسيتين:
– أولاهما : عنصريته الحادة , التي هي من نوع عنصرية البيض الأوروبيين , الذين أبادوا شعوباً في أمريكا و إفريقيا , وفرضوا العبودية على ملايين الأفارقة .
– والأخرى : تسلط فكرة الأمن المطلق عليه ، وقد أحسن شرحها شيوخنا الاستراتيجيون , وليس خافياً لماذا تتسلط هذه الفكرة , فنحن أمام مغتصب يسرق الأرض والماء , ويخشى من صاحب الحق .
نستذكر أيضاً أن التحالف الاستعماري الصهيوني كان وراء الاستعمار الاستيطاني في فلسطين ، ومنذ أوائل القرن التاسع عشر برزت بريطانيا قطباً رئيسياً في هذا التحالف , الذي يسعى لاستعمار فلسطين , وبرزت أيضاً الولايات المتحدة الأمريكية , التي ركزت أنظارها على القدس , وبكّرت في إقامة قنصلية فيها , كتب الكثيرون عن تحركاتها , وهناك إلى اليوم في القدس مبنى يحمل اسم "أمريكان كولوني" ، وكانت قوى يهودية وأخرى بروتستانتية في بريطانيا وأمريكا قد أثارت الأطماع في فلسطين ، ونذكر كيف كتب دزرائيلي عن القدس وأهميتها لبريطانيا , قبل أن يصبح رئيس وزراء .
لقد مرّ الغزو الاستعماري الصهيوني في فلسطين بأربعة مراحل , بعد أن تبلورت الحركة الصهيونية , بتشجيع من القوى الاستعمارية الأوروبية ، ونجحت في إرسال أول دفعة من المهاجرين إلى فلسطين من يهود شرق أوروبا عام 1882, في العام الذي احتلت فيه بريطانيا مصر ، فمن مرحلة التسلل , التي استمرت حتى عام 1917, إلى مرحلة التغلغل إبان الاستعمار البريطاني لفلسطين , حتى عام 1948, إلى مرحلة الغزو بعد إقامة "دولة إسرائيل" وحتى عام 1967, إلى مرحلة التوسع بعد حرب حزيران (يونيو) في ذلك العام . وقد وفق المرحوم جمال حمدان في اختيار أسماء هذه المراحل .
نجح الغزو الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في احتلال جزء كبير من القدس إبان حرب عام 1948، وأكمل احتلال الجزء الشرقي منها في حرب العام 1967، وقد سمعنا إسحاق رابين رئيس الوزراء الصهيوني السابق , يصرح لإذاعة العدو الصهيوني , رداً على إشارة عربية فلسطينية لأملاك عرب فلسطينيين في القدس الغربية , بالقول "لقد أخذنا القدس في حربين" .
وكما هو الشأن في كل استعمار استيطاني عمد الكيان الصهيوني , بعد أن نجح في احتلال القدس , إلى ضمها فوراً , ثم شرع في اغتصاب أراضيها تدريجياً , بسبل مختلفة , ليصل إلى تهويدها ، و إنا مدعوون إلى أن نتأمل طويلاً في خطوات هذه العملية , التي تبدأ بالتسلل , فالتغلغل , فالاحتلال , فالضم , فالاغتصاب , فالتهويد ، ونستحضرها في أذهاننا دوماً ؛ لأن أراض عربية مجاورة لفلسطين مستهدفة اليوم صهيونياً بمخططات التسلل , أولى خطوات هذه العملية .
وقد شهدت مرحلة التوسع في الغزو الصهيوني لفلسطين منذ عام 1967 تركيزاً خاصاً على القدس , فصلت شرح مخططاته , وما تم تنفيذه منها , كتب كثيرة ، فبعد إعلان ضمها , جرت إقامة خمس عشرة مستعمرة , وبناء ثلاثين ألف وحدة سكنية ، وتم الاستيلاء على ثلاثة و ثلاثين في المائة من أراضي القدس بالمصادرة و الاستملاك ، وتفننت الحكومة الصهيونية في اتخاذ الإجراءات , التي تسلب أهل القدس العرب من حقوقهم .
وما أشد الخطر الذي يهدد القدس بفعل الاستعمار الاستيطاني الصهيوني , بعد إبرام اتفاق أوسلو- واشنطن ، فالجهود الصهيونية مركزة الآن لتهويدها ، وقد فصلنا الحديث عن أخطار هذا الاتفاق على القدس , وكيفية مواجهة هذه الأخطار , في كتاب "لا للحل العنصري في فلسطين" ، وأوضحنا كيف تعامل اتفاق إعلان المبادئ مع قضية القدس , مؤجلاً النظر فيها , ليفسح للعدو الصهيوني فرض الأمر الواقع , خلال الفترة الانتقالية . كما أوضحنا كيف عمد "مصمم" عملية التسوية الأمريكي إلى استبعاد البحث في قضية القدس , والالتفاف حول القضية ، وحصرها في نزاع حول الإشراف على مقدسات ، وعرضنا الإجراءات الصهيونية في القدس والموقف الصهيوني الحالي من القدس والموقف الأمريكي الناقض لقرارات الشرعية الدولية في حقيقته ، كما بيّنا أصول هذين الموقفين , وشرحنا المخطط الصهيوني للقدس الكبرى , وخطوات تنفيذه , وتعديه على الوقف الديني الإسلامي والمسيحي , وما نجم عنه من مشكلات لا حل لها , و ما ينبغي عمله .
يتضح مما سبق أن أخطر ما حكم مسيرة التسوية , التي حملت اسم "عملية سلام الشرق الأوسط" , هو منطق الإملاء الذي فرضه الفكر الصهيوني وفكر الهيمنة الطاغوتي ، وهو منطق يدعو القوي إلى الاغترار بقوته , فيصبح محكوماً بغطرسة القوة ، ويحثه على أن يفرض شروطه مسبقاً , بحيث يضطر الآخر إلى التخلي عن أوراقه التفاوضية .
(9/1995) في عهد حكومة حزب العمل الصهيوني برئاسة رابين , و عهد إدارة الرئيس كلينتون الأول ، ثم في اتفاق الخليل (1/1997) , و أخيراً في اتفاق "واي" في (10/1998) في عهد حكومة ليكود برئاسة بنيامين نتنياهو و عهد إدارة الرئيس كلينتون الثاني ، وهو اتفاق حول إجراءات لتنفيذ ما سبق الاتفاق عليه . ويتضمن بنوداً خمسة هي : "إعادات انتشار إضافية"، و"الأمن"، و"اللجنة الانتقالية والموضوعات الاقتصادية" ، و"مفاوضات الوضع النهائي" ، و"الأعمال أحادية الجانب" ، كما يتضمن جدولاً زمنياً . ثم تجلى هذا المنطق بشكل صارخ في المحاولة الأمريكية الصهيونية لاغتصاب الحرم القدسي , التي تولى كِبرها بيل كلينتون في صيف 2000 , وتابعها جورج دبليو بوش بعده .
واضح أن هذا الغزو الاستعماري الصهيوني لفلسطين والقدس , هو أخطر ما تعرضت له ديار العرب والإسلام منذ الغزو الفرنجي . و واضح أيضاً أن المقاومة العربية الإسلامية لهذا الغزو مستمرة , تتتالى حلقاتها . وقد دخلت مرحلة جديدة بانتفاضة الأقصى , التي أكملت شهرها الثالث عشر . وقد وضعت نصب العين مواجهة الكيان الصهيوني والدعم الأمريكي له , وصولاً بالولايات المتحدة إلى مراجعة استراتيجيتها في المنطقة , وإدراكها أن الكيان الصهيوني لن يكون ركيزة استراتيجية لها , وإنما عبئا استراتيجيا عليها , ووصولاً باليهود في هذا الكيان وخارجه إلى نبذ الصهيونية العنصرية , إذا أرادوا الأمن والسلام .
وقد وقعت زلزلة الهجوم على نيويورك وواشنطن يوم 11 أيلول (سبتمبر) 2001، فنبهت قوة الطغيان في الغرب إلى حقائق هذا الصراع ، ويبقى أن نتابع الآن المقاومة لإنهاء الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين والقدس وتحريرهما .