{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } فربوبيته للسماوات والأرض، وكونهما على أحسن نظام وأكمله، ليس فيه غفلة ولا إهمال، ولا سدى، ولا باطل، برهان قاطع على علمه الشامل، فلا تشغل نفسك بذلك، بل اشغلها بما ينفعك ويعود عليك طائله، وهو: عبادته وحده لا شريك له،
{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } فربوبيته للسماوات والأرض، وكونهما على أحسن نظام وأكمله، ليس فيه غفلة ولا إهمال، ولا سدى، ولا باطل، برهان قاطع على علمه الشامل، فلا تشغل نفسك بذلك، بل اشغلها بما ينفعك ويعود عليك طائله، وهو: عبادته وحده لا شريك له،
بسم الله الرحمن الرحيم
إن بعض الناس اليوم من جهلة الدعاة وأقولها بأسف لأنه لا يصلح للدعوة من كان جاهلاً لا يجوز أن يدخل في مجال الدعوة إلا من كان عالماً مسلحاً بالعلم ولكن فيه من جهلة الدعاة من يهونون من شأن التوحيد ويقولون الناس مسلمون وانتم في بلاد مسلمين, العالم الإسلامي ليس بحاجة إلى من يلقي محاضرات في التوحيد أو يقرر مقررات في المدارس في التوحيد أو يقرأ كتب التوحيد بالمساجد هكذا يقولون..! ، وهذا من الجهل العظيم لأن المسلم أحوج من غيره لمعرفة التوحيد من أجل أن يحققه ومن أجل أن يقوم به ومن أجل أن يبتعد عما يخل به أو يناقضه من الشركيات والبدع والخرافات ما يكفي أن يكون مسلماً بالاسم من غير أن يحقق الإسلام ولن يحققه إلا إذا عرف أساسه وقاعدته التي يبنى عليها وهو التوحيد. فإن الناس إذا جهلوا التوحيد وجهلوا مسائل الشرك وأمور الجاهلية فإنهم حينئذٍ يقعون في الشرك من حيث يدرون أو لا يدرون وحينئذٍ تقوض عقيدة التوحيد كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ( إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية ) وهل كل المسلمين يعرفون أمور العقيدة ويعرفون التوحيد ؟ إذا كان العلماء يعلمون هذا فالعلماء قلة وأقل من القليل العلماء بالمعنى الصحيح أقل من القليل وكلما تأخر الزمان فإن العلماء على الحقيقة يقلون ويكثر المتعالمون ويكثر القراء ويكثر الرؤوس الجهّال كما قال صلى الله عليه وسلم 🙁 إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال ولكن يقبض هذا العلم بموت العلماء حيى إذا لم يبقى عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهّالا فأفتوا بغير علمٍٍ فضلوا وأضلوا ) وفي حديث آخر أنه في آخر الزمان يقل العلماء ويكثر القرّاء وفي أثر آخر يكثر الخطباء في آخر الزمان ويقل الفقهاء ومن هنا يجب علينا أن نهتم بجانب التوحيد وأن نعتني به عناية تامة بأن ندرسه وندرّسه ونحاضر فيه ونعقد فيه الندوات ونشكل به البرامج في وسائل الإعلام ونكتب في الصحف وندعو إلى التوحيد رضي من رضي وغضب من غضب لأن هذا أساس ديننا وهذا مبنى عقيدتنا ونحن أحوج الناس إلى أن نتعرف عليه وأن نتدارسه وأن نبينه للناس.
في العالم الإسلامي ـ ماعدا هذه البلاد التي حماها الله بدعوة التوحيد ـ المشاهد الشركية المشيدة على القبور كما تسمعون عنها أو كما رآها بعضكم ممن سافر، الدين عندهم هو الشرك وعبادة الموتى والتقرب إلى القبور ومن لم يفعل ذلك عندهم فليس بمسلم لأنه بزعمهم يتنقّص الأولياء كما يقولون وهناك دعاة لا يهتمون في تلك البلاد بأمر التوحيد مع الأسف إنما يدعون الناس إلى الأخلاق الطيبة وإلى ترك الزنا وترك شرب الخمور هذه كبائر محرمات بلا شك ولكن حتى لو ترك الناس الزنا وشرب الخمور وحسنوا أخلاقهم وتركوا الربا لكن لم يتركوا الكبائر ما داموا أنهم لم يتركوا الشرك وحتى من لم يشرك ما دام أنه لا ينكر الشرك ولا يدعوا إلى التوحيد ولا يتبرأ من المشركين فإنه يكون مثلهم ولهذا يقول جل وعلا لنبيه ( وما أنا من المشركين ) (سورة يوسف-108) ، هذا فيه البراءة من المشركين، فالمسلم الموحد لابد أن يتبرأ من المشركين ولا يسعه أن يسكت والشرك يعج في البلد والأضرحة تبنى والطواف بالقبور معمور ولا يسع من يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسكت على هذا الوباء الخطير الذي يفتك بجسم الأمة ويقول لا ادعوا الناس إلى حسن السيرة والسلوك وترك الخمور وترك الزنا، وماذا تجدي هذه الأمور مع فقد الأساس ؟ أنت لما تبني بناءً ألست أول شيء تهتم بالأساس والقواعد من أجل أن تقيم البناء الصحيح وإلا إذا لم تهتم بالأساس ولم تهتم بقواعد البناء فإنك مهما شيدته ونمقته فإنه عرضة للسقوط ويكون خطراً عليك وعلى من دخل هذا المبنى ، كذلك الدين إذا لم يقم على عقيدة سليمة وأساس صحيح وتوحيد لله وتنزيه عن الشرك وإبعاد للمشركين عن موطن الإسلام فإن هذا الدين لا ينفع أهله لأنه دين لم يبنى على أساس ولم يبنى على قاعدة سليمة.
النبي صلى الله عليه وسلم ?مكث بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى التوحيد يقول للناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ـ يدعو إلى التوحيد ـ.السور المكية كلها تعالج قضية التوحيد وتأسيس العقيدة ثم لمّا تأسس التوحيد وقامت العقيدة نزلت شرائع الإسلام ، نزل الأمر بالصلاة والأمر بالزكاة هذا إنما نزل بالمدينة ـ الصلاة فرضت على النبي ?في مكة ليلة الإسراء والمعراج قبل الهجرة بأشهربعد تأسيس التوحيد وبعدما بنيت العقيدة ثم نزلت الزكاة ونزل الصيام والحج وبقية شرائع الإسلام ـ ، ويوضح هذا جلياً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن رسم له منهج الدعوة وقال له: ( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم ).
التوحيد هو أول شيء أمر النبي ? معاداً بالدعوة إليه وهذا ليس خاص بمعاد، هذا عام لكل من يدعو إلى الله عز وجل أن نبدأ بهذا الأصل فإن هم أطاعوك لذلك وشهدوا أن لا إله إلا الله واعترفوا بعقيدة التوحيد حينئذٍ مرهم بالصلاة والزكاة أما بدون أن يقروا بالتوحيد فلا تأمرهم بالصلاة لأنه لا فائدة للصلاة والزكاة ولجميع الأعمال ـ ولو كثرت ـ بدون توحيد. قال اله سبحانه وتعالى ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) ( سورة الزمر 65-66) ، وقال الله تعالى لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم في قوله تعالى ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون…… إلى قوله تعالى …… ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) (سورة الأنعام 83…88).
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أول ما يبدءون بدعوة التوحيد قال الله تعالى في نوح علية السلام ( لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ) (سورة الأعراف 59) ، وقال تعالى ( وإلى عادٍ أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ) (سورة هود 61 ) ، (وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ) (سورة هود 61 )، ( وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره) (سورة هود 84) ،بل إنه سبحانه وتعالى أجمل الرسل في قوله ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) (سورة النحل 36 ) وقال تعالى(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله أنا فاعبدون) (سورة الأنبياء 25) .
هذا هو الأساس وهذا هو الأصل وهذا هو القاعدة، فكيف نزهد في هذا الأمر ونغفل عنه ونخطّئ من يدعو إليه ويقال عن هذا يفرق بين المسلمين! لا هذا لا يفرق بين المسلمين هذا يجمع كلمة المسلمين لأن كلمة المسلمين لا تجتمع إلا على كلمة التوحيد ولا يستتب الأمن والاستقرار إلا على التوحيد قال الله سبحانه وتعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ) (سورة النور55 )، بهذا الشرط هذا هو الأساس إنما تحصل هذه المطالب العظيمة بعبادة الله وحده لا شريك له ( يعبدونني لا يشركون بي شيئاً )، فلا تجتمع كلمة الأمة ولا يصح بناء الأمة إلا على كلمة التوحيد، ـ على عقيدة التوحيد الصحيحة ـ أما إذا دخل الشرك وتفشّت البدع والخرافات وتركت وقيل اتركوا الناس، الناس أحرار في عقائدهم اتركوهم لا تنفروهم، بهذا يحصل الاختلاف ويحصل التفرق ويدخل الشيطان بين صفوف المسلمين فيفرق جماعتهم كما هو الواقع
معاني التوحيد في التلبية بالحج
إن أوّل ما يبدأ به المسلم من أعمال حجّه هو الإهلال بالتوحيد ، معلنا من خلال كلمات التلبية العظيمة توحيده لله وحده ونبذه للشرك والتنديد، ثم يمضي راشدا إلى البيت العتيق يردِّدُ تلك الكلمات "لبيك اللهمّ لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" وهو عالم بما دلّت عليه من الإخلاص والتوحيد ووجوب إفرادِ الله وحده بالعبادةِ والبعدِ عن اتخاذِ الشركاء مع الله ، مستشعرٌ لذلك مستحضرٌ له ، مقرٌّ بأنَّ ربَّه سبحانه المتفردَ بالنِّعمة والعطاء والهبة والنَّعماء لا شريك له هو المتفرِّد بالتوحيد لا ندَّ له ؛ ولذا فإنَّ الملبي بهذه الكلمات حقّاً وصدقاً لا يدعو إلا الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يتوكّل إلا على الله، ولا يذبح ولا ينذر إلا لله ولا يصرف شيئًا من العبادة إلا لله .
وهذا أصل عظيم وأساس متين يجب أن تبنى عليه كلُّ طاعة يتقرب بها العبدُ إلى الله عزّ وجل ، الحجُّ وغيره ولذا قال الله تعالى في سورة الحج {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [ الحج 27، 31 ].
فحذّر سبحانه في هذا السياق المبارك من الشرك وأمر باجتنابه وبيَّن قبحَه وسوءَ عاقبته ، وأنَّ فاعله كأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الرِّيح في مكان سحيق .
ولذا فإن نعمة الله علينا ـ أمّة الإسلام ـ عظيمة ومنته كبيرة أن هدانا لتوحيده ، ووفقنا لهذا الإهلال العظيم بالإخلاص والتوحيد والبراءة من الشرك والتنديد ، بعد أن كان أهل الشرك يُهلُّون باتخاذ الأنداد والشركاء مع أنهم مقرّون بأن الخالق لهم هو الله وحده وأنه المالك لكل شيء ، وأنه وحده مولي النعمة ومسديها .
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم رحمه الله " ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله ، ويعرف أن الله ربه ، وأن الله خالقه ورازقه وهو يشرك به ، ألا ترى كيف قال إبراهيم: {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ، أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء 75، 77 ]. قد عرَف أنهم يعبدون رب العالمين مع ما يعبدون . قال : فليس أحد يشرك إلا وهو يؤمن به ، ألا ترى كيف كانت العرب تلبي ، تقول لبيك لا شريك له إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، المشركون كانوا يقولون هذا " روه ابن جرير الطبري في تفسيره .
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك. قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلكم قد قد" (أي: تفي)، فيقولون: إلا شريكاً هو لك تملكه ومن ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت " .
فهذه حال أهل الشرك والتنديد في تلبيتهم ، حيث يُدْخِلون مع الله في التلبية الشركاءَ والأندادَ ، ويجعلون ملكها بيده ويقرُّون بأنها لا تملك شيئا ، وهذا ضلال مبين ـ عافى الله أمّة الإسلام منه وهداهم إلى الإهلال بالتوحيد بتلك الكلمات النيِّرات " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " .
وقوله: "إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" متضمّن جملة من البراهين العظيمة على وجوب توحيد الله وإخلاص العبادة له ، والإقبال عليه وحده بالذل والخضوع ، والرغبة والرهبة والركوع والسجود، والخوف والرجاء وسائر أنواع العبادة، وتتلخص هذه البراهين في أمور خمسة:
الأول : أن الحمد كله لله سبحانه ، فهو تبارك وتعالى الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ، المستحقّ لكل حمد ومحبة وثناء لما اتصف به من صفات الحمد التي هي صفات الجمال والجلال ، ولما أنعم به على خلقه من النعم الجزال ، فهو المحمود على كل حال ، وهو سبحانه حميد من جميع الوجوه ، لأن جميع أسمائه حمد ، وصفاته حمد، وأفعاله حمد وأحكامه حمد ، وفضله وإحسانه إلى عباده حمد، والخلق والأمر إنما قام بحمد ، ووجِد بحمده ، وظهر بحمده ، وكانت الغاية منه هي حمده، وقد نبَّه الله سبحانه على شمول حمده لخلقه وأمره بأن حمد نفسه في أول الخلق وآخره، وعند الأمر والشرع ، وحمد نفسه على ربوبيته للعالمين ، وحمد نفسه على تفرده بالإلهية وعلى حياته، وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق به من اتخاذ الولد والشريك إلى غير ذلك من أنواع ما حمد الله به نفسه في كتابه ، وكلُّ ذلك برهان جليٌّ على أنه وحده المعبود بحقٍّ ولا معبودَ بحقٍّ سواه {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[غافر65].
الثاني : أنّ النعمة كلها لله؛ لهذا عرَّفها باللام المفيدة للاستغراق أي: النّعمُ كلها لك يا الله أنت موليها ومسديها والمنعم بها {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } [ النحل 53] ونعمه سبحانه على عباده لا حصر لها ولا عد ؛ من جزيل المواهب ، وسعة العطايا، وكريم الأيادي ، وسعة رحمته لهم ، وبرّه ولطفه ، وإجابته لدعوات المضطرين ، وكشف كربات المكروبين ، وإغاثة الملهوفين ، وأعظم ذلك هدايته خاصته من عبادة إلى سبيل دار السلام ، ومدافعته عنهم أحسن الدفاع ، إلى غير ذلك من نعمه وعطاياه . أفيليق بأن يُجعل مع من هذا فضله ومنّه شريكٌ { وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ، وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ، وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ، ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ، لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 51، 56].
الثالث : أن الملك كله لله ، لا مالك إلا هو ، وجميع الأشياء هو المالك لها ، المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة ، وفي هذا إثبات لكمال قوّته وعزّته وقدرته، وأنّ علمه محيط بكل شيء وأن مشيئته نافذة ، وقدرته شاملة ، وحكمته واسعة، وأنّ له الحكم العام للعالم العلوي والسفلي ، والحكم العام في الدنيا والآخرة، وأنه المتصرِّف في ملكه بما يشاء تصرف ملك قادر قاهر عادل رحيم حكيم خبير تام الملك لا ينازعه في ملكه منازع ، ولا يعارضه فيه معارض ، وهذا من براهين وجوب توحيده كما قال سبحانه: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [الزمر6]، وقال سبحانه:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ }[المؤمنون11] .
أما من سوى الله فلا يملك لنفسه نفعاً أو ضراً ولا حياةً ولا موتاً ولا نشوراً فضلا عن أن يملك شيئا من ذلك لغيره { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [المائدة76 ]، { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ } [سبأ22].
الرابع : أن هذه التلبية " متضمّنة للإخبار عن اجتماع الملك والنعمة والحمد لله عزّ وجل ، وهذا نوع آخر من الثناء عليه ، غير الثناء بمفردات تلك الأوصاف العليّة، فله سبحانه من أوصافه العلى نوعا ثناء : نوعٌ متعلّق بكل صفةٍ صفةٍ على انفرادها ، ونوعٌ متعلّق باجتماعها ، وهو كمال مع كمال وهو عامة الكمال، والله سبحانه يفرِّق في صفاته بين الملك والحمد ، وسوغ هذا المعنى أن اقتران أحدهما بالآخر من أعظم الكمال ، والملك وحده كمال ، والحمد كمال ، واقتران أحدهما بالآخر كمال ، فإذا اجتمع الملك المتضمن للقدرة، مع النعمة المتضمنة لغاية النفع والإحسان والرّحمة ، مع الحمد المتضمن لعامة الجلال والإكرام الدّاعي إلي محبته، كان في ذلك من العظمة والكمال والجلال ما هو أولى به وهو أهله ، وكان في ذكر العبد له ومعرفته به من انجذاب قلبه إلى الله وإقباله عليه والتوجه بدواعي المحبة كلها إليه ما هو مقصود العبودية ولبّها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" قاله ابن القيم رحمه الله في كتابه تهذيب السنن ( 2/ 339 ).
الخامس: في قوله: "لا شريك له" وقد تكرّرت في التلبية مرَّتين، مرة عقب إجابته بقوله " لبيك "، ومرة عقب قوله: " إنّ الحمد والنعمة لك والملك " فالأول يتضمّن أنه لا شريك له في إجابة هذه الدّعوة ، والثاني يتضمّن أنه لا شريك له في الحمد والنعمة والملك ، وإذا تقرّر أن الحمد كله من الله ، والنعمة كلها من الله، والملك كله له ، ليس له شريك في ذلك بوجه من الوجوه فليُفرد وحده بالتلبية والخضوع والمحبّة والانقياد والطاعة والإذعان. وكيف يُجعل مع الله شريكا في العبادة من لا يملك في هذا الكون من قطمير ، وليس له مع الله شركة في الملك، ولا يملك نفعاً ولا دفعاً ، وليس بيده عطاءٌ ولا منع تعالى الله عما يشركون ، بل إنّ الأمر كله لله لا شريك له وهذا من أبين ما يكون من دلالة على فساد الشرك، وأنّ أهله من أسفه الناس وأضلهم عن سواء السبيل .
فهذه خمسة دلائل عظيمة وبراهين جليلة على وجوب التوحيد والإخلاص اشتملت عليها كلمات التلبية وأرشدت إليها بوضوح وجلاء .
وقد قال الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما كما في صحيح مسلم عندما وصف حجّة النبيّ صلى الله عليه وسلم: " فأهلَّ بالتوحيد ، لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " فوصف رضي الله عنه هذا الإهلال بأنه إهلاك بالتوحيد لما تضمنته كلمات التلبية من تحقيق الإخلاص ونبذ الشرك وإقامة الحجة والبرهان على ذلك ، وفي هذا أيضا دلالة على أن هذه الكلمات ليست ألفاظاً مجرّدة لا تدلُّ على معان، بل لها معنى عظيم ، ومدلول جليل ، ألا وهو روح الدِّين وأساسه وأصله الذي عليه يبنى توحيد الله عزّ وجل .
ولهذا فإن الواجب على كل من أهلَّ بهذه الكلمات أن يعرف ما دلَّت عليه من معنى ، وأن يستحضر ما تضمّنته من دلالة وأن يحقِّق ذلك ، ليكون صادقا في إهلاله ، موافقاً كلامُه حقيقة حاله؛ بحيث يكون مستمسكاً بالتوحيد، محافظا عليه مراعيا لحقوقه، مجانبا لنواقضه وما يضاده من الشرك بالله ، حذِراً تمام الحذر من الوقوع فيه ، أو في شيء من أسبابه ووسائله وطرقه؛ إذ هو أعظم ذنب وأكبر جرم أجارنا الله جميعا من الشرك ، وحمانا من وسائله وذرائعه ورزقنا التوحيد والإخلاص ، إنه سبحانه سميع الدعاء وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
منقول من الموقع الرسمي للشيخ عبد الرزاق البدر.
لا تنسونا من صالح دعائكم.
نسال الله ان يجعل عملك هذا في ميزان حسناتك وان يجعلك من العليين في جنة الخلد
تقبل مروري
اختكم هناء
[شرح] آية الكرسي وما تضمنته من بيان التوحيد -الشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله تعالى- قال العلامة ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله تعالى-: ([1]) أخرجه مسلم، كتاب: صلاة المسافرين، باب: فضل سورة الكهف وآية الكرسي (1921) عن أبي بن كعب -رضي الله عنه-. ([2]) متفق عليه: أخرجه البخاري، واللفظ له، كتاب: النكاح، باب: الترغيب في النكاح ([3]) متفق عليه: أخرجه البخاري، كتاب: التفسير باب: سورة الإسراء (4435)، ومسلم، كتاب: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنَّة منزلة فيها (501) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. ([4]) أخرجه البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ([5]) هذه اللفظة في حديث أنس -رضي الله عنه- أخرجها البخاري، كتاب: التوحيد، باب: كلام الرب -تبارك وتعالى- يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم (7072)، ومسلم، كتاب: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنَّة منزلة فيها (500). ([6]) متفق عليه: أخرجه البخاري، كتاب: بدء الخلق، باب: ((إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه)) (3059)، ومسلم، كتاب: الجهاد والسير، باب: ما لقي النَّبيُّ – -صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين (4754) عن عائشة -رضي الله عنها-.
|
||
السؤال
شيخ محمد نعود إلى رسالة المستمع يسري حامد من جمهورية مصر العربية طنطا استعرضنا سؤال له في حلقة سابقة بقي له هذا السؤال يقول فضيلة الشيخ أنا من المتابعين لبرنامج نور على الدرب استفدت من كثيرا مع أهل القرية حيث أننا نتابع هذا البرنامج يوميا وأرجو أن تبينوا لنا أقسام التوحيد مفصلة عبر هذا البرنامج لأننا في زمن كثرت فيه الشركيات فنشاهد أناس يذبحون عند الأضرحة ويطوفون بها ويتقربون إليها أرجو بيان ذلك مأجورين.
الجواب
الشيخ: أما بعد فإننا نحمد الله عز وجل ونشكره أن يسر الله سبحانه وتعالى هذا المنبر العظيم الذي استفاد منه كثيرا من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها كما ذكره هذا السائل ونوه به في سؤاله فنسأل الله تعالى أن يجعله منبر خيرا وبركه وعلم نافع وتوجيه صالح سؤال الأخ عن التوحيد وأقسامه سؤال مهم لأن التوحيد هو الذي بعثت به الرسل كلهم من أولهم إلى أخرهم قال الله تبارك وتعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) والرسل حكى الله عنهم على وجه التفصيل أنهم كانوا يقولون لأقوامهم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره والنبي عليه الصلاة والسلام جاء بتحقيق هذا التوحيد تحقيقا تاما يمنع العبد من الإشراك بالله الشرك الصغير والكبير وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله أن أقسام التوحيد ثلاثة وذلك بالتتبع والاستقراء أولها توحيد الربوبيه والثاني توحيد الألوهية والثالث توحيد الأسماء والصفات وقد اجتمعت الثلاثة في آية واحدة من كتاب الله في قوله تعالى (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً)
فقوله تعالى (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) هذا توحيد الربوبية
وقوله (فأعبده واصطبر لعبادته) هذا توحيد الألوهية
وقوله تعالى (هل تعلم له سميا) هذا توحيد الأسماء والصفات أي لا تعلم له سميا أي مساميا يضاهيه ويماثله عز وجل أقسام التوحيد ثلاثة
توحيد الربوبية: وهو إفراد الله عز وجل في الخلق والملك والتدبير فلا خالق إلا الله ولا مالك إلا الله ولا مدبر إلا الله لا أحد يقوم بهذا على وجه الإطلاق والعموم والشمول إلا الله رب العالمين فهو المتفرد بالخلق المتفرد بالملك المتفرد بالتدبير قال الله عز وجل (ألا له الخلق والأمر) فالآية هذه فيها حصر الخلق والأمر للله وحده وذلك بتقديم الخبر على له الخلق وتقديم ماحق التأخير وهو يفيد الحصر كما قرر ذلك علماء البلاغة فالخلق كله له والأمر كله له عز وجل لا يشركه أحد قال الله تعالى (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) وقال تعالى) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) فبين الله عز وجل أن هولا السفهاء الذين يشركوا الذين أتخذهم عبادهم شفعاء عند الله شركاء مع الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض على وجه الاستقلال بها دون الله ما لهم فيهما من شرك أي لا يملكون شركة مع الله عز وجل فليسوا مستقلين في شي وليسوا شركاء مع الله في شي وماله منهم من ظهير يعني ما لله أحد من هولا يساعده ويعينه عز وجل بل هو مستغنى عن جميع خلقه ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له وذلك لكمال سلطانه وعظيم ملكه عز وجل لا أحد يشفع عنده يتوسط بشي لأحد من خير أو دفع ضرر إلا بإذنه عز وجل وفي هذا قطع لجميع ما يتعلق به المشركون الذين يدعون أنهم يعبدون هذه الأصنام يتخذونها شفعا عند الله قال لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ومن المعلوم أن الله لن يأذن لهذه الأصنام أن تشفع ولا يأذن لأحد أن يشفع لعابد هذه الأصنام قال الله تبارك وتعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) وقال تعالى (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) وحين إذن تنقطع كل الآمال التي يتعلق بها هولا المشركون الذين يعبدون مع الله غيره يرجونه نفعا أو دفع ضرر فأن ذلك لا ينفعه قال الله تعالى ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) إذن توحيد الربوبية إفراد الله عز وجل بأمور ثلاثة بالخلق والملك والتدبير فلا خالق إلا الله ولا مالك إلا الله ولا مدبر إلا الله وما يوجد من المخلوق من صنع الأشياء وما يوجد من المخلوق من الملك أو ما يوجد من المخلوق من الملك وما يوجد للمخلوق من التدبير فكله تدبير ناقص وهم أيضا غير مستقلين به بل ذلك من خلق الله عز وجل أما المنفرد بذلك على وجه الاستقلال فهو الله سبحانه وتعالى فللمخلوق خلق وإيجاد لكنه ليس كخلق الله فالله تعالى موجد الأشياء من العدم والمخلوق لا يستطيع أن يوجد الشي من العدم وإنما يستطيع أن يركب شيء مع شيء أو يغير صورة شيء إلى شي كما لو غير النجار الخشبة إلى باب والحداد الصفائح الحديد إلى أبواب وما أشبه ذلك لكنه لن يخلق هذه المادة قال الله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) كذلك الإنسان له ملك قال الله تعالى (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) وقال الله تعالى (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَه) ولكن هذا الملك ملك مقيد محدود ليس بشامل وليس للإنسان فيه مطلق التصرف بل هو محدود فما بيدي من الملك ليس لك وما بيدك من الملك ليس لي ثم أنه ملك محدود لا تستطيع أن تتصرف فيه إلا على حسب ما جاءت به الشرعية وكذلك للإنسان تدبير يدبر مملوكه ويدبر زوجته يدبر أهله لكنه تدبير ناقص ليس بشامل ولا للإنسان فيه مطلق الحرية وبهذا عرفنا أن المنفرد بالخلق والمنفرد بالملك والمنفرد بالتدبير هو الله عز وجل وحده هذا قسم من أقسام التوحيد وهذا التوحيد لم ينكره المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل كانوا يقرون به غاية الإقرار ولأن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ولأن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولون الله وهكذا الآيات الكثيرة كلها تدل على أن المشركين الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستباح دمائهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم كانوا يقرون بهذا التوحيد لكن ذلك لم ينفعهم لأنهم مشركون في توحيد الألوهية توحيد العبادة الذي هو حق الله خاص وهو القسم الثاني
توحيد الألوهية: المستفاد من قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) والألوهية مبنية على شيئين بل العبادة مبنية على شيئين المحبة والتعظيم فبالمحبة يكون الرجاء وفعل الأوامر طلبا للوصول إلى محبة الله عز وجل وثوابه والتعظيم وهو الأساس الثاني للعبادة وبه يترك الإنسان المناهي التي نهى الله عنها لأنه بتعظيمه لله يترك مناهيه ويخاف من عقابه ثم أن العبادة لها شرطان الشرط الأول الإخلاص لله والثاني المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فللعبادة إذن ركنان ولها شرطان أما ركنها فالمحبة والتعظيم وهما الأساس وأما شرطاها فهما الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودليل ذلك قوله تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) وقوله تعالى في الحديث القدسي (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غير تركته وشركه) ودليل من تابعه قوله تبارك قوله تبارك وتعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وقال من أحدث في أمرانا ما من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد أي مردود على صاحبه لأنه لم تتحقق فيه المتابعة وإذا نظرنا إلى حال كثير من المسلمين اليوم وجدنا أنهم ليسو على توحيد خالص في باب الألوهية والعبودية فمنهم من يعبد القبور ومنهم من يعبد الأولياء ومنهم من يطوف بالقبور رجاء لنفعها ودفعها للضرر ومنهم من يؤله الحكام ويجعلهم في منزلة الألوهية يطيعهم فيما حرم الله فيستحله وفيما أحل الله فيحرمه وهذا هو اتخاذهم أربابا قال الله تبارك وتعالى (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ويروى عن علي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يا رسول الله أنا لسنا نعبدهم قال (أليس يحرمون ما أحل فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه ) قال بلا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( فتلك عبادتهم) وهذا القسم من التوحيد هو الذي خالف فيه المشركون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنكروا عليه وقالوا له بل وقالوا فيه أجعل الآلهة إلها واحد إن هذا لشي عجاب وسبحان الله أن يكون التوحيد عجابا وأن يكون شركه صوابا فالعجب العجاب الذي لا ينقضي هو أن يشرك هؤلاء بالله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ولا يستجيب لهم إلى يوم القيامة وقد استباح النبي صلى الله عليه وآله وسلم دماء هولا المشركين ونسائهم وذرياتهم وأموالهم وقاتلهم على ذلك أشد المقاتلة حتى يعبدوا الله عز وجل أو يعطوا الجزية عن يدهم صاغرون أما القسم الثالث فهو
توحيد الأسماء والصفات: وهو إفراد الله عز وجل بأسمائه وصفاته وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي ما نفى الله عن نفسه والسكوت عما سكت الله عنه ورسوله، اثبات بلا تمثيل ونفيا بلا تعطيل وهذا هو الذي انقسمت فيه الأمة الإسلامية إلى أقسام متعددة فمنهم السلف وهم فقط أهل السنة والجماعة الذين أثبتوا لله ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إثباتا بلا تمثيل ونفوا ما نفى الله عن نفسه نفيا بلا تعطيل وسكتوا عما سكت الله عنه ورسوله فمن ذلك أنهم أثبتوا لله كلما وصف به نفسه كل صفة أثبتها لنفسه من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام والعزة والحكمة والرحمة والعجب والضحك وأثبتوا لله الوجه واليدين والعينين وأثبتوا لله القدم والساق وكذلك كل ما وصف الله به نفسه أثبتوه لله عز وجل لكن بلا تمثيل يقولون يثبتوا هذا ونقول ليس كمثله شي وهو السميع البصير فيقولون لله يد ولكن ليست كأيدينا وجه لكن ليس كوجوهنا عينان ليست لكن ليست كأعيننا وهكذا بقية الصفات ويقولون أيضا إن الله استوى على العرش على عليه علوا يليق بجلاله وعز وجل لكن ليس كاستوائنا نحن على السرير أو على الدابة أو على الفلك لا لأن الله تعالى يقول (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصيرِ) هذا هو مذهب السلف إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات ونفي ما نفى الله عن نفسه من الأسماء والصفات والسكوت عما سكت عنه وبعد ذلك تنازع الناس تنازعا طويلا عريضا لا ينبني على أصل لا من المعقول ولا من المنقول فأثبت قوم الأسماء وأثبتوا من الصفات صفات قليلة وليس على الوجه الذي يثبته عليه أهل السنة والجماعة بل يخالفونه في كيفية هذا الإثبات وأثبت قوم الأسماء ونفوا الصفات كلها أو إلا الحياة والعلم والقدرة ونفى قوم الأسماء والصفات ونفى قوم الإثبات والنفي واضطربوا في ذلك اضطراباً كثيرا لكن من هؤلاء من تصل بدعته إلى حد الكفر المخرج من الملة ومنهم من دون ذلك ولكن الحق فيما ذهب إليه سلف وهم أهل السنة والجماعة إثبات كل صفة أثبتها الله لنفسه بدون تحرير ولا تعطيل ولا تكيف ولا تمثيل ونفي كل صفة نفها الله عن نفسه والسكوت عما سكت الله عنه وهذه الطريقة السليمة الثابتة سمعا وعقلا وفطرة وللناس في هذا كتب ورسائل معلومة ومن أحسن ما رأيته تقريبا لهذا الأصل العظيم ما كتبه شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله وكتبه تليمذه بن القيم فإنهما كتبا في هذا الباب كتابات عظيمة مفيدة ما رأيت أحد كتب مثل كتابتها وغالب من يكتب في هذا الباب تجدهم يقلد بعضهم بعضا ولهم مقلدون مشفعون لا يخرجون عن كلامهم ولو تبين الحق والحقيقة إن الواجب على المرء أن يتبع ما دل عليه كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وآله سلم وأنه ليس بمعذور إذا خالف ذلك من أجل قول فلان وفلان قد يخطئ فلان وفلان من المتبوعين خطأ يعذر فيه لكن التابع الذي تبين له الحق لا يعذر في إتباعه لهؤلاء الذين أخطئوا وأنني من هذا المنبر منبر نور على الدرب في إذاعة المملكة العربية السعودية ادعوا جميع إخواني الذين درسوا في هذا العلم علم التوحيد علم العقائد أدعوهم إلى تقوى الله عز وجل وأن يسلكوا ما سلكه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الخلفاء الراشدين وغيرهم في هذا الباب العظيم الخطير لأن هذا الباب مبناه على الخبر المحض ليس للعقول فيه مجال إلا على سبيل الإجمال فإن العقول تهتدي إجمالا إلى إن الله موصوف بصفات الكمال منزه عن كل نقص وعيب ولكن لا تدرك هذا على وجه التفصيل وإنما يؤخذ ذلك من الكتاب والسنة وإذا كان هذا هو الواقع وإنما يتعلق بصفات الله وأسمائه خبر محض فإنه يجب علينا أن لا نحيد عن ما جاء به الكتاب والسنة قيد أنملة ولا سمك شعرة بل يجب علينا قبول ما جاءت به الكتاب والسنة من غير تحريف ولا ترطيب ولا تكليف ولا تمثيل ولقد رأينا أن الذين يحيدون عن هذه السبيل ويتخبطون خبط عشواء في بعض أسماء الله وصفاته رأينا أنهم يضلون كثيرا ويؤدي بهم الحال إلى الشرك وإلى الحيرة كما نقل ذلك عن كثيرا من زعمائهم حتى إن الفخر الرازى وهو من رؤسائهم قال فيما نقل عنه إما منشدا وإما آثارا نهاية أقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنينا ألأم ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تروي غليلا ولا تشفي عليلا وجدت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرا في الإثبات ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وأقرا في النفي (ليس كمثله شي ولا يحيطون به علما) ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ويقول الأخر لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك العوالم فلم أرى إلى واضع كف حائر على دقن أو قارعا سن نادم وهذا يدل على أن هولا المتكلمين الذين ذهبوا يحكمون على الله تعالى بعقولهم فيما يصفونه به كانوا في حيرة شديدة وأن من بلغ منهم الغاية في علم الكلام رجع إلى الحق وهو ما كان عليه سلف هذه الأمة من إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ونفي ما نفى الله عنه أو ما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والسكوت عن ما لم يرد به إثبات ولا نفي وهذا هو الأدب مع الله ورسوله فعلينا جميعا أن نتوب إلى الله عز وجل وأن نرجع إلى منهج سلفنا الصالح في هذا الباب العظيم الخطير ونسأل الله لنا ولإخواننا السلامة و التوفيق لمنهج السلف الصالح وأن يتوفانا على ما يحبه ويرضاه إنه جواد كريم وأرجو من الأخ السائل أن لا يستطيل هذا الجواب لما فيه من الفائدة العظيمة والحاجة الشديدة إليه وليكن على ما كان عليه السلف الصالح ثبت الله الجميع على ذلك إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين وصلى الله سلم على نبينا محمد وعلى آله والصحابة أجمعين.
مجموع فتاوى ومقلات ابن عثيمين رحمه الله
معالم التوحيد في الحج
للشيخ أحمد النجمي حفظه الله
إنَّ الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستهديه ، ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لاشريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وصحبه ، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ؛ أمَّا بعد :
فإنَّ خير الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وكل ضلالةٍ في النار .
ثمًَّ إنَّه قد طلب مني أن ألقي كلمةً في منسوبي التوعية الإسلامية في الحج بعنوان معالم التوحيد في الحج ، وحيث أنَّ التوحيد أساس الدين ، وقاعدته التي عليها يبنى ، ومنها ينطلق ، وشرطه الذي به يصح ، وبوجوده يقبل ؛ وعند عدمه تُردُّ جميع الأعمال ؛ قال تعالى : (وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثورا)وقال تعالى : (والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه والله سريع الحساب ) ومع كون المشرك لاتقبل منه حسنة ؛ فإنَّه أيضاً لايغفر له ذنبٌ ؛ قال تعالى : (إنَّ الله لايغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )ومع ذلك فإنَّ المشرك شركاً أكبر محرَّمٌ عليه دخول الجنة ، ومحتَّمٌ عليه دخول النار ، والخلود فيها ؛ قال تعالى عن نبيه عيسى عليه السلام أنَّه قال لقومه : (يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنَّه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).وهو موجبٌ لحبوط العمل ، وعدم استفادة صاحبه منـه قال الله عز وجل : ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنَّ عملك ولتكونن من الخاسرين $ بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ).وقال تعالى : ( والذين كفروا أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يومٍ عاصف).وهذه كلها مساوئ تترتب على ضد التوحيد وهو الشرك الأكبر ، وفي ذلك بيان لمزية التوحيد ، وأنَّ انعدامه تترتب عليه كوارث فضيعـة وفي هذا بيانٌ لمنـزلة التوحيد من الدين ككل .
أمَّا بالنسبة للحج فإنَّه أسس على التوحيد بيان ذلك من الآتي : قال تعالى : (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألاَّ تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍّ عميق ) قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسيره تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنـان في ج5 / 288 : " قال تعالى : (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ) أي هيأناه له ، وأنزلناه إياه ، وجعل قسماً من ذريته من سكانه ، وأمره الله ببنيانه ، فبناه على تقوى الله ، وأسسه على طاعة الله ، وبناه هو وابنه إسماعيل ، وأمره أن لايشرك به شيئا ، وأن يخلص لله أعمالـه ، ويبنيـه على اسـم الله : (وطهر بيتي ) أي من الشرك والمعاصي ومن الأنجاس والأدناس وأضافه الرحمن إلى نفسه لشرفه وفضله ، ولتعظم محبته في القلوب ، وتنصب إليه الأفئدة من كل جانب ، وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه ، لكونه بيت الرب سبحانه للطائفين به ، والعاكفين عنده ؛ المقيمين لعبادة من العبادات من ذكرٍ ، وقراءةٍ ، وتعلم علمٍ ، وتعليمه ، وغير ذلك من أنواع القرب ( والركع السجود ) أي المصلين أي طهروه لهؤلاء الفضلاء ؛ الذين همهم طاعة مولاهم ، وخدمته ، والتقرب إليه عند بيته …" فهؤلاء لهم الحق ، ولهم الإكرام ، ومن إكرامهم تطهير البيت لأجلهم ، ويدخل في تطهيره تطهيره من الأصوات اللاغية ، والمرتفعة التي تشوش على المتعبدين بالصلاة ، والطواف وقدَّم الطواف على الاعتكاف والصلاة لاختصاصه بهذا البيت ، ثمَّ الاعتكاف لاختصاصه بجنس المساجد " اهـ .
والمهم أنَّ الله عز وجل ما خصَّ إبراهيم عليه السلام بهذه المزية إلاَّ لما فيه من محبة التوحيد وبغض الشرك ؛ الذي حمله على التفاني في دعوة قومه ، ثمَّ الحوار معهم ، ثمَّ تكسير أصنامهم ، ثمَّ قرارهم لتحريقه ، ورميهم له في النار ، فجعلها الله عليه برداً ، وسلاماً ، ومع هذا كله فإنَّ الله عز وجل لمَّا بوأه مكان البيت أراه إياه ، وأمره ببنائه ؛ كان ذلك على شريطة نشر التوحيد ومحاربة الشرك : (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألاَّ تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ) ثمَّ أعاد الوصية مرةً أخرى في هذا السياق مشدداً على الأخذ بها مرةً أخرى ، ومؤكداً ذلك فقال في الآية 30 من هذا السياق : (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلاَّ ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور $ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنَّما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكانٍ سحيق ) تصويرٌ عجيب لمن وقع في الشرك كأنَّه سقط من أعلى شاهق من قمة جبل ؛ أو من فوق عمارةٍ طويلة من ناطحات السحاب ؛ أو من فوق طائرة في ارتفاع شاهق ؛ أو من السماء المعروفة ضد الأرض ؛ أي أنَّ من وقع في الشرك بالله كأنمَّا سقط من ذلك المكان العالي ، فتخطفه الطير ؛ أو تهوي به الريح في مكانٍ سحيق ؛ بعيد في الأعماق ، وفي هذا التصوير تنفيرٌ عن الشرك ، وتبشيعٌ لصورته ، وإظهارٌ له في هذه الصورة البشعة ؛ التي تشمئز منها النفوس ، ولقد كرر الله عز وجل في هذا المقطع الأمر بالتوحيد ، والتحذير من الشرك تارةً بالثناء على الموحدين ، وذكر صفاتهم ، وعواقبهم الحميدة ، فقال : (ولكل أمةٍ جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إلهٌ واحد فله أسلموا وبشر المخبتين $ الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهـم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) .
ثمَّ إنَّ الحج كله تذكيرٌ ، وتنويهٌ بتلك الأسرة الموحدة ؛ أسرة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ؛ إذ أمر الله عز وجل خليله أن يسكن من ذريته بعضاً ، فكان البعض هو إسماعيل وأمه هاجر ؛ أمره الله أن يسكنهما في ذلك المكان القفر ، والوادي الموحش ؛ الذي تحيط به الجبال من كل جانب ، وليس به إنسٌ ، ولا أنيس ، ولا فيه زرعٌ ، ولا ماء ؛ قال البخاري في كتاب الأنبياء من صحيحه باب رقم 9 رقم الحديث 3364 : (( حدثنا عبد الله بن محمد ؛ حدثنـا عبد الرزاق ؛ أخبرنا معمر ؛ عن أيوب السختياني ، وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعـة يزيد أحدهما على الآخر ؛ عن سعيد بن جبير ؛ قال ابن عباس : أول ما اتخذ النساء المنْطَق من قبل أمِّ إسماعيل ؛ اتخذت منطقا ؛ لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم ، وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفى إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي ؛ الذي ليس فيه إنس ، ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مرارا ، وجعل لا يلتفت إليها . فقالت له : آلله الذي أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذن لا يضيعنا ، ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الكلمات ، ورفع يديه ، فقال :(ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ) حتى بلغ : ( يشكرون) وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت ، وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى ؛ أو قال : يتلبط ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر ؛ هل ترى أحدا ، فلم تر أحـداً فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي ؛ رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة ، فقامت عليها ، ونظرت هل ترى أحداً ، فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات ؛ قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فذلك سعي الناس بينهما ، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا ، فقالت : صه تريد نفسها ، ثم تسمعت ، فسمعت أيضا ، فقالت : قد أسمعتَ إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه ؛ أو قال بجناحه حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه ، وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها ؛ وهو يفور بعد ما تغرف ؛ قال ابن عباس ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : يرحم الله أم إسماعيل ؛ لو تركت زمزم ؛ أو قال : لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا قال فشربت ، وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافوا الضيعة ، فإنَّ ها هنا بيت الله ؛ يبني هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله ، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم ؛ أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء ، فنـزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائراً عائفا ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جرياً ؛ أو جريين ، فإذا هم بالماء فرجعوا ، فأخبروهم بالماء ، فأقبلوا ؛ قال : وأمُّ إسماعيل عند الماء ، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننـزل عندك ؟ فقالت : نعم ، ولكن لا حقَّ لكم في الماء ؛ قالوا : نعم ؛ قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فألفى ذلك أمَّ إسماعيل وهي تحب الأنس ، فنـزلوا ، وأرسلوا إلى أهليهم فنـزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، وشبَّ الغلام ، وتعلم العربية منهم ، وأنفسهم وأعجبهم حين شبَّ ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم ، وماتت أمُّ إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته ، فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سألها عن عيشهم ، وهيئتهم ، فقالت : نحن بشرٍّ ؛ نحن في ضيق ، وشدة ، فشكت إليه ؛ قال : فإذا جاء زوجك ، فاقرئي عليه السلام ، وقولي له : يغير عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل ؛ كأنه آنس شيئاً ، فقال : هل جاءكم من أحدٍ ؟ قالت : نعم جاءنا شيخ كذا وكذا ، فسألنا عنك فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنَّا في جهدٍ ، وشدَّة ؛ قال : فهل أوصـاك بشيء ؟ قالت : نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول غير عتبة بابك ؛ قال : ذاك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك ، فطلقها ، وتزوج منهم أخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثم أتاهم بعد ، فلم يجده ، فدخل على امرأته ، فسألها عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا ؟ قال : كيف أنتم وسألها عن عيشهم ، وهيئتهم ؟ فقالت : نحن بخيرٍ ، وسعة ، وأثنت على الله ، فقال : ما طعـامكم ؟ قالت : اللحم . قال : فما شرابكم ؟ قالت : الماء . قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ولم يكن لهم يومئذٍ حبٌّ ، ولو كان لهم دعا لهـم فيـه قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه ؛ قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ، ومريه يثبت عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل ؛ قال : هل أتاكم من أحد ؟ قالت : نعـم أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت عليه ، فسألني عنك ، فأخبرته ، فسألني كيف عيشنا ؟! فأخبرته : أنَّا بخير ؛ قال : فأوصاك بشيء ؟ قالت : نعم هو يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك ؛ قال : ذاك أبي ، وأنت العتبة ؛ أمرني أن أمسكك ، ثم لبث عنهم ما شاء الله ، ثم جاء بعد ذلك ، وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة ؛ قريبا من زمزم ، فلمَّا رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد ، والولد بالوالد ، ثم قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر ؛ قال : فاصنع ما أمرك ربك ؛ قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك ؛ قال : فإنَّ الله أمرني أن أبني ها هنا بيتاً ، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها ؛ قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجـر ، فوضعـه له ، فقام عليـه ؛ وهو يبنـي وإسماعيل يناوله الحجارة ؛ وهما يقولان : ) ربنا تقبل منَّا إنك أنت السميع العليم ( قال : فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت ؛ وهما يقولان : ) ربنا تقبل منَّا إنك أنت السميع العليم ( .
ومن معالم التوحيد في الحج رمي الجمار حيث كان سبب ما ذكره الله عز وجل في سورة الصافات في قصة إبراهيم عليه والسلام حيث قال سبحانه وتعالى حاكياً عن إبراهيم أنَّه قـال : ) ربِّ هب لي من الصالحين فبشرناه بغلامٍ حليم $ فلما بلغ معه السعي قال يا بني إنِّي أرى في المنام أنِّي أذبحك فانظر ماذا ترى قال : يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الله من الصابرين $ فلمَّا أسلما وتلَّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدَّقت الرؤيا إنَّا كذلك نجزي المحسنين $ إنًَّ هذا لهو البلاء المبين $وفديناه بذبحٍ عظيم $ وتركنا عليه في الآخرين $ سلامٌ على إبراهيم ( .
وخلاصة هذه القصة : أنَّ إبراهيم الخليل رأى في المنام أنَّه يذبح ابنه الوحيد إسماعيل ، ولم يكن لإبراهيم يومئذٍ ابناً سواه ؛ لأنَّ ذلك كان قبل أن يبشَّر بإسحاق ، وكان قد دعا ربه أن يمنحه ويهب له من الصالحين ، فرزقه الله بإسماعيل من هاجر ، وبعد ولادته أمره أن يذهب به إلى جبال فاران ؛ وهي جبال كما سبق في القصة ليس بها ساكن ، ثمَّ أمره الله عز وجل أن يذبحه ، وقد جاء إلى ابنه إسماعيل يعرض عليه الأمر ؛ ليرى مدى تجاوبه ، فقال : ) يا بني إني أرى في المنام أنِّي أذبحك فانظر ماذا ترى ( فكان جوابه : ) يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( وعند ذلك استعدَّا للتنفيذ ، وتصوَّر أيها العاقل وقع الأمر على الأب ، وعلى الابن لولا أنَّهما رسولان ؛ لكان ما كان ؛ لعظم الفاجعة ، فصرعه في المكان الأول ، وأراد التنفيذ فقال له : الشيطان أتذبح ابنك على رؤيا ، فرماه بحجر ، فساخ ، وتحوَّل الأب بابنه إلى مكان آخر ، وأراد التنفيذ ، فناداه الشيطان مرةً أخرى ؛ أتذبح ابنك على رؤيا ، فرماه بحجرٍ فساخ ثمَّ انتق مرةً أخرى ، وعزم على التنفيذ ؛ فيقال أنَّه أمرَّ السكِّين على حلقه فلم يقطع ، فأتي بكبشٍ وقيل له : هذا فداء ابنك .
وتزعم اليهود أنَّ الذبيح هو إسحاق ، وذلك باطلٌ إنَّما هو من اختلاق اليهود ، وقد ردَّ عليهم بأمور :
أولاً : أنَّ الذي فدي بالذبحٍ مذكورٌ في هذا السياق بقوله : ( فبشرناه بغلامٍ حليم $ فلمَّا بلغ معه السعي قال يا بني إنِّي أرى في المنام إنِّي أذبحك فانظر ماذا ترى ) إلى أن قال : ( وفديناه بذبحٍ عظيم $ وتركنا عليه في الآخرين $ سلامٌ على إبراهيم $ كذلك نجزي المحسنين $ إنَّه من عبادنا المؤمنين …. ) ثمَّ قال : ( وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين $ وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسنٌ وظالمٌ لنفسه مبين) وفي هذا أعظم بيان ، وأوضح دليلٍ على كذب من زعم أنَّ الذبيح هو إسحاق .
ومما ردَّ به على اليهود قوله في موضع ( فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) فكيف يبشر به ، وبابنٍ له من بعده ؛ وكلاهما نبي ، ثمَّ يؤمر بذبحه ؛ وهذا مستحيل .
ثالثاً : أنَّ الذبح كان بمكة ، وإسحاق بالشام ؛ وإنَّما أمر بذبح الولد الذي بمكة ؛ وهو إسماعيل الذي لايختلف اثنان أنَّه تركه هو وأمُّه بمكة ؛ وهو صغير ، وأخرج الله لهما زمزم .
والمهم أنَّ الحج كلُّه إحياءٌ لمآثر ذلك الرجل المؤمن الموحد ، وإبراهيم الخليل عليه السلام وأهل بيته إسماعيل ، وأمَّه عليهما السلام ، فالبيت بناه إبراهيم وابنه إسماعيل ، فأمر الله الناس بالحج إليه ، والتطوف به ، وزمزم بثقها الله لإسماعيل وأمَّه ، وأمر بالشرب منها ، والصفا والمروة هما الجبلان اللذان ترددت إليهما هاجر ؛ حتى جلاَّ الله كربتها بما بثقه الله لها ولابنها من المـاء فالأمر بالسعي ، ورمي الجمار تذكيرٌ بموقف إبراهيم عليه السلام حين عزم على ذبح ابنه عليهما الصلاة والسلام .
فكل الحج تذكيرٌ بإبراهيم عليه السلام وأهل بيته ، وتنويهٌ بهم ، وتذكيرٌ بمآثرهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فمن طاف تذكَّر إبرهيم عليه السلام ؛ الذي كسَّر أصنام قومه ، ومن صلَّى عند المقام ، ونظر إلى الحجر ؛ الذي جعله الله آيةً ، فغاصت قدماه فيه ؛ وإذا سعى بين الصفا والمروة تذكَّر هاجر ، وثباتها ، وثقتها بربها ؛ وإذا شرب من زمزم تذكَّر إسماعيل عليه السلام الذي بثق له ماءها .
ومن معالم التوحيد في الحج التلبية التي يعقد بها الحاج والمعتمر نسكه ، وتكون هي ذكْرُه الذي يكرُّره ، ويتقرب إلى الله به ؛ لبيك اللهمَّ لبيك ؛ لبيك لاشريك لك لبيك ؛ فهذه التلبية تتضمن الاستجابة لله عز وجل ، والإنابة إليه ، والمسارعة إلى أمره بالفعل ، وإلى نهيه بالتـرك وإلى خبره بالتصديق . ومعنى لبيك : أي ألبي دعوتك ، وأستجيب لأمرك مرةً بعد مرة ؛ فعلاً للمأمور ، وتركاً للمحظور ، وخضوعاً لقدرك المقدور ، فلك الحمد على ذلك كله ، فأنت المستحق للحمد على ما لك من الكمالات ، وما تسديه من النِّعم ، وتصرفه من النقم ؛ لذلك فإنِّي ألبي دعوتك ، وأستجيب لأمرك مرةً بعد مرة ، وكرَّةً بعد كرة ؛ توحيداً لك ، وكفراً بالطواغيت والشركاء ، فكما أنَّك ليس لك شريكٌ في الملك ؛ فكذلك ليس لك شريكٌ في العبادة ؛ وحيث أنَّ التلبية هي لبُّ التوحيد وخلاصته ؛ لذلك فإنَّ الشيطان لمَّا أوقع عمرو بن لحي الذي كان ملِكاً على مكة وما حولها زمناً طويلاً ؛ حتى قيل أنَّه رأى العاشر من ولد ولده فوفد إلى ملوك الروم ، فرآهم يعبدون الأصنام ، فاستحسن عبادتها ، وأخذ له أصناما ، وكرَّ راجعاً فلمَّا قرب من مكة أراد أن يحرم بالعمرة ، ولبَّى قائلاً : لبيك اللهمَّ لبيك ؛ لبيك لاشريك لك لبيك ، فتمثل له الشيطان في صورة بشر ؛ وقال له : فيها زيادة ؛ قال : وماهي ؟ قال : إلاَّ شريكاً هو لك ؛ فكأنَّه اشمئز منها ، فقال : تملكه وما ملك ، فأدخل بهذه الكلمة الأخيرة ما قبلها من الشرك ؛ وهو قوله : إلاَّ شريكاً هو لك .
وهكذا الشيطان يموَّه على بني آدم ، ويخدعهم بشيءٍ من الحق ؛ ليدخل به الباطل ؛ وحيث أنَّ كلمة تملكه وما ملك ؛ كلمة حقٍّ ، فالله يملك المخلوقين ، وما ملكوا ؛ لكن أراد الشيطان بها استثناء الشريك مع الله عز وجل ، وبهذا أدخل هذا الرجل الشرك إلى بلاد العرب ، وغيَّر دين إبراهيم ؛ الذي كانوا عليه ؛ لذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديـث الكسـوف (( عرضت عليَّ النَّار ؛ فرأيت فيها عمرو بن لحي يجرُّ قصبه في النار )) أي أمعاءه ، والعياذ بالله .
وعلى هذا فيجب أن يحذر المسلم أن يلبي وهو واقعٌ في الشرك ؛ فيكون قد هدم توحيده بذلك الشرك الذي وقع فيه ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه .
بسم الله الرحمن الرحيم لماذا التوحيد أولاً ؟ الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ، وبعد : فقد طلب مني متصل عبر الهاتف كلمة بعنوان لماذا كان التوحيد أولاً ؟ وهذا يدل على أنَّ المتصل عرف أنَّ التوحيد هو أصل العقيدة الإسلامية ، وأساسها ، وشرط صحتها ، وقبولها ، وقد اقترح هذا الاقتراح ليفهم من لم يفهم أنَّ هذه منزلة التوحيد في الدين الإسلامي ؛ ذلك بأنَّ توحيد الألوهية هو الذي أمرت به الرسل جميعاًَ ؛ من أولهم نوح عليه الصلاة والسلام إلى آخرهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم ؛ قال تعالى : ) ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ( وقال سبحانه : ) وما أرسلنا من قبلك من رسول إلاَّ نوحي إليه أنَّه لا إله إلاَّ أنا فاعبدون ( وما من نبي يبعث إلى قومه إلاَّ وهو يقول : ) يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٌ غـيره ( ولما بعث الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى قومه مكث عشر سنوات لايدعو إلى شيءٍ غير التوحيد ، ثمَّ بعد العشر شرعت الصلاة ، وبقي ثلاث سنوات بمكة ، ثمَّ هاجر إلى المدينة ، وفي السنة الثانية من الهجرة شرعت الزكاة ، والصوم لذلك فإنَّ التوحيد هو أصل الدين وأساسه ، وقاعدته ؛ التي عليها يبنى لذلك فإنَّ من أفسد التوحيد بأن دعا مع الله إلهاً آخر فقد أفسد الدين كله ، وخرج من الإسلام ، وصار مرتداً ، وحبط عمله قال تعالى : ) ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنَّ عملك ولتكوننَّ من الخاسرين ( وقال عيسى عليه الصلاة والسلام : ) يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنَّه من يشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ( وقد حوت هذا الأصل العظيم شهادة أن لا إله إلاَّ الله ، وأنَّ محمداً رسول الله ؛ وهي تتكون من جزأين (( لا إله إلاَّ الله )) الجزء الأولى : نفي الألوهية عمَّا سوى الله عز وجل في قوله : (( أشهد أن لا إله )) أي لامعبود بحقٍّ في الوجود إلاَّ الله ، والجزء الثاني : في قوله : (( إلاَّ الله )) إثبات الألوهية لله وحده دون سواه ؛ لأنَّه هو الذي خلق هذا الكون قال تعالى : ) قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ( والآيات بعدها ، وقال تعالى : ) الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم ربكم فتبارك الله رب العالمين & هو الحي لا إله إلاًَّ هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين & قل إني نهيت أن أعبـد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين ( والآيات في الاستدلال على توحد الله بالألوهية كثيرةٌ ؛ فمن نطق بهذه الشهادة شهادة أن لا إله إلاَّ الله ، وأنَّ محمداً رسول الله فقد حاز الفوز ، ونجـا من الخسـران ؛ قال تعـالى : ) والعصر & إنَّ الإنسان لفي خـسر & إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ( وقال تعالى : ) الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ( فمن قالها معتقداً معناها عاملاً بمقتضاها فقد حاز السعادة في الدارين ؛ فهي الكلمة التي أرسل الله بها رسله ، وأنزل بها كتبه ، ومن أجلها خلقت الدنيا والآخرة ، والجنـة والنـار وفي شأنها تكون السعادة والشقاوة فقائلها ومعتقدها يعطى كتابه بيمينه ، ويثقل ميزان حسناته ويمر على الصراط ، ويدخل الجنة وينجو من النار ، وعنها يكـون السـؤال ؛ قال تعـالى : ) فلنسألنَّ الذين أرسل إليهم ولنسألنَّ المرسلين ( وقال تعالى : ) ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين & فعميت عليهم الأنبـاء يومئذٍ فهم لايتساءلون & فأمَّا من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين ( قال شيخنا حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله في معارج القبول جـ2 / 510 ط دار ابن الجوزي : " وهي أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده أن هداهم إليه ولهذا ذكرها في سورة النحل التي هي سورة النعم قبل كل نعمة ، فقال : ) ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنَّه لا إله إلاَّ أنا فاتقون ( وهي كلمة الشهادة ومفتاح دار السعادة وهي أصل الدين وأساسه ، ورأس أمره ، وساق شجرته ، وعمود فسطاطه ، وبقية أركان الدين وفرائضه متفرعةٌ عنها ، ومتشعبة منها ، ومكملات لها ، ومقيدةٌ بالالتزام بمعناها والعمل بمقتضاها فهي العروة الوثقى التي قال الله عز وجل : ) فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميعٌ عليم ( وهي العهد الذي قال الله عز وجل : ) لايملكون الشفاعة إلاَّ من اتخذ عند الرحمن عهدا ( قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه في تفسير العهد : هو شهادة أن لا إله إلاَّ الله والبراءة من الحول والقوة إلاَّ بالله ؛ وهي الحسنى التي قال الله عز وجل : ) فأمَّا من أعطى واتقى & وصدَّق بالحسنى & فسنيسره لليسرى ( وهي كلمة الحق التي ذكرها الله عز وجل في قوله : ) إلاَّ من شهد بالحق وهم يعلمون ( وهي كلمة التقوى التي ذكرها الله عز وجل في قوله : ) وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها ( انتهى ما أردت نقله بتصرف ، ومن هنا نعلم لماذا كان التوحيد هو الأول في الإلتزام ، وهو الأول في الدعوة وهو أصل الدين وأساسه وقاعدته ؟ فإسلامٌ بلا توحيد بناءٌ بلا قاعدة ، ونعلم أيضاً ضلال من يدعون إلى خلافةٍ ، ويزعمون أنَّهم يدعون إلى إعادة الخلافة الضائعة فنقول : إنَّ الله أمرنا بالتوحيد الذي دعت إليه جميع الرسل ، وسيسألنا الله : ماذا كنتـم تعبـدون ؟ وماذا أجبتــم المرسلـين ؟ ويا خسارة من أفنى عمره في الدعوة إلى خلافة ، ويا خسارة من أجابه وتابعه على هذا الباطـل وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليماً كثيراً . كتبه أحمد بن يحيى النَّجمي 17 / 4 / 1443 هـ منقول من مكتبة الشيخ النجمي رحمه الله |
||
حقا لتوحيد منزلة كبرى نسال الله ان يبصرنا بنور الحق
[صوتية] ((التوحيد : مسائل وفضائل )) إصدار مميز لمجموعة من العلماء :
************************* ***** التوحيد فضائل ومسائل ************************* ***** إصدار رائعٌ ومميّزٌ ، جُمع فيه كلام أهل العلم بطريقة جذّابة في : مسائل التّوحيد وفضائله ومظاهره وغير ذلك ، لزمرة خيّرة من العلماء الموثوقين : ** العلّامة : عبد الله بن حميد ـ رحمه الله تعالى .
** العلّامة : عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله تعالى .
** العلّامة : محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى . ** العلّامة : صالح بن فوزان الفوزان ـ حفظه الله تعالى . ** العلّامة : عبد العزيز آل الشيخ ـ حفظه الله تعالى . ** العلامة : صالح اللحـيدان ـ حفظه الله تعالى .
تنبيه مهمّ : الملفات المرفقة (افحص الملف ببرامج الحماية وقم بالتبليغ عنه إذا وجدته مخالفا) التوحيد فضائل مسائل.mp3‏ (13.53 ميجابايت) للامانة العلمية الموضوع منقول |
||
يقوم الشيخ بشرح متن كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العييد.
منقول للفائدة
[شرح متن] شرح الشيخ صالح اللحيدان ـ حفظه الله ـ على كتاب التوحيد
وبعد فهذا شرح سماحة الشيخ العلامة : صالح بن محمد اللحيدان حفظه الله على كتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله والذي ألقاه بجامع عثمان بن عفان – حي الوادي مدينة الياض بداية من يوم الإثنين 28 شوال 1443 هـ أسأل الله جلّ وعلا أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح . [ الشريط 01 ]
[ الشريط 02 ] [ الشريط 03 ] [ الشريط 04 ] [ الشريط 05 ] [ الشريط 06 ] [ الشريط 07 ] [ الشريط 08 ] [ الشريط 09 ] [ الشريط 10 ]
[ الشريط 11 ]
للامانة العلمية الموضوع منقول |
||