[منهجية] "إنما العلم بالتعلم" الشيخ محمد عمر سالم بازمول
هذا المقطع هو جزء من حديث مروي عن رسول الله ، وقد رأيت شرحه وبيانه في المسائل التالية:
المسألة الأولى : هذا الحديث علقه البخاري في كتاب العلم باب العلم قبل القول والعمل.
وهو مروي عن معاوية . وعن أبي الدرداء وعن أبي هريرة.
أمّا عن معاوية فأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/395)، وفي مسند الشاميين (1/431)، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (1/12) من طريق عُتْبَةُ بن أَبِي حَكِيمٍ، [عن مكحول] عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْفِقْهُ بِالتَّفَقُّهِ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ".
قال في مجمع الزوائد (1/154): "رواه الطبراني في الكبير وفيه رجل لم يسم، وعتبة بن أبي حكيم وثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان وضعفه جماعة"اهـ
وقال في فتح الباري (1/161): "قوله: "وأنما العلم بالتعلم" هو حديث مرفوع أيضا أورده بن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية أيضا بلفظ: "يا أيها الناس تعلموا إنما العلم بالتعلم والفقه بالتفقه ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، إسناده حسن إلا أن فيه مبهما اعتضد بمجيئه من وجه آخر، وروى البزار نحوه من حديث ابن مسعود موقوفا، ورواه أبو نعيم الأصبهاني مرفوعا، وفي الباب عن أبي الدرداء وغيره فلا يغتر بقول من جعله من كلام البخاري"اهـ
قلت: فالحديث مرفوعاً عن معاوية ، يصلح للتقوي والانجبار.
أمّا عن أبي الدرداء فأخرجه الطبراني (في الجزء المفقود من المعجم الكبير)، وفي الأوسط (3/118)، وفي مسند الشاميين (3/209)، وابن أبي الدنيا في الحلم ص43، وابن شاهين في الترغيب في فضائل الأعمال ص272 الشاملة، والزهد لهناد (2/605)، وأبو نعيم في الحلية (5/174)، من طريق عَبْدِ الْمَلِكِ بن عُمَيْرٍ، عَنْ رَجَاءِ بن حَيْوَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ، ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ لَمْ يَسْكُنِ الدَّرَجَاتِ الْعُلا، وَلا أَقُولُ لَكُمُ الْجَنَّةَ: مَنْ تَكَهَّنَ، أَوِ اسْتَقْسَمَ، أَوْ رَدَّهُ مِنْ سَفَرٍ تَطَيُّرٌ"، قال الطبراني: "لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سُفْيَانَ إِلا مُحَمَّدُ بن الْحَسَنِ"اهـ. قلت: مراده لم يروه عن سفيان مرفوعاً، وإلا فقد رواه ابن واهب عن سفيان موقوفاً على أبي الدرداء t، كما سيأتي عند ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
قال في مجمع الزوائد (1/154): "رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد وهو كذاب"اهـ. قلت: وأورده ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/710)، وقال: " قال المؤلف هذا حديث لا يصح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمتهم به محمد بن الحسن؛ قال احمد بن حنبل: ما أراه يساوي شيئا. وقال يحيى وأبو داؤد: كان يكذب. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال الدارقطني: لا شيء"اهـ؛ فعليه الحديث مرفوعاً عن أبي الدرداء t عن رسول الله ^، لا يثبت و لا يصلح للمتابعة والشواهد.
أمّا عن أبي هريرة فأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الحلم ص17، والخطيب في " تاريخه " (9 / 127) من طريق إسماعيل بن مجالد ، عن عبد الملك بن عمير ، عن رجاء بن حيوة ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنما العلم بالتعلم ، والحلم بالتحلم ، ومن يتحر الخير يعطه ، ومن يتق الشر يوقه ».
وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة تحت رقم (342)!
قلت: في نفسي شيء من ثبوت هذا السند، فإن إسماعيل بن مجالد خولف فيه، خالفه الثقات سفيان الثوري وعبيدالله بن عمرو، بروايته موقوفاً عن أبي الدرداء t لا عن أبي هريرة t، (وسيأتي ذكر روايتهما عند رواية أبي الدرداء الموقوفة)، فهذا السند يظهر أنه معلول، ورواية إسماعيل بن مجالد هذه شاذة، لا تصلح للتقوي بها.
وجاء موقوفاً بسند صحيح عن ابن مسعود عند وكيع في الزهد (3/831، تحت رقم 518)، وعن وكيع أخرجه ابن أبي شيبة (6/188)، وأحمد في الزهد ص300، وأبوخيثمة في العلم ص28، ولفظه: "إن أحداً لا يولد عالماً، وإنما العلم بالتعلم". وعند البزار في مسنده (5/423) من طريق أَبِي الأَحْوَصِ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ : "إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ ضَلاَلَةٌ ، فَعَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ ، فَإِنَّهَا مَأْدُبَةُ اللهِ ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَأْدُبَةِ اللهِ فَلْيَفْعَلْ ، فَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ".
وعن أبي الدرداء أخرجه البيهقي في الشعب (7/398 بسيوني)، من طريق العلاء بن هلال عن عبيد الله بن عمرو، وأخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (2/175 الشاملة) من طريق ابن وهب عن سفيان الثوري، كلاهما (عبيدالله بن عمرو والثوري عن عبدالملك بن عمير عن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء t موقوفاً عليه.
فالحديث أعني قوله: "إنما العلم بالتعلم" لا ينزل – إن شاء الله – عن الحسن لغيره، بسنده عن معاوية t مرفوعاً، ويشهد له وروده موقوفاً عن ابن مسعود t وأبي الدرداء t.
المسألة الثانية : المراد بالعلم العلم الشرعي، وهو القائم على اتباع كلام الله عزوجل وسنة رسوله ، وما جاء عن الصحابة . وهكذا في كل نص شرعي إنما يراد بالعلم العلم الشرعي. وأمّا العلوم القائمة على التجربة والملاحظة فهذه تعلمها من باب ?وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ? (الأنفال:60).
المسألة الثالثة : معنى الحديث : ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ من الأنبياء وورثتهم على سبيل التعلم([2]). ففيه تأكيد أن طريق العلم الشرعي هو التعلم.
و(التعلم) على صيغة تفعل، وباب "تفعّلَ" يكون للتكلف غالباً، نحو "تعلّمَ وتصبر وتشجع وتحلم".
وقد يكون التكلف ممزوجاً بإِدعاء شيء ليس من شأن المدعي. نحو تكبر وتعظم وتسرّى، أي تكلف مظاهر الكبرياء والعظماء والسراة([3]).
ووزن "تَفَعّلَ" يكون لمطاوعة فعل غالباً نحو: "قَدَّمته فتقدم" كـ "تَقَدَّم" و "تزَكَّى" و "تقَدَّس" ومنه "اطَّهَرَ" و "ادَّكَرَ" بزيادةِ التاءِ وتضعيفِ العين ([4]).
والمقصود : أن معنى تعلم فيه معنى التكلف في طلب الشيء، وفيه معنى القصد والتوجه إليه. وفيه معنى التدرج في حصول الشيء.
المسألة الرابعة : فيه أن العلم الشرعي والمعرفة بالأحكام الشرعية لا تنال بالكشف والتجلي أو بالإشراق والتخلي، خلافاً لمن يقول: علمكم ميت عن ميت وعلمنا عن الحي الذي لا يموت : حدثني قلبي عن ربي؛ فلا مجال لكل ذلك، لأن العلم إنما يكون بالتعلم .
المسألة الخامسة : فيه أن العلم ليس طريقه العقل المجرد، فلا مكان للتحسين والتقبيح العقلي.
قال ابن تيمية رحمه الله: "والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع :
أحدها : أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة و لو لم يرد الشرع بذلك كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم و الظلم يشتمل على فسادهم فهذا النوع هو حسن و قبيح و قد يعلم بالعقل و الشرع قبح ذلك لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك و هذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين و التقبيح فإنهم قالوا إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة و لو لم يبعث إليهم رسولا و هذا خلاف النص قال تعالى: ?وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا?، و قال تعالى: ?رسلا مبشرين و منذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل?، وقال تعالى: ?و ما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا و ما كنا مهلكي القرى إلا و أهلها ظالمون?، وفى الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: "ما أحد أحب إليه العذر من الله و من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين و منذرين".
و النصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرة ترد على من قال من أهل التحسين و التقبيح أن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم.
النوع الثاني : أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا و إذا نهى عن شيء صار قبيحا و اكتسب الفعل صفة الحسن و القبح بخطاب الشارع.
والنوع الثالث : أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد هل يطيعه أم يعصيه و لا يكون المراد فعل المأمور به كما أمر إبراهيم بذبح ابنه فلما أسلما و تله للجبين حصل المقصود ففداه بالذبح و كذلك حديث : "أبرص و أقرع و أعمى لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة فلما أجاب الأعمى قال الملك: أمسك عليك مالك فإنما ابتليتم فرضي عنك و سخط على صاحبيك"، فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به. و هذا النوع و الذي قبله لم يفهمه المعتزلة و زعمت أن الحسن و القبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع و الأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان و أن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع و لا بالشرع و أما الحكماء و الجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة و هو الصواب"اهـ([5]).
المسألة السادسة : فيه أنه لا سبيل للعلم الشرعي عن طريق الرياضات والخلوات، وانتظار حصول الخوارق والكرامات، بل طريقه طلب العلم الشرعي بتعلمه من الكتاب والسنة وما جاء عن السلف الصالح وأخذه عن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.
المسالة السابعة: فيه أن العلم لابد فيه من تكلف وجهد وتعب وعناء ومشقة، فلا ينال العلم مستحي و لا متكبر ولا ينال العلم براحة الجسد.
ولا بد فيه من تتبع المشايخ وثني الركب عندهم، والرحلة لطلبه.
قالت عائشة : "نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين" أخرجه مسلم.
وقال مجاهد : " لا ينال العلم مستحي ولا مستكبر " .
عبد الله بن يحيى بن أبي كثير قال : سمعت أبي يقول : «لا ينال العلم براحة البدن»([6]).
المسألة الثامنة : فيه أن العلم ليس بمخصوص بأهل فن، و لا بأهل صنعة، و لا بأهل نسب معين، أو بلد معين، فإنما العلم بالتعلم.
المسألة التاسعة : فيه أن العلم ليس بمنحة و لا هدية و لا هبة، و لا شهادة و لا تزكية، إنما العلم بالتعلم.
المسألة العاشرة : أن العلم بكتاب الله وسنة رسوله وما جاء عن السلف الصالح طريقه تعلم ذلك، فالتقليد واتباع غير ذلك والتزامه ليس بعلم.
المسألة الحادية عشرة : فيه الترغيب في طلب العلم. وأن طريقه هو التعلم والأخذ عن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.
المسألة الثانية عشرة : فيه أن المنامات والرؤى ليست علماً، لأنها لا تكون بالتعلم. فلا يثبت بها حكم شرعي!
المسألة الثالثة عشرة : قوله: "والحلم بالتحلم" الحلم هو الأناة والطمأنينة وضبط النفس عند سورة الغضب، وترك العجلة والطيش في مكافأة من ظلمك، وهو خلق من الأخلاق الممدوحة شرعاً وعقلاً.
والتحلم تكلف ذلك.
ففيه أن خلق الحلم مكتسب.
وقد يكون جبلياً كما في حديث أَشَجُّ بني عَصَرٍ المعروف بأشج عبدالقيس واسمه المنذر بن عائذ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ "، قُلْتُ: مَا هُمَا ؟ قَالَ: " الْحِلْمُ ، وَالْحَيَاءُ " قُلْتُ: أَقَدِيمًا كَانَ فِيَّ أَمْ حَدِيثًا ؟ قَالَ: " بَلْ قَدِيمًا " قُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا"([7]).
والظاهر أن هكذا سائر الأخلاق، فقد جاء في الصحيحين عن شقيق عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله
كذابا"
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــ
([2]) فتح الباري (1/161).
([3]) جامع الدروس العربية (32/3 الشاملة).
([4]) معجم القواعد العربية (باب الفاء).
([5]) مجموع الفتاوى (8/434- 436).
([6]) جامع بيان العلم وفضله (الشاملة 1/436).
([7]) المسند الرسالة 29/361، تحت رقم 17828).
على الطرح المميز
نترقب المزيد
بالتوفيق