بسم الله الرحمن الرحيم
الختانُ من محاسن الشَّرائع الَّتي شرعها الله سبحانه لعباده ، وهو مُكمِّل للفطرة الَّتي فطرهم عليها ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال : "الفطرة خَمْسٌ مِنَ الفِطْرَةِ : الختان ، والاستحداد ، وتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ ، ونتف الإبط ، وَقَصُّ الشَّارِبِ" [متفق عليه]
قال ابن القيم رحمه الله : " والفطرة فطرتان : فطْرَة تتَعَلَّق بِالقَلْبِ وهي معرفة الله ومحبَّته وإيثاره على مَا سواهُ ، وفطرة عمليَّة وهي هذه الخصَال ، فالأولى تزكيّ الرُّوح وتطهِّر القلب ، والثَّانية تطهِّر البدن ، وكلٌّ مِنْهُمَا تمدُّ الأُخرَى وتقوِّيها وكان رأس فطرة البدن الخِتَان " (1)
ولازال المسلمون يختنون أبناءهم ويحرصون على ذلك ، اتِّباعًا للفطرة السَّليمة والحنيفيَّة السَّمحة ، وقد ذكر الفقهاء أحكامًا كثيرة تتعلَّق بالاختتان ، ومِن تلكم الأحكام المذكورة ما يتعلَّق بعقيقة الغلام ، فتكون يوم سابعه ، أم أنَّ الأمر فيه واسع متى ما شاء الإنسان ختن ولده ؟
وفي هذا المقال نذكر ما ورد من أحاديث تفيد توقيت الختان باليوم السَّابع ، ونتكلَّم عن أسانيدها من حيث الثُّبوتُ وعدمهُ ، ثمَّ نورد مذاهب الفقهاء في المسألة بشيء من الاختصار والإيجاز ، وعلى الله التُّكلان .
رُويت أحاديث توقيت الختان باليوم السَّابع عن ثلاثة من الصَّحابة رضي الله عنهم :
1- من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما :
أخرجه ابن عدِّي في "الكامل" (4/180) ، وابن أبي الدُّنيا في "كتاب العيال" (582) ، والطَّبراني في "المعجم الأوسط" (6708) ، و"الصَّغير" (891) ، والبيهقـي في "السُّنن الكبرى" (8/562) من طُرق عن محمَّد بن أبي السّري ، عن الوليد ابن مسلم ، عن زهير بن محمَّد ، عن محمَّد بن المنكدر ، عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنه قال :" عَقَّ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم عنِ الحَسَنِ والحسين وختنهُمَا لسبعةِ أيَّامٍ " (2)
وقال ابن عدي : " لا أعلم رواه عن الوليد غير محمَّد ابن المتوكِّل ، وهو محمَّد بن أبي السّري العسقلاني " .
وقال الطَّبراني : " لم يرْوِه عن محمَّد بن المنكدر غير زهير ابن محمَّد ، ولم يقل في هذا الحديث أحدٌ من الرُّواة "وختنهما لسبعة أيَّام" إلاَّ الوليد بن مسلم "
قلت : وهذا السَّند ضعيف ، والحديث منكر .
محمَّد بن المتوكِّل العسقلاني له أوهام كثيرة وأحاديث مناكير كما في ترجمته من "تهذيب الكمال" (26/355) ، وقال عنه الحافظ في "التَّقريب" : "صدوق عارف له أوهام كثيرة"
فمثله لا يقبل منه تفرُّده بالحديث دون سائر الرُّواة .
وأشار الطَّبراني إلى علَّة أخرى في الإسناد ، وهي تفرُّد زهير ابن محمَّد أو الوليد بن مسلم كما في "المعجم الصَّغير" بقوله في الحديث : "وختنمها لسبعة أيَّام" .
وزهير بن محمَّد الخراساني المكِّي ، جملةُ القول فيه ما قاله ابن رجب رحمه الله : "وفصل الخطاب في حال رواياته أنَّ أهل العراق يروون عنه أحاديث مستقيمة ، وما خُرِّج عنه في الصَّحيح فمن رواياتهم عنه .
وأهل الشَّام يروون عنه روايات منكرة ، وقد بلغ الإمام أحمد بروايات الشَّاميِّين عنه إلى أبلغ من الإنكار ، قال أحمد في رواية الأثرم ، الشَّاميُّون يروون عنه أحاديث مناكير ، ثمَّ قال : تُرى هذا زهير بن محمَّد الَّذي يروي عنه أصحابنا ؟!ثمَّ قال : أمَّا رواية أصحابنا عنه فمستقيمة : عبد الرَّحمن ابن مهدي وأبو عامر أحاديث مستقيمة صحاح ، وأمَّا أحاديث أبي حفص التّنيسـي عنه فتلك بواطيل موضوعة ، أو نحو هذا ، أمَّا بواطيل فقد قاله " .
وقال البخاري في زهير : " روى عنه ابن مهدي ، والعقدي ، وموسى بن مسعود ، روى عنه أهل الشَّام أحاديث مناكير … " .
قال ابن عدي : " لعلَّ الشَّاميِّين حيث رَوَوْا عنه أخطأوا عليه ، فإنَّه إذا حدَّث عنه أهل العراق فرواياتهم عنه شبه المستقيم وأرجوا أنَّه لابأس به " (3) .
قلت : وهذه من رواية الشَّاميِّين عنه ، فالوليد بن مسلم شامي وقد تفرَّد به عنه .
وأمَّا تدليس الوليد بن مسلم كما أشار إلى ذلك الشَّيخ الألباني وأعلَّ الطَّريق به وبابن أبي السّري كما في "تمام المنَّة" (ص:67-68) ، فلعلَّ ما تقدَّم يكفي في إعلاله ، لأنَّه صرَّح بالتَّحديث عند ابن أبي الدُّنيا في "العيال" والطَّبراني في "الأوسط"
فجملة القول إنَّ الحديث بهذا الإسناد منكرٌ لا يصحُّ
2- من حديث عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما :
أخرجه الطَّبراني في "المعجم الأوسط" (558) من طريق روَّاد بن الجرَّاح ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :"سبعة مِنَ السُّنَّة في الصَّبيِّ يوم السَّابع ، يُسَمَّى ، ويُختن ، ويُماط عنه الأذى ، وتُثقب أذنُه ، ويُعقُّ عنه ، ويُحلق رأسه ، ويُلطخ بدم عقيقته ، ويُتصدق بوزن شعره في رأسه ذهبًا أو فضَّة" .
قال الطَّبراني : " لم يروِ هذا الحديث عن عبد الملك إلاَّ رواد " .
وهذا أيضًا منكر ، فرواد بن الجرَّاح له أفراد وغرائب ومناكير ، وضعَّفه غير واحد ، كما في تهذيب الكمال (9/227) ، قال ابن عدي : " ولروَّاد بنِ الجَرَّاح أحاديثُ صالحةٌ وإفراداتٌ وغرائبٌ ينفردُ بها عن الثَّوري وغيرِ الثَّوري ، وعامَّة ما يَرْوِي عن مشايخه لا يُتابعه النَّاسُ عليه وكان شيخًا صالحًا ، وفي حديثِ الصَّالحين بعضُ النُّكرة إلاَّ أنَّهُ ممَّن يُكْتَبُ حديثُهُ " (4)
والحديث ذكره الألباني في "السِّلسلة الضعيفة" (5432) وقال : " منكر بهذا التَّمام" وأعلَّه برواد بن الجرَّاح .
وأمَّا في "تمام المنَّة" (ص:68) فجعله شاهدًا لحديث جابر رضي الله عنه ، وقد علمت ما فيهما .
وممَّا يدلُّ على نكارة حديث رواد بن الجرَّاح أنَّه جاء عن ابن عبَّاس ما يخالفه ، روى البخاري في "الصحيح" (6299) عن ابن عَبَّاسٍ قالَ : "وكَانُوا لا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حتَّى يُدْرِكَ"
3- من حديث عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه :
أخرجه الدَّيلمي في "مسند الفردوس" (1/46) كما في "السِّلسلة الضَّعيفة" (2610) ، وقاضي المارستان في "أحاديث الشُّيوخ الثّقات" (733) من طريق عبد الله بن أحمد بن عامر ، عن أبيه ، عن أبيه موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمَّد ، عن أبيه محمَّد بن علي ، عن أبيه علي ابن الحسين بن علي ، عن أبيه علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم :"اخْتنُوا أوْلاَدَكُمْ يَوْمَ السَّابع ، فإنَّه أطْهَرُ وَأَسْرَعُ لِنَبَاتِ اللَّحْمِ ، وإنَّ الأرْضِ تَنْجُسُ مِنْ بَوْلِ الأقْلَفِ أرْبَعِينَ صَبَاحًا" .
وأخرجه أبو القاسم بن عساكر في "تبيين الامتنان بالأمر بالاختتان" (23) من طريق داود بن سليمان قال : حدَّثني علي ابن موسى الرِّضا به .
والحديث موضوع ، ففي السَّند الأوَّل : عبد الله بن أحمد ابن عامر وأبوه ، قال الذَّهبي : " عبد الله بن أحمد بن عامر عن أبيه عن علي الرِّضا عن آبائه بتلك النُّسخة الموضوعة الباطلة ما تنفكُّ عن وضعه أو وضع أبيه " (5)
وفي السَّند الثَّاني : داود بن سليمان الجرجاني الغازي ، قال عنه الذَّهبي ، كذَّبه يحيي بن معين ولم يعرفه أبو حاتم ، وبكلُّ حال فهو شيخ كذَّاب ، له نسخة موضوعة على الرِّضا (6) ، ثمَّ ذكر له هذا الحديث .
والحديث حكم عليه بالوضع كلٌ من : الذَّهبي كما تقدَّم وابن عراق في "تنزيه الشَّريعة" (46) ، والشَّوكاني في "الفوائد المجموعة" (16) ، والألباني في "السِّلسلة الضَّعيفة" (3280، 6210)
4– قال ابن المنذر في الإشراف (3/424) : "وَرُوِيَ عَن أبي جَعْفَر أنَّ فَاطِمَةِ كَانَت تختن وَلَدهَا يوْمَ السَّابع"
ولم أقف عليه سندًا ، وأورده بصيغة التَّضعيف ، والله تعالى أعلم
والخلاصة أنَّه لم يصحَّ توقيت الختان باليوم السَّابع ، والأحاديث في ذلك ضعيفة معلَّة .
اعلم أنَّ الفقهاء اختلفوا في الختان الغلام يوم السَّابع على قولين :
القول الأوَّل : كراهة ختن الصَّبي يوم سابعه ، وعلَّة ذلك التَّشبه باليهود .
وهو قول الحسن البصري والحنَفِيَّةِ ، والمالِكيَّة ، وَالحَنَابِلَةِ (7)
القول الثَّاني : ذهبت الشَّافعيَّة إلى استحباب الختان يوم السَّابع (8)
ومن قال بالكراهة اختلف في تحديد وقت الختان :
ففِي قولٍ للحنابلة والمالكيَّة : إنَّ المستحبَّ ما بين العَام السَّابع إلى العاشر من عُمْرِهِ ، لأنَّها السِّنُّ الَّتي يُؤمَرُ فيها بالصَّلاَةِ ، وهو قول الليث ابن سعد (9)
وفي روايةٍ عن مالك أنَّه وقْتُ الإثغَار، إذا سقطتْ أسنانه (10) وقال أبو بكر ابن المنذر : " ليس في باب الختان نهي ثبت ، ولا لوقته خبر يرجع إليه ولا سنَّة تتَّبع ، وتُستعمل الأشياء على إباحة ، ولا يجوز حظر شيء منها إلاَّ بحجَّة ، ولا نعلم مع من منع أن يختن الصَّبي لسبعة أيَّام حجَّة " (11)
والَّذي يظهر أنَّ الأمر راجع إلى العُرْف ، ولا يجوز تأخيره إلى حدِّ البلوغ لقول ابن عباس المتقدِّم :"كَانُوا لا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حتَّى يُدْرِكَ" .
قال ابن القيِّم : " أي حتَّى يُقارب البلوغ كقوله تعالى ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة:234] ، وبعد البلوغ الأجل لا يتأتَّى الإمساك ، وقد صرَّح ابن عَبَّاس أنَّه كانَ يوم موت النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم مختونًا وأخبر في حجة الوَدَاع الَّتي عاش بعدهَا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بضعَة وثَمَانِينَ يَوْمًا أنَّه كان قد ناهز الاحتلام وقد أمر النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم الآبَاء أن يأمروا أولادهم بالصَّلاة لسبع وأن يضربوهم على تركها لعشر ، فكيف يسوغ لهم ترك ختانهم حتَّى يجاوزوا البُلوغ ؟ والله أعلم (12)
فأمَّا إن خِيفَ عَلَيْهِ ، لم يَجُزْ أنْ يُخْتن حتَّى يَغْلب عَلَى الظَّنَّ سَلامتهُ ، ويرجع تقرير ذلك إلى الطَّبيب الثِّقة ، وقد يكون الصَّبيُّ في يوم سابعه ضعيفًا ، فلذلك نَقل ابنُ المنذر عن الحسن البصري أنَّه قال : هو خطر ، أمَّا بعد السَّابع ، فإنَّه يقوى على ذلك ، والأولى ختانه في صغره قبل أن يميِّز ويُدرك ، فإنَّه يتألَّم بذلك ، وأمَّا إذا كان ابنَ شهر أو نحوه فيسرع برؤ جرحه ولا يتألَّم ، والله تعالى أعلى وأعلم .
الحواشي :
(1) : "تحفة المودود" (ص:161)
(2) : ووقع في "الأوسط" زيادة ابن عقيل في الإسناد بين زهير بن محمَّد وابن المنكدر ، ونبَّه المحقِّق أنَّ الزِّيادة ليست من الرِّواية في شيء
وممَّا ينبَّه عليه أيضًا أنَّ ابن الملقِّن في كتابه "البدر المنير" (9/341) عزَا هذه الرِّواية للطَّبراني في "الصَّغير" من حديث قتادة عن أنس وهو وَهْمٌ ، ولم ينبِّه عليه المحقِّق
(3) : انظر : "شرح علل التَّرمذي" (2/614، 617)
(4) : "الكامل" (4/120)
(5) : ميزان الاعتدال (4/59)
(6) : "الميزان" (3/12)
(7) : انظر : "حاشية ابن عابدين" (5/478) ، "مواهب الجليل" (3/258) ، "المجموع" (1/313)، "الإنصاف" (1/124)
(8) : "المجموع شرح المهذَّب" (1/350) ، النَّووي على مسلم (3/148)
(9) : انظر : "الإنصاف" (1/124) ، و"الإشراف على مذاهب العلماء" (3/424)
(10) : "مواهب الجليل" (3/258)
(11) : "الإشراف على مذاهب العلماء" (3/424)
(12) : "تحفة المودود" (ص:182)