العبر من فتنة عبد الرحمن بن الأشعث:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد
ففي قصص من سبقنا عبرة ومزدجر ( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم.)
يسمع الناس بالفتن وخطرها وسوء عاقبتها ، ولكن كما قيل بالمثال يتضح المقال .
من الفتن التي هزت الأمة الإسلامية ، وكادت تطيح بالخلافة زمن بني أمية ؛ فتنة عبد الرحمن بن الأشعث.
وكان ابتداؤها سنة إحدى وثمانين .( للهجرة)
قال الحافظ ابن كثير : وكان سبب هذه الفتنة أن ابن الأشعث كان الحجاج يبغضه ، وكان هو يفهم ذلك ، ويضمر للحجاج السوء وزوال الملك عنه، ثم إن الحجاج بن يوسف نائب الخليفة عبد الملك بن مروان على العراق جهز جيشا من البصرة والكوفة وغيرهما لقتال رتبيل الكافر ملك الترك ، الذي آذى أهل الإسلام وقتل فئاما منهم، وأمر الحجاج على ذلك الجيش ابن الأشعث ، مع أنه كان يبغضه كما تقدم ، حتى إنه كان يقول : ما رأيته قط حتى هممت بقتله.
ودخل ابن الأشعث يوما على الحجاج وعنده عامر الشعبي، فقال الحجاج انظر إلى مشيته !! والله لقد هممت أن أضرب عنقه.
فأخبر الشعبي ابن الأشعث بما قال الحجاج ، فقال ابن الأشعث : وأنا والله لأجهدن أن أزيله عن سلطانه إن طال ببي البقاء .
فسار ذلك الجيش بإمرة ابن الأشعث ، حتى وطئ أرض ( رتبـيل ) ، ففتح مدنا كثيرة ، وغنم أموالا كثيرة ، وسبى خلقا من الكفار ، ورتبيل ملك الكفار يهرب منهم من مدينة لأخرى .
ثم إن ابن الأشعث رأى لأصحابه أن يوقفوا القتال، حتى يتقووا إلى العام المقبل، ولتستقر الأمور في البلاد التي فتحوها .
فكتب إليه الحجاج يأمره بالاستمرار في القتال، ويذمه ويعيره بالنكول عن الحرب ، فغضب ابن الأشعث، ثم سعى في تأليب الناس على الحجاج .
وقام والد ابن الأشعث _ وكان شاعرا خطيبا، فقال : إن مثل الحجاج في هذا الأمر ومثلنا كما قال القائل : (
احمل عبدك على الفرس ، فإن هلك هلك ، وإن نجا فلك )، إنكم إن ظفرتم كان ذلك زيادة في سلطان الحجاج ، وإن هلكتم كنتم الأعداء البغضاء .
ثم قال : اخلعوا عدو الله الحجاج ، ولم يذكر خلع الخليفة ، اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا لأميركم عبد الرحمن بن الأشعث، فإني أشهدكم أني أول خالع للحجاج .
فقال الناس من كل جانب : خلعنا عدو الله الحجاج _ وكانوا يبغضونه _ ووثبوا إلى ابن الأشعث فبايعوه ، ولم يذكروا خلع الخليفة .
وبعد بيعة الفتنة تلك تبدلت الأمور، ووقع ما لم يكن في الحسبان، فقد انصرف ابن الأشعث عن قتال الترك الكفرة !! وسار بجيشه المفتون مقبلا إلى الحجاج ليقاتله ويأخذ منه العراق ، فلما توسطوا في الطريق ، قالوا : إن خلعنا للحجاج خلع لابن مروان ، فخلعوا أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ، وجددوا البيعة لابن الأشعث
، فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وخلع أئمة الضلالة وجهاد الملحدين . فلما بلغ الحجاج ما صنعوا من خلعه وخلع أمير المؤمنين ، كتب إلى الخليفة بذلك يعلمه ، ويستعجله في بعثه الجنود إليه ، فانزعج الخليفة واهتم .
وسعى الناصحون المصلحون في درء الفتنة . فكتب المهلب بن أبي صفرة إلى ابن الأشعث يحذره ، وينهاه عن الخروج على إمامه وقال :
إنك با ابن الأشعث قد وضعت رجلك في ركاب طويل ، أبق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، الله الله !! انظر لنفسك فلا تههلكها ، ودماء المسلمين فلا تسفكها ، والجماعة فلا تفرقها والبيعة فلا تنكثها ، فإن قلت أخاف الناس على نفسي ، فالله أحق أن تخافه من الناس ، فلا تعرضها لله في سفك دم أو استحلال محرم ، والسلام عليك.
ثم أخذ الخليفة عبد الملك في تجهيز الجنود في نصرة الحجاج في قتاله الخارجين على الجماعة ، وجعل المفتونون يلتفون على ابن الأشعث من كل جانب ، حتى قيل إنه سار معه ثلاثة وثلاثون ألف فارس ومائة وعشرون ألف راجل !!!
حتى دخلوا البصرة ، فخطب ابن الأشعث وبايعهم، وبايعوه على خلع الخليفة ونائبه الحجاج بن يوسف ، وقال لهم ابن الأشعث :
ليس الحجاج بشيء ، ولكن اذهبوا بنا إلى عبد الملك الخليفة لنقاتله ، ووافقه على خلعهما جميع من بالبصرة من الفقهاء والقراء والشيوخ والشباب.
قال الحافظ ابن كثير : وتفاقم الأمر وكثر متابع ابن الأشعث على ذلك ، واشتد الحال وتفرقت الكلمة جدا ، وعظم الخطب واتسع الخرق ا.هـ
ثم التقى جيش الخليفة وجيش ابن الأشعث ، فقال القراء الذين خلعوا البيعة : أيها الناس قاتلوا عن دينكم ودنياكم .
وقال عامر الشعبي _ وكان من الأئمة ، لكن ابن الأشعث فتنه _ قال : قاتلوهم على جورهم ، واستـغلالهم الضعفاء !! وإماتتهم الصلاة .
ثم بدأ القتال ، ما بين كر وفر ، يقتتل الناس كل يوم قتالا شديدا ، حتى أصيب من رؤوس الناس خلق كثير ، واستمر هذا الحال مدة طويلة ، ثم كتب الخليفة إلى ابن الأشعث ومن معه يقول :
إن كان يرضيكم مني عزل الحاج خلعته ، وأبقيت عليكم أعطياتكم ، وليـخير ابن الأشعث أي بلد شاء يكون عليه أميرا ما عاش وعشت .
فلما بلغ ذلك ابن الأشعث خطب الناس وندبهم إلى قبول ما عرضه عليهم أمير المؤمنين من عزل الحجاج وإبقاء الأعطيات ، فثار الناس من كل جانب ، وقالوا: والله لا نقبل ذلك ، نحن أكثر عددا وعدة !!
ثم جددوا خلع الخليفة عبد الملك واتفقوا على ذلك كلهم ، واستمر القتال بين الفئتين مائة يوم وثلاثة أيام على ما قاله ابن الأثير .
وصبر جيش الخليفة بقيادة الحجاج ، بالحرب ، فأمر بالحملة على كتيبة القراء الذين خلعوا الخليفة ، لأن الناس كانوا تبع لهم ، وهم الذين يحرضونهم على القتال ، والناس يقتدون بهم.
فحمل جيش الحجاج عليهم ـ، فقتل منهم خلقا كثيرا ، وبعدها انهزم ابن الأشعث ومن معه ، فلحقهم جيش الحجاج يقتلون ويأسرون ، وهرب ابن الأشعث ومعه جمع قليل من الناس، فأرسل الحجاج خلفه جيشا كثيفا ليقتلوه ويأسروه.
ففر ابن الأشعث حتى دخل هو ومن معه إلى بلاد رتبيل الكافر ملك الترك !!! .
فأكرمه وأنزله عنده وأمنه وعظّمه كيدا للمسلمين.
هرب ابن الأشعث بعد أن أثار فتنة أهلك الحرث والنسل فقتل من أتباعه من قتل، وأسر كثير منهم، فقتلهم الحجاج بن يوسف، وهرب من بقي منهم .
ومنهم عامر الشعبي الإمام الثقة، فأمر الحجاج أن يؤتى بالشعبي فجيء به حتى دخل على الحجاج .
قال الشعبي : فسلمت عليه بالإمرة ، ثم قلت :
أيها الأمير ، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق، ووالله لا أقول في هذا المقام إلا الحق ، قد والله تمردنا عليك وحرضنا، وجهدنا كل الجهد، فما كنا بالأتقياء البررة، ولا بالأشقياء الفجرة، لقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا ، فإن سطوت فبذنوبنا، وما جرت إليك أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك ، وبعد فالحجة لك علينا .
فقال الحجاج لما رأى اعترافه وإقراره : أنت يا شعبي أحب إلي ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا ، ثم يقول ما فعلت ولا شهدت ، قد أمنت عندنا يا شعبي .
ثم قال الحجاج : يا شعبي كيف وجدت الناس بعدنا يا شعبي ؟ وكان الحجاج يكرمه قبل دخوله في الفتنة .
فقال الشعبي مخبرا عن حاله بعد مفارقته للجماعة : أصلح الله الأمـير ؛ قد اكتحـلت بعدك السـهر !! واستـوعرت السـهول !! واستجلـست الخوف !! واستحليت الهم !! وفقدت صالح الإخوان !! ولم أجد من الأمير خلفا !!
فقال الحجاج : انصرف يا شعبي ، فانصرف آمنا .
ثم شرع الحجاج في تتبع أصحاب ابن الأشعث ، فقتلهم مثنى وفرادى !!! حتى قيل إنه قتل منهم بين يديه مائة ألف وثلاثين ألفا !!! منهم محمد بن سعد بن أبي وقاص ، وجماعات من السادات ، حتى كان آخرهم سعيد بن جبير رحمه الله .
وكان ممن تبع ابن الأشعث طائفة من الأعيان منهم مسلم بن يسار وأبو الجوزاء ، وأبو المنهال الرياحي ومالك بن دينار والحسن البصري رحمه الله.
وكان ممن خرج أيضا سعيد بن جبير وابن أبي ليلى الفقيه وطلحة بن مصرف وعطاء بن السائب ، وغيرهم.
قال أيوب : فما منهم من أحد صرع مع ابن الأشعث إلا رغب عن مصرعه ، ولا نجا أحد منهم إلا حمد الله أن سلمه !!!
ثم إن الحجاج كتب إلى رتبيل ملك الترك الذي لجأ إليه ابن الأشعث ، أرسل إليه يقول : والله الذي لا إله إلا هو ، لئن لم تبعث إلي بابن الأشعث لأبعثن إليك بألف ألف مقاتل ولأخربنها.
فلما تحقق الوعيد من الحجاج استشار في ذلك بعض الأمراء فأشار عليه بتسليم ابن الأشعث قبل أن يخرب الحجاج دياره ، ويأخذ عامة أمصاره ، فعند ذلك غدر رتبيل بابن الأشعث فقبض عليه وعلى ثلاثين من أتباعه ، فقيدهم بالأصفاد وبعثهم مع رسل الحجاج إليه.
فلما كانوا ببعض الطريق بمكان يقال له ( الرخج ) صعد ابن الأشعث وهو مقيد بالحديد إلى سطح قصر ، ومعه رجل موكل به لئلا يفر فألقى ابن الأشعث بنفسه من ذلك القصر ، وسقط معه الموكل به فماتا جميعا ، فعمد الرسول إلى رأس ابن الأشعث فاختزه ، وقتل من معه من أصحابه ، وبعث برؤوسهم إلى الحجاج فأمر فطيف برأس ابن الأشعث في العراق ، ثم بعثه إلى أمير المؤمنين عبد الملك فطيف به في الشام ، ثم بعث به إلى أخيه عبد العزيز بمصر فطيف برأسه هناك ، ثم دفن .
قال الحافظ ابن كثير : والعجب كل العجب من هؤلاء الذين بايعوه بالإمارة : كيف يعمدون إلى خليفة قد بويع له بالإمارة على المسلمين من سنين ، فيعزلونه وهو من صليبة قريش ، ويبايعون لرجل هندي بيعة لم يتفق عليها أهل الحل والعقد !!!
ولهذا لما كانت هذه زلة وفلتة نشأ بسببها شر كثير ، هلك فيه خلق كثير ، فإنا لله وإنا إليه إليه راجعون ا.هـ
ذكر ابن الأثير في تاريخه : أن رجلا من الأنصار جاء إلى عمر بن عبد العزيز فقال : أنا ابن فلان بن فلان ، قتل جدي يوم بدر ، وقتل جدي فلان يوم أحد ، وجعل يذكر مناقب سلفه ، فنظر عمر إلى جليسه فقال : هذه المناقب والله ، لا يوم الجماجم ويوم راهط، من الخروج وحمل السلاح على المسلمين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله رب العالمين .
الفوائد والعبر :
إن فتنة ابن الأشعث كانت فتنة عظيمة فرقت الكلمة ، وقتل فيها أكثر من مائة ألف مسلم ، وفي هذه الحادثة فوائد منها :
أولها :
أن للفتن في أول نشوئها لذة وحلاوة تستهوي كثيرا من الناس ، إلا من عصمه الله ونجاه ، وقد خرج كثير من القراء مع ابن الأشعث ، فضلا عن عامة الناس ، كان كلامهم في أول الفتن قويا ومهيجا ، تكلم متكلموهم ، وأبدع خطباؤهم ، في التحريض على قتال جند الخليفة .
قال أبو البختري : أيها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم ، فوالله لئن ظهروا عليكم ليفسدن عليكم دينكم ، وليملن على دنياكم .
قوال عامر الشعبي : أيها الناس قاتلوهم ، ولا يأخذكم حرج من قتالهم ، والله ما أعلم على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أعمل بجور منهم.
وقال سعيد بن جبير نحو ذلك.
ووالله لو كانوا يعلمون ما ستـؤول الأمور إليه لما قالوا ما قالوا، ولكنها الفتن تعمى فيها الأبصار .
ثانيا : إذا وقعت الفتن فإن ضحاياها الأبرار والفجار ، قال الله تعالى ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة )
ذكر ابن الأثير في تاريخه أن الحجاج لما غلب جيش ابن الأشعث أخذ يبايع الناس وكان ظالما، وكان لا يبايع أحدا إلا قال له اشهد على نفسك أنك كفرت، يعني بنقضك البيعة وحملك السلاح، فإن قال نعم بايعه ، وإلا قتله .
فأتاه رجل من خثعم كان معتزلا للناس كلهم ، فسأله الحجاج عن حاله فأخبره باعتزاله ، قال الحجاج ، بل أنت متربص بنا ، أتشهد أنك كافر ؟
قال الرجل : بئس الرجل أنا أعبد الله ثمانين سنة ، ثم أشهد على نفسي بالكفر
قال الحجاج : أقتلك إذا ؟
قال الرجل : وإن قتلتني.
فقتله الحجاج ، ولم يبق أحد من أهل الشام والعراق إلا رحمه ، وحزن لقتله.
ثالثا : إذا ولت الفتنة مدبرة عند ذلك يندم من دخل فيها لما يراه من الفساد والشرر الذي نتج عنها ، واستمع إلى أهلها وقد جيئ بهم حتى أوقفوا بين يدي الحجاج بن يوسف.
هاهو فيروز بن الحصين أسر فأتي به إلى الحجاج فقال له : أبا عثمان !! ما أخرجك مع هؤلاء ، فوالله ما لحمك من لحومهم ولا دمك من دمائهم.
فقال : أيها الأمير فتنة عمت ، فأمر به الحجاج فضربت عنقه.
ثم دعا الحجاج بعمر بن موسى فجيء به موثقا، فعنفه الحجاج ، فاعتذر، وقال أصلح الله الأمير !! كانت فتنة شملت البر والفاجر، فدخلنا فيها ، فقد أمكنك الله منا، فإن عفوت فبفضلك ، وإن عاقبت ظلمت مذنبين.
فقال الحجاج : أما إنها شملت البر والفاجر ، فقد كذبت ، ولكنها شملت الفاجر وعوفي منها الأبرار ، وأما إقرارك فعسى أن ينفعك .
فرجى له الناس السلامة ، لكن الحجاج أمر به فضربت عنقه.
ثم دعا الحجاج بالهلضام بن نعيم فقال : ما أخرجك مع ابن الأشعث ؟ وما الذي أملت ؟
فقال الرجل : أملت أن يملك ابن الأشعث فيوليني العراق ، كما ولاك عبد الملك.
فقتله الحجاج.
ثم دعا بأعشى همدان وقد تبع ابن الأشعث ، وعمل الشعر في التحريض على قتال الخليفة ، فلما دخل على الحجاج أنشد يعتذر :
أبى الله إلا أن يتمم نوره *** ويطفئ نار الفاسقين فتخمدا
فقتلاهم قتلى ضلال وفتنة *** وجيشهم أمسى ذليلا ممردا
فما لبث الحجاج أن سل سيفه *** فولى جيشــنا وتبددا
جنود أمير المؤمنين وخيله *** وسلطانه أمسى عزيزا مؤيدا
ليهنأ أمير المؤمنين ظهوره *** على أمة كانوا سعاة وحسدا
نزلوا يشتكون البغي من أمرائهم *** وكانوا هم أبغى البغاة وأعندا
فقال الحجاج : والله يا عدو الله لا نحمدك ، وقد قلت في الفتنة ما قلت ، وحرضت الناس علينا، فصربت عنقه وألحق بأصحابه .
رابعا : إذا وقعت الفتنة سعى أهلها في استدراج بعض الخواص إليهم ليحتجوا بهم عند العامة ، وقد قيل لابن الأشعث : إذا أردت أن يقاتل الناس حولك كما قاتلوا حول هودج عائشة فأخرج الحسن البصري معك ، فأخرجه .
وخرج مع ابن الأشعث بعض الأئمة ، كسعيد بن جبير ، ومالك بن دينار وغيرهما ، ففتن الناس والمعصوم من عصمه الله .
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الفتن ويأمر بذلك في كل صلاة ، لأن بعضها يجعل الحليم حيرانا ، ذلك أن أهل الفتنة يزينون فعلهم بكثرة موافقيهم .
فابن الأشعث قاتل معه أكثير من مائة وخمسين ألفا ، وتبعه جماعة من السادات ، لكن فعلهم لم يكن مرضيا ، إذ هو خلاف النصوص الآمرة بالجماعة والصبر الناهية عن الخروج والفرقة والمنازعة .
قال أيوب : ما منهم من أحد صرع مع ابن الأشعث إلا رغب عن مصرعه ، ولا نجا من نجا منهم إلا حمد الله وسلمه .
قال الإمام ابن بطة العكبري في التحذير من الاغترار بالكثرة : والناس في زماننا أسراب كالطير يتبع بعضهم بعضا !! لو ظهر فيهم من يدعي النبوة _ مع علمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء _ أو من يدعي الربوبية لوجد على ذلك أتباعا وأشياعا.
خامسـا : أن عاقبة الفتن وخيمة ، ومآل أهلها الخسران ، فهاهو ابن الأشعث خرج على جيش إسلامي مجاهدا في سبيل الله ، ثم صار رأسا في الفتنة ، فترك قتال الكفار وهجم على أهل الإسلام !! وقتل بسببه جمع كثير، واضطربت الأمور وكثر الشر، ثم آلت به الحال أن يلجأ إلى ملك الكفار الذي كان يقاتله بالأمس، ففرح به الكافر وأكرمه إغاظة للمسلمين.
وهكذا الفتن تقود صاحبها إلى ما لا يريد .
وليت ابن الأشعث وقف عند هذا لكان هينا، وما هو وربي بهين.
لقد غدر به الملك الكافر وأرسله موثقا إلى الحجاج، فأسقط في يده ، فلما كان ببعض الطريق ، صعد قصرا فألقى نفسه ، فمات، فمن كان يظن أن نهايته تكون كذلك.
سـادسـا : لقد ألبس ابن الأشعث فتنته هذه لباس الشرع ، وأوهمهم أنها إنكار للمنكر ونصرة للدين ، لكن الباطن خلاف ذلك ، قد ذكر ابن الأثير أن الحجاج كان يبغض ابن الأشعث ، ويقول : ما رأيته قط إلا وأردت قتله ، وهو يعلم ذلك ، وكان يهدد ويقول : وأنا والله لأجهدن أن أزيل الحجاج عن سلطانه إن طال بي البقاء .
ونص ابن كثير على أن سبب تلك الفتنة كره ابن الأشعث للحجاج ، ثم جمع حوله من يبغضون الحجاج ، فانظروا كيف استغل كره الناس ليثأر منه وينكد عليه !!
ولهذا فمن دعا إلى مفارقة الجماعة وإثارة الفتنة فهو صاحب هوى مريض قلب ، مخالف للسنة ، وإن ظهر فعله ذلك في صورة إنكار للمنكر.
سابعا : إذا وقعت الفتنة ، فإن أول من يصطلي بنارها من أوقدها ، فتنقلب الأمور عليهم ، ويتسلط الجهال من أتباعهم حتى يكون الأمر والنهي عليهم .
وقد كتب الخليفة إلى ابن الأشعث عزل الحجاج وتوليته مكانه، وبقاء أعطيات الناس ، فمال إلى ذلك ابن الأشعث، فخطب الناس وقال : اقبلوا ما عرض عليكم ، وأنتم أعزاء أقوياء ، فوثب الجهال من كل مكان يقولون : لا والله لا نقبل نحن أكثر منهم عددا وعدة ، وأعادوا خلع الخليفة ثانية ، وبايعوا ابن الأشعث ، فانصاع لأمرهم ووافقهم حتى آل أمره إلى ما آل إليه .
ثامنا : من فارق الجماعة ودخل في الفتنة فهو في غربة ووحشة ، ومآله أن يتخلى عنه أحبابه وأعوانه .
هاهو الشعبي يصف حاله بعد أن خلع البيعة ودخل مع ابن الأشعث، فقدت صالح الإخوان ولم أجد من الأمير خلفا .
من أجل ذلك كان الأئمة يحرصون على الاجتماع زمن الفتن.
يقول حنبل : اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله _ يعني الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله _ يقولون له : إن الأمر تفاقم وفشا _ يعنون إظهار القول بخلق القرآن ، ولا نرضى بإمرته ولا سلطانه ، فناظرهم الإمام أحمد في ذلك وقال : عليكم بالإنكار في قلوبكم ، ولا تخلعوا يدا من طاعة ، لا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم ، وانظروا في عاقبة أمركم ، واصبروا حتى يستريح بر ويسترح من فاجر .
وقال لهم : ليس هذا _ يعني نزع أيديهم من طاعتهم _ صوابا ، هذا خلاف الآثار ا.هـ
الإمام أحمد يقول هذا ، وقد آذاه السلطان وجلده وسجنه ، ثم منعه من لقيا الناس ، لكن أهل السنة أهل عدل واجتماع ومتابعة للنصوص يرجون ما عند الله تعالى.
وآخرها : أن هذه الفتنة تدل على أهمية التمسك بالآداب الشرعية زمن الفتن ، فمن تلك الآداب :
*الحذر من الفتن وعدم الاستشراف لها واعتزال أهلها .
* ومنها الحلم والرفق ، فلا تعجل في قبول الأخبار ، والأفكار والآراء ، والحكم على الناس تخطئة وتصويبا ، فما كان الرفق في شيء إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه .
* ومنها لزوم جماعة المسلمين وإمامهم والحذر من التفرق ، لقول حذيفة رضي الله عنه لما ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم الفتن ، قال فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟
فقال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
* ومنها الالتفاف حول علماء السنة أهل التوحيد ، والحذر من التفرق عليم ومنازعتهم ، والصدور عن آرائهم والاستجابة لنصحهم.
ووالله ، وتالله ، وبالله : إن أول باب يلج الرجل منه إلى الفتنة الطعن بالعلماء ، والاستبداد بالرأي دونهم .
ومن رأيتموه يقدح في علمائنا فاعلموا أنه مفتون ، فإن من علامة أهل البدع الوقيعة في أهل السنة.
* ومنها أن الفتن إذا وقعت فما كل ما يعلم يقال، وليت بعض الناس يتركون الأمور العظام للعلماء الكبار حفاظا على اجتماع الكلمة، لأن مرد الناس في آخر أمرهم للعلماء، فمن كان عنده رأي فليعرضه عليهم ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم )
مقال منقول _ بتصرف _ من خطبة جمعة للشيخ سلطان العيد حفظه الله وسدده ووفقه .
هذا رابط تنزيل الخطبة لمن يفضل الاستماع. فتنة ابن الأشعث.
—
(1) العنوان من تصرفي.