أيها الإخوة الكرام :
إنّ صلاة التراويح صلاة عظيم مباركة ، سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحيتها الأمة من بعده ، وهي من قيام الليل ، وقيام الليل أفضل صلاة بعد الفريضة كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة(مسلم (1163) .) رضي الله عنه وهو دأب الصالحين وسرّ المتقين ، الذين تجافَت جُنوبُهم عن المضاجع يدعون الله تعالى خوفاً وطمعاً ، يرجون رحمته ويخافون عذابه .
هل سمعتم بفضل قيام الليل وعِظَم أهله وما ورد لهم من أجور عظيمة وهبات جسيمة ، استمعوا إلى ما يقول الله تعالى في أهله تعظيماً لهم وتنويهاً بشأنهم : ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات : 17 – 18] .
بقيام الليل تطهر قلوبنا وتغمرنا السعادة وتكسونا البهجة .
عن أبي أُمامةَ الباهلي ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقُربة إلى ربِّكم ومكفرةٌ للسيئات ومَنهاةٌ عن الإثم) رواه الترمذي وابن خزيمة(الترمذي (3549) ، وابن خزيمة (1135) .).
لعلّك يا قائم الليل تحظَى بحلاوة لا يجدها غيرك فتقوم ليلة فتصيب رحمةً أو تنال بركةً ، أو توافق ساعة مباركة ، فيُجيب اللهُ دعاءك .
عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إنّ في الليلِ لَساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إيّاه وذلك كلّ ليلة) (مسلم (757) .) رواه مسلم .
قال النووي رحمه الله : "فيه إثبات ساعة الإجابة في كل ليلة ويتضمن الحثّ على الدعاء في جميع ساعات الليل رجاء مصادفتها"(شرح النووي على صحيح مسلم (6/375) .).
أيها الصائمون :
إنكم في موسم عظيم مبارك ، يتأكد فيه الإيثار من الطاعات والتزوّد من القرُبات لا سيما قيام الليل ، وهو يصدق بصلاة التراويح مع المسلمين ، وقد وردّت بخصوصه أحاديث شريفة منها :
الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (مَنْ قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّمَ مِنْ ذنبه) (البخاري (2009) ، ومسلم (759) .).
وعند أصحاب السنن : "مَن قام ليلة مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة"(أبو داود (1375) والترمذي (806) والنسائي (1364) وابن ماجة (1327) .).
أيها الأخيار :
إن سروركم وبهاءكم في قيام الليل في صلاة التراويح ، فحافظوا عليها ولا تضيعوها ، وقوموا بواجباتها ولا تهملوها ، واطمئنّوا فيها ولا تنقروها .
كم هو جميلٌ أن نُؤدّي التراويح جماعة خاشعين في أدائها ونتدبّر كتاب ربنا ونبكي عند سماعه ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُوَجِلَتْ قُلُوبُهُمْوَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال : 2] .
أيها الأخيار :
ما أعظم مواظبتكم على التراويح وخشوعكم فيها وتسابقكم إليها، إن لكم بها مغفرة ورحمة وحمداً وذكراً وشرفاً وأجراً .
إن صلاة التراويح مِن خير ما يعتني به المصلّون في هذا الشهر الكريم ، وإننا إذ نؤكد العناية بها ننبّه على أمور تتعلّق بها :
أولاً : عددها : والناس في عددها مختلفون اختلافاً كثيراً ، ما بين متشدد ومتساهل ، والواجب عند الاختلاف والتنازع الرجوع إلى الكتاب والسنة ، فهما الحكم على كل الآراء والاجتهادات قال تعالى : ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِوَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِوَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌوَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء : 59]، وقال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُوَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [الشورى : 10] .
فهل ورد في الكتاب أو السنة ما فيه صراحة تحديد التراويح أو على سبيل الإشارة ؟
نقول : ثبت في المتفق عليه من حديث عائشة وأخرجه البخاري في كتاب "التهجّد" باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان وغيره من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها : كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ؟ فقال : ( ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) (البخاري (1147) ، ومسلم (738) .) ، لكنها كما وصفتها عائشة : (يصلي أربعاً فلا تسأل عن حُسنهنّ وطولهنّ ، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حُسنهنّ وطولهنّ ، ثم يصلي ثلاثاً) .
فمن تيسرّ له القيام بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذه الصفة فلا ريب أنه خير هديٍ وأحسنه وأكمله ، ولا ينبغي له العدول عن ذلك ، وهذا مسلك بعض الأئمة كمالك بن أنس ـ رحمه الله ـ كما في إحدى الروايات عنه ، فقد قال : "الذي جمعَ عليه الناسَ عمرُ بن الخطاب أحبّ إليَّ ، وهو إحدى عشرة ركعة ، وهي صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قيل له : إحدى عشرة ركعة بالوتر ؟ قال : نعم ، وثلاث عشرةَ قريب" قال : "ولا أدري من أين أُحدث هذا الركوع الكثير" ، وهذا ذكره السيوطي في رسالته في التراويح ، وقد وافق مالكاً على هذا الرأي أبو بكر بن العربي ـ رحمه الله ـ كما في شرحه لسنن الترمذي حيث قال : "والصحيح أن يصلي إحدى عشرة ركعة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وقيامه ، فأما غير ذلك من الأعداد فلا أصل له و لا حدّ فيه " ، وعلى هذا جرى عمل الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال فقد روى مالك والبيهقيّ بسند صحيح عن السائب بن يزيد أنه قال : "أمرّ عمرُ بن الخطاب أبيّ بن كعب وتميماً الدّاري أن يقوما بالناس بإحدى عشرة ركعة ، قال : وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصى عن طول القيام ، وما كنا ننصر إلا في فروع الفجر"(الموطأ (1/114) .) ، وفروع الفجر المراد به أوائله .
ورأى أكثر العلماء أن التراويح تطوّع مطلق ، وليس لها عدد محدود ، وأجازوا الزيادة على حديث عائشة ومآخذهم في ذلك مختلفة ، وعمل الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ ليس فيه التزام عدد معيّن ، فقد صح عنهم أنهم صلّوا إحدى عشرة ركعة ، وإحدى وعشرين ، وثلاثاً وعشرين ، فقد يعمد بعضهم إلى تطويل الصلاة وتحسينها ويقلل الركعات فيجعلها إحدى عشرة كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وتارةً يزيدون في الركعات فيصلون إحدى وعشرين أو ثلاثاً وعشرين ويخفّفون القيام ، وزيادتهم تكون إدراكاً لبعض الفضيلة بسبب ما جرى من تخفيف القيام ، وصنيعهم هذا راجع إلى مراعاة أحوال الناس من ضعف وقوة ونشاط ، وهذا نهجٌ حسن ، يُفعل عند المصلحة والحاجة ، وأما التزام عدد معين وتقييد الناس به وادّعاء فضله والإجماع عليه فذلك إهمال لبعض النصوص ومجانبة لهدى السلّف ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : "والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال ، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها ، فحيث يطيل القراءة تقل الركعات وبالعكس ، وبذلك جزم الداوُديّ وغيره ، والاختلاف فيما زاد عن العشرين راجع إلى الاختلاف في الوتر ، وكأنه كان تارةً يوتر بواحدة ، وتارةً بثلاث"(الفتح (4/298) .) ، وإلى نحو هذا أشار ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى(مجموع الفتاوى (23/112 – 113) .) ، وهذا هو التحقيق والفقه في المسألة وبه تأتلِف النصوص ، والله تعالى أعلم .
ثانياً : صفة صلاة التراويح : وصفتها كسائر الصلوات على المصلّين أن يأتوا بأركانها وواجباتها وسننها من أدعية وأذكار مع الطمأنينة والخشوع والتّؤُدّة وعدم العجَلة في ذلك كله ، وأما ما وقع في هذه الأعصار من تخفيف كثيرٍ من الأئمّة لصلاة التراويح بحجة ضعف الناس وأنها سنّة ، حتى إن صلاتهم لّتبدو هالكة بعيدة عن الهدي النبوي وطريقة السلف الصالح رضي الله عنهم ، فذاك كله خلاف الصواب والسنّة ، وفيه محاذير عديدة منها :
1- أنها مجانبة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وسمت السلف الصالح وحرصهم الشديد على حصول الخشوع والخضوع والتدبّر في هذه الصلاة .
2- إن الصلاة إذا خُفّفَت إلى قدر تفقد معه أركانها وواجباتها فإنها باطلة حينئذٍ لا تنفع صاحبها ولو صّلى ما صلى ، فإن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة لا يجوز تخلّفه عنها كما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً في تعليم المسئ صلاته في الحديث المتفق عليه(البخاري (757) ، ومسلم (397) .).
3- غياب مقصود الصلاة وهو طولها وحُسنها وسماع القرآن وتدبّره وحصول الخشية عند تلاوته ، فكل ذلك نراه خافياً في صلاة الناس هذه الأيام .
4- إماتة للسنة وذريعة لا ندارسها ، ومسلك خاطئ في تربية الناس على مثل هذه الصلاة الهزيلة وتنشئتهم عليها ، حتى ليظنّوا ثبوتها وصحتها وحُسنها وكمالها وكل خير فيها ، عندما يتوارثونها ويشاهدونها في شتّى مساجد المسلمين .
فهل هذه الصلاة وهذا القيام هدي رشيد في نيل أجر قيام رمضان والفوز به ؟! .
5- إيهام الناس أن المقصود في التراويح حصول العدد المطلوب وإصابته كل ليلة ، بحيث أن العبرة أن يوفَّق المسلم لصلاة هذا العدد المعيّن للصلاة ، وهذا ـ بلا ريب ـ أنه خطأ وسوء فهم للسنّة ، ويزيد من سوئه إذا كان الإمام يخفّف الصلاة تخفيفاً شديداً ، ويطيل القنوت في الوتر حتى اعتقد كثير من المصلين أنه مقصود التراويح ولبّها وروحها ، فيحصل فيها من التطويل والتمطيط والتمديد والتنميق والترنيم والتكلّف والتشاكي والتباكي ورفع الصوت والعويل والتجافي عن السنّة ما لا يحصل في غيره ، فليت شعري كيف تستقيم صلاة تضيع أركانها ومقصودها، وتُقام سننُها ومستحبَّاتها ؟! ، حبّذا لو أن هؤلاء الأئمة الفضلاء جعلوا شيئاً من تطويلهم وبكائهم لقراءة القرآن ، فقرأوه حق قراءته ورتّلوه تمام ترتيله ، وأحسنوا وأجملوا ، فكانوا خير معوان للناس على تعظيم كتاب ربهم وترتيله وتدبّره والخشوع له ، والوقوف عند حدوده وأحكامه ، وقد تقدم الكلام على القنوت وما يحصل فيه من أخطاء ومخالفات في موضعه .
ونحن إذ نؤكِّد وندعو إلى العناية بصلاة التراويح وعدم التلاعب بها ، لا نفرض على الناس أن يصلوا بالمئين ويحققوا كمال الصلاة الشرعية المحبوبة ، بل نقول : يُعتّدل في ذلك ويُحاول طلب الفضيلة والإحسان فيها ، فإن رمضان موسم عظيم وهو أيام معدودات وتنقضي انقضاءً سريعاً ، فلماذا لا نتوخّى الهداية والرحمة والسنّة فيه ، ثم إذا اضطر الإمام للتخفيف بعض الأحيان بناءً على ضعف الناس وعدم صبرهم وتقديرهم لهذا الشهر العظيم ، فلا بأس حينئذ أن يخفف الصلاة ويراعي ضعيفهم وسقيهم ، مع مراعاة الأركان والواجبات والمحافظة على مقصود الصلاة ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
ثالثاً : هناك فئام من المسلمين لا يشهدون التراويح في رمضان بزعم أنها سنّة وليست واجبة ، فمن يقوم بها بشيء عظيم ولا يرتقي مرتقىً عالياً ، ولا ندري هل نسيَ هؤلاء فضل قيام الليل وثوابه وما أُعِدّ لأهله وأربابه ، وهل تجاهلوا أنهم في شهر الرحمة والغفران والبركة والإحسان ، أما يكفي في شحذ هِمَمهم وتحريك نفوسهم قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة : (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه) (البخاري (37) ، ومسلم (759) .) ، ألسنا نحب غفران ذنوبنا ومحو سيّئاتنا ؟!! بلى والله ! .وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبّان بسندٍ صحيح : جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من قضاعة فقال : يا رسول الله أرأيتَ إن شهدتُ أن لا إله إلا الله وأنكَ رسول الله وصلّيتُ الصلوات الخمس وصُمت الشهر وقُمت رمضان وآتيتُ الزّكاة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (مَنْ ماتَ على هذا كان من الصِّدِّيقين والشهداء) (ابن خزيمة (2212) ، وابن حبان (3436) .).
وحقيقة أن هؤلاء المتخلّفين عن التراويح بلا عُذر شرعي وهم سامدون على لعبٍ ولهوٍ وقد حُرِموا خيرها وشقوا بتركها ، فيالها من خسارة عظيمة وحسرة فظيعة أن تنتهي الأيام المعدودات وقد صُرفت في اللهو واللعب وفضول المباحات والتخلف عن المكارم والصالحات وما يرفع الدرجات
قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْوَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِوَهُدًىوَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِوَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 57-58].
الأولى ـ ما يُقال بعد الوتر :
أخرج أصحاب السنن عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم في الوتر قال : "سبحان الملك القدّوس"(أبو داود (1423) والنسائي في الكبرى (1429) وابن ماجة (1171) .).يطيل في آخرهنّ ، وعند النسائي(]النسائي في الكبرى (1447) ) : (يرفع صوته بالثالثة) وهذا الحديث ثابت صحيح ، وزاد الدارقطني في سننه (ربُّ الملائكة والروح) (الدارقطني (1644) .).
وعند أصحاب السنن أيضاً عن عليّ رضي الله عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره : (اللهم إني أعوذ برضاكَ مِن سخطِكَ ، وبمعافاتك مِن عُقوبتكَ ، وأعوذُ بك منك لا أُحصي ثناءً عليَكَ ، أنتَ كما أثنَيْت على نَفسِك) (أبو داود (1427) والترمذي (3561) والنسائي في الكبرى (1444) وابن ماجة (1179) .).
قال ابن القيم رحمه الله : "وهذا يحتمل قبل فراغه وبعده"( زاد المعاد (1/336) .)ا
الثانية : يُستحَب صلاة ركعتين بعد الانصراف من الوتر ، ذكر ذلك مسلم في صحيحه(مسلم (738) .) ، وقد صح أنه كان يصلّيهما وهو
جالس ، وفي المسند بسندٍ رجاله ثقات عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : "كان يصلي ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس"(المسند (6/298-299) .).
وثبت في المسند وصحيح ابن خزيمة بسندٍ حسن أنه كان يقرأ فيهما الزلزلة والكافرون(المسند (5/260) ، وابن خزيمة (401) ) ، وصح الأمر بالركعتين في صحيح ابن خزيمة عن ثوبان رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقال : (إن هذا السفر جهد وثِقَل ، فإذا أوتر أحدُكم فليركع ركعتين ، فإن استيقظ وإلا كانتا له) (صحيح ابن خزيمة (452) .).
وبهذا النص الصريح يندفع توهُّم خصوصية الركعتين بالنبي صلى الله عليه وسلم قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله مترجماً لهذا الحديث : "باب ذكر الدليل على أن الصلاة بعد الوتر مباحة لجميع مَن يريد الصلاة بعده ، وأن الركعتين اللتين كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما بعد الوتر لم يكونا خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم دون أمّته ، إذ النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالركعتين أمر ندب وفضيلة ، لا أمر إيجاب وفريضة" .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : "ورخَّص أحمد أن تُصلَّى هاتان الركعتان وهو جالس ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فمن فعَل ذلك لم يُنكر عليه ، لكن ليس بواجب بالاتفاق ، ولا
يُذمّ من تركَها ، وأكثر الفقهاء ما سمعوا بهذا الحديث ، ولهذا يُنكِرون هذه ، وأحمد وغيره سمعوا هذا وعرفوا صحته"(مجموع الفتاوى (23/93) .).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : وقد أشكل هذا على كثير من الناس ، فظنّوه معارضاً لقوله صلى الله عليه وسلم : (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) (البخاري (998) ، ومسلم (749) .) ، وأنكر مالك هاتين الركعتين ، وقال أحمد: "لا أفعله ولا أمنع من فعله" ، قال : وأنكره مالك ، وقالت طائفة : إنما فعلَ هاتين الركعتين ليبيّن جواز الصلاة بعد الوتر ، وأن فعله لا يقطع التنفّل ، وحملوا الحديث على الاستحباب ، وصلاة الركعتين بعده على الجواز .
والصواب أن يُقال : إن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنّة وتكميل الوتر ، فإن الوتر عبادة مستقلة ، ولا سيّما إن قيلَ بوجوبه ، فتجري الركعتان بعده مجرى سنّة المغرب من المغرب فإنها وتر النهار ، والركعتان بعدها تكميل لها ، فكذلك الركعتان بعد وتر الليل، والله أعلم(زاد المعاد (1/333) .).