بسم الله الرحمن الرحيم
نصّ السّؤال :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، شيخنا الفاضل:
ثبت أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قنت في صلاته، وثبت أنّه لم يقنت.
فما هو حكم القنوت ؟ هل يشرع للمصلّي المفرد ؟ هل يكتفي الواحد في صلاة الجماعة بقنوت الإمام أو يجب عليه فعله ؟
نصّ الجواب:
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد: وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته.
فالقنوت المشروع نوعان:
· قنوت نازلة: أي: إذا نزلت بالمسلمين مصيبة كغزو، أو أسرٍ للمسلمين، أو نحو ذلك.
– وهو مشروع مستحبّ لما رواه الإمام أحمد عن ابن عبّاس رضي الله عنهقال: " قَنَتَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّمشَهْراً مُتَتَابِعاً فِي الظُّهْرِ وَالعَصْرِ وَالمَغْرِبِ
وَالعِشَاءِ وَصَلاَةِ الصُّبْحِ، دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ إِذَا قَالَ: ( سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ) مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ، يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ، وَيُؤَمِّنُ
مَنْ خَلْفَهُ ".
وثبت أيضا قريب من هذا في الصّحيحين عن أبي هريرة، وابن عمر وغيرهما رضي الله عنهم.
– وهذا يفعله الإمام، ويؤمّن المأمومون خلفه كما في الحديث. وإن صلّى في بيته لعذرٍ أتى به أيضا.
· قنوت الوتر: وهو دعاء خاصّ بصلاة الوتر، يأتي به قبل الرّكوع.
– وهو أيضا مستحبّ أحيانا في أيّام السّنة كلّها، لما رواه أصحاب السّنن الأربعة بسند صحيح عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهماقال: علّمني رسول الله صلّى
الله عليه وسلّمكلمات أقولهنّ في الوتر:
((اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لاَ يَذِلُّ
مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ )).
وروى أبو داود وغيره عن أبي بن كعب رضي الله عنه:" أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يُوتِرُ، فَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ ".
وإنّما قلنا " أحيانا "، لأنّ الصّحابة الّذين رووا صلاة الوتر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّملم ينقلوا جميعا أنّه كان يقنت، فدلّ على أنّه كان يفعله أحيانا.
– ومحلّه قبل الرّكوع كما في حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه.
– وفي النّصف الثّاني من رمضان في صلاة التّراويح يُشرع الإتيان به قبل أو بعد الرّكوع، ويرفع الإمام والمأمومون أيديهم، ويؤمّن المأمومون خلفه. [انظر
رسالة " قيام رمضان " و" صلاة التّراويح " للشّيخ الألباني رحمه الله].
· أمّا تخصيص القنوت بصلاة الفجر، فهذا يحتاج إلى وقفة على حدة:
فللعلماء أربعة أقوال في حكم القنوت في صلاة الصّبح:
1) القول الأوّل: أنّه سنّة مؤكّدة، يستحبّ المداومة عليه، وهو مذهب الإمام مالك والشّافعيّ رحمهما الله [" المدوّنة " (1/100)، و"الاستذكار" (6/201)،
و" الأمّ " (8/814)، و" المجموع " (3/494)]
2) القول الثّاني: أنّه منسوخ، والعمل به بدعة، وهو قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله [" المبسُوط "(1/165)، و" فتح القدير " لابن الهُمام (1/431)].
3) القول الثّالث: أنّه لا يُشرع إلاّ في النّازلة، وهو قول الإمام أحمد وبعض متأخّري الحنفيّة. [" المغنِي " (2/587)، و" فتح القدير " (1/434)]
4) القول الرّابع: أنّه يجوز فعله وتركه، وهو قول الثّوريّ، والطّبريّ، وابن حزم، وابن القيّم [" تهذيب الآثار " للطّبريّ (1/337)، و" المحلّى "
(4/143)، و" زاد المعاد "(1/274)].
ولا شكّ أنّ لكلّ مذهبٍ أدلّته، والنّاظر في أدلّتهم رحمهم الله يجد تلك الأدلّة على نوعين:
– صحيح غير صريح.
– صريح غير صحيح.
وبيان ذلك في هاتين النّقطتين:
· النّقطة الأولى:
فنجزم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقنت في الفجر، ولكنّه قنوت نازلة.
وذلك بدلالة حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصّحيحين قال:
" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، يَقُولُ: (( سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ )) يَدْعُو لِرِجَالٍ فَيُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَيَقُولُ: (( اللَّهُمَّ أَنْجِ
الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ )).
فهذا ظاهر أنّه في قنوت النّازلة.
ويؤيّـده ما رواه مسلم في " صحيحه " عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ( كَانَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ ). فإذا كانوا
يقنتون في الصّبح، فلماذا لا يقنتون أيضا في صلاة المغرب ؟
فانظر أنّ هذا الحديث صحيح، ولكنهّ لا يدلّ على ما ذهبوا إليه.
واستدلّوا بصريح، ولكنّه غير صحيح، كحديث أنس رضي الله عنه أنّه قال: ( ما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقنت في الفَجر حتّى فارق الدّنيا )، وهو
حديث منكر لا يصحّ كما في " العلل المتناهية " (1/441) لابن الجوزيّ.
كما أنّ ألفاظ الدّعاء الّذي يأتي به إخواننا أئمّة المساجد المنتسبون إلى مذهب الإمام مالك، فهو غير ثابت.
· النّقطة الثّانية:
ما كان الصّحابة يرون المداومة على الدّعاء في صلاة الفجر، بدليل ما رواه التّرمذي وغيره عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ، إِنَّكَ
قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ هَا هُنَا بِالْكُوفَةِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ، أَكَانُوا يَقْنُتُونَ ؟ قَالَ
رضي الله عنه: ( أَيْ بُنَيَّ مُحْدَثٌ ).
فهذا وذاك يجعلنا نتوسّط، ونأخذ بقول من قال: إنّ القنوت في الفجر وغيرها من الصّلوات يشرع للنّازلة، والله أعلم.
• تنبيه مهمّ:
ونؤكّد لإخواننا القرّاء، أنّه إن أخذ المسلم بقول من الأقوال السّابقة، فإنّه لا يقتضِي ذلك تبديعَه، ولا تركَ الصّلاة خلفه، فإنّ هذا جهل بالدّين.
ولله درّ الإمام أحمد رحمه الله حين سئل: عن قومٍ يقنتُون بالبصرة، كيف ترى الصّلاة خلفهم ؟ فقال: ( قد كان المسلمون يُصلُّون خلف من يقنت، وخلف من لا
يقنُتُ ). [نقله عنه ابن القيّم رحمه الله في كتاب " الصّلاة وحكم تاركها " (ص 120)].
فهذا إمام أهل السنّة، لا يحجّر واسعا، ولا يبدّع في الأمور الاجتهاديّة الدّقيقة مخالفا، نسأل الله التّوفيق والسّداد، والهدى والرّشاد.
وتذكّر أنّ ( العِبـرة فـي العبـادات بمـا فـي ظـنّ المكـلّـف ).
فإنّك تصلّي خلف الأئمّة المنتسبين إلى مذهب الإمام مالك رحمه الله، وهم يرون عدم مشروعيّة قراءة البسملة في الفاتحة، مع أنّ البسملة آية من سورة الفاتحة !!
فصلاته في نظرك باطلة، وفي نظره صحيحة، لكنّ العـبـرة في مثل هذه المسائل بما في ظنّه، لا بما في ظنّك أنت.
( فائدة ):
إذا صلّيت خلف من يقنت في صلاة الصّبح، وشرع يقنت بعد القراءة فلك خياران:
– إمّا أن تُمسِك عن الكلام وتظلّ صامتا.
– أو تقرأ في نفسك ما تيسّر من القرآن، وهو أحسن، لأنّ مبنى الصّلاة ألاّ تخلُو من الذّكر من التّكبير إلى التّسليم.
والله تعالى أعلم، وأعزّ وأكرم.
*الإجابة للشيخ الفاضل : عبد الحليم توميات * -منقول للإفادة-