التصنيفات
اسلاميات عامة

رسالة في دخول الجنة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله


ولا ريب أن العمل الصالح سبب لدخول الجنة والله قدر لعبده المؤمن وجوب الجنة بما ييسره له من العمل الصالح كما قدر دخول النار لمن يدخلها بعمله السيء كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال( ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار) قالوا يا رسول الله أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل قال( لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسييسره لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسره لعمل أهل الشقاوة) وقال (إن الله خلق للجنة أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وبعمل أهل الجنة يعملون وخلق للنار أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وبعمل أهل النار يعملون)
وإذا عرف أن الباء هنا للسبب فمعلوم أن السبب لا يستقل بالحكم فمجرد نزول المطر ليس موجبا للنبات بل لا بد من أن يخلق الله أمورا أخرى ويدفع عنه الآفات المانعة فيربيه بالتراب والشمس والريح ويدفع عنه ما يفسده فالنبات محتاج مع هذا السبب إلى فضل من الله أكبر منه
وأما قوله صلى الله عليه و سلم (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل )
فإنه ذكره في سياق أمره لهم بالإقتصاد قال (سددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخل الجنة بعمله)
وقال (إن هذا الدين متين وإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدجلة والقصد تبلغوا)
فنفى بهذا الحديث ما قد تتوهمه النفوس من أن الجزاء من الله عز و جل على سبيل المعاوضة والمقابلة كالمعاوضات التي تكون بين الناس في الدنيا
فإن الأجير يعمل لمن استأجره فيعطيه أجره بقدر عمله على طريق المعاوضة إن زاد أجرته وإن نقص نقص أجرته وله عليه أجرة يستحقها كما يستحق البائع الثمن فنفى صلى الله عليه و سلم أن يكون جزاء الله وثوابه على سبيل المعاوضة والمقابلة والمعادلة
والباء هنا كالباء الداخلة في المعاوضات كما يقال استأجرت هذا بكذا وأخذت أجرتي بعملي

وكثير من الناس قد يتوهم ما يشبه هذا وهذا غلط من وجوه
أحدها أن الله تعالى ليس محتاجا إلى عمل العباد كما يحتاج المخلوق إلى عمل من يستأجره بل هو سبحانه كما قال في الحديث القدسي الصحيح( إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني )
والعباد إنما يعملون لأنفسهم كما قال تعالى (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت )سورة البقرة 286 وقال تعالى (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) سورة فصلت 46 وقال( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) سورة الزمر 7 وقال تعالى (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم) سورة النمل 40
وقال تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) سورة آل عمران 97
وأما العباد فإنهم محتاجون إلى من يستعملون لجلب منفعة أو دفع مضرة ويعطونه أجرة نفعه لهم
الثاني أن الله هو الذي من على العامل بأن خلقه أولا وأحياه ورزقه ثم بأن أرسل إليه الرسل وأنزل إليه الكتب ثم بأن يسر له العمل وحبب إليه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان
والمخلوق إذا عمل لغيره لم يكن المستعمل هو الخالق لعمل أجيره فكيف يتصور أن يكون للعبد على الله عوض وهو خلقه وأحدثه وأنعم على العبد به وهل تكون إحدى نعمتيه عوضا عن نعمته الأخرى وهو ينعم بكلتيهما
الوجه الثالث أن عمل العبد لو بلغ ما بلغ ليس هو مما يكون ثواب الله مقابلا له ومعادلا حتى يكون عوضا بل أقل أجزاء الثواب يستوجب أضعاف ذلك العمل
الرابع أن العبد قد ينعم ويمتع في الدنيا بما أنعم الله به عليه مما يستحق بإزائه أضعاف ذلك العمل إذا طلبت المعادلة والمقابلة وإذا كان كذلك لم يبالغوا في الإجتهاد مبالغة من يضره الاجتهاد كالمنبت الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وزال عنهم العجب وشهدوا إحسان الله بالعمل
الخامس أن العباد لا بد لهم من سيئات ولا بد في حياتهم من تقصير فلولا عفو الله لهم عن السيئات وتقبله أحسن ما عملوا لما استحقوا ثوابا ولهذا قال صلى الله عليه و سلم (من نوقش الحساب عذب) قالت عائشة يا رسول الله أليس الله يقول( فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا سور ) الإنشقاق 7 8 قال (ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب)
ولهذا جاء في حديث الشفاعة الصحيح إذا طلبت الشفاعة من أفضل الخلق آدم ونوح وإبراهيم وموسى واعتذر كل منهم بما فعل قال لهم عيسى اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
ولهذا قال في الحديث لما قيل له ولا أنت يا رسول الله قال (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بعفوه )فتبين بهذا الحديث أنه لا بد من عفو الله وتجاوزه عن العبد وإلا فلو ناقشه على عمله لما استحق به الجزاء قال الله تعالى (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة) سورة الأحقاف 16 وقال تعالى( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون إلى قوله ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون )سورة الزمر 33 35

وإذا تبين ذلك أفاد هذا الحديث ألا يعجب العبد بعمله بل يشهد نعم الله عليه وإحسانه إليه في العمل وأنه لا يستكثر العمل فإن عمله لو بلغ ما بلغ إن لم يصفح ويعف عنه ويتفضل عليه لم يستحق به شيئا وأنه لا يكلف من العمل ما لا يطيق ظانا أنه يزداد بذلك أجره كما يزداد أجر الأجير الذي يعمل فوق طاقته فإن ذلك يضره إذ المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى
وأحب العمل ما داوم عليه صاحبه فإن الأعمال بالخواتيم بخلاف عمل الأجراء في الدنيا فإن الأجرة تتقسط على المنفعة فإذا عمل بعض العمل استحق من الأجرة بقدر ما عمل ولو لم يعمل إلا قليلا فمن ختم له بخير استحق الثواب وكفر الله بتوبته سيئاته ومن ختم له بكفر أحبطت ردته حسناته فلهذا كان العمل الذي داوم عليه صاحبه إلى الموت خيرا ممن أعطى قليلا ثم أكدى وكلف نفسه ما لا يطيق كما يفعله كثير من العمال
فقوله صلى الله عليه و سلم( سددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخل الجنة بعمله ) ينفي المعاوضة والمقابلة التي يولد اعتقادها هذه المفاسد
وقوله بما كنتم تعملون يثبت السبب الموجب لأن يفعله العبد ولهذا قال بعضهم اعمل وقدر أنك لم تعمل وقال آخر لا بد منك وبك وحدك لا يجيء شيء
فلا بد من العمل المأمور به ولا بد من رجاء رحمة الله وعفوه وفضله وشهود العبد لتقصيره ولفقره إلى فضل ربه وإحسان ربه إليه
وقد قال سفيان بن عيينة كانوا يقولون ينجون من النار بالعفو ويدخلون الجنة بالرحمة ويتقاسمون المنازل بالأعمال
فنبه على أن مقادير الدرجات في الجنه تكون بالأعمال وأن نفس الدخول هو بالرحمة فإن الله قد يدخل الجنة من ينشئه لها في الدار الآخرة بخلاف النا رفإنه أقسم أن يملأها من إبليس وأتباعه
لكن مع هذا فالعمل الصالح في الدنيا سبب للدخول والدرجة وإن كان الله يدخل الجنة بدون هذا السبب كما يدخل الأبناء تبعا لآبائهم وليس كل ما يحصل بسبب لا يحصل بدونه كالموت الذي يكون بالقتل ويكون بدون القتل ومن فهم أن السبب لا يوجب المسبب بل لا بد أن يضم الله إليه أمورا أخرى وأن يدفع عنه آفات كثيرة وأنه قد يخلق المسبب بدون السبب انفتح له حقيقة الأمر من هذا وغيره والله تعالى أعلم
آخره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليم كثيرا

هذا والله اعلم وقد تم بعون الله

رسالة في دخول الجنة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله




مشكوووووووووووووور




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.