قال حفظه الله:
الحمد لله رب العالمين، أغنانا بكتابه المُبين و سُنَّة نَبِيِهِ الأمين عن ابتداعِ المُبتدِعِين، و قال و هو أصدق القائلين: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ) الأعراف:3.
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) الزمر:67. وأشهد أنَّ محمداً عبده و رسوله، بَلَّغَ الرسالة و نَصَح الأُمة و تركها على البيضاء لا يَزِيغُ عنها إلا الهالكون صلى الله عليه و على آله و أصحابه الذين يَهدُون بالحقّ و به كانوا يَعدِلُون و سلم تسليماً كثيراً إلى يوم يُبعَثُون.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى و تَمَسَّكوا بكتاب ربكم و سُنة نبيكم، و احذروا البدع فإنها تُضِلُ عن الدِّين و تُبْعِدُ عن رَبِّ العالمين، و إنَّ مِن البدع ما أحدثه الناس في هذا الشهر – شهر رجب – من العبادات و الإحتفالات، و ما زَعَمُوهُ له من الفضائل و الكرامات التي توارثوها جيل بعد جيل، ابتداءًَ من عصر الجاهلية إلى وقتنا هذا: مِن تَخصيصِهِ بقِيامِ بعض لياليه و صيام بعض أيامه، أو تخصيصه بذبائح تُذبحُ فيه تقربا إلى الله تعالى، أو تَخصيصه بعمرة أو غير ذلك، و ما يَخُصونَ ليلة السابع والعشرين مِنه باحتفالٍ يُسَمُونه: الإحتفال بمناسبة الإسراء والمعراج، و كل هذه الأمور بِدع مُحْدَثَة ما أنزل الله بها من سلطان، و ليس لشهر رجب خاصيّة على غيره من الشهور إلا أنه مِن الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فاتخاذه موسماً بحيث يُفرد بالصوم مكروه عند الإمام أحمد و غيره كما روي عن عمر بن الخطاب و أبي بكرة و غيرهما من الصحابة رضي الله عنهما. و مما أًحدث في هذا الشهر من البدع تعظيم يوم أول خميس منه و صلاة ليلة أول يوم جمعة منه، و هي الصلاة المُسَمَّاة بصلاة الرَغَائِب.
قال شيخ الإسلام: فإنَّ تعظيم هذا اليوم و الليلة إنما أُحدِث في الإسلام بعد المائة الرابعة، و روي فيه حديث موضوع باتفاق العلماء، مضمونه: فضيلة صيام ذلك اليوم و فعل هذه الصلاة المُسماة عن الجاهلين بصلاة الرغائب… إلى أنْ قال: و الصواب الذي عليه المُحَقِقون من أهل العلم النَهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم، و عن هذه الصلاة المُحدَثَة، و عن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم، و صنعة الأطعمة، و إظهار الزينة و نحو ذلك، حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من الأيام و حتى لا يكون له مزية أصلاً.
و قال الحافظ ابن حجر: لم يَرِد في فضل شهر رجب و لا في صيام شيء منه معين و لا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحُجَّة.
و قال الحافظ ابن رجب: فأمَّا الصلاة فلم يَصِّح في شهر رجب صلاة مخصوصة تَخْتصُ بِهِ.
و الأحاديث المَرْوِية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جُمعة من شهر رجب كَذِب و باطل لا تَصِح، و هذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء… إلى أن قال: و أما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، و لا عن أصحابه…انتهى.
و قد اعتاد بعض الناس أداء العمرة في شهر رجب، و يظنون أنَّ للعمرة فيه مزية و فضيلة على العمرة في غيره من الشهور، و هذا خطأ، فإنَّ الوقت الفاضل لأداء العمرة أشهر الحج و شهر رمضان، و ما عداها من الشهور فهي سواء في ذلك. قال ابن سيرين: ما أحد من أهل العلم يشك أنَّ عمرة في أشهر الحج أفضل من عمرة في غير أشهر الحج.
و لما ذَكر ابن القيم عدد العمر التي اعتمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، و أنها كلها في أشهر الحج، قال: وهذا دليل على أنَّ الإعتمار في أشهر الحج أفضل منه في رجب بلا شك.
و أما المفاضلة بينَهُ، أيّ: الإعتمار في أشهر الحج – و بين الإعتمار في رمضان فَمَوضِعُ نَظَر. و قد صَحَّ أنَّه أَمَرَ أُمَّ مَعقل لَمَّا فاتَهَا الحجّ معه أن تَعتَمِر في رمضان، و أخبرها أنَّ عمرةً في رمضان تعدل حَجّة، و أيضا فقد إجتمع في عمرة رمضان أفضل الزمان و أفضل البقاع، و لكن الله لم يكن يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم في عمره إلا أولى الأوقات و أحقّها بها، فكانت العمرة في أشهر الحج نظير وقوع الحج في أشهره، و هذه الأشهر قد خّصَّها الله تعالى بهذه العبادة وجعلها وقتاً لها. و العمرة حجٌ أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهر الحج…انتهى كلام ابن القيم رحمه الله. و معناه: أنَّ الوقت الفاضل لأداء العمرة حَسب الأدلة هو أشهر الحج وشهر رمضان، و ما عدا هذه الأشهر مِن بَقية السَنة فلا فضل لبعضه على بعض في أداء العمرة، لا في رجب و لا غيره، فلا داعي لِتَحَرِي العمرة في رجب دون غيره و تخصيصه من بين الشهور بالعمرة فيه فهو يحتاج إلى دليل: و لا دليل على ذلك.
و مما أُحدِث في شهر رجب من البدع الإحتفال بمناسبة الإسراء و المعراج في ليلة السابع و العشرين منه، فيجتمعون في المساجد و يلقون الخطب و المحاضرات، و يضيئون المنارات و الشوارع بأنواع خاصة من الأنوار الكهربائية، و يُبَثُّ ما يجري في هذه الإحتفالات من خلال الإذاعات لتبليغها لمن لم يحضرها حتى يقتدي بهم غيرهم في ذلك، و لا شَكَّ أن الإسراء و المعراج آيتان عظيمتان و نِعمتان كبيرتان، قد نَوَّهَ الله بشأنهما في كتابه الكريم، فيجب علينا الإيمان بهما و شكر الله على ما أكرم به رسوله صلى الله عليه وسلم، و أراه من آياته في الإسراء و المعراج، و ما أكرم الله به أمته مِن فَرضِ الصلوات الخمس فيهما، و هي خمس صلوات في العمل و خمسون صلاة في الميزان و الأجر، لأن الحسنة بعشر أمثالها. فواجبنا أن نحمد الله و نشكره على ذلك، و ذلك بطاعته و طاعة رسوله و أداء فرائض الله.
أما إقامة هذه الإحتفالات فهي كُفرٌ بهذه النِّعمَة، لأنها بدعة، ( و كل بدعة ضلالة )، و البدعة معصية لله و لرسوله تباعد عن الله و تَصُدُّ عن دِين الله.
و الدليل على أنَّ ذلك بدعة أنه عمل لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم و لا صحابته الكرام و لا القُرُون المُفَضلة في الإسلام، و إنما حَدَث هذا بَعدهم على أيدي الجهلة و الطغام. و الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )، و لأن هذه الليلة التي حصل فيها الإسراء و المعراج لم يأت في الأحاديث الصحيحة تَعيينُها لا في رجب و لا غيره، و لم يهتم الصحابة و لا علماء الإسلام مِن بعدهم في البحث عن تَعيين هذه الليلة لأنها لا يتعلق بها حُكمٌ شرعي، فلا فائدة لنا في تعيينها، و قد اختلف المؤرخون في تعيينها و تعيين الشهر الذي حصلت فيه: فقيل هي في شهر ذي القعدة قبل الهجرة بستة عشر شهراً، و قيل في شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسَنَة.
و أما كَون هذه الليلة في شهر رجب فهو لم يثبت كما ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله،و قال الإمام ابن القيم: ( لم يقم دليل على شهرها، و لا على عشرها، و لا على عَينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة ليس فيها ما يُقطَعُ به، و لا شُرِّع للمسلمين تخصيص الليلة التي يُظنُ أنها ليلة الإسراء بقيام ولا غيره…إلى أن قال: و لا يُعرف عن أحدٍ من المسلمين أنه جَعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها و لا كان الصحابة و لا التابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور و لا يذكرونها، و لهذا لا يُعرف أيّ ليلة كانت، و إن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم، و مع هذا فلم يُشَرِّع تخصيص ذلك الزمان و لا ذلك المكان بعبادة شرعية). انتهى كلامه رحمه الله.
و لو ثَبَت تعيين ليلة الإسراء لم يَجُز للمسلمين أن يَخُصُّوها بشيء من العبادات و لم يجز لهم أن يحتفلوا فيها، و لأن النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه رضي الله عنهم لم يحتفلوا فيها و لم يخصوها بشيء، و لو كان الإحتفال فيها مشروعاً لَبَيَّنَهُ النبي صلى الله عليه وسلم للأُمَّة إما بالقول و إما بالفعل، و لو وَقَع شيء مِن ذلك عُرِفَ و اشتَهَر و نَقَلهُ الصحابة رضي الله عنهم إلينا. فالإحتفال فيها بدعة ليس مِن دِين الإسلام، فعلى مَن يَفعلُهُ مِن المسلمين أن يتركَهُ و على المسلم أن لا يَغترَّ بما يفعله المبتدعة من الإحتفال في هذه الليلة، و لا بما يُنقلُ في وسائل الإعلام من الصور المرئية أو الصوتية لتلك الإحتفالات البدعية، لأن هؤلاء قومٌ عاشوا في بدع و أَلِفُوها حتى صارت أحَبَّ إليهم مِن السُّنَن، و صار الدِّين عِندهم مُجَرد إقامة احتفالات و إحياء مُناسبات و ذِكريات، كفِعل النصارى في تتبع آثار الأنبياء أو تتبع الأزمنة التي جَرَت فيها أحداث لهم، و عمل أعياد و احتفالات لإحياء ذكرياتها أو التبرك بمناسباتها و قد نُهينا عن ذلك.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: بل غار حِراء الذي ابتدئ فيه بنزول الوحي و كان يَتَحَراه قبل النُبُوَّة لم يَقصدهُ هو و لا أحد من أصحابه بعد النُبوة مُدَّة مَقامِهِ بمكَّة، و لا خَصَّ اليوم الذي أًنزل عليه فيه الوحي بعبادة و لا غيرها، و لا خَصَّ المكان الذي ابتدأ فيه بالوحي و لا الزمان بشيء.
و مَن خَصَّ الأمكنة و الأزمنة مِن عِندهِ بعبادات لأجل هذا و أمثاله كان مِن جِنسِ أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم و عبادات، كيوم الميلاد و يوم التعميد و غير ذلك من أحواله، و قد رآى عمر بن الخطاب رضي الله عنه جماعةً يتبادرون مكان يصلون فيه، فقال: ما هذا؟ قالوا: مكان صلى في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتريدون أنْ تَتَخذوا آثار أنبيائكم مساجد، إنما هلك مَن كان قبلكم بهذا، فمن أدركته فيه الصلاة فليصلي و إلا فليمضي.
فاتقوا الله عباد الله، و احذروا البِدع و أهلها و حذروا منها، فإنهما وباءٌ خطير على دِين المسلمين، و تمسكوا بكتاب ربكم و سُنة نبيكم ففيهما النجاة و الخير و الفلاح العاجل و الآجل. ( وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) بارك الله لي و لكم في القرآن العظيم.
الحمد لله القائل: ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) الشورى:13.
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أشهد أنَّ محمداً عبده و رسوله صلى الله عليه و على آله و أصحابه و سَلم تسليما كثيراً.
أما بعد، أيها الناس اتقوا الله تعالى: ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) آل عمران:103.
و اعلموا أنه قد ثَبَتَ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم التحذير من البدع و التصريح بأنها ضلالة، فقد كان يقول ( إن خير الحديث كتاب الله و خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم و شر الأمور محدثاتها و كل بدعة ضلالة ). و كان الصحابة يُحَذرون مِن البدع غاية التحذير، و ذلك لأن البِدع زيادة في الدِّين، و شرع ما لم يشرعه رب العالمين، و تشبه باليهود و النصارى في زيادتهم في دينهم، و في البدع تَنَقُصٌ للدِّين و اتهامه بعدم الكمال، و تكذيب لقوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) المائدة:3.
و في البدع إبعاد للمسلمين عن الدِّين الصحيح، و نَقلُهُم إلى الدِّين الباطل و هذا ما يريده الشيطان، فإنَّ المبتدع أحب إلى الشيطان من العاصي المرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، لأنَّ العاصي يعترف أنه عاص و يرجوا أن يتوب بخلاف المبتدع فإنه يَعتبرُ ما هو عليه مِن البدعة هو الدِّين و الطاعة فلا يتوب منه.
فاتقوا الله و اشكروه على نعمة الإسلام و اقتدوا بنبيكم عليه أفضل الصلاة و السلام، و اعلموا أنَّ الله أَمَرَكم أن تُصلوا عليه على الدوام، فقال سبحانه: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) الأحزاب:65.
بارك الله فيك اختاه وجزاك الله خيرا
وكما عودتنا دائما موماضيعك هدفه
و جزاك الله خيرا على المرور الطيب
وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين
اللهم آمين
جزاكم الله خيرا
تحياتي