قال العلامة ناصر الدين الألباني طيب الله ثراه:
وفي ختام هذه المقدمة لا بد لي من كلمة أوجهها إلى كل مخلص من قرائنا، حبيباً كانَ أم بغيضاً، فأقول:
كَثيراً ما يسألني بعضهم عن سبب الشدة التي تبدو أحياناً في بعض كتاباتي في الرد على بعض الكاتبين ضدي؟ و جواباً عليه أقول:
فليعلم هؤلاء القراء أنني بحمد اللّه لا أبتدئ أحداً يرد علي ردّاً علميّاً لا تَهَجُّمَ فيه، بل أنا له من الشاكرين، وإذا وُجِدَ شيءٌ من تلك الشدة في مكان ما من كتبي. فذلك يعود إلى حالة من حالتين:
الأولى: أن تكون ردّاً على مَن رد علي ابتداء، واشتط فيه وأساء إلي بهتاً وافتراءً. كمثل أبي غدة، و الأعظمي الذي تستر باسم أرشد السلفي!
والغماري، والبوطي، وغيرهم؛ كالشيخ إسماعيل الأنصاري غير ما مرة، وما العهد عنه ببعيد!
ومثل هؤلاء الظلمة لا يفيد فيهم- في اعتقادي- الصفح واللين، بل إنه قد يضرهم، ويشجعهم على الاستمرار في بغيهم وعدوانهم. كما قال الشاعر:
إِذا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الكَرِيمَ مَلَكْتَهُ *** وإنْ أَنْتْ أَكْرَمْ اللَّئيمَ تَمَرَّدَا
وَوَضْعُ النَّدَى في مَوْضِع السَّيْفِ بالعُلَى *** مُضِر كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدَى
بل إن تحمُلَ ظلم مثل هؤلاء المتصدرين لِإرشاد الناس وتعليمهم، قد يكون أحياناً فوق الطاقة البشرية، ولذلك جاءت الشريعة الِإسلامية مراعية لهذه الطاقة، فلم تقل- والحمد للّه- كما في الِإنجيل المزعوم اليوم: "مَن ضربك على خدك الأيمن. فأدِرْ له الخد الأيسر، ومن طلب منك رداءك؛ فأعطه كساءك "! بل قال تعالى: "فمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عليهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدَى علَيْكُمْ" هو، وقال: "وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها"، وأنا ذاكر بفضل اللّه تعالى أن تمام هذه الآية الثانية: " فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ . إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُور " ، ولكني أعتقد أن الصفح المشكور، والصبر المأجور. إنما هو فيمن غلب على الظن أن ذلك ينفع الظالم ولا يضره، ويعزُّ الصابر ولا يذله. كما يدل على ذلك سيرته – صلى الله عليه وسلم – العمليَّة مع أعدائه، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبيّاً أو قتله نبي ". انظر " الصحيحة" (281) .
وأقل ما يؤخَذُ من لهذه الآيات ونحوها أنها تسمح للمظلوم بالانتصار لنفسه بالحق دون تعذّ وظلم. كقوله تعالى: "لَا يُحِبُّ اللّهُ الجَهْرَ بالسُّوء مِنَ القَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ "، والسنة تؤكد ذلك وتوضحه. كمثل قوله – صلى الله عليه وسلم – لعائشة حين اعتدت إحدى ضرَّاتِها عليها: "دونَكِ فانْتَصري ".
قالت: فأقبلت عليها حتى رأيتها قد يبس ريقها في فيها، ما ترد علي شيئاً، فرأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – يتهلل وجهه.
رواه البخاري في "الأدب المفرد"، وغيره؛ بسند صحيح، وهو مخرج في المجلد الرابع من "الصحيحة" (1862) .
فأرجو من أولئك القراء أن لا يبادروا بالِإنكار، فإني مظلوم من كثير ممَّن يدَّعون العلم، وقد يكون بعضهم ممَّن يُظَنُّ أنه معنا على منهج السلف، ولكنه- إن كان كذلك- فهو ممن أكل البغضُ والحسدُ كبدَه؛ كما جاء في الحديث:
"دبَّ إليكم داءُ الأمم قبلَكم: الحسد، والبغضاء، هي الحالقة. حالقة الدين، لا حالقة الشعر". وهو حديث حسن بمجموع طريقيه عن ابن الزبير وأبي هريرة.
فأرجو من أولئك المتسائلين أن يكونوا واقعيين، لا خياليين، وأن يرضوا مني أن أقف في ردِّي على الظالمين مع قول رب العالمين: "وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدينَ "؟؛غير متجاوب مع ذلك الجاهلي القديم:
ألا لَا يَجْهَلَنْ أحدٌ عَلَيْنا *** فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْل الجَاهِلِيْنا
عياذاً باللّه أن أكون من الجاهلين.
والحالة الأخرى أن يكون هناك خطأ فاحش في حديث ما، صدر من بعض من عُرِف بقلة التحقيق، فقد أقسو على مثله في الكلام عليه، غيرةً مني على حديث رسول اللّه – صلى الله عليه وسلم -، كقولي الآتي تحت الحديث (142) :
"لم يخجل السيوطي- عفا اللّه عنا وعنه- أن يستشهد بهذا الِإسناد الباطل. فإن (أبو الدنيا) هذا أفاك كذاب، لا يخفى حاله على
السيوطي… ".-
فإن الباعث على هذه الشدة إنما هو الغيرة على حديثه – صلى الله عليه وسلم – ، أن يُنْسَبَ إِليه ما لم يقله، وسلفنا في ذلك بعض الحفاظ المعروفين بالدين والتقوى، فانظر مثلاً إِلى قول الذهبي رحمه اللّه في الحاكم. وقد صحح الحديث الآتي في فضل علي رضي اللّه عنه برقم (757) :
"قلت: بل واللّه موضوع، وأحمد الحراني كذاب، فما أجهلك على سعة معرفتك؟! ".
فليتأمل القارئ الفرق بين الحاكم والسيوطي من جهة، وبين عبارة الذهبي في الحاكم، وعبارتي في السيوطي من جهة أخرى.
ثم وقفتُ على رسالة جديدة للشيخ الأنصاري- وهذه المقدِّمة تحت الطَّبع- تؤكِّدُ لكل مَن يقرؤها أنَّه ماضٍ في بغضهِ وحسده وافتراءاتِه، وهي بعنوان: "نقد تعليقات الألباني على شرح الطَّحاويَّة"! وهو فيه- كعادته في ردوده عليَّ- لا يحسِنُ إلا التهجُّمَ، والتَّحامل عليَّ بشتَّى الأساليب، والغمز، واللمز؛ كقوله في أول حديث انتقدني فيه بغير حق:
"فباعتبار الألباني نفسه محدِّثاً لا فقيهاً (!) … ".
ونحو هذا من الِإفك الذي لا يصدُرُ من كاتب مخلصٍ يبتغي وجه الحق، وينفع فيه اللِّين والأسلوب الهيِّن في الردِّ عليه. لأنه مكابرٌ شديدُ المكابَرة والتمحُّل لتسليك أخطاءِ غير الألباني مع ظهورها، بقدر ِما يتكلَّف في توهيمِه وتجهيلهِ- ولو ببتر كلام العلماء، وتضليل القرَّاء- ليستقيمَ ردُّهُ عليهِ!!
وهو في بعض ما أخذهُ عليَّ ظلما في "نقده " هذا قد سبقهُ إليه الكوثري الصغير أبو غدَّة الحلبي، الذي كنتُ رددتُ عليه في مقدِّمة تخريج "شرح الطحاوية"، فالتقاؤهُ معه في ذلك ممَّا يدلُّ على أنَّه لا يتحرَّجُ في أن يتعاوَنَ مع بعضِ أهلِ الأهواء في الردِّ على أهل السنَّة! فلا أدري واللّه كيف يكون مثلُه باحثاً في دارِ الِإفتاء؛ وفيها كبارُ العلماء الذين لا يمكن أن يخفى عليهِم حال هذا الباحث في انحرافِهِ في الرَّدِّ عن الأسلوب العلميِّ النَّزيه، إلى طريقتِه المبتَدَعة في اتِّهامه لمَن خالفه من أهل السنَّة بالبهت، والافتراء، والتدليس، وتحريف الكلم عن مواضعه، وتتبُّع العَثرات؟!
ومَن أراد أن يتحقَّق من هذا الذي أجملتُه مِن أخلاقِ الرجل، بقلمٍ غير قلمي، وأسلوب ناعمٍ غير أسلوبي؟ فليقرأ ردَّ الأخ الفاضل سمير بن أمين الزُّهيري المنصوري: "فتح الباري في الذَبِّ عن الألباني والرَّد على إسماعيل الأنصاريّ "، أرسلهُ إليَّ جزاه اللّه خيراً وأنا زائر في (جُدة) أواخر شعبان هذه السنة (1410 هـ) ، وهو في المطبعة لمَّا يُنْشَرْ بعد، وما يصل هذا المجلَّد إلى أيدي النَّاس. إلا ويكون قد تداولته الأيدي.
وهو ردٌ علميٌّ هادئٌ جدّاً، نزيهٌ ، لا يقولُ إلا ما وصَلَ إليهِ علمُه، لا يُداري ولا يُماري منطلقاً وراء الحجة والبرهان، وهو مع سعة صدره في الردِّ على الأنصاري، فإنَّه لم يتمالك أن يصرِّح ببعضِ ما سبق وَصْفُه به، فهو يصرِّح (ص 66 و77) :
أنَّه غير منصفٍ في النَّقد، ولا أمين في النقل!
وهو يتعجَّب (ص 82 و86) من مكابرة الأنصاريِّ وادِّعائهِ على الألبانيِّ خلافَ الواقع!
ولقد ضاقَ صدرُه من كثرةِ مكابرته وتدليسه على القرَّاء، فقال (ص 87) :
"أكَرِّر هنا أنَني أسأم من توجيهِ النَّصيحة للشيخ الأنصاري حفظه اللّه: بأنَّه إذا فاته الِإنصاف في النقد، فليحرص على أن لا تَفوتَه الأمانة في النقل ".
ثم كشف عن تدليسه المشار إليه، ثم قال (ص 88) :
"ألا فَلْيَتَّقِ اللّه الشيخُ الأنصاري، فمهما حاول، فلنْ ينالَ من منزلة الشيخ الألباني حفظه اللّه…
من سلسلة الأحاديث الصحيحة، المجلد الأول