هذه خطبة جمعة للشيخ عبد العزيز ال الشيخ حفظه الله
بعنوان
آفات اللسان
ملخص الخطبة:
1- نعمة اللسان. 2- من شعب الإيمان المتعلقة باللسان. 3- خطورة اللسان. 4- من آفات اللسان. 5- المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأِشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
فيا أيّها الناس،اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، ممّا ميّز الله بني الإنسان عن سائرِ الحيوان نعمةُ اللسان، فاللّسان الذي ينطِق به الإنسان نعمةٌ تفضّل الله بها عَليه، فبهذا اللسان يعبِّر عمّا في نفسه، فيردّ به الجوابَ، ويبيِّن به ما يريد، قال الله جل وعلا: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) [البلد:8، 9].
هذا اللسان نعمةٌ عظيمَة من نِعَم الله على العبد، ولكن إن وُفِّق العبد لأن يسخِّر هذه الجارحةَ لما فيه الخير والصلاحُ سعِد به في دُنياه وآخِرتِه، وإن انحرفَ به عن منهج الله خسِر الدّنيا والآخِرة.
هذا اللسان ينطِق بأصلِ الإسلام وأساسه، فكلمةُ التوحيد "لا إله إلا الله" خيرُ قولٍ وأفضله، يقول: "الإيمان بِضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله"[1]. فإنّ من أركان الإيمان النطقَ باللسان، فينطِق بكلمةِ الإسلام التي يخرُج بها من دائرةِ الكفر، ويدخل بها دائرةَ الإسلام.
هذا اللسانُ ينطِق بالخير على اختلافِ أنواعه، (لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتَغَاء مَرْضَـٰتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].
أجل أيها المسلم، بهذا اللسان يأمر بالمعروف، فيأمُر بلسانه بالمعروف، وينهَى بلسانه عن المنكر، وبه يدعو إلى الله وإلى دينِه، ويُوضح الحقَّ ويبيِّنه، وبه يتلو كتابَ الله ويقرأ سنّةَ رسول الله، وبه التسبيحُ والتكبير والذِّكر لله، فلا يزال لسانُ المسلم رطبًا من ذكرِ الله، تسبيحًا وتكبيرًا، تحميدًا وتهليلاً، فالباقيات الصالحات: سبحانَ الله والحمد لله ولا إلهَ إلا الله والله أكبر؛ ولذا كان من دعاءِ نبيِّنا: "اللهمّ إني أسألك قلبًا سَليمًا ولِسانًا صادِقًا"[2].
هذا اللسانُ الصادق يقول الخيرَ وينطق بالخير، فما بين دعوةٍ إلى الله، وأمرٍ بمعروف ونهي عن منكر، وإصلاح بين متنازعَين، وحثٍّ على أبواب الخير، وترغيبٍ في أبواب الخير، وتحذير من الشرِّ ووسائله.
هذا اللسانُ إذا كان صادقًا رأيتَ له جولاتٍ في ميادين الخير كلِّها، فيسعَد به صاحبه وتعلو به منزلتُه وترتفع به درجته.
في وصيّة إبراهيم عليه السلام يقول لنبيِّنا: أخبِر أمّتَك أنّ الجنةَ قِيعان، وأنّ غِراسَها: سبحانَ الله والحمد لله والله أكبر[3].
أيّها المسلم، فاللسان يعبِّر عمّا في القلب، فإن يكن في القلبِ خيرٌ وحبٌّ للخير وفي القلبِ الإيمانُ الصادق نطَق هذا اللسان بما انطوَى عليه القلب من الخيرِ والدعوةِ للخير ومحبَّة المسلمين ونصيحَتهم، وإن يكن في القلب مرضٌ وبلاء ونفاقٌ ـ والعياذ بالله ـ وضلال تحدّث اللسانُ عمّا انطوَى عليه القلب من هذا البلاء العظيم.
أخي المسلم، هذا اللسانُ إمّا شاهِد لك بالخير، أو شاهدٌ عليك بضدّه، ولقد كان سلفُنا الصالح يعظِّمون هذا الأمرَ تعظيمًا كبيرًا؛ لأنهم يبلغهم عن رسولِ الله ما يدلّ على عظيمِ شأنِ اللّسان، ففي حديثِ معاذٍ يقول: "وهل يكبّ الناسَ في النار على وجوههم ـ أو قال: ـ على مناخِرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!" وذاك لمّا قال لمعاذ: "أمسِك عليك هذا"، قال: يا رسولَ الله، وإنا لمؤاخَذَون بما نقول؟! قال: "وهل يكبّ الناسَ في النّار على وجوههم ـ أو قال: ـ على مناخرِهم إلاّ حصائدُ ألسنتهم؟!"[4].
فليتّق المسلم ربَّه في لسانه أن يقولَ باطلاً، يدعو إلى ضلالة، يدعو إلى الكفرِ والضّلال، ويقول الباطلَ والسوء، ويتكلَّم بلسانه بأمورٍ لو يدري عن عواقِبِها لأمسكَ عنها.
أيّها المسلم، إن آفاتِ اللسان كثيرة، فأعظمُ آفاته وأشرّها أن ينطِقَ بالكفر، ينطقَ بالضلال، ينطقَ بكلماتٍ تضادّ الإسلام، وتحارب الإسلام، ولا تتّفق مع مبادئِ الإسلام.
من آفاتِه أن ينطقَ بكلماتٍ فيها سخريّة، استهزاءٌ بالله، وسخريّة بدينِه، وتنقُّصٌ لعِباد الله المؤمنين.
مِن آفاتِ اللسان أن ينطقَ بما يصيب الإسلامَ وأهلَه، ويسخرَ بالإسلامِ وأهلِه، ويستهزِئ بتعاليمِ الإسلام، ويسخرَ بمبادئ الإيمان، وينتقصَ أخلاقَ الإسلام، ويزدريَها، ويزعُم أنها أخلاقٌ رجعيّة قد مضى عليها الزّمن، فلا تطابق هذا العصرَ ولا تناسبه، يسخَر بالإسلام بلسانِه، فيتفوَّه بكلماتٍ كلُّها خطأ وضَلال وبُعد عن الهدَى والعياذُ بالله، فتلك من الآفاتِ السيّئة، ولذا قال الله عن الكفار إنهم قالوا: (لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت:26]. فالكفّار في عهدِ رسول الله تواصَوا أن لا يُصغُوا إلى هذا القرآن، ولا يستمِعوا إليه؛ لعِلمهم أنّ من أصغى إليه فسيجِد فيه البيانَ الكافي والحجّةَ القاطعة، وقالوا: (وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، حاوِلوا التشويشَ على محمّد إذا تلا وعلى تلاوتِه لعلّكم تغلبون ذلك، فلا يكونُ لهذا القرآن نفوذٌ في مسامِع النّاس.
إذًا، فعلى كلِّ كاتبٍ إذا كتَب أن يكتبَ خيرًا، وأن يقولَ خيرًا، وليحذَر أن يطلقَ للسانِه العنانَ فيقول به ما فيه محادّة لله ورسولِه، وليعلَم أنه محاسَب عن ألفاظِه كلِّها، (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النور:24].
فاتَّقِ ربَّك ـ أيّها المسلم ـ فيما تنطِق به من كلمات، زِنْها، وحاسِب نفسَك: هل ما قلتَ حقّ تنصُر به الإسلامَ وأهله، أو ما قلتَ باطل تحارِب به الإسلامَ وأهلَه؟ وأنت مسؤولٌ عن ألفاظك كلِّها، ومهما عرفتَ المراوغةَ فالله عالم بسرّك وعلانيتِك، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ) [غافر:19].
أيّها المسلم، كم من كلماتٍ يتفوّه بها بعض الناس ولا يدرِي أنه يزِلّ بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب، ينطِق بكلمة مليئةٍ بالسخرية، مليئةٍ بالاستهزاء، مليئةٍ باللّمز بالمؤمنين واحتقار دينهم والحطّ من شأنهم وتصوير أهل الإسلام والمستمسِكين به بأنهم الرّجعيون، وبأنهم الجامِدون، وبأنهم غيرُ الفاهمين، وبأنهم الذين يعيشونَ في القرون الوسطى، ولا يستطِيعون أن يعيشوا في القرنِ العِشرين، كلُّ ذلك من بُغضٍ للإسلامِ وبُغضٍ لتعاليمِه وأخلاقه وآدابه، والله قال في أولئك: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِٱللَّهِ وَءايَـٰتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـٰنِكُمْ) [التوبة:65، 66]، ويقول جل جلاله: (يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَـٰمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ) [التوبة:74].
فليتَّق المسلم ربَّه أن لا يقولَ باطلاً، ولا يدعوَ إلى ضلالٍ، ولا يحاربَ الإسلام وأهله.
آفاتُ اللسان كثيرةٌ، الكذِب على الله في شرعِه ودينه بأنّه أحلّ كذا واللهُ ما أحلّه، وحرّم كذا واللهُ ما حرّمه، فذاك من الآفاتِ العظيمة؛ إذ القولُ على الله بلا علمٍ أعظمُ الكبائر وأشدّها، بل هو أعظمُ من الشّرك بالله، (وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـٰنًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف:33]، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ) [يونس:59]، (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ) [النحل:116]، وفي الحديث: "من كذَب عليَّ متعمدًا فليتبوّأ مقعدَه من النار"[5].
آفاتُ اللّسان منها الغيبةُ للمسلمين، وانتهاكُ أعراضهم، والبحثُ عن معائِبهم، والتحدّث عن زلاّتهم، ومحاولة البحثِ عن أخطائهم ليجسِّدها ويعيبهم بها ويحتقرَهم بها، فذاك من الآفات، (وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ) [الهمزة:1]، (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَـٰبِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ) [الحجرات:11].
فاغتيابك للمسلم وذكرُك مساوئَه التي يكرهها وهمزُك ولمزك له وعيبُك إيّاه وانتقاصُك إيّاه بلسانك واحتقارك له وبحثُك عن معائبِه وحرصُك على هذا كلُّها آفاتٌ ضارّة، فالمسلِم مطلوبٌ منه السِّتر على المسلمين وعدم عَيبِهم ولَمزِهم والكفّ عن ذلِك؛ لأنهم إخوانك المسلمين، فما يسوؤهم فإنّه يسوؤك، (بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ).
مِن آفاتِ اللّسان السعيُ بالنّميمة بين الأمّة ليفرِّقَ بها جمعَهم، ويفرّق بها أخوَّتَهم وصحبتَهم، فتلك النميمةُ القالّة بين النّاس التي تُوعِّد صاحبُها بأنّه لا يدخل الجنّةَ، وفي الحديث: "لا يدخل الجنّةَ نمّام"[6]، وأُمِرنا أن لا نطيعَه ولا نصغيَ إلى كلامِه ولا نلقِيَ له بالاً: (وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) [القلم:10-12].
مِن آفاتِ اللّسان شهادةُ الزّور، فيشهَد على باطلٍ شهادةً هو غيرُ محِقّ فيها، لكنه يشهدها مجامَلةً ومراعاة لصُحبةٍ أو قرابة أو نحو ذلك، أو اشتراكٍ في مصالح، فيشهَد شهادةً يعلَم الله كذبَه فيها، ولكن الحاملَ عليه محبّةٌ أو طمَع مادّيّ ومصالح مشتَرَكة بينهما، فيشهَد زورًا، فيقول باطلاً، وفي الحديث: "ألا وشهادَة الزور"، فما زال يكرِّرها حتى قال الصحابَة: ليتَه سكَت[7].
من آفاتِ اللسان الجدالُ بالباطل، ذالكم الجدالُ الذي لا يقصَد به حمايةُ حقٍّ ولا دَحض باطل، ولكنه جدال بالباطِل وجدال بغيرِ حقّ، وإنما هوَ جدال لتصحيحِ الباطلِ وإقرار الخطَأ والدّفاع عن أهل الباطل.
مِن آفات اللسان ـ يا عباد الله ـ السِّبابُ واللعان، فتلك مصيبةٌ عظيمَة، فليس المؤمِن بالسبّاب ولا باللّعّان، ولا بالفاحش البذيء، فينزّه لسانَه عن اللعن، وعن قذفِ المسلمين ورميهم بما هم برآءٌ منه، (وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَـٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) [الأحزاب:58]. فاتِّهام المسلمين ورميُهم بالعظائمِ وقذفُهم بما هم برآء منه من آفاتِ اللسان الخطيرة، ولذا جُعل حدّ القاذِفِ للمسلمِ أن يُجلَد ثمانين جلدةً، وأن تُردَّ شهادته، وحُكِم عليه بالفِسق، نتيجةً لكذبه وباطله.
أيّها المسلمون، من آفات اللّسان الكذب في الحديث وعدَم تحرّي الصدق، فتلك مصيبةٌ عظيمة، ويكذِب على النّاس في تعامُله معهم، فيغشّهم ويخدَعهم ويظنّون صِدقَه، والله يعلم أنه كاذِب.
إنّ الإسلامَ هذّب لسانَ المسلِم وأدّب قولَه حتى يقولَ الحقّ وينطقَ بالحقّ ويبتعدَ عن الباطل، فبذاءةُ اللّسان مصيبةٌ عظيمة، في الحديثِ: "إنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من سخَط الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، يهوي بها في النارِ أبعدَ مما بين المشرِق والمغرب. وإنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من رضوانِ الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانَه إلى يوم يَلقاه"[8].
فيا إخوتي المسلمين، اتّقوا الله في أنفسِكم، في ألسنتكم، فاحذَروا الشماتةَ بالأمّة، احذروا الشماتةَ بالمسلمين وتتبُّع عوراتهم والكذبَ عليهم وشهادةَ الزور وهمزهم ولمزَهم والسخريةَ بهم واحتقارَهم والتحدث في أعراضِهم بأمرٍ تعلمون [أنه] لا مصلحةَ لكم فيه، وإنما إشغالُ الوقت بما لا خيرَ فيه.
أسأل الله أن يعينَني وإياكم على شكرِه وذِكره، وأن يجعلَنا من المتّقين الذين يستمِعون القول فيتّبعون أحسنه.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
——————————————————————————-
[1] رواه البخاري في الإيمان (9)، ومسلم في الإيمان (35) واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] رواه أحمد (4/125)، والترمذي في الدعوات (3407) من طريق أبي العلاء بن الشخير عن رجل من بني حنظلة عن شداد بن أوس رضي الله عنه، وفي سنده الرجل الحنظلي وهو مجهول، ولذا أورده الألباني في ضعيف سنن الترمذي (675). ورواه الطبراني في الكبير (7/294)، والحاكم في معرفة علوم الحديث (ص27) من طريق أبي العلاء عن رجلين عن شداد، والنسائي في السهو (1304) عن أبي العلاء عن شداد ليس بينهما الحنظلي.
[3] رواه الترمذي في الدعوات (3462)، والبزار (1992)، والطبراني في الصغير (539) والأوسط (4170) والكبير (10/173)، والخطيب في تاريخ بغداد (2/292) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وقال المنذري في الترغيب (2/276): "رواه الترمذي والطبراني عن عبد الواحد بن زياد عن عبد الرحمن بن إسحاق عن القاسم عن أبيه عن ابن مسعود… أبو القاسم هو عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن هذا لم يسمع من أبيه، وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شيبة الكوفي واه"، وقال الهيثمي في المجمع (10/91): "فيه عبد الرحمن بن إسحاق أبو شيبة الكوفي وهو ضعيف"، وله شاهدان عن ابن عمر وأبي أيوب رضي الله عنهما، وبهما قواه الألباني في السلسلة الصحيحة (105).
[4] أخرجه أحمد (5/231)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، والنسائي في الكبرى (11394)، وابن ماجه في الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة (3973)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (2/447)، والألباني في صحيح سنن الترمذي (2110).
[5] رواه البخاري في العلم (110)، ومسلم في المقدمة (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه غيره من الصحابة كثير.
[6] رواه البخاري في الأدب (6056)، ومسلم في الإيمان (105) واللفظ له عن حذيفة رضي الله عنه.
[7] رواه البخاري في الشهادات (2654)، ومسلم في الإيمان (87) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
[8] رواه البخاري في الرقاق (6477، 6478)، ومسلم في الزهد (2988) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بعد:
فيا أيّها الناس، اتقوا الله حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول: "المسلِم من سلِم المسلمون مِن لسانه ويده"[1].
فالمسلِم كامِل الإسلامِ مَن سلم المسلمون مِن شرِّ لسانِه، فليس مغتابًا لهم، ولا نامًّا بينهم، ولا كاذبًا عليهم، ولا شاهدَ زورٍ، ولا ساخرًا بهم، ولا مستهزئًا بهم، ولا باثًّا إشاعاتٍ كاذبةً عنهم، ولا راميًا لهم بالعظائِم، ولا متَّهِمًا لهم بما هم برآء منه.
كم يحمل الحسدُ أناسًا على التحدّث عن الآخرين، يتحدّث عنهم محاوِلاً أن يوقِع الناسَ في الطعن فيهم وتتبّع زلاتهم وعثراتهم، ما كفاه ما في قلبِه من المرض، ولكنه إذا جاءَ المجالسَ تحدّثَ عن مساوئِ فلانٍ ومعائب فلان، وما أُخِذ على فلان، وما قيل عن فلان، بأشياء هي غيرُ واقعه، لكن في قلبِه مرض الحسدِ والحِقد، يريد أن ينفِّسَ عن نفسه، فيجعَل الآخرين يشارِكونه ويشاطِرونه أخطاءَه وآثامه، فلنحذَر من أولئك، ولا نفتَح المجالَ لهم ليقولوا في الناس ما ليسَ فيهم.
إنّ المسلمَ يحمي نفسَه، يحمي لسانَه أن يتحدَّث عن الآخرين بما لا عِلمَ له به، (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء:36]. لو كان فيك خيرٌ لنصحتَ، ولو كان فيك خير لوجّهتَ، ولو كان فيك خير لهدَيتَ إلى الطريق، ولكن لمَّا انعَدم الخير من نفسِك أردتَ أن تنفِّس عن حسَدِك وحِقدك وبغضِك وكراهيتك للآخرين وشماتتِك بهم، أن تتحدّث بلسانك عن مصائبِهم ونقائصهم؛ لأجل أن تشركَ الناس في إثمك، وتشركَ النّاس في أخطائك. فلنتَّق الله، ولنطهّر مجالسَنا من هؤلاء الذين يحبّون الطعنَ في الأمّة، قال جل وعلا: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَـٰحِشَةُ فِى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النور:19].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين…
——————————————————————————
[1] رواه البخاري في الإيمان (10)، ومسلم في الإيمان (40) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وورد أيضا من حديث أبي موسى وجابر وأبي هريرة وأنس وعمرو بن عبسة وفضالة بن عبيد رضي الله عنهم.