بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فقد تواترت الأخبار بإنزال مركبة فضائية على سطح القمر بعد المحاولات العديدة التي استنفدت فيها الطاقات الفكرية والمادية والصناعية عدة سنوات وقد أثار هذا النبأ تساؤلات وأخذاً ورداً بين الناس.
فمن قائل: إن هذا باطل مخالف للقرآن، ومن قائل : إن هذا ثابت والقرآن يؤيده، فالذين ظنوا أنه مخالف للقرآن قالوا : إن الله أخبر أن القمر في السماء فقال: ]تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً[. وقال: ]وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً[. وإذا كان القمر في السماء فإنه لا يمكن الوصول إليه، لأن الله جعل السماء سقفاً محفوظاً، والنبي، صلى الله عليه وسلم، أشرف الخلق ومعه جبريل أشرف الملائكة وكان يستإذاً ويستفتح عند كل سماء ليلة المعراج ولا يحصل لهما دخول السماء إلا بعد أن يفتح لهما فكيف يمكن لمصنوعات البشر أن تنزل على سطح القمر وهو في السماء المحفوظة.
والذين ظنوا أن القرآن يؤيده قالوا : إن الله قال في سورة الرحمن: ]يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان[. والسلطان العلم وهؤلاء استطاعوا أن ينفذوا من أقطار الأرض بالعلم فكان عملهم هذا مطابقاً للقرآن وتفسيراً له.
وإذا صح ما تواترت به الأخبار من إنزال مركبة فضائية على سطح القمر فإن الذي يظهر لي أن القرآن لا يكذبه ولا يصدقه فليس في صريح القرآن ما يخالفه، كما أنه ليس في القرآن ما يدل عليه ويؤيده.
فإذا كان كذلك فالقرآن كلامه وهو سبحانه أصدق القائلين ومن أصدق من الله قيلاً، وكلامه أحسن الكلام وأبلغه في البيان، ومن أحسن من الله حديثاً فلا يمكن أن يقع في كلامه الصادر عن علمه، والبالغ في الصدق والبيان غايته لا يمكن أن يقع في كلام هذا شأنه ما يخالف الواقع المحسوس أبداً، ولا أن يقع في المحسوس ما يخالف صريحه أبداً.
ومن فهم أن في القرآن ما يخالف الواقع، أو أن من المحسوس ما يقع مخالفاً للقرآن ففهمه خطأ بلا ريب.
والآيات التي يظنها بعض الناس دالة على أن القمر في السماء نفسها ليس فيها التصريح بأنه مرصع في السماء نفسها التي هي السقف المحفوظ نعم ظاهر اللفظ أن القمر في السماء نفسها، ولكن إن ثبت وصول السفن الفضائية إليه ونزولها على سطحه فإن ذلك دليل على أن القمر ليس في السماء الدنيا التي هي السقف المحفوظ وإنما هو في فلك بين السماء والأرض كما قال ـ تعالى ـ: ]وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون[. وقال ـ تعالى ـ: ]لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون[. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : "يدورون كما يدور المغزل في الفلكة، وذكر الثعلبي والماوردي عن الحسن البصري أنه قال: "الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملصقة به ولو كانت ملصقة به ما جرت" ذكره عنهما القرطبي في تفسير سورة يس.
والقول بأن الشمس والقمر في فلك بين السماء والأرض لا ينافي ما ذكر الله من كونهما في السماء، فإن السماء يطلق تارة على كل ما علا قال ابن قتيبة: "كل ما علاك فهو سماء" فيكون معنى كونهما في السماء أي في العلو أو على تقدير مضاف أي في جهة السماء.
وقد جاءت كلمة السماء في القرآن مراداً بها العلو كما في قوله تعالى: ]ونزلنا من السماء ماء مباركاً[. يعني المطر، والمطر ينزل من السحاب المسخر بين السماء والأرض.
وإذا ثبت ما ذكروا عن سطحية القمر فإن ذلك يزيدنا معرفة في آيات الله العظيمة حيث كان هذا الجرم العظيم وما هو أكبر منه وأعظم يجري بين السماء والأرض إلى الأجل الذي عينه الله تعالى لا يتغير ولا يتقدم ولا يتأخر عن السير الذي قدره له العزيز العليم، ومع ذلك فتارة يضيء كله فيكون بدراً ، وتارة يضيء بعضه فيكون قمراً أو هلالاً ذلك تقدير العزيز العليم.
وأما ما اشتهر من كون القمر في السماء الدنيا، وعطارد في الثانية والزهرة في الثالثة، والشمس في الرابعة، والمريخ في الخامسة، والمشتري في السادسة، وزحل في السابعة فإن هذا مما تلقي عن علماء الفلك والهيئة وليس فيه حديث صحيح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك أن ابن كثير رحمه الله مع سعة اطلاعه لما تكلم على أن الشمس في الفلك الرابع قال: "وليس في الشرع ما ينفيه بل في الحس وهو الكسوفات ما يدل عليه ويقتضيه". ا.هـ فقوله: "وليس في الشرع ما ينفيه". واستدلاله على ثبوته بالحس دليل على أنه ليس في الشرع ما يثبته أي ما يثبت أن الشمس في الفلك الرابع والله أعلم.
وهذا الاستدلال مردود من وجوه:
الأول: أن سياق الآية يدل على أن هذا التحدي يكون يوم القيامة ويظهر ذلك جلياً لمن قرأ هذه السورة من أولها فإن الله ذكر فيها ابتداء خلق الإنسان والجان، وما سخر للعباد في آفاق السموات والأرض، ثم ذكر فناء من عليها ثم قال: ]سنفرغ لكم آيٌّهَ الثقلان[. وهذا الحساب ثم تحدى الجن بأنه لا مفر لهم ولا مهرب من أقطار السموات والأرض فيستطيعون الهروب ولا قدرة لهم على التناصر فينصروا وينجوا من المرهوب، ثم أعقب ذلك بذكر الجزاء لأهل الشر بما يستحقون، ولأهل الخير بما يؤملون ويرجون.
ولا شك أن السياق يبين المعنى ويعينه فرب كلمة أو جملة صالحة لمعنى في موضع ولا تصلح له في موضع آخر، وأنت ترى أحياناً كلمة واحدة لها معنيان متضادان يتعين المراد منهما بواسطة السياق كما هو معروف في كلمات الأضداد في اللغة.
فلو قدر أن الآية الكريمة تصلح أن تكون في سياق ما خبراً لما سيكون في الدنيا فإنها في هذا الموضع لا تصلح له بل تتعين أن تكون للتهديد والتعجيز يوم القيامة وذلك لما سبقها ولحقها من السياق.
الثاني : أن جميع المفسرين ذكروا أنها للتهديد والتعجيز وجمهورهم على أن ذلك يوم القيامة وقد تكلم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي على هذه الآية في سورة الحجر عند قوله ـ تعالى ـ: ]ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين . وحفظناها من كل شيطان رجيم[. ووصف من زعم أنها تشير إلى الوصول إلى السماء وصفه بأنه لا علم عنده بكتاب الله.
الثالث: أنه لو كان معناها الخبر عما سيحدث لكان معناها يا معشر الجن والإنس إنكم لن تنفذوا من أقطار السموات والأرض إلا بعلم وهذا تحصيل حاصل فإن كل شيء لا يمكن إدراكه إلا بعلم أسباب إدراكه والقدرة على ذلك، ثم إن هذا المعنى يسلب الآية روعتها في معناها وفي مكانها فإن الآية سبقها الإنذار البليغ بقوله ـتعالىـ:]سنفرغ لكم أيه الثقلان[. وتلاها الوعيد الشديد في قوله: ]يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران[.
الرابع: أن دلالة الآية على التحدي ظاهرة جداً.
أولاً: لما سبقها ويتلوها من الآيات.
ثانياً: أن ذكر معشر الجن والإنس مجتمعين معشراً واحداً فهو قريب من مثل قوله ـ تعالى: ]قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً[.
ثالثاً: أن قوله: ]إن استطعتم[ ظاهر في التحدي خصوصاً وقد أتى بـ "إن" دون "إذا" تدل على وقوع الشرط بخلاف "إن".
الخامس: إنه لو كان معناها الخبر لكانت تتضمن التنويه بهؤلاء والمدح لهم حيث عملوا وبحثوا فيما سخر الله لهم حتى وصلوا إلى النفوذ وفاتت النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الذين هم أسرع الناس امتثالاً لما دعا إليه القرآن.
السادس: أن الآية الكريمة علقت الحكم بالجن والإنس ومن المعلوم أن الجن حين نزول القرآن كانوا يستطيعون النفوذ من أقطار الأرض إلى أقطار السماء كما حكى الله عنهم ]وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً . وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً[. فكيف يعجزهم الله بشيء كانوا يستطيعونه، فإن قيل : إنهم كانوا لا يستطيعونه بعد بعثة النبي، صلى الله عليه وسلم، قلنا:هذا أدل على أن المراد بالآية التعجيز لا الخبر.
السابع: أن الآية علقت الحكم بالنفوذ من أقطار السموات والأرض ومن المعلوم أنهم ما استطاعوا ولن يستطيعوا أن ينفذوا من أقطار السموات مهما كانت قوتهم.
الثامن: أن الآية الكريمة أعقبت بقوله ـ تعالى ـ: ]يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران[. ومعناها والله أعلم انكم يا معشر الجن والإنس لو حاولتما النفوذ من ذلك لكان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس والمعروفأإن هذه الصواريخ لم يرسل عليها شواظ من نار ولا نحاس فكيف تكون هي المقصود بالآية.
التاسع: أن تفسيرهم السلطان هنا بالعلم فيه نظر فإن السلطان ما فيه سلطة للواحد على ما يريد السيطرة عليه والغلبة ويختلف باختلاف المقام فإذا كان في مقام العمل ونحوه فالمراد به القوة والقدرة ومنه قوله تعالى عن إبليس: ]إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون[. فالسلطان في هذه الآية بمعنى القدرة ولا يصح أن يكون بمعنى العلم، ومنه السلطان المذكور في الآية التي نحن بصددها فإن النفوذ عمل يحتاج إلى قوة وقدرة والعلم وحده لا يكفي وهؤلاء لم يتوصلوا إلى ما ذكر عنهم بمجرد العلم ولكن بالعلم والقدرة والأسباب التي سخرها الله لهم، وإذا كان السلطان في مقام المحاجة والمجادلة كان المراد به البرهان والحجة التي يخصم بها خصمه ومنه قوله تعالى: ]إن عندكم من سلطان بهذا[. أي من حجة وبرهان ولم يأت السلطان في القرآن مراداً به مجرد العلم والاشتقاق يدل على أن المراد بالسلطان ما به سلطة للعبد وقدرة وغلبة.
فتبين بهذا أن الآية الكريمة لا يراد بها الإشارة إلى ما ذكر من السفن الفضائية وإنزالها إلى القمر وهذه الوجوه التي ذكرناها منها ما هو ظاهر ومنها ما يحتاج إلى تأمل وإنما نبهنا على ذلك خوفاً من تفسير كلام الله بما لا يراد به لأن ذلك يتضمن محذورين:
أحدهما: تحريف الكلم عن مواضعه حيث أخرج عن معناه المراد به.
الثاني: التقول على الله بلا علم حيث زعم أن الله أراد هذا المعنى مع مخالفته للسياق وقد حرم الله على عباده أن يقولوا عليه ما لا يعلمون.
بقي أن يقال : إذا صح ما ذكر من إنزال المركبة الفضائية على سطح القمر فهل بالإمكان إنزال إنسان على سطحه؟.
فالجواب : أن ظاهر القرآن عدم إمكان ذلك وأن بني آدم لا يحيون إلاّ في الأرض يقول الله ـ تعالى ـ: ]فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون[. فحصر الحياة في الأرض والموت فيها والإخراج منها، وطريق الحصر فيها تقديم ما حقه التأخير، ونحو هذه الآية قوله ـ تعالى ـ: ]منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى[. حيث حصر ابتداء الخلق من الأرض، وأنها هي التي نعاد فيها بعد الموت ونخرج منها يوم القيامة، كما أن هناك آيات تدل على أن الأرض محل عيشة الإنسان ]ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش[. فظاهر القرآن بلا شك يدل على أن لا حياة للإنسان إلا في هذه الأرض التي منها خلق، وإليها يعاد، ومنها يخرج، فالواجب أن نأخذ بهذا الظاهر وأن لا تبعد أوهامنا في تعظيم صناعة المخلوق إلى حد نخالف به ظاهر القرآن رجماً بالغيب، ولو فرض أن أحداً من بني آدم تمكن من النزول على سطح القمر وثبت ذلك ثبوتاً قطعياً أمكن حمل الآية على أن المراد بالحياة المذكورة الحياة المستقرة الجماعية كحياة الناس على الأرض، وهذا مستحيل والله أعلم.
وبعد فإن البحث في هذا الموضوع قد يكون من فضول العلم لولا ما دار حوله من البحث والمناقشات حتى بالغ الناس في رده وإنكاره، وغلا بعضهم في قبوله وإثباته، فالأولون جعلوه مخالفاً للقرآن، والآخرون جعلوه مؤيداً بالقرآن فأحببت أن أكتب ما حررته هنا على حسب ما فهمته بفهمي القاصر وعلمي المحدود.
وأسأل الله أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه نافعاً لعباده والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله، وصحبه أجمعين.
1- أما كون القرآن لا يخالفه فلأن القرآن كلام الله تعالى المحيط بكل شيء علماً فهو سبحانه يعلم ما كان وما يكون من الأمور الماضية والحاضرة، والمستقبلة، سواء منها ما كان من فعله، أو من خلقه فكل ما حدث أو يحدث في السموات أو في الأرض من أمور صغيرة، أو كبيرة ظاهرة، أو خفية فإن الله ـ تعالى ـ عالم به ولم يحدث إلا بمشيئته وتدبيره لا جدال في ذلك.
2- وأما كون القرآن لا يدل على وصول السفن الفضائية إلى القمر فلأن الذين ظنوا ذلك استدلوا بقوله تعالى: ]يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان[. وفسروا السلطان بالعلم.
وعلى الدلائل والبراهين
الجواب: الأدلة التي لنا هي رد على من قال بدوران الأرض وحركاتها، ورسوخ الشمس وثبوتها، هذا كتبنا فيه ردوداً وجُمعت، وطُبعت، وتوزَّع وعنوانها: ( الأدلة النقلية والحسية على سكون الأرض، وعلى جريان الشمس وعلى إمكان الصعود إلى الكواكب ) هذا الذي نقلناه من كلام أهل العلم، أن الأرض ثابتة وساكنة، وأن الشمس والقمر دائران وسائران. وأما عدم إنارة القمر فهذا لا أصل له، وما قلتُ هذا، القمر جعله الله نوراً بنص القرآن، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً ) [يونس:5] فالقمر له نور، والشمس لها نور وضياء، هذا بنص القرآن وبالمشاهَدة، ومن نقل عني أني أقول بعدم إنارة القمر فهذا قول فاسد لا أصل له ولا أقول به، وكتابي موجود يوزع من المكتبة ومن المستودع، ومن أراده وجده، والأدلة التي ذكرناها عن أهل العلم واضحة في أن الشمس والقمر دائران، كما نص الرب على ذلك، قال تعالى: ( كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ) [الرعد:2]. وأما الأرض فهي ساكنة، وقد نقل القرطبي رحمه الله في تفسيره إجماع العلماء قال: وأهل الكتاب أيضاً على أن الأرض ساكنة وثابتة. وقال عبد القاهر البغدادي في كتابه: الفَرْق بين الفِرَق قال: أجمع أهل السنة على أنها ساكنة وثابتة، هذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة .
أما ما يقوله الناس اليوم وينسبونه إلى الرياضيين أو الفلكيين من دوران الأرض فهذا قول لا أصل له، ولا دليل عليه، وإنما هي خرافة وظنون ليس لها دليل من الواقع ولا من الحس، ولا دليل من نقل، وإن زعموا وجود ذلك، فالأرض ثابتة ومستقرة في الهواء بإذن الله عزَّ وجلَّ، والشمس والقمر والكواكب دائرات من حولها في جوها وفي فلكها
للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله