عادة ما تقدم العولمة باعتبارها مصطلحاً قلقاً يرتبط ذكره بالتوجس والتحفظ بالنظر لتعدد حضوره في مختلف الخطابات السياسية والاقتصادية والثقافية المعاصرة، دون أن يكون هناك سياق جامع مانع يتحكم في سيرورة هذا المفهوم، فيسمح بوضعه في إطار تعريفي قارٍّ كغيره من المفاهيم، ففي حين يبدو للوهلة الأولى أن الأمر يتعلق بمصطلح جديد يكاد تداوله الإعلامي يتجاوز البضع سنوات، فإن كل من هانز بيتر مارتين وهارولد شومان في كتابهما "فخ العولمة" يرسمان له جذوراً تاريخية عميقة تعود إلى أكثر من خمسة قرون، منذ اكتشاف أمريكا وغزوها وكونية عصر الأنوار.1
قلق هذا المفهوم وتداخله مع مفاهيم أخرى من قبيل العالمية،2 هو ما يجعل بعض الدراسات الحديثة ترفض حتى الاعتراف به، إذ تعتبره مجرد خرافة وموضة عصر.3 إننا بحسب تعبير المفكر الفرنسي ريجيس دوبري (regis debri) أمام نظام لا يزال قيد التشكل بأدوات ومحددات نظرية غير موعى بها وعياً تاماً، كما وقع بالنسبة لانتقال العالم من العصور الوسطى إلى عصر التنوير، أو من الموجة الفلاحية إلى الموجة الصناعية، أو من الموجة الصناعية إلى الموجة المعلوماتية، وهي ذروة الحداثة.4 ولعل هذا ما جعل روبرتسون (robertson)، أحد أبرز منظري العولمة في العالم، في تحقيبه الشهير لتاريخها يطلق على المرحلة الخامسة التي تتمثل الصورة المعاصرة التي نحن بصدد عيشها مرحلة عدم اليقين،5 التي تحيل بالضرورة على قلق المفهوم واستعصاء حصره اصطلاحياً أو وظيفياً، غير أن مسحاً سريعاً لمجموعة من التعاريف المقدمة من قبل مجموعة من المفكرين والأكاديميين قد تتيح لنا استخلاص بعض مؤشرات سيرورة المفهوم على الأقل:
يعرف سمير أمين العولمة بكونها الاختراق المتبادل في الاقتصاديات الرأسمالية المتطورة بدرجة أولى، ثم توسيع المبادلات بين الشمال والجنوب على اعتبار أنه يمثل سوقاً مهمة،6 فيما يذهب هوبرت فيدرين (Hubert vedrine) إلى أن العولمة ليست فكراً ولكنها وقائع تقنية فرضت نفسها على الساحة الكونية، وفي فرضها لنفسها أقلقت الجميع، وبخاصة الدول ومؤسسات القطاع الخاص، إنها ظاهرة لا تمس أي اقتصاد، وإنما بالحصر اقتصاد السوق والاستهلاك، واقتصاد تحويلات العملات والتدبير الاستثماري.7 أما صادق جلال العظم فيعرفها بكونها وصول نمط الإنتاج الرأسمالي، عند منتصف القرن تقريباً إلى نقطة الانتقال من عالمية التبادل والتوزيع والسوق والتجارة والتداول، إلى عالمية دائرة الإنتاج وإعادة الإنتاج ذاتها.8 بينما يرى عزمي بشارة أنها طغيان قوانين التبادل العالمي المفروضة من قبل المراكز الصناعية الكبرى على قوانين وحاجات الاقتصاد المحلي.9
هذه التعاريف وإن كانت تتقاطع فيما بينها من حيث تركيزها على الجانب الاقتصادي والتقني الذي يبلغ أوجه في المد المعلوماتي، فهي لا توازي أهمية المفهوم وحضوره المتشعب في مختلف الخطابات المعاصرة؛ لأننا بهذا المعنى بصدد اعتبار العولمة مجرد ممارسات جديدة في التجارة والاقتصاد المتبادل تستند إلى قوة التدفقات المالية في سوق عالمية واحدة، واتساع رقعة المبادلات التكنولوجية، وبخاصة عبر وسائل الاتصال والإعلام،10 ما يجعل مقاربتنا للعولمة قاصرة عن الإحاطة بشموليتها واختزالاً لها في بعض مكوناتها، و إهمالا غير مبرر لتجلياتها المختلفة والمتعددة الأشكال والألوان، الشيء الذي يتطلب ضرورة الوقوف بدقة وشمولية، إن لم يكن على دلالة المفهوم وهو أمر لا زال مستعصياً كما أسلفنا، فعلى تجلياتها على مختلف مظاهر الحياة الإنسانية، وفي مقدمتها المعطى الثقافي والتربوي الذي يدخل بشكل مباشر في تشكيل الهوية والخصوصية المحلية التي تشير أغلب الدراسات إلى أنها قد تكون الضحية الأولى لموجة العولمة، باعتبارها سيراً نحو التنميط من خلال تمرير نموذج ثقافي واحد يكتسح الثقافات الجهوية، ويضع مصيرها في خانة الموضوعات التي قد تشغل اهتمام الأنثروبولوجيين بعد زمن قليل.
من هذا المنطلق نتوجه لمقاربة مفهوم العولمة من زاوية تأثيره المباشر أو غير المباشر على الخصوصيات الثقافية الجهوية، التي قد تسمح لنا باعتماد مصطلحات من قبيل الهوية، وفي مقدمتها المجال الثقافي العربي الذي يقع في دائرة نفوذ الاكتساح الثقافي الغربي، من خلال محاولة قراءة بعض الاجتهادات الفكرية والأكاديمية العربية التي اهتمت بتوصيف الظاهرة وأثرها وآليات مواجهتها التي من البديهي أن تقودنا إلى طرق باب الممارسة التربوية في تجلياتها المادية والرمزية الجماعية والفردية، لأن من شأنها أن تشكل من وجهة نظرنا ملتقى آليات تحصين الهوية الثقافية العربية في وجه الاكتساح الثقافي العولمي الغربي.
العولمة نقيض الهوية
ليس الحديث عن الهوية بأقل قلقاً ولا إشكالية من حديثنا السابق عن العولمة، فهي من المفاهيم التي تضخمت بشأنها المقاربات والدراسات إلى درجة جعلت المفكر ألفرد جروسر (Alfred grosser) يعلق بأن القليل من المفاهيم هي التي حظيت بالتضخيم الذي عرفه مفهوم الهوية،11 وهو أمر يعود إلى تناثر هذا المفهوم على ضفاف تخصصات عدة داخل حقل العلوم الإنسانية من الأنثروبولوجيا إلى السوسيولوجيا، ومن السيكولوجيا إلى علوم السياسة، الشيء الذي يجعل من كل محاولة لحصره ضرباً من المجازفة الفكرية المفتوحة على الاحتمالات كافة، هكذا يحدد معجم روبير الفرنسي الهوية باعتبارها الميزة الثابتة في الذات، ويختزن هذا التحديد معنيين يعمل على توضيحهما معجم المفاهيم الفلسفية على الشكل التالي: إنها ميزة ما هو متماثل، سواء تعلق الأمر بعلاقة الاستمرارية التي يقيمها فرد ما مع ذاته أم من جهة العلاقات التي يقيمها مع الوقائع على اختلاف أشكالها، ومن ثم تصبح الهوية الثقافية هي الفعل الذي يجعل من واقع ما مساوياً أو شبيها بواقع آخر من خلال الاشتراك في الجوهر، أما أنثروبولوجياً فيحضر المفهوم كعلامة غير منفصلة عن مسلسل الفردنة، أي كشكل من أشكال التمايز بين الطبقات نفسها، فمن أجل إعطاء هوية لفرد ما أو لمجموعة من الأفراد، يبدو لزاماً التمييز بين ما ليسوا هم، وبالمقابل ينبغي فهم الفرد في خصوصيته، كما يجب أخذ هويته التاريخية بعين الاعتبار.12
الواقع أننا بصدد التعامل مع إحدى أكثر القضايا حساسية في نشأة المجتمعات واستمرارها، ولعل هذا ما يضع هذه القضية في عمق كثير من النزاعات المسلحة أو حتى السلمية في العالم في إفريقيا كما في آسيا وأوروبا، بل إن هذه الاندفاعات نحو الهوية ليست حكراً في الواقع على الأماكن التي تقدم في التداول الإعلامي باعتبارها مناطق صراع وتعصب، بقدر ما هي منتشرة في مختلف بقاع المعمور شرقها وغربها، وفي هذا الإطار لسنا بحاجة للتذكير بالمفاوضات الشاقة التي جمعت فرنسا بالولايات المتحدة الأميركية على هامش معاهدة "الجات" التي تقضي بحرية مرور البضائع والأشخاص والمعلومات بين الدول بحرية، فقد كان زعماء فرنسا ومثقفوها متخوفون من مدى قدرة الهوية الفرنسية على الصمود في وجه الاختراق الثقافي والإعلامي الأجنبي، على الرغم من الخلفية الثقافية الفرنسية العريقة التي تجر وراءها فكر الأنوار وأبجديات الحداثة الغربية من إرهاصات الفكر الديكارتي إلى اشتغالات فلاسفة الاختلاف، كما أن كانتونات سويسرا وقوميتي بلجيكا وطائفتي أيرلندا ليست كلها أكثر من تعبير عن التشبث بالهوية في زمن العولمة، أما ألمانيا فإن أزيد من أربعين سنة من الفرقة الإسمنتية لم تلغِ سعي الطرفين نحو هوية الأمة الألمانية في مشهد التوحيد، ولعله من قبيل المفارقة الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية، متزعمة أيديولوجيا العولمة في العالم، تعد من أكثر البلدان استشعاراً لهاجس الهوية، فقد سجل المفكر المغربي محمد عابد الجابري في زيارة له إليها في إطار ما يسمى بالحوار العربي الأمريكي أن برنامج الرحلة لم يكن يعطي الأولوية لإطلاع الزوار، وهم نخبة من ألمع المفكرين العرب، على تجليات الحضارة الأمريكية المعاصرة من قبيل علم التكنولوجيا والمعلوميات وبرامج غزو الفضاء، بقدر ما انصرف إلى أشياء وأماكن لها ارتباط بالتراث والتاريخ إلى درجة جعلت الدكتور الجابري يخاطب مضيفيه في إحدى مداخلاته على هامش الحوار المذكور قائلا: "إن وضعنا معكم مقلوب، نحن في العالم العربي شبعنا من التراث ونبحث عن المعاصرة، أما أنتم فيبدو أنكم شبعتم من المعاصرة وتبحثون عن التراث. أنتم تبحثون عن الماضي ونحن نبحث عن المستقبل".13 من جهة أخرى، فقد يتداخل هذا المفهوم مع مفاهيم أخرى هكذا قد يتم التعبير عن الهوية في كثير من الأحيان بلغة الجنسية، وليست الجنسية وضعية سياسية قانونية فحسب، فهي كذلك كل ما نعتقد أنها خصائصنا الاجتماعية المميزة، السمات التي نتقاسمها مع المواطنين المماثلين،14 الشيء الذي يحيل على تزاوج غير واضح المعالم بين الروابط المحسوسة والخريطة السياسية والقانونية، بل والجغرافية للعالم، ما يضعنا أمام أحد أهم الأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح على هامش علاقة العولمة بالهوية تتعلق بسؤال المكان، فهذا الأخير الذي ظل على امتداد عمر التركيبة السياسية التقليدية، ممثلة في الدول الوطنية، مكاناً مغلقاً على مجموعة من الفاعلين الحاضرين في علاقات تقوم وجهاً لوجه قد أصبح مجالاً كونياً مفتوحاً لتفاعلات أبعد من نطاقه المحدد، يدخل فيها أفراد غير موجودين بالمكان، وأحداث لا تحدث في المكان ذاته.15 بهذا المعنى يكون التعايش بين العولمة والحدود السياسية أمراً محدوداً للغاية، ما دامت هذه الأخيرة تركز على الخصوصية، بينما تسعى العولمة إلى تجاوز هذه الخصوصية والانتقال إلى العمومية. الحدود مظهر من مظاهر السيادة، ومن أهم مقوماتها ومرتكزاتها، إنها تجسيد للسيادة على المكان، سواء أكان ملكاً خاصاً أم ملكاً جماعياً، أم أقيمت عليه دولة مستقلة تتمسك بحق سيادتها الكاملة ضمن حدوده المعترف بها دولياً، أما العولمة، فإنها تسعى إلى إلغاء السيادة على المكان أو إضعافها مستعينة بوسائلها وآلياتها من تخطي الحدود والقفز من فوقها والتعدي على خصوصيات المكان وسكانه، واختراقه، وغزو ثقافة شعبه وحضارته، وفرض ثقافة أخرى عليه، ما قد يضعف من انتمائه الوطني والقومي ويساهم في تفكيك عناصر هويته ومكوناتها، ليصبح شعباً بلا هوية تميزه عن غيره من الأمم و الشعوب.16 إنه إذن أقرب إلى نظام يعمل على إفراغ الهوية الجماعية من كل محتوى، ويدفع للتفتيت والتشتيت ليربط الناس بعالم اللاوطن واللاأمة، واللادولة، أو يفرقهم في أتون الحرب الأهلية.17
اندثار الحدود السياسية والقانونية والثقافية أمام العولمة المدعومة بوسائل حديثة كالإنترنت، والفضائيات التلفزيونية، من شانه أن يدمر آخر قلاع المقاومة للاكتساح الثقافي الغربي والأمريكي بالأساس، ما دام السياق الجيوبوليتيكي الدولي يسير باتجاه تعزيز هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم في سياق ما يعرف بالنظام الدولي الجديد، أو عالم الميغا إمبريالية بتعبير عالم الدراسات المستقبلية المهدي المنجرة،18 فمع انحسار الاتحاد السوفييتي وتفككه وانشغاله بهمومه الداخلية، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحقق أكبر قدر من الانتشار العالمي والنجاحات والانتصارات السياسية والعسكرية، وتستغل التحولات الدولية لتزيد من حضورها وصعودها الدولي كدولة وحيدة تتميز بمواصفات ومقومات الدولة العظمى كلها (super state) ،19 إضافة إلى أنها تتحكم بالنسبة الأكبر من وسائل الإعلام المؤثرة عبر العالم. ولعل أكبر مظاهر السيطرة الأمريكية معلوماتياً تشبثها بأن تحتكر مؤسسة (ICANN) الأمريكية مسؤولية تسيير المهام الأساسية للإنترنت (internet governance)، التي تشمل إدارة الموارد الرئيسية للبنية التحتية للشبكة … فقد رفضت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل قاطع في القمة العالمية لمجتمع المعلومات، أن تحال هذه المهمة على منظمة عالمية كالاتحاد العالمي للاتصالات … وهو ما يثير قلق الاتحاد الأوروبي من أن تصبح الإنترنت "ضيعة" أمريكية خاصة،20 بهذا تتجاوز الهيمنة الأمريكية الجانب الاقتصادي والسياسي إلى الجانب الثقافي، بما يعنيه ذلك من تعميم للقيم النفسية والسلوكية والعقائدية الأمريكية على الأذواق والسلوكيات والأعراف التي تشكل، بالإضافة إلى الأديان والعقائد، المنظومة المتكاملة للخصوصية الحضارية لباقي الشعوب في العالم، ما يعني أن الأمر يتعلق بأيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم وأمركته على حد تعبير الدكتور عابد الجابري، فهي تعمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه هو الولايات المتحدة الأمريكية، بالذات، على بلدان العالم أجمع … .21 لذلك، فهي تنحو باتجاه القضاء على الخصوصية الثقافية بشكل عام، في الأذواق وأولويات التفكير ومواضيعه ومناهجه، لكل هذا يضع المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي مفهوم العولمة في عمق التطلعات الهيمنية للولايات المتحدة الأمريكية من وحي مصالحها الأمنية القومية، أو ما يتعارف عليه بالحلم الأمريكي الذي جند، ليصبح واقعاً معيشاً، مجموعة من الحلفاء والزبناء في إطار تبني حرية مطلقة لقوانين السوق المالية الواحدة التي تتحدى سلطة الدولة القومية ودولة الرعاية.22 أما المدخل الأساسي للتأثير فيرتبط -كما سبقت الإشارة لذلك- بالاختراق الإعلامي الهائل الذي يتجاوز كل الأشكال التقليدية للتواصل، فيجند ثقافة جديدة هي ثقافة ما بعد المكتوب التي ليست سوى ثقافة الصورة، باعتبارها المفتاح السحري للنظام الثقافي الجديد: نظام إنتاج وعي الإنسان بالعالم، إنها المادة الثقافية الأساس التي يجري تسويقها على أوسع نطاق جماهيري، وهي تلعب الدور نفسه الذي لعبته الكلمة في سائر التواريخ التي سلفت. إن الصورة أكثر إغراء وجذباً وأشد تعبيراً وأكثر رسوخاً والتصاقاً بالعقل؛ لأنها لغة عالمية تفهمها جميع الأمم والشعوب والبشر كافة، سواء أكانوا جهلة أم متعلمين، لأنها قادرة على تحطيم الحاجز اللغوي وعلى الرغم من هذا فهي لا تعدو أن تكون ثقافة معلبات مسلوقة جاهزة للاستهلاك، تتنافس الشركات الإعلامية لتسويقها مستخدمة جميع ما ابتكره العقل البشري الغربي من وسائل الإغراء والخداع، ومع تراجع معدلات القراءة والاهتمام بالكتاب، فإن نظام القيم معرض للتفتت، ما سيكرس منظومة جديدة من المعايير ترفع من قيمه النفعية والفردانية الأنانية، والمنزع المادي ـ الغرائزي المجرد من أي محتوى إنساني… الخ.23 ولا تقتصر محاولات الأمركة على مضامين الرسائل الإعلامية الدائمة التدفق، بل تتعداها إلى التبشير بانتصار القيم المسماة أمريكية، وبأساليب وطرز الحياة الأمريكية، بدءاً بأنماط السلوك والملابس واللغة، وصولاً إلى التبشير بالانتصار النهائي للقيم الليبرالية على سواها، والحديث عن نهاية التاريخ،24 بوصفها النتيجة النهائية التي أعقبت الحرب الباردة بما تحتويه من تفوق لقدرات التكنولوجيا الأمريكية، ومن أفضلية للنظم والمؤسسات العالمية على الطراز الأمريكي، وبما تنطوي عليه من تحديث وديمقراطية لا بد وأن تعم، حسب منظري الليبرالية الجديدة، جميع دول العالم من خلال التمسك بمبادئ الرأسمالية التي تشكل غاية التطور العالمي وقدر جميع الشعوب والدول الأخرى.25 ولعل أبلغ مثال على هذا الاختراق الأمريكي لأنماط العيش الجهوية بمختلف أنحاء العالم، يتمثل في تداول مفاهيم جديدة من قبيل مفهوم الماكدونالية (macdonaldization) الذي يحيل بشكل مباشر على ثقافة وجبات الطعام السريع الأمريكي المقدم في سلسلة مطاعم ماكدونالد الشهيرة عبر العالم.26 ولسنا بحاجة للتذكير على أن انتشار هذه المطاعم في كل ربوع الوطن العربي لخير دليل على اكتساح النموذج الثقافي الأمريكي لمختلف مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية العربية، الشيء الذي يحيل بشكل مباشر على أننا في عمق تأثير العولمة المؤمركة، فما مدى هذا التأثير؟ وما هي تداعياته على الفضاء الثقافي العربي؟ وهل من آليات للمقاومة؟
الثقافة العربية: الاكتساح العولمي وآليات المقاومة
إذا ركزنا زاوية الرؤية على البلدان العربية، فإننا لا نعتبر وضعها مفارقاً لمجمل البلدان المنتمية تحت لواء العالم الثالث، فالتبعية السياسية الشاملة للغرب، وضعف أداء الاقتصادات العربية، وفشل مشاريع التنمية، والاندماج السلبي في اقتصاديات الغرب القوية، لا يمنح فرصاً لتشكيل هوية اقتصادية محلية قد تفسح المجال أمام حماية وتحصين الهوية الثقافية في شتى تمظهراتها، ذلك أن ما نستورده من الغرب ليس مجرد منتوجات أو آلات، بل سلوك وقيم و معايير،27 لها بالغ الأثر في مجتمعات لا زالت تعيش إشكالية الصراع بين التقليد الذي يتحدد من خلال الانتماء إلى نظام اجتماعي وثقافي يجد تبريره في الماضي، ويدافع عن مكتسباته ضد عمل قوى التغير28 والحداثة التي تقدم نماذج للسلوك والتفكير متعارضة مع النماذج التقليدية.29 وإذا جاز لنا أن نجازف بمحاولة رصد تأثير العولمة الغربية في نسختها الأمريكية بالأساس على واقع الثقافة العربية، فقد يكون بإمكاننا تسجيل بعض هذه المؤثرات التي وإن كانت تعلن عن نفسها بتجلٍّ واضح في حيثيات الحياة اليومية العربية، فإن من الصعب عزلها عن التأثيرات الأخرى السياسية والاقتصادية بالأساس، هكذا يمكن الحديث عما يلي:
< تغيير شامل في القيم والسلوكـيات الاستهلاكية من خلال التركيز على العلامات التجارية العالمية، وانتشار السلوكيات الاستهلاكية الغربية، الشيء الذي من شأنه أن يهدد الموروث الثقافي والاجتماعي العربي في جملته بالاندثار، مع توالي انخراط الأجيال اللاحقة في هذه الأنماط المستوردة التي تمس مختلف أشكال الحياة المادية والفكرية للأفراد والجماعات من المأكل، والمشرب، والملبس إلى طرق التفكير والحياة.
< تراجع مستمر للغة العربية في شتى المجالات أمام اكتساح اللغات الأجنبية، إذ أصبحت اللغات الأجنبية "الإنجليزية في دول الشرق الأوسط والفرنسية في دول المغرب العربي" أكثر تداولاً من اللغة العربية حتى في العلاقات البين عربية، بل وداخل الدولة نفسها.
< فقدان الثقافة العربية للقدرة على التجديد المتوازن لذاتها، فتخلف الآليات والمعايير المنتهجة في هذا السياق أضحى يهدد حتى مستقبل الإنتاج الفني والأدبي بالبلدان العربية، ولسنا بحاجة للتذكير بتراجع هذا الإنتاج كماً وكيفاً.
< انكماش وسائل الإعلام العربية أمام الاكتساح الهائل للإعلام الغربي وقصورها عن حماية وتجديد الثقافة العربية.
هذه بعض آثار الاختراق الثقافي الغربي الأمريكي للثقافة العربية، وهي على الرغم من خطورتها لا تمثل في الواقع سوى الشجرة التي تحجب الغابة أما آليات المقاومة وتحصين الهوية العربية، فليست مناقشتها بأقل صعوبة من عزل هذه الآثار وتوصيفها، هكذا من البديهي أن تتجاوز الحلول المقترحة من قبل المهتمين بتتبع الظاهرة وآثارها، الجانب الثقافي، لتحاول صياغة منظومة متعددة الأوجه من آليات العمل السياسي الرسمي (الحكامة) والسلوكيات الفردية والجماعية الرسمية وغير الرسمية الكفيلة، إن لم يكن بدحض آثار العولمة، فعلى الأقل تنشيط آليات المقاومة داخل المجتمعات المستهدفة التي تأتي المجتمعات العربية في طليعتها لانتمائها للحلقة السياسية الأضعف في العالم من جهة، ووقوعها في مناطق مصالح الأقوياء من جهة أخرى. في هذا السياق نتوقف عند إحدى أهم لحظات النقاش العربية حول إشكالية العولمة وآثارها الثقافية وآليات مواجهتها، ويتعلق الأمر بالندوة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت حول موضوع: (العرب والعولمة) بين 18 و20 كانون الأول 1997، والتي تميزت بمشاركة نخبة من المفكرين العرب حملت أوراقهم المقدمة على هامش الندوة رؤى عميقة اتجاه العولمة الثقافية، كما قدمت مقترحات نظرية وعلمية للحد من تداعياتها السلبية.30 فإجابة على سؤال ما العمل إزاء الأخطار التي تطبع علاقة العرب بالعولمة على مستوى الهوية الثقافية، يعرض المفكر محمد عابد الجابري لموقفين يصنفهما منذ البداية ضمن المواقف اللاتاريخية؛ يتعلق الأول بالرفض المطلق وسلاحه الانغلاق الكلي الذي ينقلب إلى موت بطيء لعدم وجود نسبة معقولة من التكافؤ بين إمكانات العولمة والثقافة المنغلقة عليها، فيما يرتبط الثاني بالقبول التام للاستتباع الحضاري والاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة تحت شعار الانفتاح على العصر والمراهنة على الحداثة، بما يعنيه هذا من دعوة للاغتراب واللاهوية. أما البديل حسب الدكتور الجابري فينطلق من العمل داخل الثقافة العربية نفسها من أجل تجديدها (بإعادة بنائها وممارسة الحداثة في معطياتها وتاريخها، والتماس وجوه من الفهم والتأويل لمسارها تسمح بربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل … فتجديد الثقافة العربية، والدفاع عن الخصوصيات، ومقاومة الغزو والاختراق، كلها أمور تحتاج إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لا بد منها لدخول عصر العلم والثقافة، وفي مقدمتها العقلانية والديمقراطية … في الاتجاه نفسه سارت ورقة الباحث السعودي محمد محفوظ مدير تحرير مجلة الكلمة الذي حث على ضرورة إعادة الاعتبار لعناصر الثقافة الوطنية، والعمل على تنشيطها في النسيج المجتمعي، لأن بقاء عناصر الثقافة الوطنية ساكنة، يعني تحول بعضها إلى فلكلور محلي، نشجع به السياحة، ونحنطه في متاحف وأماكن أثرية لا غير، ذلك أن الارتكاز على عناصر الثقافة الوطنية ومقوماتها هو الذي يوفر لنا أسباب الوعي والإدراك الكافيين لاستيعاب تطورات العالم، وتحديد مستقبلنا. أما الدكتور عبد الإله بلقزيز فلا يرى في إطار الورقة التي قدمها على هامش الندوة نفسها من حل سوى ما أسماه الممانعة الثقافية، عبر المقاومة الإيجابية لهذه العولمة أو السيطرة الثقافية الغربية، كما أسماها وهو ما لن يتحقق إلا باستعمال الأدوات عينها التي تحققت بها الجراحة الثقافية للعولمة، ذلك أن نظريات علم الاجتماع الثقافي تؤكد أن فعل العدوان الثقافي غالباً ما يستنهض نقيضه.31
إن قراءة متأنية في الآليات المقترحة من لدن نخبة من المفكرين والأكاديميين العرب الذين شكلت إشكالية الهوية العربية في مقابل الاكتساح العولمي إحدى أهم ركائز اشتغالاتهم الفكرية، تدفعنا للإقرار بأن المعركة داخلية أكثر بكثير مما هي خارجية، فالتصدي لآثار العولمة لا يمر عبر المواجهة المكشوفة معها في مختلف ساحاتها الاقتصادية والسياسية و الاجتماعية، لأن هذا سيكون بمثابة ضرب من الانتحار الهوياتي على الواجهات كافة، بقدر ما يمر عبر الاشتغال على الذات. إنها إشكالية الأنا والنحن أكثر بكثير من كونها إشكالية الآخر؛ بمعنى أن مستقبل الثقافة العربية ليس مرهوناً بالتحديات الخارجية التي تحملها العولمة على أهميتها فحسب، بل يتصل بقدرة هذه الثقافة على إقامة حوار داخلي بين اتجاهاتها وتياراتها وأفكارها، أي بقدرتنا كعرب على إعادة بناء وحدة الفضاء الثقافي العربي بما يضمن حرية تداول الأفكار والمنتجات الفنية والأدبية، إلى جانب تدعيم النشاط الإبداعي وتحريره من الممنوعات والمحرمات، بحيث يصبح الحوار الثقافي والحضاري العربي مقدمة وشرطاً لأي ممانعة ثقافية أو مبادرة منتجة للتواصل مع الثقافات الأخرى.32
من جهة أخرى، فإن الحديث عن تشكيل وتحصين الهوية الثقافية الداخلية في مقابل الاختراق الثقافي الغربي، يحيل بالضرورة على سيرورة بالغة التعقيد، ترتبط بمختلف المؤسسات الاجتماعية التي توكل إليها مهمة إنتاج القيم والرموز وضمان استمرارها، والتي تأتي المؤسسات الإدماجية التقليدية من قبيل المدرسة والأسرة على رأس قائمتها، الشيء الذي يحيل بقوة الأشياء على التطرق لموضوعة التربية كفاعلية دينامية من شأنها توفير مجال جد ملائم للمقاومة أو الممانعة بتعبير عبد الإله بلقزيز،33 فإلى أي حد يمكن اعتبار المؤسسات التربوية التقليدية جبهة ممانعة ثقافية لتحصين الذات العربية ضد آليات العولمة والتنميط الثقافي؟
التربية: ساحة ممانعة
تجعل التصورات الكلاسيكية من الممارسة التربوية في مختلف تجلياتها صمام أمان الضبط والمحافظة الاجتماعية، باعتبارها موجهة نحو إنتاج وإعادة إنتاج القيم والرموز عن طريق نقلها بشكل أمين للأجيال المتعاقبة، فعالم الاجتماع الفرنسي ديركايم (DURKHAIM) يقدم التربية باعتبارها العمل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال التي لم تنضج بعد، من أجل الحياة الاجتماعية. وهدفها أن تثير لدى المتلقي وتنمي عنده طائفة من الأحوال الجسدية والفكرية والخلقية التي يتطلبها منه المجتمع السياسي في جملته، وتتطلبها البيئة الخاصة التي يعد لها بوجه خاص، ولعل هذا أبلغ تجلٍّ لهذه السيرورة في اصطلاحات العلوم الإنسانية والاجتماعية هو ما يمكن اختزاله في مفهوم التنشئة الاجتماعية (socialisation) التي يقدمها السوسيولوجي الكندي غاي روتشر (Guy Rocher) باعتبارها منظومة الأوليات التي تمكن الفرد على مدى حياته من تعلم واستبطان القيم الاجتماعية الثقافية السائدة في وسطه الاجتماعي.34 بهذا المعنى يمكن تصورها كمنظومة عمليات يعتمدها المجتمع في نقل ثقافته، بما تنطوي عليه هذه الثقافة من مفاهيم وقيم وعادات وتقاليد إلى أفراده … إنها العملية التي يتم من خلالها دمج الفرد في المجتمع والمجتمع في الفرد.35
وفقاً لمختلف هذه التحديدات تتباين التربية من مجتمع لآخر بتباين النماذج الثقافية والرموز والقيم التي يستهدف كل مجتمع ضمان استمرارها من خلال السهر على تمريرها للأجيال اللاحقة، إلا أنها لا تعدو أن تكون انعكاساً لأساليب السلطة الموظفة في المجتمع وفي مؤسساته، لهذا السبب يتم الرهان في أجرأة غايات وأهداف العملية التربوية على المؤسسات التربوية التقليدية الممتدة من المدرسة إلى الأسرة باعتبارهما مؤسستين اجتماعيتين إدماجيتين تتمحور أهميتهما في المحافظة على الموروث الثقافي والاجتماعي وإعادة إنتاجه بما يضمن عملية الإدماج هاته على المستويين سابقي الذكر: إدماج الفرد في المجتمع وإدماج ثقافة المجتمع في الفرد، غير أن حالة الانفلات الهائل للثورة المعلوماتية وتأثيراتها الجمة على الأفراد والجماعات، بل وعلى الدول نفسها من شأنه أن يطرح أكثر من سؤال حول الهوامش المتاحة لهذه المؤسسات التقليدية في القيام بعملية الإنتاج وإعادة الإنتاج هذه، وبخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة خطاب هذه المؤسسات الأقرب ميلاً إلى المحافظة والأكثر ارتباطاً بالقهر والإكراه، في مقابل الخطاب السمعي البصري الذي يراهن على آخر تقنيات التأثير، وبخاصة أن المشروع الغربي في عصر العولمة قد أصبح في عهدة الإمبراطوريات السمعية البصرية، بما تملكه من نفوذ وإمكانات وسلطة تمكنها من تقديم مادتها الإعلامية للمتلقي في قالب مشوق يجلب الانتباه عبر تكنولوجيا الإثارة والتشويق، ويقارب عتبة المتعة ومعها يبلغ خطابه الأيديولوجي وأهدافه الاستهلاكية، ويسهم في وأد حاسة النقد لدى المتلقي الذي يصبح قابلاً لتمرير وتلقي جميع القيم والمواقف السلوكية دون اعتراض عقلي أو معاداة نفسية.36 الشيء الذي يجعل المعركة محسومة سلفاً لصالح الخطاب الإعلامي القادم من ما وراء البحار، محملاً بأبطال ورموز جديدة تعيد تشكيل مخيلة المشاهد بدءاً بعارضات الأزياء ونجوم الكرة، وصولاً إلى رموز الفن والسينما والأعمال والألبسة والأطعمة وأنماط السلوك والمفردات اللغوية،37 فيقلل من قدرة المؤسسات التربوية العربية في صورتها الحالية على المنافسة ومقاومة هذه الصور المبثوثة عبر القنوات الفضائية التي أضحت في متناول الجميع بأقل التكاليف في نسختها الأصلية المرتبطة بالإعلام الغربي، أو حتى في امتداداتها الوطنية التي تعيد إنتاج الخطاب نفسه بالآليات نفسها بانتصارها للمنتوج الغربي على حساب المنتوج الوطني إن وجد أصلاً.
الواقع أن هذه المؤسسات لا تستطيع تحقيق اكتفاء ذاتي ثقافي عربي كما لم تستطع الاقتصادات المترهلة ضمان اكتفاء ذاتي غذائي عربي مع خطورة زائدة متضمنة في المقارنة تتمثل في أن اكتساح الإعلام الغربي للمجال الثقافي العربي من شأنه أن يحول هذا الفضاء الداخلي إلى فضاء للإقصاء، فهيمنة أدوات الاتصال السمعي البصري الغربية واكتساحها لكل الفضاءات الممكنة واستئثارها بحيز زمني مهم من وقت المتلقين الذي يبلغ ذروته في النمط التلفزيوني، يجعل الجميع أقرب إلى العيش في عالم افتراضي أثيري يتألف من الصور والإشارات والنصوص المرئية والمقروءة على الشاشات الإلكترونية، بما بات يشكل تهديداً لمنظومات القيم والرموز وتغييراً في المرجعيات الوجودية وأنماط الحياة،38 إذ أن العالم المرغوب فيه بالنسبة لزبناء الفضاء السمعي البصري التلفزيوني خاصة لم يعد، بالضرورة، هو العالم الحقيقي الذي يتحرك في إطاره هؤلاء بقدر ما هو هذا العالم الأثيري الافتراضي الذي تنقله وسائل الإعلام الغربية وامتداداتها المحلية أيضاً، فتسهم به في تغيير البنى الذهنية والتشويش، إن لم نقل التضييق، على الأجهزة التقليدية الوصية على الممارسة التربوية، وهذا من شأنه أن يحول المجتمع الحقيقي إلى مجتمع للاغتراب والإقصاء، فالرموز والقيم التي يتشبع بها المتلقي يومياً عبر الفضاء السمعي البصري مختلفة كلياً عن رموز وقيم المجتمع الأصلي ما دامت تصنع خارج حدوده، كما من شأنه أن يفقد المنتوج التربوي المحلي كل قدرة على جلب اهتمام متلقيه ما دام خطاب الأوامر والنواهي الذي يشكل عصبه غير ذي إغراء أمام ثقافة الصورة المشوقة والممتعة.
إن هذه الصورة القاتمة وإن كانت تشكل توصيفاً لحقيقة وضع المؤسسات التربوية والثقافية في دول العالم الثالث، ومن ضمنها الدول العربية لا تعفي هذه المؤسسات من التمسك بأداء الوظائف المنوطة بها، والمتمثلة -كما أسلفنا- في صناعة الرموز والقيم التي تشكل عمق الهوية المحلية، والعمل على ضمان استمرارها، لأن مستقبل الثقافة العربية رهين بإعادة النظر في آليات اشتغال المدرسة والأسرة، فإذا كان من البديهي أن تسعى الولايات المتحدة الأمريكية جاهدة إلى عولمة التربية تحت شعار حماية حقوق الإنسان، ناظرة إلى نموذجها كشرط أساسي لنجاح عولمتها الاقتصادية، مؤمنة بأنه عن طريق التربية التي ترغب في فرضها يمكن تنمية النزعات الاستهلاكية،39 فإنه من الضروري والملح أن تسعى هذه المؤسسات إلى حماية الأمن الثقافي العربي من خلال إعلان القطيعة مع الآليات التقليدية الموظفة في المجال التربوي العربي عبر صياغة باراديغم تربوي جديد40 واعٍ بطبيعة المرحلة التي يجتازها العالم والمنطقة، وبطبيعة المسؤولية الجسيمة المنتظرة منه، وهو ما لن يتأتى إلا من خلال تجديد آليات اشتغال هذه المؤسسات عبر تطوير الأنساق التربوية التقليدية، وإنتاج خطاب تربوي وأسري بديل، أساسه الاشتغال على ميكانيزمات جديدة تهدف إلى تنمية الحس النقدي لدى المتلقي، بما يضمن تجاوباً عقلانياً مع المنتوج الإعلامي الغربي الذي أصبحت إمكانية تفاديه ضرباً من الخيال، وهو ما يسمح بالحديث عن منظومة تربوية تضمن توازناً معقولاً بين ضرورة الحفاظ على معالم الهوية المحلية وحتمية الانفتاح على الثقافات الإنسانية في مختلف تمظهراتها وامتداداتها، فتجعل الماضي في خدمة المستقبل وليس المستقبل رهينة للماضي.41 غير أن معركة المؤسسات التربوية التقليدية لن تحقق أهدافها بأية حال في غياب دعم حقيقي من الفضاء الإعلامي العربي، الذي يجب أن يخرج بدوره من موقف اللعب على ثنائية الاندماج اللامشروط في النموذج الثقافي الغربي تحت يافطة الحداثة والانفتاح، أو إعادة إنتاج نفس آليات المؤسسات الإدماجية التقليدية ممثلاً في خطاب الأوامر والنواهي تحت يافطة الإنتاج الإعلامي الأسري الهادف، والاندماج في مشاريع جديدة أساسها التطلع إلى إشباع حاجات المواطن العربي الثقافية والجمالية من خلال بناء صورة سمعية بصرية خاصة بالذات العربية،42 تحقق بنجاعة ثلاثية الإخبار والتثقيف والترفيه، بكثير من الجمالية وقليل من الخطابة، صورة سمعية بصرية تسير في تناغم مع ضرورة الحفاظ على الخصوصية المحلية من جهة، والانفتاح على تجليات الثقافة العالمية من جهة أخرى، بما يعنيه ذلك من انتصار للقيم العالمية التي ترتقي بالقيم المحلية إلى مستوى عالمي، دون أن تحرمها من حقها في الوجود، ومواجهة لثقافة العولمة كإرادة للهيمنة واكتساح للخصوصيات الجهوية، ولعلنا لا نجد ما ننهي به هذه المقالة أبلغ من هذه العبارة العميقة المنسوبة لأحد رموز التحرر في التاريخ الإنساني المهاتما غاندي: “أرغب أن تهب رياح جميع الثقافات على نوافذ بيتي، لكني أرفض أن تقتلعني أي منها من جذورى!”.
كاتب صحافي وباحث سوسيولوجي،
وأستاذ الفكر الإسلامي والفلسفة – المغرب
من مجلة فكر ونقد : محمد عابد الجابري
العولمة والهوية الثقافية : عشر أطروحات
العولمة والهوية الثقافية : عشر أطروحات
تهدف هذه الورقة إلى رسم إطار عام للعلاقة بين العولمة والهوية الثقافية كما يمكن أن ترصد اليوم في الوطن العربي ، سواء كعلاقة قائمة بالفعل أو كما يمكن أن تقوم في المستقبل . وهي تستعيد بصورة أو بأخرى معطيات سبق تقريرها في أعمال سابقة . وبالتالي فالورقة تقدم أطروحات تؤخذ هنا كحقائق أو مسلمات سبق تبريرها في أعمال أخرى . هذه الأطروحات هي :
الأطروحة الاولى : ليست هناك ثقافة عالمية واحدة ، بل ثقافات…
إننا نقصد بـ " الثقافة " هنا : ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطلعات التي تحتفظ لجماعة بشرية ، تشكل أمة أو ما في معناها ، بهويتها الحضارية ، في إطار ما تعرفه من تطورات بفعل ديناميتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء . وبعبارة أخرى إن الثقافة هي " المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم ، عن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت والإنسان ومهامه وقدراته وحدوده ، وما ينبغي أن يعمل وما لا ينبغي أن يأمل " .
تلزم عن هذا التعريف ، لزوما ضروريا ، النتيجة التالية – تشكل قلب هذه الأطروحة وجوهرها – وهي أنه : ليست هناك ثقافة عالمية واحدة ، وليس من المحتمل أن توجد في يوم من الأيام ، وإنما وجدت ، وتوجد وستوجد ، ثقافات متعددة متنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية ، أو بتدخل إرادي من أهلها ، على الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة . من هذه الثقافات ما يميل إلى الانغلاق والانكماش ، ومنها ما يسعى إلى الانتشار والتوسع ، ومنها ما ينعزل حينا وينتشر حينا آخر.
الأطروحة الثانية : المستويات الثلاثة للهوية الثقافية .
الهوية الثقافية مستويات ثلاثة : فردية ، وجمعوية ، ووطنية قومية . والعلاقة بين هذه المستويات تتحدد أساسا بنوع " الآخر " الذي تواجهه .
إن الهوية الثقافية كيان يصير، يتطور، وليست معطى جاهزا ونهائيا . هي تصير وتتطور، إما في اتجاه الانكماش وإما في اتجاه الانتشار، وهي تغتني بتجارب أهلها ومعاناتهم ، انتصاراتهم وتطلعاتهم ، وأيضا باحتكاكها سلبا وإيجابا مع الهويات الثقافية الأخرى التي تدخل معها في تغاير من نوع ما .
وعلى العموم ، تتحرك الهوية الثقافية على ثلاثة دوائر متداخلة ذات مركز واحد :
– فالفرد داخل الجماعة الواحدة ، قبيلة كانت أو طائفة أو جماعة مدنية ( حزبا أو نقابة الخ…) ، هو عبارة عن هوية متميزة ومستقلة . عبارة عن " أنا " ، لها " آخر " داخل الجماعة نفسها : " أنا " تضع نفسها في مركز الدائرة عندما تكون في مواجهة مع هذا النوع من " الآخر " .
– والجماعات ، داخـل الأمة ، هي كالأفراد داخل الجماعة ، لكل منها ما يميزها داخل الهوية الثقافية المشتركة ، ولكل منها " أنا " خاصة بها و" آخر" من خلاله وعبره تتعرف على نفسها بوصفها ليست إياه .
– والشيء نفسه يقال بالنسبة للأمة الواحدة إزاء الأمم الأخرى . غير أنها أكثر تجريدا ، وأوسع نطاقا ، وأكثر قابلية للتعدد والتنوع والاختلاف .
هناك إذن ثلاثة مستويات في الهوية الثقافية ، لشعب من الشعوب : الهوية الفردية ، والهوية الجمعوية ، والهوية الوطنية (أو القومية) . والعلاقة بين هذه المستويات ليست قارة ولا ثابتة ، بل هي في مد وجزر دائمين ، يتغير مدى كل منهما اتساعا وضيقا ، حسب الظروف وأنواع الصراع واللاصراع ، والتضامن واللاتضامن ، التي تحركها المصالح : المصالح الفردية والمصالح الجمعوية والمصالح الوطنية والقومية .
وبعبارة أخرى إن العلاقة بين هذه المستويات الثلاثة تتحدد أساسا بنوع " الآخر " ، بموقعه وطموحاته : فإن كان داخليا ، ويقع في دائرة الجماعة ، فالهوية الفردية هي التي تفرض نفسها كـ" أنا " ، وإن كان يقع في دائرة الأمة فالهوية الجمعوية (القبلية ، الطائفية ، الحزبية الخ) هي التي تحل محل " الأنا " الفردي . أما إن كان " الآخر " خارجيا ، أي يقع خارج الأمة (والدولة والوطن) فإن الهوية الوطنية – أو القومية – هي التي تملأ مجال " الأنا ".
الأطروحة الثالثة : لا تكتمل الهوية الثقافية إلا إذا كانت مرجعيتها: جماع الوطن والأمة والدولة.
لا تكتمل الهوية الثقافية ، ولا تبرز خصوصيتها الحضارية ، ولا تغدو هوية ممتلئة قادرة على نشدان العالمية ، على الأخذ والعطاء ، إلا إذا تجسدت مرجعيتها في كيان مشخص تتطابق فيه ثلاثة عناصر: الوطن والأمة والدولة .
الوطن : بوصفه " الأرض والأموات " ، أو الجغرافية والتاريخ وقد أصبحا كيانا روحيا واحدا ، يعمر قلب كل مواطن . الجغرافيا وقد أصبحت معطى تاريخيا . والتاريخ وقد صار موقعا جغرافيا .
الأمة : بوصفها النسب الروحي الذي تنسجه الثقافة المشتركة : وقوامها ذاكرة تاريخية وطموحات تعبر عنها الإرادة الجماعية التي يصنعها حب الوطن ، أعني الوفاء لـ " الأرض والأموات " ، للتاريخ الذي ينجب ، والأرض التي تستقبل وتحتضن .
الدولة : بوصفها التجسيد القانوني لوحدة الوطن والأمة ، والجهاز الساهر على سلامتهما ووحدتهما وحماية مصالحهما ، وتمثيلهما إزاء الدول الأخرى ، في زمن السلم كما في زمن الحرب . ولا بد من التمييز هنا بين " الدولة " ككيان مشخص ومجرد في الوقت نفسه ، كيان يجسد وحدة الوطن والأمة ، من جهة ، وبين الحكومة أو النظام السياسي الذي يمارس السلطة ويتحدث باسمها من جهة أخرى . وواضح أننا نقصد هنا المعنى الأول .
وإذن ، فكل مس بالوطن أو بالأمة أو بالدولة هو مس بالهوية الثقافية , والعكس صحيح أيضا : كل مس بالهوية الثقافية هو في نفس الوقت مس بالوطن والأمة وتجسيدهما التاريخي : الدولة .
الأطروحة الرابعة : العولمة .
ليست العولمة مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي بل هي أيضا ، وبالدرجة الأولى ، إيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم .
العولمة التي يجري الحديث عنها الآن : نظام أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد . العولمة الآن نظام عالمي ، أو يراد لها أن تكون كذلك ، يشمل مجال المال والتسويق والمبادلات والاتصال الخ… كما يشمل أيضا مجال السياسة والفكر والإيديولوجيا .
والعولمة تعني في معناها اللغوي : تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله . وهي تعني الآن ، في المجال السياسي منظورا إليه من زاوية الجغرافيا ( الجيوبولتيك) ، العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلدا بعينه ، هو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات ، على بلدان العالم أجمع . ليست العولمة مجرد آلية من آليات التطور " التلقائي " للنظام الرأسمالي ، بل إنها أيضا ، وبالدرجة الأولى دعوة إلى تبني نموذج معين . وبعبارة أخرى فالعولمة ، إلى جانب أنها تعكس مظهرا أساسيا من مظاهر التطور الحضاري الذي يشهده عصرنا ، هي أيضا إيديولوجيا تعبر بصورة مباشرة ، عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته . وقد حددت وسائلها لتحقيق ذلك في الأمور التالية :
1- استعمال السوق العالمية أداة للإخلال بالتوازن في الدول القومية ، في نظمها وبرامجها الخاصة بالحماية الاجتماعية .
2- اتخاذ السوق والمنافسة التي تجري فيها مجالا لـ" الاصطفاء " ، بالمعنى الدارويني للكلمة ، أي وفقا لنظرية داروين في " اصطفاء الأنواع والبقاء للأصلح " . وهذا يعني أن الدول والأمم والشعوب التي لا تقدر على " المنافسة " سيكون مصيرها ، بل يجب أن يكون ، الانقراض .
3- إعطاء كل الأهميـة والأولوية للإعــلام لإحداث التغييــرات المطلوبة على الصعيد المحلــي والعالمي ، باعتبار أن " الجيوبوليتيك " ، أو السياسة منظورا إليها من زاوية الجغرافيا ، وبالتالي الهيمنة العالمية ، أصبــحت تعني اليوم مراقبة " السلطة اللامادية " ، سلطة تكنولوجية الإعلام التي ترسم اليوم الحدود في " الفضاء السيبرنيتي " : حدود المجال الاقتصادي السياسي التي ترسمها وسائل الاتصال الإلكترونية المتطورة .
وهكذا فبدلا من الحدود الثقافية ، الوطنية والقومية ، تطرح إيديولوجيا العولمة " حدودا " أخرى ، غير مرئية ، ترسمها الشبكات العالمية قصد الهيمنة على الاقتصاد والأذواق والفكر والسلوك .
الأطروحة الخامسة : العولمة شيء و"العالمية" شيء آخر.
العالمية تفتح على العالم ، على الثقافات الأخرى ، واحتفاظ بالاختلاف الثقافي وبالخلاف الإيديولوجي . أما العولمة فهي نفي للآخر وإحلال للاختراق الثقافي محل الصراع الإيديولوجي .
العولمة GLOBALISATIONإرادة للهيمنة وبالتالي قمع وإقصاء للخصوصي. أما العالمية UNIVERSALITEUNIVERSALISME. فهي طموح إلى الارتفاع بالخصوصية إلى مستوى عالمي . العولمة احتواء للعالم ، والعالمية تفتح على ما هو عالمي وكوني .
نشدان العالمية في المجال الثقافي ، كما في غيره من المجالات ، طموح مشروع ، ورغبة في الأخذ والعطاء ، في التعارف والحوار والتلاقح . إنها طريق الأنا للتعامل مع " الآخر " بوصفه " أنا ثانية " ، طريقها إلى جعل الإيثار يحل محل الأثرة . أما العولمة فهي طموح بل إرادة لاختراق " الآخر " وسلبه خصوصيته ، وبالتالي نفيه من " العالم " . العالمية إغناء للهوية الثقافية ، أما العولمة فهي اختراق لها وتمييع .
والاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة يريد إلغاء الصراع الإيديولوجي والحلول محله .. الصراع الإيديولوجي صراع حول تأويل الحاضر وتفسير الماضي والتشريع للمستقبل ، أما الاختراق الثقافي فيستهدف الأداة التي يتم بها ذلك التأويل والتفسير والتشريع : يستهدف العقل والنفس ووسيلتهما في التعامل مع العالم : " الإدراك " .
لقد حــل هذا اللفظ اليـوم – الإدراك – محل لفظ آخر كان كثير الاستعمال بالأمس ، في عصر الصراع الإيديولوجي ، لفظ " الوعي " ( الوعي الطبقي ، الوعي القومي ، الوعي الديني…) . كان الصراع الإيديولوجي وما يزال يستهدف تشكيل الوعي ، تزييفه أو تصحيحه الخ ، أما " الاختراق الثقافي " فهو يستهدف أول ما يستهدف السيطرة على الإدراك ، اختطافه وتوجيهه ، وبالتالي سلب الوعي ، والهيمنة على الهوية الثقافية الفردية والجماعية .
في زمن الصراع الإيديولوجي كانت وسيلة تشكيل الوعي هي الإيديولوجيا ، أما في زمن الاختراق الثقافي فوسيلة السيطرة على الإدراك هي الصورة السمعية البصرية التي تسعى إلى " تسطيح الوعي " ، إلى جعله يرتبط بما يجري على السطح من صور ومشاهد ذات طابع إعلامي إشهاري ، مثير للإدراك ، مستفز للانفعال ، حاجب للعقل…
وبالسيطرة على الإدراك ، وانطلاقا منها ، يتم " إخضاع النفوس " ، أعني تعطيل فاعلية العقل ، وتكييف المنطق ، والتشويش على نظام القيم ، وتوجيه الخيال ، وتنميط الذوق ، وقولبة السلوك . والهدف تكريس نوع معين من الاستهلاك لنوع معين من المعارف والسلع والبضائع : معارف إشهارية تشكل في مجموعها ما يمكن أن نطلق عليه " ثقافة الاختراق ".
الأطروحة السادسة : ثقافة الاختراق .
تقوم ثقافة الاختراق على جملة أوهام هدفها : " التطبيع " مع الهيمنة وتكريس الاستتباع الحضاري.
تتولى القيامَ بعملية تسطيح الوعي ، واختراق الهوية الثقافية للأفراد والأقوام والأمم ، ثقافةٌ جديدة تماما لم يشهد التاريخ من قبل لها مثيلا : ثقافة إشهارية إعلامية سمعية وبصرية تصنع الذوق الاستهلاكي (الاشهار التجاري) والرأي السياسي (الدعاية الانتخابية) وتشيد رؤية خاصة للإنسان والمجتمع والتاريخ ، إنها " ثقافة الاختراق " التي تقدمها العولمة بديلا للصراع الإيديولوجي .
ولا يعني حلول الاختراق الثقافي محل الصراع الإيديولوجي موت الإيديولوجيا ، كما يريد المبشرون بالعولمة أن يوهموا الناس .. كلا إن الاختراق الثقافي ، بالعكس من ذلك ، مُحَمَّلٌ بإيديولوجيا معينة ، هي إيديولوجيا الاختراق ، وهي تختلف عن الإيديولوجيات المتصارعة ، كالرأسمالية والاشتراكية ، في كونها لا تقدم مشروعا للمستقبل ، لا تقدم نفسها كخصم لبديل آخر تسميه وتقاومه ، وإنما تعمل على اختراق الرغبة في البديل وشل نشدان التغيير لدى الأفراد والجماعات .
إيديولوجيا الاختراق تقوم على نشر وتكريس جملة أوهام ، هي نفسها " مكونات الثقافة الإعلامية الجماهيرية في الولايات المتحدة الأمريكية " ، وقد حصرها باحث أمريكي في الأوهام الخمسة التالية : وهم الفردية ، وهم الخيار الشخصي ، وهم الحياد ، وهم الطبيعة البشرية التي لا تتغير، وهم غياب الصراع الاجتماعي . وإذا نحن أردنا أن نوجز في عبارة واحدة مضمون هذه المسلمــات الخمس ، أمكــن القول إن " الثقافة الإعلامية الجماهيرية " الأمريكية ، هذه، تكرس إيديولوجيا " الفردية المستسلمة " ، وهي إيديولوجيا تضرب في الصميم الهوية الثقافية بمستوياتها الثلاثة ، الفردية والجمعوية والوطنية القومية .
إن " وهم الفردية " ، أي اعتقاد المرء في أن حقيقة وجوده محصورة في فرديته وأن كل ما عداه أجنبي عنه لا يعنيه ، إنما يعمل – هذا الوهم – على تخريب وتمزيق الرابطة الجماعية التي تجعل الفرد يعي أن وجوده إنما يكمن في كونه عضوا في جماعة وفي طبقة وأمة ، وبالتالي فوهم الفردية هذا إنما يهدف إلى إلغاء الهوية الجمعوية والطبقية والوطنية القومية ، وكل إطار جماعي آخر .، ليبقى الإطار " العالمي " – بل العولمي- هو وحده الموجود…
أما " وهم الخيار الشخصي " فواضح أنه يرتبط بالأول ويكمله . إنه ، باسم الحرية ، يكرس النزعة الأنانية ويعمل على طمس الروح الجماعية سواء كانت على صورة الوعي الطبقي أو الوعي القومي أو الشعور الإنساني .
ويأتي " وهم الحياد " ليدفع بالأمور خطوة أخرى في الاتجاه نفسه : فمادام الفرد وحده الموجود ، ومادام حـرا مختارا فهو " محايد " ، وكل الناس والأشياء إزاءه " محايدون " أو يجب أن يكونوا كذلك . وهكذا تعمل هذه الإيديولوجيا من خلال " وهم الحياد " على تكريس التحلل من كل التزام أو ارتباط بأية قضية . ومن هنا ذلك الشعار الذي انتشر في السنين الأخيرة : شعار: " وانا مالي ".
وأما الوهم الرابع وهو " الاعتقاد في الطبيعة البشرية التي لا تتغير " ، فواضح أنه يرمي إلى صرف النظر عن رؤية الفوارق بين الأغنياء والفقراء ، بين البيض والسود ، بين المستغلين وبين من هم ضحايا الاستغلال ، وقبولها – أعني تلك الفوارق- بوصفها أمورا طبيعية كالفوارق بين الليل والنهار والصيف والشتاء ، وبالتالي شل روح المقاومة في الفرد والجماعة .
ويأتي الوهم الخامس صريحا في منطوقه ومفهومه : إن " الاعتقاد في غياب الصراع الاجتماعي " هو التتويج الصريح للأوهام السابقة : غياب الصراع الاجتماعي معناه – إذا قبلناه وسلمنا به- الاستسلام للجهات المستغلة ، من شركات ووكالات وغيرها من أدوات العولمة . وبعبارة أخرى " التطبيع " مع الهيمنة والاستسلام لعملية الاستتباع الحضاري الذي يشكل الهدف الأول والأخير للعولمة .
الأطروحة السابعة : العولمة و عالم بدون الدولة والامة والوطن .
العولمة نظام يعمل على إفراغ الهوية الجماعية من كل محتوى ويدفع للتفتيت والتشتيت ،. ليربط الناس بعالم اللاوطن واللاأمة واللادولة ، أو يغرقهم في أتون الحرب الأهلية .
ومع التطبيع مع الهيمنة والاستسلام لعملية الاستتباع الحضاري يأتي فقدان الشعور بالانتماء لوطن أو أمة أو دولة ، وبالتالي إفراغ الهوية الثقافية من كل محتوى . إن العولمة عالم بدون دولة ، بدون أمة ، بدون وطن . إنه عالم المؤسسات والشبكات العالمية ، عالم " الفاعلين " ، وهم المسيرون ، و" المفعول فيهم " وهم المستهلكون للسلع والصور و" المعلومات " والحركات والسكنات التي تفرض عليهم . أما " وطنهم " فهو الفضاء " المعلوماتي " الذي تصنعه شبكات الاتصال ، الفضاء الذي يحتوي – يسيطر ويوجه- الاقتصاد والسياسة والثقافة .
العولمة نظام يقفز على الدولة والأمة والوطن . نظام يريد رفع الحواجز والحدود أمام الشبكات والمؤسسات والشركات المتعددة الجنسية ، وبالتالي إذابة الدولة الوطنية وجعل دورها يقتصر على القيام بدور الدركي لشبكات الهيمنة العالمية . والعولمة تقوم على الخوصصة ، أي على نزع ملكية الوطن والأمة والدولة ونقلها إلى الخواص في الداخل والخارج . وهكذا تتحول الدولة إلى جهاز لا يملك ولا يراقب ولا يوجه . وإضعاف سلطة الدولة والتخفيف من حضورها لفائدة العولمة يؤديان حتما إلى استيقاظ وإيقاظ أطر للانتماء سابقة على الأمة والدولة ، أعني القبيلة والطائفة والجهة والتعصب المذهبي الخ… والدفع بها جميعا إلى التقاتل والتناحر والإفناء المتبادل : إلى تمزيق الهوية الثقافية الوطنية القومية… إلى الحرب الأهلية .
ولا بد من الـتأكيد هنا على أن مفهوم الهوية الثقافية القومية الذي نستعمله هنا ، بمعنى الهوية المشتركة لجميع أبناء الوطن العربي من المحيط إلى الخليج ، لا يعني قط إلغاء ولا إقصاء الهويات الوطنية القطرية ولا الهويات الجمعوية ، الإثنية والطائفية . إنه لا يعني فرض نمط ثقافي معين على الأنماط الثقافية الأخرى ، المتعددة والمتعايشة ، عبر تاريخنا المديد ، داخل الوطن العربي الكبير . كلا ، إن التعدد الثقافي في الوطن العربي واقعة أساسية لا يجوز القفز عليها ، بل بالعكس لا بد من توظيفها بوعي في إغناء وإخصاب الثقافة العربية القومية وتوسيع مجالها الحيوي . ولكن تبقى مع ذلك كله الوظيفة التاريخية لهذه الثقافة ، وظيفة التوحيد المعنوي ، الروحي والعقلي ، وظيفة الارتفاع بـ " الوطن العربي " من مجرد رقعة جغرافية إلى وعاء للأمة العربية لا تكون إلا به ولا يكون إلا بها .
هذا من جهة ومن جهة أخرى ، فاللغة المشتركة بين جميع أبناء الأمة العربية ، لغة التراث المشترك ، ولغة العلم والثقافة العالمة جملة ، وبالتالي لغة التحديث والحداثة هي اللغة العربية . ولذلك كانت اللغة العربية هي ، في آن واحد ، الرابطة المتينة التي توحد بين مستويات الهوية في الوطن العربي ، أعني المستوى الفردي والمستوى الجمعوي والمستوى الوطني والقومي ، وأيضا الأداة الوحيدة التي بها يمكن العرب الدخول في العالمية وتحقيق الحداثة .
الأطروحة الثامنة : العولمة وتكريس الثنائية والانشطار في الهوية الثقافية العربية
كلنا نعرف أن الثقافة العربية تعاني ، منذ ما يقرب من قرنيـن ، وضعا متوترا نتيجة احتكاكها مع الثقافة الغربية ، بتقنياتها وعلومها وقيمها الحضارية التي هي نتيجة تطور خاص قوامه التحديث والحداثة ، تطور لم تعشه الثقافة العربية ، بل بقيت بمعزل عنه تجتر وضعا قديما توقف عن النمو منذ قرون .
ومن هنا تلك الثنائية التي تطبع الثقافة العربية بمختلف مستوياتها المادية والروحية ، ثنائية التقليدي والعصري . وهي ثنائية تكرس الازدواجية والانشطار داخل الهوية الثقافية العربية بمستوياتها الثلاثة : الفردي والجمعوي والوطني القومي: أحد طرفي هذه الثنائية يعكس الهوية الثقافية على صورة " جمود على التقليد " ضمن قوالب ومفاهيم وآليات دفاعية تستعصي على الاختراق وتقاوم التجديد . والآخر يجسم الاختراق الثقافي وقد اكتسح الساحة اكتساحا ليتحول إلى ثقافة الاختراق ، أعني الثقافة المبشرة به المكرسة له .
في هذا الإطار إذن يجب أن نضع خصوصية العلاقة بين العولمة والهوية الثقافية عندما يتعلق الأمر بالوطن العربي . فالاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة لا يقف عند حدود تكريس الاستتباع الحضاري بوجه عام ، بل إنه سلاح خطير يكرس الثنائية والانشطار في الهوية الوطنية القومية ، ليس الآن فقط بل وعلى مدى الأجيال الصاعدة والقادمة . ذلك أن الوسائل السمعية البصرية ، المرئية واللامرئية التي تحمل هذا الاختراق وتكرسه ، إنما تملكها وتستفيد منها فئة معينة هي النخبة العصرية وحواشيها ، فهي التي تستطيع امتلاكها والتعامل مع لغاتها الأجنبية ، بحكم التعليم " العصري" الذي تتلقاه . أما " عموم الشعب " وعلى رأسه النخبة التقليدية فهو في شبه عزلة ، يجتر بصورة أو بأخرى ثقافة " الجمود على التقليد " ، والنتيجة استمرار إعادة إنتاج متواصلة ومتعاظمة للثنائية نفسها ، ثنائية التقليدي والعصري ، ثنائية الأصالة والمعاصرة ، في الثقافة والفكر والسلوك .
الأطروحة التاسعة: تجديد الثقافة .
إن تجديد الثقافة ، أية ثقافة ، لا يمكن أن يتم إلا من داخلها : بإعادة بنائها وممارسة الحداثة في معطياتها وتاريخها ، والتماس وجوه من الفهم والتأويل لمسارها تسمح بربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل .
ما العمل إزاء هذه السلبيات والأخطار التي تطبع علاقة العولمة بالعرب على صعيد الهوية الثقافية ؟
هناك موقفان سهلان ، وهما السائدان : موقف الرفض المطلق وسلاحه الانغلاق الكلي وما يتبع ذلك من ردود فعل سلبية محاربة … وموقف القبول التام للعولمة وما تمارسه من اختراق ثقافي واستتباع حضاري ، شعاره " الانفتاح على العصر" و" المراهنة على الحداثة ".
لا مفر من تصنيف هذين الموقفين ضمن المواقف اللاتاريخية التي تواجه المشاكل ، لا بعقل واثق بنفسه متمكن من قدراته ، وإنما تستقبلها بعقل " مستقيل " لا يرى صاحبه مخرجا من المشاكل إلا بالهروب منها ، إما إلى الوراء وإما إلى الأمام ، كل سلاحه رؤية سحرية للعالم تقفز على الواقع إلى اللاواقع .
إن الانغلاق موقف سلبي ، غير فاعل . ذلك لأن فعله " الموجه " ضد الاختراق الثقافي – أي محاربته له – لا ينال الاختراق ولا يمسه ولا يفعل فيه أي فعل ، بل فعله موجه كله إلى الذات قصد " تحصينها " . والتحصين إنما يكون مفيدا عندما يكون المتحاربان على نسبة معقولة من تكافؤ القوى والقدرات . أما عندما يتعلق الأمر بظاهرة عالمية تدخل جميع البيوت وتفعل فعلها بالإغراء والعدوى والحاجة ، ويفرضها أصحابها فرضا بتخطيط واستراتيجية ، فإن الانغلاق في هذه الحالة ينقلب إلى موت بطيء ، قد تتخلله بطولات مدهشة ولكن صاحبه محكوم عليه بالإخفاق .
ومثل الانغلاق مثل مقابله : الاغتراب . إن ثقافة الاغتراب ، أعني إيديولوجيا الارتماء في أحضان العولمة والاندماج فيها ، ثقافة تنطلق من الفراغ ، أي من اللاهوية ، وبالتالي فهي لا تستطيع أن تبني هوية ولا كيانا . يقول أصحاب هذا الموقف : إنه لا فائدة في المقاومة ولا في الالتجاء إلى التراث ، بل يجب الانخراط في العولمة من دون تردد ومن دون حدود ، لأنها ظاهرة حضارية عالمية لا يمكن الوقوف ضدها ولا تحقيق التقدم خارجها . إن الأمر يتعلق بـ " قطار يجب أن نركبه " وهو
ماض في طريقه بنا أو بدوننا . ولا يوضح أصحاب هذه الدعوى هل سنبزر هوياتنا عند ركوب القطار أم أننا سنرطبه بدون هوية ، بدون ورقة تعريف !؟
وبعيدا عن مناقشة جدالية لهذه الدعوى ، يكفي التنبيه إلى أنها نفس الدعوى التي سبق أن ادعاها ونادى بها مفكرون عرب رواد منذ أزيد من قرن ، ومنذ ذلك الوقت وهي تتردد وتتكرر هنا وهناك في الوطن العربي ، تبنتها حكومات وأحزاب فضلا عن الأفراد … ومع ذلك فحصيلة قرن كامل من التبشير بهـذه الدعوى – دعـوى " الاغتـراب " – لـم تنتج سوى فئة من " العصرانيين " قليلة العدد ، نشاهد اليوم تناقصا نسبيا واضحا في حجمها ، بينما ازداد ويـزداد الطرف المقابل لها عددا وعدة ، كما وكيفا ، في جميع الأقطار العربية وداخل جميع الشرائح الاجتماعية . وهكذا فبدلا من تيارات " حداثية " تمارس الهيمنة والقيادة تستقطب الأجيال الصاعدة ، بدلا من ذلك يسود الحديث عن " الأصولية الدينية " بوصفها الظاهرة المهيمنة .
أما نحن فنرى أن الجواب الصحيح عن سؤال " ما العمل " ؟ – سواء إزاء الثنائية والانشطار الذين تعاني منهما الثقافة العربية ، أو إزاء الاختراق الثقافي وإيديولوجيا العولمة – يجب أن ينطلق أولا وقبل كل شيء من العمل داخل الثقافة العربية نفسها . ذلك لأنه سواء تعلق الأمر بالمجال الثقافي أو بغيره ، فمن المؤكد أنه لولا الضعف الداخلي لما استطاع الفعل الخارجي أن يمارس تأثيره بالصورة التي تجعل منه خطرا على الكيان والهوية .
إن الثنائية والانشطار – اللذين تحدثنا عنهما واللذين يشكلان نقطة الضعف الخطيرة في واقعنا الثقافي الراهن التي منها يمارس الاختراق تأثيره التخريبي- إنما يعكسان وضعية ثقافة لم تتم بعد إعادة بنائها ، ثقافة يتزامن فيها القديم والجديد ، والأصيل والوافد ، في غير ما تفاعل ولا اندماج . وهذا راجع إلى أن التجديد في ثقافتنا كان يراد له ، منذ أزيد من قرن ، أن يتم من " الخارج " : بنشر الفكر الحديث على سطحها . لقد سبق لنا أن أكدنا مرارا على أن تجديد الثقافة ، أية ثقافة ، لا يمكن أن يتم إلا من داخلها : بإعادة بنائها وممارسة الحداثة في معطياتها وتاريخها ، والتماس وجوه من الفهم والتأويل لمسارها تسمح بربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل . ونعود فنؤكد هنا هذا المعنى .
الأطروحة العاشرة : الدفاع عن الهوية الثقافية .
ان حاجتنا إلى الدفاع عن هويتنا الثقافية بمستوياتها الثلاثة ، لا تقل عن حاجتنا إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لا بد منها لدخول عصر العلم والتقانة ، وفي مقدمتها العقلانية والديموقراطية .
إن حاجتنا إلى تجديد ثقافتنا وإغناء هويتنا والدفاع عن خصوصيتنا ومقاومة الغزو الكاسح الذي يمارسه ، على مستوى عالمي ، إعلاميا وبالتالي إيديولوجيا وثقافيا ، المالكون للعلم والتقانة المسخرون لهما لهذا الغرض ، لا تقل عن حاجتنا إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لا بد منها لممارسة التحديث ودخول عصر العلم والتقانة ، دخول الذوات الفاعلة المستقلة وليس دخول " الموضوعات " المنفعلة المسيرة .
نحن في حاجة إلى التحديث ، أي إلى الانخراط في عصر العلم والتقانة كفاعلين مساهمين . ولكننا في حاجة كذلك إلى مقاومة الاختراق وحماية هويتنا القومية وخصوصيتنا الثقافية من الانحلال والتلاشي تحت تأثير موجات الغزو الذي يمارس علينا وعلى العالم أجمع بوسائل العلم والتقانة . وليست هاتان الحاجتان الضروريتان متعارضتين كما قد يبدو لأول وهلة ، بل بالعكس هما متكاملتان ، أو على الأصح متلازمتان تلازم الشرط مع المشروط .
ذلك لأنه من الحقائق البديهية في عالم اليوم أن نجاح أي بلد من البلدان ، النامية منها أو التي هي في " طريق النمو" ، نجاحها في الحفاظ على الهوية والدفاع عن الخصوصية ، مشروط أكثر من أي وقت مضى بمدى عمق عملية التحديث الجارية في هذا البلد ، عملية الانخراط الواعي ، النامي والمتجذر، في عصر العلم والتقانة .
والوسيلة في كل ذلك واحدة : اعتماد الإمكانيات اللامحدودة التي توفرها العولمة نفسها ، أعني الجوانب الإيجابية منها وفي مقدمتها العلم والتقانة . وهذا ما نلمسه بوضوح في تخطيطات الدول الأوروبية التي يُدَق في كثير منها ناقوسُ خطر" الغزو الأمريكي " الإعلامي الثقافي الذي يتهددها ، في لغتها وسلوك أبنائها وتصوراتهم الجمعية ، والذي يوظف أرقى وسائل العلم والتقانة – ومنها الأقمار الصناعية – في اكتساح مختلف الحقول المعرفية والخصوصيات الثقافية .
إن أوربا اليوم تتحدث حديث الخصوصية والأصالة ، وتتحدث عن " الهوية الأوربية " تعزيزا لسيرها الجدي على طريق تشييد الوحدة بين شعوبها وأقطارها ، بخطوات عقلانية محسوبة في إطار من الممارسة الديموقراطية الحق . وهي بذلك تقدم لمستعمراتها القديمة ، لأقطار العالم الثالث كله ، نموذجا صالحا للإقتداء به بعد ملاءمته مع الخصوصيات المحلية .
إن جل الحكومات العربية ، إن لم يكن جميعها ، تسعى اليوم لتحقيق " الشراكة " مع أوربا ، الشراكة في مجال الاقتصاد ، وأيضا في مجال الثقافة . ومع أن هذه الشراكة المطلوبة تمليها على الجانبين ظرفية تحكمها المصالح القومية فإنه لاشيء يضمن تحولها إلى عولمة أخرى داخل العولمة الكبرى ، غير شيء واحد ، هو بناء الشراكة في الداخل كما في الخارج على الديموقراطية والعقلانية .
فهل للشعوب العربية أن تطالب بالشراكة مع أوربا في مجال اعتماد العقلانية والديمقراطية ، في الفكر والسلوك ، في التخطيط والإنجاز، في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة ؟
العولمة نظام système ، والنظام لا يقاوم من خارجه إلا بنظام مكافئ له أو متفوق عليه . ونحن في العالم العربي نعيش حالة اللانظام . ليس لدينا نظام عربي يكافئ النظام العالمي للعولمة . فلا سبيل إذن إلى مقاومة سلبيات العولمة إلا من داخل العولمة نفسها ، بأدواتها وبإحراجها في قيمها وتجاوزاتها . وأيضا بفرض نوع من النظام على الفوضى العربية القائمة ، فوضى اللانظام ?
العولمة والهوية بين العلم والإيديولوجيا
العولمة والهوية بين العلم والإيديولوجيا
من مجلة فكر ونقد : محمد عابد الجابري
سيدور الكلام في هذا المقال حول السؤال التالي : إلى أي حقل من حقول المعرفة ينتمي خطاب العولمة والهوية ؟ هل ينتميان إلى العلم أم إلى الإيديولوجيا ؟
وقبل الخوض في الموضوع لابد من تحديد ما نقصده هنا بكل من العلم والإيديولوجيا ؟ لنبادر إلى القول إننا لا نقصد العلم كجملة معارف ولا الإيديولوجيا كجملة آراء ، وإنما نقصد أولا وأخيرا منهج كل منهما في بناء عالمه المعرفي .
يقوم البحث العلمي على مناهج متعددة . والغالب ما يرجع تعددها إلى اختلاف موضوع البحث ، منهج البحث في الرياضيات غيره في العلوم الطبيعية , غيره في العلوم الإنسانية … وكذلك الشأن في الخطاب الإيديولوجي فهو بطبيعته خطاب متعدد بتعدد الأغراض التي يريد إقرارها أو خدمتها ، وهي أكثر من أن تحصى . ومن أجل تجنب الخوض في مشاكل وإشكاليات جديدة ، لا يتسع لها المقال ، سنعمد إلى المقارنة بين الحقيقة العلمية والحقيقة الإيديولوجية (بدل المقارنة بين البحث العلمي والخطاب الإيديولوجي) . وهذا انتقال مبرر ومقبول ، باعتبار أن غاية البحث العلمي هي الوصول إلى الحقيقة العلمية ، كما أن الهدف الذي يرمي إليه الخطاب الإيديولوجي هو إثبات ما يريد إثباته كحقيقة .
الحقيقة العلمية قوامها دعامتان : الموضوعية وإمكانية التحقق . المقصود بالموضوعية هو التعامل مع موضوع البحث كما هو ، أي في استقلال عن آرائنا وعواطفنا ، وذلك إلى الدرجة التي يصبح معها بالإمكان الاتفاق بين الباحثين على ما هو إياه ذلك الموضوع . فإذا قام اتفاق بيننا على أن هذا الشيء الذي أمامنا هو الشيء الفلاني وليس غيره ، هو قطعة خبز وليس حجرا مثلا ، قلنا إن علاقتنا المعرفية بهذا الموضوع علاقة موضوعية . والسؤال الآن هو: هل يمكن أن تقوم بيننا علاقة معرفية تربطنا جميعا بكل من العولمة ومسألة الهوية ، من جنس العلاقة التي تربطنا بكل من قطعة الخبز والحجر مثلا ؟
هذا سؤال يطرحه البحث العلمي ، أما الخطاب الإيديولوجي فلا يتحمله ! والهوية والعولمة لا تتحملان هذا السؤال ، لأن الكلام في كل منهما هو أساسا خطاب !
والخـطاب رسالة من ذات إلى أخرى تنقل " حقيقة " يطلب من الذات المتلقية , ليس فقط أن تسلم بها , بل أيضا أن تعمل بها . وإذن فالخطاب الإيديولوجي في موضوع " العولمة ومسألة الهوية " خطاب ينقل إلى المتلقي وجهة نظر يعتبرها صاحبها صحيحة ويطلب من المتلقي أن يعمل بها . يمكن أن يقول مثلا : " يجب أن نأخذ بالعولمة وننخرط فيها ونعمل في إطارها إذا نحن أردنا أن نعيش في المستقبل " . وقد يضيف : " أما الهوية فهي تنتمي إلى الماضي " . وقد يقـــول آخر: " يجب أن نقف في وجه العولمة لأنها تنطوي على غزو يمارسه الآخر علينا " . وقد يضيف : " وهو غزو يتجاوز مستوى السلع والاقتصاد لأنه يستهدف الثقافة وبالتالي الهوية والكيان " .
واضح أن هاتين الوجهتين من النظر تضعاننا أمام إشكال وليس فقط إزاء مشكلة . وما يجعلهما تعبران عن إشكالية أن ما تقررانه ليس من قبيل هذا أبيض وهذا أسود . هما تعبران عن رأيين مختلفين متعارضين فعلا ، غير أنك إذا أخذت بأحدهما لا ترتاح راحة كاملة ، بل يبقى الثاني يشوش عليك رؤيتك ويجرك إلى بحر من الشكوك الغامضة فتعيش حالة من التوتر الفكري . إن الأمر يبدو وكأن هذين الرأيين المتناقضين ، على طول الخط ، صحيحان معا في وقت واحد . ومن هنا كان التوتر الذي ينجم عنهما من نوع التوتر الذي يبعثه في النفس الجمع بين النقيضين .
لقد تكرر الحديث في السنوات الأخيرة عن ضرورة " ترشيد " العولمة لتصبح نشاطا تجاريا عالميا يحترم مصالح الدول والخصوصيات الإقليمية والمحلية ، الشيء الذي يعني نزع طابع الهيمنة الإمبريالية والليبرالية المتوحشة عن العولمة كما عرفتها السنون الأخيرة .
هذا الجانب لا يهمنا هنا . فالعولمة كنشاط اقتصادي " خالص " ليست من الظواهر التي تصطدم بمسألة الهوية . هذا من حيث المبدأ . ولكن هل هناك في عصرنا نشاط اقتصادي " خالص " ؟ ثم أين تبتدئ " مسألة الهوية " وأين تنتهي ؟
هذان السؤالان هما من بين الأسئلة التي تجعل من العلاقة بين " العولمة " و" مسألة الهوية " علاقة إشكالية بالمعنى الذي حددناه في المقال السابق . ذلك لأنه ما دمنا لا نستطيع أن نحدد بدقة حدود ظاهرة العولمة ، حدودها الاقتصادية والثقافية والإعلامية الخ ، ولا أن نرسم لـ " مسألة الهوية " إطارا محددا لا تتعداه ، فإنه سيكون من الصعب وضع منحن أو منحنيات للعلاقة التي يمكن أن تقوم بينهما . كل شيء ممكن في مثل هذه الحالة . وبالتالي فنحن لا نستطيع الوصول ، بصدد العلاقة بين العولمة والهوية ، إلى نتيجة نحس معها فعلا بالاستقرار الفكري ، وإن حصل شيء من هذا فبسبب غفلة ، سرعان ما تنقشع عن توتر أكبر.
لقد عـرف الفكر العربي الحديث إشكالية مماثلة لم يهتد بعد إلى حل بشأنها يمنحه ما هو في حاجة إليه من الاستقرار الفكري . هذه الإشكالية هي ما كان وما يزال يدعى بـ " إشكالية الأصالة والمعاصرة " . ولقائـل أن يقول : أليست إشكالية " العولمة ومسألة الهوية " سوى مظهر من مظاهرها ، مظهرها الجديد الذي فرضه التطور علينا ؟
والجواب : هناك فعلا تشابه بين الإشكاليتين ، ولكن في الظاهر فقط ، أما المضمون فمختلف . والألفاظ نفسها ، أعني صيغتها الصرفية ، تشي بهذا الاختلاف : فـ" المعاصرة " مفاعلة ، وهي صيغة تدل على المشاركة . المعاصرة صيغة تفيد أننا نحن الذين نطلب المعاصرة ونقوم بها لأنفسنا ، أي نسعى إلى أن نرتفع إلى مستوى عصرنا في مجال الفكر والعلم والصناعة . أما العولمة فصيغتها الصرفية فوعلة تفيد جعل الشيء على هيأة معينة : فقولبة الشيء معناها جعله في قالب . كما أن عولمته تعني جعله عالميا . وهذه الفروق اللغوية ليست خاصة باللغة العربية بل نلحظها في كثير من اللغات الأجنبية. فـ" العولمة" ترجمة لكلمة globalisation التي تفيد في معناها اللغوي التعميم : تعميم الشيء وجعله شاملا . وإذا لاحظنا أن كلمة globe تعني الكرة وتستعمل علما لتدل بالتحديد على الكرة الأرضية استطعنا أن نربط العولمة بهدفها الاستراتيجي أعني تعميم نمط من الحياة على الكرة الأرضية كلها . ومن هنا الاسم المرادف لـ " العولمة " في الخطاب العولمي المعاصر ، أعني لفظ planétarisation وهو ما يترجمه بعضهم بـ" الكوكبية " . والمقصود جعل كوكب الأرض كله مسرحا لنمط معين من التعامل المالي والتجاري ، وبالتالي الحضاري ، هو النمط الأمريكي .
هذا من جهة ومن جهة أخرى لابد من ملاحظة أنه لسنا نحن الذين نقوم بالعولمة والتعميم ، بل العولمة عملية تتم خارج إرادتنا ، على العكس تماما مما تدل عليه " المعاصرة " التي نفترض فيها أننا نحن الذين نقوم بها بإرادتنا أو على الأقل نطمح إليها . وقد نلمس هذا الفرق بوضوح أكبر لو أننا انتبهنا إلى الطريقة التي نعبر بها عن الموقف الإيجابي منهما ، موقف القبول . ذلك أننا نقول : نحن ننشد المعاصرة ولا نقول " ننشد العولمة " ، بل نقول : " ننخرط " في العولمة أو "نستعد في الدخول في عصر العولمة " .
بعبارة قصيرة ، في " المعاصرة " نتعامل مع أنفسنا كذات ، أما في " العولمة " فنشعر أننا موضوع لها . قد يكون هذا مجرد فرق سيكولوجي . ليكن . فالموقف السيكولوجي له دور كبير عندما يتعلق الأمر بالهوية . الهوية مسألة وعي ، فهي من ميدان السيكولوجيا . ولذلك سيكون رد الفعل من قبيل الاستفهام الإنكاري التالي : وهل من يتعامل مع الظاهرة نفسها كذات فاعلة كمن يتعامل معها كموضوع منفعل ؟
ثم إن التقابـل أو التعارض بين " الأصالة والمعاصرة " ليس من جنس التقابل والتعارض بين " العولمة والهوية " . ذلك أن " المعاصرة " لا تهدد الهوية إلى درجة إلغائها ونفيهـا ، بل بالعكس يفترض فيها أن تعمل على إغنائها وتجديدها . والأصالة بعد ليست جزءا من الهوية ، بل هي وصف يمكن أن توصف به . أما " العولمة " فبما أنها تعميم وقولبة فهي تهدد الأصالة وبالتالي الهوية ، أو على الأقل نوعا من الهوية ونوعا من الأصالة .
العولمة ومسألة الهوية : المشكلة والإشكالية
من مجلة فكر ونقد : محمد عابد الجابري
سيدور الحديث في هذا المقال حول الإشكالية التالية : إلى أي مدى يمكن التحرر من الإيديولوجيا ، والبحث في موضوع العولمة ومسألة الهوية بحثا علميا ؟
سؤال ينشد الوضوح ، باعتبار أن ذلك هو هدف البحث العلمي . ولكن هل عناصر هذا السؤال واضحة كلها ؟ إن وضوح السؤال شرط في الوصول إلى نتائج واضحة على صعيد الجواب ، هذا أمر بديهي
. لنبدأ إذن بإضفاء أكبر قدر ممكن من الوضوح على السؤال . لنحدد مجال السؤال وعناصره الأساسية .
لعل أول ما ينبغي البدء به هو استبعاد الفكرة الجاهزة التي تتبادر إلى الذهن لتضفي وضوحا زائفا على الموضوع ، الفكرة التي تربط التقابل بين العولمة ومسألة الهوية بالتقابل بين الدول المصنعة المتقدمة داعية العولمة والمستفيد الأول منها وهي دول " الشمال " ، وبين البلدان الفقيرة أو القريبة من الفقيرة والتي تصنف ضمن الجنوب . إنها فكرة جاهزة مضللة ليس لأنها خاطئة كليا بل لأن مثل هذا الربط يجر الباحث إلى تركيز النظر على هذا " التقابل " وحده وقراءة الموضوع وكأنه مظهر من مظاهر التقابل أو الصراع بين الغرب والشرق ، بين الغرب /الشمال والشرق/الجنوب . هذا في حين أن مفعول العولمة سواء على مستوى الهوية أو غيرها يمكن رصده أيضا ، وربما بوضوح أكثر داخل " الشمال " نفسه . سنركز بحثنا إذن في الموضوع المطروح على مجال أوسع ، خارج ضغط تلك الفكرة الجاهزة ، معتمدين معطيات الواقع كما هي ، منطلقين من توضيح المفاهيم الأساسية المستعملة في البحث .
***
يتكون عنوان هذا البحث من خمسة مفاهيم أو عناصر لابد من عقد اتفاق بيننا وبين القارئ بشأنها ، أعني حول المعنى الذي نعطيه لها هنا . هذه العناصر هي : إشكالية ، العولمة ، الهوية ، البحث العلمي ، الخطاب الإيديولوجي .
لقد استعملنا لفظ " الإشكالية " ولم نستعمل " المشكلة " قصدا . والفرق بينهما – عندنا – يتلخص في كون المشكلة تتميز بكونها يمكن الوصول بشأنها إلى حل يلغيها . فـ" المشاكل " في الحساب تنتهي إلى حل ، باستثناء بعض المعادلات الرياضية التي يكون حلها ، أعني التخلص منها بعد البحث والمحاولة ، بالإعلان عن كونها لا تقبل الحل . أما المشاكل المالية والاقتصادية والاجتماعية عموما , والمشاكل التي يصادفها العلماء في العلوم الطبيعية بمختلف أنواعها , فهي جميعا تنتهي إلى نوع من الحل ، آجلا أو عاجلا ، ما دام المجال الذي تطرح فيه ينتمي إلى الواقع الموضوعي ويقبل نوعا ما من التجريب . وفي هذا الإطار يصدق قول ماركس : " إن الإنسانية لا تطرح من المشاكل إلا تلك التي تقدر على حلها " . لماذا ؟ لأن " المشاكل " ، بهذا المعنى ، إنما تظهر من خلال تقدم البحث ، فاكتساب مزيد من المعرفة بموضوع ما يفتح الطريق أمام اكتشاف مجاهيل جديدة ، تكون مناسبة لطرح أسئلة جديدة .
هذا هو تصورنا لمعنى " المشكلة " ، وأعتقد أنه من الممكن التعاقد مع القارئ على هذا المعنى . كما يمكن التعاقد على معنى أضيق أو أوسع ؛ ففي هذا المجال ، مجال الحدود والتعريفات ، ليس هناك برهان ، وإنما تعاقد واتفاق بين الباحث والمتلقي (وقد يكون المتلقي هو الباحث نفسه) ! فبدون هذا لا يمكن الوصول إلى برهان ، فالبرهان إنما يبنى ، من جملة ما يبنى عليه ، على الحدود والتعريفات .
هذا عن لفظ " المشكلة " ، وأمرها لا يحتاج إلى مزيد بيان . أما " الإشكالية " ، فهي شيء آخر . فعلا ، يستعمل كثير من الكتاب والقراء (عندنا في العالم العربي) – أو يفهمون- هذا اللفظ ونسيبه " المشكلة " من غير تدقيق ، وكأنهما من الألفاظ التي يجوز أن ينوب بعضها مناب بعض ( وهل هناك فعلا ألفاظ يجوز فيها ذلك بدون غرض ومبرر؟) . ومهما يكن , فنحن نستعمل هنا لفظ " إشكالية " في معنى محدد – ولو أنه معقد- غير معنى " المشكلة " . وفيما يلي تفاصيل عقد ( تعريف) نقترحه على القارئ . ولا يخطرن بالبال أن التعريفات والحدود تصاغ كيف اتفق . كلا ، ليس لأحد أن يقترح تعريفا إلا إذا كان هذا التعريف يزيدنا معرفة بالمعرف به ويفسح المجال أمامنا لمزيد من المعرفة بالموضوع الذي نبحث فيه . ولعل القارئ سيلاحظ هذا بوضوح فيما نحن يصدده .
لقد سبق أن حددنا ما نعنيه بهذا المصطلح منذ أن بدأ يشيع ويذيع في خطابنا العربي المعاصر( نحن والتراث 1980) . لقد كتبنا آنذاك في هذا الموضوع ما يلي : " على الرغم من أن كلمة إشكالية من الكلمات المولدة في اللغة العربية ( وهي ترجمة موفقة لكلمة problématique فإن جذرها العربي يحمل جانبا أساسيا من معناها الاصطلاحي . يقال : أشكل عليه الأمر بمعنى التبس واختلط . وهذا مظهر من مظاهر المعنى الاصطلاحي المعاصر للكلمة ( ولكنه مظهر فقط ) . ذلك أن الإشكالية هي في الاصطلاح المعاصر، منظومة من العلاقات التي تنسجها ، داخل فكر معين ( فكر فرد أو فكر جماعة) , مشاكل عديدة مترابطة لا تتوفر إمكانية حلها منفردة ولا تقبل الحل ، – من الناحية النظرية – إلا في إطار حل عام يشملها جميعا . وبعبارة أخرى : إن الإشكالية هي النظرية التي لم تتوفر إمكانية صياغتها ، فهي توتر ونزوع نحو النظرية ، أي نحو الاستقرار الفكري " .
لم نعمد هنا إلى استرجاع هذا التعريف جزافا ، بل نحن نعتبره خطوة أولى لابد منها في سعينا إلى الوضوح الذي ننشده . وسنرى أن الموضوع الذي نحن بصدده ، أعني العلاقة بين العولمة ومسألة الهوية ، سيغدو أوضح ، بمجرد ما نقرأه بواسطة هذا التعريف . ذلك أن العلاقة بين العولمة ومسألة الهوية ليست من العلائق البسيطة بل هي فعلا :
ـ " منظومة من العلاقات " ، وليست مجرد علاقة بسيطة وحيدة الاتجاه : العلاقة بين العولمة ومسألة الهوية قائمة في آن واحد : بين طرف وطرف آخر داخل الدول المصنعة ، وداخل الدول النامية ، وبين هذه الدول وتلك …
ـ " تنسجها داخل فكر معين " : فكر فرد وفكر جماعة وفكر أمة الخ . هذه العلاقة علاقة موضوعية فعلا ، لها وجود في الواقع ، ولكنها لا تتشكل منها إشكالية إلا بعد نقلها إلى الذهن بوصفها تطرح إشكالا قد يتمثل في كون العولمة تقفز على الهوية أو تلغيها ، فيترتب عن ذلك رد فعل معين … وقد يتمثل في شيء آخر !
– مشاكل عديدة مترابطة ، منها ما يخص ظاهرة العولمة نفسها ، ومنها ما يخص مسألة الهوية ، ومنها ما يخص العلاقة بينهما : مشاكل اقتصادية وتكنولوجية ومعلوماتية وثقافية وحضارية عامة .
ـ هذه المشاكل " لا تتوفر إمكانية حلها منفردة ولا تقبل الحل ، – من الناحية النظرية- إلا في إطار حل عام يشملها جميعا " . وسنرى أنه سواء تعلق الأمر بالعالم " المتقدم " أو بالعالم " المتخلف" فلا يمكننا حل المشاكل التي تطرحها العولمة دون الاصطدام بمسألة الهوية ، كما لا يمكن التفكير اليوم في مسألة الهوية بدون الاصطدام بظاهرة العولمة ، وفي جميع الأحوال سيكون الحل الذي نتوصل إليه حلا على الصعيد النظري . أما الناحية العملية فشيء آخر.
ـ ومن هنا تبدو إشكالية العولمة ومسألة الهوية بمثابة " النظرية التي لم تتوفر إمكانية صياغتها ، فهي توتر ونزوع نحو النظرية ، أي نحو الاستقرار الفكري " .
والحق أننا هنا لا نطمع ، ويجب أن لا نطمع ، في حل نهائي لهذه الإشكالية . كل ما يمكن أن نحصل عليه بعد البحث هو شيء من " الاستقرار الفكري " ، شيء من المصالحة داخل وعينا بين عناصر متصارعة .
لقد قلنا في الفرق بين المشكلة والإشكالية ، وسيكون علينا أن نقول في الفرق بين البحث العلمي والخطاب الإيديولوجي .