ذكر الله عز وجل أن جزاء الأعمال الصالحة عشرة امثالها: (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) وجعل جزاء الصدقة فى سبيل الله فوق هذا القول: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (البقرة : 261 ) وجعل أجر الصابرين بغير حساب ومدح أهله فقال: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (الشورى : 43 ).
والصبر على الأذى من باب جهاد النفس وقمعها من شهواتها ومنعها عن تطاولها، وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين، وإن كان قد جبل الله النفوس على تألمها من الأذى ومشقته،
قال الحافظ في " فتح الباري" (13 / 361) :
« أصبر : أفعل تفضيل من الصبر ، ومن أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى الصبور ، ومعناه الذي لا يعاجل العصاة بالعقوبة »
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما رزق عبد خير له و لا أوسع من الصبر »(1)
" إن من ورائكم أيام الصبر ، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم قالوا : يا نبي الله أو منهم ؟ قال : بل منكم " .(2)
قال طائفة من أهل العلم : إن الصبر ثلاثة أقسام : صبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، وصبر على أقدار الله المؤلمة . والمقصود هنا القيام على حكم الله والمداومة عليه .
والصبر من صفات الانبياء : فالرسل كانوا مبشرين ومنذرين، يدعون إلى دين الله تعالى، وقد أصابتهم صنوف الأذى وأنواع المشاق، ومع ذلك فقد صبروا وتحمّلوا في سبيل إعلاء كلمة الله.
وأهل السنة يرون : أن الصبر على المصائب واجب من الواجبات ؛ لأن فيه ترك السخط على قضاء الله وقدره .
ولهذا فإن ترك الصبر وإظهار التسخط كبيرة من الكبائر ، والمعاصي تنقص الإيمان ؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، ونقص الإيمان قد ينقص كمال التوحيد ، بل إن ترك الصبر مناف لكمال التوحيد الواجب .
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة » (3) : هذا فيه بيان حكمة الله – جل وعلا – التي إذا استحضرها المصاب ، فإنه يعظم عنده الصبر ، ويتحلى بهذه العبادة القلبية العظيمة وهي ترك التسخط ، والرضا بفعل الله – جل وعلا – وقضائه ؛ لأن العبد إذا أريد به الخير فإن العقوبة تعجل له في هذه الدنيا
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« إن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء » .(3)
« ما يزال البلاء بالمؤمن و المؤمنة في نفسه و ولده و ماله حتى يلقى الله و ما عليه خطيئة » (4)
« ومن يتصبر يصبره الله وما أعطى الله أحدا عطاء هو خير له وأوسع من الصبر» (5)
« قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع » (6)
«الصبر ضياء »(7)
وقال الشعبى رحمه الله : قال على بن أبى طالب: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
قال الطبرى شيخ المفسرين رحمه الله: ذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، فمن لم يصبر على العمل بشرائع لم يستحق اسم الإيمان بالإطلاق، والصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من جسد الإنسان الذى لاتمام له إلا له، وهذا فى معنى حديث أنس وجابر أن الصبر نصف الإيمان، وعامة المواضع التى ذكر الله فيها الصبر وحث عليه عباده إنما هى مواضع الشدائد ومواطن المكاره الذى يعظم على النفوس ثقلها، ويشتد عندها جزعها وكل ذلك محن وبلاء، الا ترى قوله عليه السلام للأنصار: « لن تعطوا عطاءًا خيرًا وأوسع من الصبر » .
والصبر فى لسان العرب: حبس النفس عن المطلوب حتى يدرك، ومنه نهيه عليه السلام عن صبر البهائم. يعنى أنه نهى عن حبسها على التمثيل بها. ورميها كما ترمى الأغراض، ومنه قولهم: صبر الحاكم يمين فلان يعنى حبسه على حلفه.
فالصبر إذًا في الشرع هو : حبس اللسان عن التشكي ، وحبس القلب عن التسخط ، وحبس الجوارح عن إظهار السخط بشق أو نحو ذلك
قال الله تعالى : « إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»
قال الإمام أحمد – رحمه الله – : ذكر الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعا
وقال بعض أهل العلم : الصبر على الأذى جهاد النفس ، وقد جبل الله الأنفس على التألم بما يفعل بها ويقال فيها ؛ ولهذا شق على النبي صلى الله عليه وسلم نسبتهم له إلى الجور في القسمة ، لكنه حلم عن القائل فصبر لما علم من جزيل ثواب الصابرين وأن الله تعالى يأجره بغير حساب ، والصابر أعظم أجرا من المنفق لأن حسنته مضاعفة إلى سبعمائة ، والحسنة في الأصل بعشر أمثالها إلا من شاء أن يزيده ، وقد تقدم في أوائل الإيمان حديث ابن مسعود " الصبر نصف الإيمان " وقد ورد في الصبر على الأذى حديث ليس على شرط البخاري ، وهو ما أخرجه ابن ماجه بسند حسن عن ابن عمر رفعه " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم
عن حبيب بن عمير-رضي الله عنه -: أنه جمع بنيه وقال: اتقوا الله ولا تجالسوا السفهاء، فإن مجالستهم داء، من تحلم على السفيه يسر بحلمه، ومن يحب السفيه يندم، ومن لا يصبر على قليل أذى السفيه لا يصبر على كثيره، ومن يصبر على ما يكره يدرك ما يحب، فإذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فلا يفعل حتى يوطن نفسه على الصبر على الأذى، ويثق بالثواب من الله عز وجل، فإنه من يثق من الله عز وجل لا يجد مس الأذى.
إبراهيم بن يزيد النخعي رضي الله عنه كان يقول: ما أوتي عبد بعد الإيمان أفضل من الصبر على الأذى
الصبر من المقامات العظيمة ، والعبادات الجليلة التي تكون في القلب وفي اللسان وفي الجوارح ، وحقيقة العبودية لا تثبت إلا بالصبر ؛ لأن العبادة أمر شرعي ، أو نهي شرعي ، أو ابتلاء ، بأن يصيب الله العبد بمصيبة قدرية فيصبر عليها .
فحقيقة العبادة : أن يمتثل الأمر الشرعي ، وأن يجتنب النهي الشرعي ، وأن يصبر على المصائب القدرية التي ابتلى الله – جل وعلا – العباد بها
الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضى بمر القضاء فإن حصل به رضىً فذلك مقام خواص العارفين المحبين
ومن صفات الفائزين كما اخبرنا الله عز وجل في سورة العصر :
{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ }
فالتواصي بالصبر : هو الصبر على فعل الطاعات، والصبر عند وقوع المصائب.
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (هود : 115 )
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (لقمان : 17 )
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (البقرة : 155 )
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (آل عمران : 200 )
-م.ن-
(1) السلسلة الصحيحة 1 / 732 .
(2) السلسلة الصحيحة 1 / 812 .
(3) أخرجه الترمذي (2398) ، والحاكم 1 / 340 ، وابن حبان 1 / 278 .
(3) السلسلة الصحيحة 4 / 225 ، حديث 1952 /1919/ 3001 في صحيح الجامع.
(4) السلسلة الصحيحة 5 / 349.
(5) رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي
(6) رواه أحمد ورواته ثقات ، انظر حديث رقم : 1706 في صحيح الجامع
(7) حديث رقم : 3957 في صحيح الجامع .