الإخلاص لله طريق السعادة
غنى العبد بطاعة ربه والإقبال عليه، وإخلاص الأعمال لله أصل الدين وتاج العمل، وهو عنوان الوقار، وسمو الهمة، ورجحان العقل، وطريق السعادة، ولا يتم أمر ولا تحصل بركة إلا بصلاح القصد والنية، وقد أمر الله نبيه محمداً (صلى الله عليه و سلم) بالإخلاص في أكثر من آية، فقال له: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] وقال له: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 11] وقال: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14]، فصلاح العمل من صلاح النية، وصلاح النية من صلاح القلب.
وأصل قبول الأعمال عند الله الإخلاص مع المتابعة يقول ابن مسعود (رضي الله عنه): "لا ينفع قول وعمل إلا بنية، ولا ينفع قول وعمل ونية إلا بما وافق السنة".
والإخلاص عزيز في جانب العبادات يقول ابن الجوزي ([1][1]): "ما أقل من يعمل لله تعالى خالصاً؛ لأن أكثر الناس يحبون ظهور عباداتهم".
ويقول ابن رجب ([2][2]): "الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة".
وقد افتتح بعض العلماء كالإمام البخاري في صحيحه، والمقدسي في "عمدة الأحكام" والبغوي في "شرح السنة" و"مصابيح السنة"، والنووي في "الأربعين النووية"ـ مصنفاتهم بحديث: « إنما الأعمال بالنيات » إشارة منهم إلى أهمية الإخلاص في الأعمال. وسفيان الثوري يقول: "ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي، لأنها تتقلب علي" والعمل من غير نية خالصة لوجه الله طاقة مهدرة، وجهد مبعثر، وهو مردود على صاحبه، والله تعالى غني حميد لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً له سبحانه. يقول أبو أمامة الباهلي (رضي الله عنه): "جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه و سلم)فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه و سلم)لا شيء له. فأعادها عليه ثلاث مرات ورسول الله (صلى الله عليه و سلم)يقول له: لا شيء له، ثم قال: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغى به وجه الله" (رواه أبو داود والنسائي).
ويقول عليه الصلاة والسلام قال الله عز وجل: « أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» (رواه مسلم).
* الواجب في الإسلام الإخلاص مع كثرة العمل:
العبرة في الإسلام ليست بكثرة العمل فحسب، إنما الواجب صحة الإخلاص لله وكثرة العمل الموافق لسنة المصطفى (عليه الصلاة والسلام)، وقد جمع ربنا ذلك في قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] فجمعت هذه الآية الإخلاص وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
والعمل وإن كان كثيراً ـ مع فقد صحة المعتقد يورد صاحبه النار قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].
وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2] قال: "أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة".
* ما هي الأعمال التي أخلص فيها لله؟
بعض الناس يظن أن الإخلاص إنما هو فقط في الصلاة وقراءة القرآن وأعمال العبادات الظاهرة كالدعوة إلى الله والإنفاق، وهذا غير صحيح، فالإخلاص واجب في جميع العبادات حتى زيارة الجار وصلة الرحم وبر الوالدين، فهذه مطلوب فيها الإخلاص، وهي من أجل العبادات، وكل فعل يحبه الله ويرضاه واجب فيه إخلاص النية مهما كان العمل، حتى في جانب المعاملات كالصدق في البيع والشراء وحسن معاملة الزوجة والاحتساب في إصلاح الأولاد وغيرها، يقول النبي (عليه الصلاة والسلام): « ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها في في امرأتك » (متفق عليه).
فكل أمر يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة فهو عبادة، وواجب فيها الإخلاص وإن دق العمل.
* ما هو الإخلاص؟
ضابط الإخلاص: أن تكون نيتك في هذا العمل لله لا تريد بها غير الله، لا رياء ولا سمعة ولا رفعة ولا تزلُّفاً عند أحد، ولا تترقب من الناس مدحاً ولا تخشى منهم قدحاً، فإذا كانت نيتك لله وحده ولم تزين عملك من أجل البشر فأنت مخلص، يقول الفضيل بن عياض: "العمل لأجل الناس شرك، وترك العمل لأجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما".
فأخلص جميع أعمالك له سبحانه ولا تتطلع لأحد، وأدخل نفسك في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].
*أثر الإخلاص:
إذا قوي الإخلاص لله وحده في الأعمال ارتفع صاحبه إلى أعالي الدرجات، يقول أبو بكر بن عياش: "ما سبقنا أبو بكر بكثير صلاة ولا صيام، ولكنه الإيمان وقر في قلبه والنصح لخلقه".
وفي هذا يقول عبد الله بن المبارك: "رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية" وبالعمل القليل مع الإخلاص يتضاعف الثواب، يقول النبي (عليه الصلاة والسلام): « من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه ([3][3]) حتى تكون مثل الجبل العظيم » (متفق عليه).
قال ابن كثير ([4][4]): في قوله تعالى:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] قال أي بحسب إخلاصه في عمله.
وإذا قوي الإخلاص وعظمت النية وأخفي العمل الصالح مما يشرع فيه الإخفاء، قَرُب العبد من ربه، وأظله تحت ظل عرشه، يقول النبي (عليه الصلاة والسلام): « سبعة يظلهم الله في ظله… وذكر منهم: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ». (متفق عليه).
* بركة العمل في الإخلاص وإن قل العمل:
إذا أخلص العبد النية وعمل عملاً صالحاً ولو يسيراً فإن الله يتقبله ويضاعفه.
يقول النبي (عليه الصلاة والسلام): « لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين» (رواه مسلم).
وفي رواية: « مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأدخل الجنة».
فبإخلاصه مع يسر العمل أدخله الله الجنة برحمته.
وتأمل في المرأة البَغيَّ التي عملت أعمالاً قبيحة، ثم عملت عملاً يسيراً في أعين البشر، وهو سقاية كلب، وليس إنساناً، فغفر الله لها بذلك العمل اليسير مع سوء عملها من البغي، يقول النبي (عليه الصلاة والسلام): « بينما كلب يطيف([5][5]) بركية([6][6]) قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها ([7][7]) فاستقت له به فسقته، فغفر الله لها به » (متفق عليه).
* بالنية الصادقة تنال ثواب العمل وإن لم تعمل:
الكرم من صفات رب العالمين، والعبد إذا أحسن القصد ولم تتهيأ له أسباب عمل الصالحات، فإنه يؤجر على ذلك الفعل وإن لم يعمله كرماً من الله وفضلاً، يقول جابر بن عبد الله (رضي الله عنه): كنا مع النبي (صلى الله عليه و سلم)في غزاة فقال: « إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حسبهم المرض » وفي رواية: « إلا شركوكم في الأجر » رواه مسلم. ورواه البخاري عن أنس قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي (صلى الله عليه و سلم)فقال: « إن أقواماً خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا حبسهم العذر ».
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام عن الرجل الذي لا مال عنده وينوي الصدقة ويقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، قال عنه النبي (عليه الصلاة والسلام): « فهو بنيته فأجرهما سواء ». (رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح).
وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه و سلم)فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: « إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ».
فالمسلم يجعل نيته في كل خير قائمة، يقول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): "أفضل الأعمال صدق النية فيما عند الله". ومن سره أن يكمل له عمله فليحسن نيته، فإن الله يأجر العبد إذا حسنت نيته حتى باللقمة. يقول النبي (عليه الصلاة والسلام): « ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجر عليها حتى اللقمة تضعها في فيّ امرأتك» (متفق عليه).
يقول زبيد اليامي: "انو في كل شيء تريد الخير حتى خروجك إلى الكناسة". ويقول داود الطائي: "رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية". وكان السلف الصالح يحثون على حسن النية في كل أمر صالح، يقول يحيى بن كثير: "تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل".
* ثمرات الإخلاص:
العمل الصالح لا يقبل إلا بالإخلاص، وبدون إخلاص يرد العمل ولو كثر، والإخلاص مانع بإذن الله من تسلط الشيطان على العبد قال سبحانه عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82-83].
والمخلص محفوظ بحفظ الله من العصيان والمكاره، قال سبحانه عن يوسف عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] وبالإخلاص رفعة الدرجات وطرق أبواب الخيرات، يقول النبي (عليه الصلاة والسلام): « إنك لن تختلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله ازددت به درجة ورفعة» (متفق عليه).
في الإخلاص طمأنينة القلب وشعور بالسعادة وراحة من ذل الخلق.
يقول الفضيل بن عياض: "من عرف الناس استراح" إذا عرف أنهم لا ينفعونه ولا يضرونه استراح من الناس.
* كيف أكون مخلصاً لله في جميع أعمالي؟
الشيطان يتعرض للإنسان ليفسد عليه أعماله الصالحة، ولا يزال المؤمن في جهاد مع عدوه إبليس حتى يلقى ربه على الإيمان بربه وإخلاص جميع أعماله له وحده، ومن أهم عوامل الإخلاص:
1– الدعاء:
الهداية بيد الله والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فالجأ إلى من بيده الهداية وأظهر إليه حاجتك وفقرك، واسأله دوماً الإخلاص وقد كان أكثر دعاء عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): "اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً".
2– إخفاء العمل:
كلما استتر العمل مما يشرع فيه الإخفاء كان أرجى للقبول وأعز في الإخلاص، والمخلص الصادق يحب إخفاء حسناته كما يحب أن يخفي سيئاته، لقوله عليه الصلاة والسلام: « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلَّق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذا منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه». (متفق عليه).
يقول بشر بن الحارث: "لا تعمل لتذكر، اكتم الحسنة كما تكتم السيئة". وقد فضلت نافلة صلاة الليل على نافلة النهار واستغفار السحر على غيره، لأن ذلك أبلغ في الإسرار وأقرب إلى الإخلاص.
3- النظر إلى أعمال الصالحين ممن هم فوقك:
في أعمالك الصالحة لا تنظر إلى أعمال رجال زمانك ممن هم دونك في المسابقة إلى الخيرات، وتطلع دائماً إلى الاقتداء بالأنبياء والصالحين يقول سبحانه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]. واقرأ سير الصالحين من العلماء والعباد والنبلاء والزهاد، فهو أرجى لزيادة الإيمان في القلب.
4- احتقار العمل:
آفة العبد رضاه عن نفسه، ومن نظر إلى نفسه بعين الرضا فقد أهلكها، ومن نظر إلى عمله بعين العجب قلَّ معه الإخلاص، أو نزع منه أو حبط العمل الصالح بعد العمل، يقول سعيد بن جبير: "دخل رجل الجنة بمعصية، دخل رجل النار بحسنة، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: عمل رجل معصية فما زال خائفاً من عقاب الله من تلك الخطيئة فلقي الله فغفر له من خوفه منه تعالى، وعمل رجل حسنة فما زال معجباً بها ولقي الله بها فأدخله النار".
5- الخوف من عدم قبول العمل:
كل عمل صالح تفعله احتقره وإذا عملته كن خائفاً من عدم قبوله. ولقد كان من دعاء السلف: "اللهم إنا نسألك العمل الصالح وحفظه" ومن حفظه عدم العجب والفخر به، بل يبقى الخوف من عدم قبوله معلقاً، يقول سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 92].
وروى الإمام أحمد والترمذي أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "يا رسول الله، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: « لا يا بنت أبي بكر الصديق، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون وهم خائفون ألا يتقبل منهم ».
قال ابن كثير في تفسير ([8][8]) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا…}[المؤمنون: 60]: "أي يعطون العطاء وهم خائفون وجلون أن لا يتقبل منهم، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشرط الإعطاء".
والإخلاص يحتاج إلى مجاهدة قبل العمل وأثناءه وبعده.
6- عدم التأثر بكلام الناس:
الرجل الموفق هو الذي لا يتأثر بمدح الناس فإذا أثنوا عليه خيراً إن فعل طاعة لم يزده ذلك إلى تواضعاً وخشية من الله، وأيقن بأن مدح الناس له فتنة، فدعا ربه أن ينجيه من هذه الفتنة، فليس أحد ينفع مدحه ويضر ذمه إلا الله، وأنزل الناس منزلة أصحاب القبور في عدم جلب النفع لك ودفع الضر عنك، يقول ابن الجوزي ([9][9]): "ترك النظر إلى الخلق ومحو الجاه من قلوبهم بالعمل وإخلاص القصد وستر الحال هو الذي رفع من رفع".
7- استصحاب أن الناس لا يملكون جنة ولا ناراً:
إذا شعر العبد بأن الذين يرائي لهم سوف يقفون معه في المحشر خائفين عارين أدرك أن صرف النية لهم في غير محله حيث لم يخففوا عنه وطأة المحشر، بل هم معه في ذلك الضنك، فإذا عملت ذلك علمت أن إخلاص العمل حقه أن لا يصرف إلا لمن يملك جنة وناراً.
فعلى المؤمن أن يوقن بأن البشر لا يملكون جنة يقدمونك إليها، ولا قدرة لهم على إخراجك من النار لو طلبت منهم إخراجك منها، بل لو اجتمعت البشر كلهم من آدم إلى آخرهم، ووقفوا خلفك، لما استطاعوا أن يقدموك إلى الجنة ولو بخطوة واحدة، إذاً لماذا ترائي البشر وهم لا يملكون لك شيئاً؟ قال ابن رجب ([10][10]): "من صام وصلى وذكر الله، ويقصد بذلك عرض الدنيا، فإنه لا خير له فيه بالكلية، لأنه لا نفع في ذلك لصاحبه، لما يترتب عليه من الإثم فيه ولا لغيره". أي ولا نفع فيه أيضاً لغيره.
ثم إن الذين تُزين عملك لهم من أجل أن يمدحوك لن تحصل مرادك منهم، بل إنهم سوف يذمونك، وتفضح عندهم، ويلقى في قلوبهم بغضك، يقول عليه الصلاة والسلام: « ومن يرائي، يرائي الله به » رواه مسلم. أما إذا أخلصت لله أحبك الله و أحبك الخلق، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}[مريم: 96]أي محبة.
8- تذكر أنك في القبر بمفردك:
النفوس تصل بتذكر مصيرها، وإذا أيقن العبد أنه يوسَّد اللحد منفرداً بلا أنيس، وأنه لا ينفعه سوى العمل الصالح، وأن جميع البشر لن يرفعوا عنه شيئاً من عذاب القبر، وأن الأمر كله بيد الله، حين ذاك يوقن العبد أنه لا ينجيه إلا إخلاص العمل لخالقه وحده جل وعلا. يقول ابن القيم ([11][11]): "صدق التأهب للقاء الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته، فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها".
([1][1])صيد الخاطر ص251.
([2][2])جامع العلوم والحكم 1/79.
([3][3])الفلو: المهر: وهو ولد الفرس.
([4][4])تفسير ابن كثير 1/317.
([5][5])يطيف: يدور.
([6][6])الركية: البئر.
([7][7])الموق: الخف.
([8][8])تفسير ابن كثير 3/248.
([9][9])صيد الخاطر ص251.
([10][10])جامع العلوم والحكم 1/67.
([11][11])طريق الهجرتين ص297.