التصنيفات
رموز و شخصيات

عــــلماء وأمجاد الجـــــــــــــــــزائر الخالدون

عبد الحميد ابن باديس رحمه الله تعالى
عبد الحميدهو عبد الحميد بن محمّد المصطفى بن المكي بن محمّد كحول بن علي سليل الجدّ الأعلى "مَنَاد بن منقوش"كبير قبيلة "تَلْكَاتَة" (أو تُلُكّاتة أو وَتْلَكّاتة) ، وقد ظهرت علامات شرفه وسلطانه في وسط قبيلته قبل سقوط الدّولة الأغلبيّة (296 ﻫ / 909 م)، وكان فرع "تَلْكَاتَة" أهل مَدَر (حضريّين)، من بين الفروع العديدة التابعة لأمجاد قبيلةصنهاجة.

ونسب أسرة "ابن باديس" عريق في الشرف والمكانة مشهور بالسلطان والعلم والثراء والجاه، عرفت منه شخصيات تاريخية كبيرة منها "المعِزّ لدين الله بن باديس" أشهر حكام الدَّولة الصّنهَاجيَّة التي عرفت باسم دولة "بني زيري" نسبة إلى الأمير أبو الفتوح سيف العزيز بالله "بُلكّين بن زيري بن مَنَاد الصنهاجي"، الذي ولاه الفاطميون بعد رحيلهم إلى مصر على أفريقية (حكم 361 – 373 ﻫ / 972 – 984 م).
و"المعِزّ لدين الله" ابن الأمير "بَاديس بن المْنصُور بن بُلكّين"، ثالث ملوك بني زيري، كان واليا على أفريقية والمغرب، (حكم : 386 – 406 ﻫ / 996 – 1016 م). وقد لَقب الخليفة الفاطمي "المعِزّ لدين الله" بشرف الدولة، وعمل إبانحكمه (406 – 454 ﻫ / 1015 – 1062 م) على قطع الخطبة للفاطميين وحولها للعبّـاسيين، ونصر السنة وأظهرها، وأعلن المذهب المالكي مذهبًا للدولة.
ومن رجالات الحكم كذلك الأمير "تميم بن المعِزّ لدين الله" ملك أفريقية وما والاها بعد وفاة أبيه (حكم : 454 – 501ﻫ / 1062- 1108 م)، كان محمود الآثار، شهمًا شجاعاً كريمًا عالماً، وهو أحد فحول شعراء الملوك، وذوي السبق والتقدّم في معانيه وبدائعه، حوى فيه الجودة والكثرة.
ومن شعره :

فَإِمَّـا الـمُلْكُ في شَـرفٍ وعـزِّ عليَّ التّـاجُ في أَعلَى السريـرِ

وإمَّـا الموتُ بين ظُبَـا الـعـواليفَلَستُ بخـالدٍ أبَـدَ الدّهـورِ

والأمير "يحي بن تميم بن المعِزّ" (حكم : 501 – 509ﻫ/ 1108 – 1116 م)، كان عادلاً كريمًا محبًا للفتح، أولى عناية فائقة بأسطوله، فزاد في عدد السّفن وكثر من عمليات الغزو في البحر، حتى اتقته جنوة وسردينية بالجزي.
واشتهر من أسرة "ابن باديس" عدة شخصيات في ميدان العلم والقضاء والنّضال السّياسيّ، ويذكر ابن خلدون (تـ 808 ﻫ / 1406 م)أنه اجتمع فيهم أربعون عمامة كلهم صاحب منصب، حازوا مناصب في التدريس والإفتاء والوظائف الدينية، وتكاد تكون وظيفة القضاء في قسنطينة قاصرة على علماء هذه الأسرة زمنا طويلا.
فخلال القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) تميز عالم من أعمدة الفقه المالكي في مدينة قسنطينة هو "حسن بن بلقاسم بن باديس" (أبو علي)، ذكره محمّد العبدريّ في رحلته وقال : « شيخ من أهْل العلم، يذكر فقها ومسائل ذو سمت وهيئة ووقار بقسنطينة..».
كذلك القاضي "حسن بن خلف الله بن حسن بن أبي القسام بن ميمون بن باديس" القيسي القسنطيني (تـ784 ﻫ/ 1382 م)، كان مشهورا بغزارة علمه، خطيبا، من فقهاء المالكية، روى عن ابن غريون وأخذ عن ابن عبد السلام وغيرهما من كبار العلماء.
واشتهر في مجال الأدب الصوفي بقسنطينة العالم المحدِّث الفهيه المالكي أبو علي "حسن بن أبي القاسم بن باديس" (تـ 787 ﻫ / 1385 م)، تولى بعد زيارته حواضر المشرق الكبرى منصب قاضي الجماعة بمدينة تونس سنة (778 ﻫ / 1376 م)، ثم أعفي منه فعاد لمدينة قسنطينة وشغل بها نفس الوظيفة. أدرك في حداثته مـا لم يُدركْه غيره في سنِّه، له شرح لكتـاب « أوجز السير لخير البشر » لأحمد بن فارس القزويني الرازي، و« تقـاليد ». وهو صاحب القصيدة السينية التي نظمها باسم « النفحات القدسية» في الشّيخ الزاهـد "عبد القـادر الجيلاني" (تـ 560 ﻫ/ 1165 م) أحد علماء الحنابلة، صاحب كتاب«الغنية » في مذهب أحمد.. ومطلع القصيدة :

ألاَ صلْ إلى بغداد فهي مُنّي النفس وحدث بها عمن ثوى باطن الرمس

وفي العهد العثماني برز قاضي قسنطينة الشهير الخطيب "أبو العباس أحمد" المدعو "حميدة بن باديس" (تـ 969 ﻫ/ 1562 م) قال عنه شيخ الإسلام عبد الكريم الفكون (تـ 1073 ﻫ/ 1662 م): « هو من بيتات قسنطينة وأشرافها وممن له الريّاسة والقضاء والإمامة بجامع قصبتها، وخَلَفُ سلف صالحين علماء حازوا قصب السبق في الدراية والمعرفة والولاية، وناهيك بهم من دار صلاح وعلم وعمل ».
و"أبو زكرياء يحيى بن باديس" ابن الفقيه القاضي "حميدة بن باديس" كان حييا ذا خلق حسن كثير التواضع، سالم الصدر، ذا تلاوة لكتاب الله. كان نائبا عن قضاة قسنطينة وخطيب جامع قصبتها.
والشّيخ المفـتي "بركـات بن بـاديس" دفين مسجد سيدي قموشبمدينة قسنطينة.
و"أبو عبد الله محمّد بن أبي زكرياء يحي بن باديس" قال عنه الشّيخ عبد الكريم الفكون : «كان يقرأ معنا على الشّيخ التواتيآخر أمره، وبعد ارتحاله استقل بالقراءة عليّ وهو من موثقي البلدة وممن يشار إليه ».
والشّيخ "أحمد بن باديس" الذي كانت بينه وبين الشّيخ عبد الكريم الفكون مودّة وإخاء، شغل في ابتداء أمره منصب كاتباً بين أيد أمراء قسنطينة، ثم تولى خطابةَ جامع قصبة المدينة، وبعد زمن يسيير ترقى للإفتاء ثم استقل به في زمنه.
ومن أسلاف الشّيخ ابن باديس المتأخرين جده لأبيه الشّيخ "المكي بن باديس" (تـ 14 ذي القعدة 1316 ﻫ / 26 مارس 1899 م)، كان قـاضيا مشهورا بمدينة قسنطينة وعضوا في المجلس العام وفي اللجنة البلدية،وقد احتل مقاما محترما لدى السكان بعد المساعدات المالية التي قدمها لهم خاصة أثناء المجاعة التي حلت بالبلاد فيما بين 1862 – 1868 م، ودعى إلى الاستشارة في الجزائر وباريس، وقد تقلد وساما من يد "نابليون الثالث".
وعمه "حميدة بن باديس" النائب الشهير عن مدينة قسنطينة أواخر القرن التاسع عشر الميلادي الذي اشترك مع ثلاثة من النواب في 10 أفريل سنة 1891 م على رفع تقريرا عن الوضع في الجزائر بمناسبة زيارة لجنة برلمانية فرنسية برئاسة "فرانك شقو" عضو مجلس الشيوخ الفرنسي، حضرت إلى الجزائر من أجل البحث وتقصي الأحوال فيها كي تقدمها بدورها إلى الحكومة الفرنسية وأعضاء البرلمان الفرنسي في باريس، وقد اشتمل التقرير على وصف دقيق لوضع الجزائر السّياسيّ والاقتصادي والاجتماعي والقضائي.
أبوه : هو "محمّد المصطفى بن باديس" (1868 – 1951 م) من ذوي الفضل والمروءة ومن حفظة القرآن الكريم. كان صاحب مكانة مرموقة بين جماعة الأشراف، تبوأ منصب النائب المالي والعَمَالي بقسنطينة، عضوا فيالمجلس الجزائري الأعلى وباش آغا شرفيا، ومستشـارا بلديا بمدينة قسنطينة. وشحت فرنسـا صدره "بوسام الاحترام" من رتبة أوفيسي (ضابط). ولوالد "ابن باديس" الفضل في إنقاذ سكان منطقة واد الزناتيمن الإبـادة الجماعية سنة 1945 م على إثر حوادث 8 مـاي المشهورة. وقد اشتغل كذلك بالفلاحة والتجارة، وأثرى فيهما.
أمـه : هي "زهيرة بنت علي" (من مواليد 1869 م)، كريمة من كرائم أسرة "ابن جلول" المعروفة بالعلم والصلاح والثراء في قسنطينة، وهي من فروع قبيلة "بني معاف" المشهورة في جبال الأوراس.

ومن أبرز شخصيات هذه الأسرة "أحمد الزواوي بن جلول" أحد أعيان مدينة قسنطينة في أواخر القرن 18 م ورفيق "صالح بن مصطفى باي" أشهر بايات الشرق في العهد العثماني (حكم 1185 – 1205 ﻫ / 1771 – 1791 م)، وتذكر المصادر أنه تزوج ابنة "بن جلول" بعد توليه الحكم، لما بينهما من صداقة قديمة.
وكذلك الدكتور محمد الصالح بن جلول(1893 – 1985 م) ابن خال الشيخ ابن باديس، وهو من أقطاب النضال السياسي وممثل النخبة المثقفة إبان الاستعمار الفرنسي، فقد كان عضوا في أول برلمان تأسيسي، ومستشارا، وعضوا في مجلس الشيوخ حيث كانتدعوته صريحةإلى المساواة بين الجزائريين والفرنسيين في كل المجالات.
هذا وقد أثمر زواج السيدة "زهيرة" مع "مصطفى بن باديس" تسعة أولاد هم : عبد الحميد، المولود (المدعو زبير)، محمد العربي، سليم، عبد المليك، محمود وعبد الحق، ونفيسة والبتول.
المصدر : كتاب الإمام عبد الحميد بن باديس رائد النهضة العلمية والإصلاحية في الجزائر (1889-1940) لـ : عبد المالك حداد.
عن موقع الشيخ عبد الحميد ابن باديس




الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى
زميل ابن باديس في قيادة الحركة الإصلاحية، ونائبه في رئاسة جمعية العلماء، ورفيق نضاله لتحرير عقل المسلم من الخرافات والبدع.
ولد عام 1889م في قرية (سيدي عبد الله) من نواحي (سطيف) التابعة لمدينة قسنطينة.
تلقى تعليمه الأوَّلي على يد والده وعمه؛ فحفظ القرآن ودرس بعض المتون في الفقه واللغة.
غادر الجزائر عام 1911 ملتحقاً بوالده الذي كان قد سبقه إلى الحجاز، وتابع تعليمه في المدينة، وتعرف على الشيخ ابن باديس عندما زار المدينة عام 1913، غادر الحجاز عام 1916 قاصداً دمشق، حيث اشتغل بالتدريس، وشارك في تأسيس المجمع العلمي الذي كان من غاياته تعريب الإدارات الحكومية، وهناك التقى بعلماء دمشق وأدبائها، ويتذكرهم بعد ثلاثين سنة من عودته إلى الجزائر فيكتب في (البصائر) العدد 64 عام 1949:
(ولقد أقمت بين أولئك الصحب الكرام أربع سنين إلا قليلاً، فأشهد صادقاً أنها هي الواحة الخضراء في حياتي المجدبة، وأنها هي الجزء العامر في عمري الغامر، ولا أكذب الله، فأنا قرير العين بأعمالي العلمية بهذا الوطن (الجزائر) ولكن…مَن لي فيه بصدر رحب، وصحب كأولئك الصحب؛ ويا رعى الله عهد دمشق الفيحاء وجادتها الهوامع وسقت، وأفرغت فيها ما وسقت، فكم كانت لنا فيها من مجالس نتناقل فيها الأدب، ونتجاذب أطراف الأحاديث العلمية …).
فى عام 1920 غادر الإبراهيمي دمشق إلى الجزائر، وبدأ بدعوته إلى الإصلاح ونشر العلم في مدينة (سطيف)، حيث دعا إلى إقامة مسجد حر (غير تابع للإدارة الحكومية) وفي عام 1924 زاره ابن باديس وعرض عليه فكرة إقامة جمعية العلماء، وبعد تأسيس الجمعية اُختِير الإبراهيمي نائباً لرئيسها، وانتدب من قِبل الجمعية لأصعب مهمة وهى نشر الإصلاح في غرب الجزائر وفى مدينة وهران وهي المعقل الحصين للصوفية الطرقيين، فبادر إلى ذلك وبدأ ببناء المدارس الحرة، وكان يحاضر في كل مكان يصل إليه، وهو الأديب البارع والمتكلم المفوَّه، وامتد نشاطه إلى تلمسان وهى واحة الثقافة العربية في غرب الجزائر وقامت قيامة الفئات المعادية من السياسيين والصوفيين وقدموا العرائض للوالي الفرنسي؛ يلتمسون فيها إبعاد الشيخ الإبراهيمي، ولكن الشيخ استمر في نشاطه، وبرزت المدارس العربية في وهران.
وفي عام 1939 كتب مقالاً في جريدة (الإصلاح)؛ فنفته فرنسا إلى بلدة (أفلو) الصحراوية، وبعد وفاة ابن باديس انتخب رئيساً لجمعية العلماء وهو لا يزال في المنفى ولم يُفرج عنه إلا عام 1943، ثم اعتقل مرة ثانية عام 1945 وأفرج عنه بعد سنة.
وفى عام 1947 عادت مجلة (البصائر) للصدور، وكانت مقالات الإبراهيمي فيها في الذروة العليا من البلاغة ومن الصراحة والنقد القاسي لفرنسا وعملاء فرنسا.
يقول عن زعماء الأحزاب السياسية: "ومن خصومها (أي الجمعية) رجال الأحزاب السياسية من قومنا من أفراد وأحزاب يضادّونها كلما جروا مع الأهواء فلم توافقهم، وكلما أرادوا احتكار الزعامة في الأمة فلم تسمح لهم، وكلما طالبوا تأييد الجمعية لهم في الصغائر – كالانتخابات – فلم تستجب لهم، وكلما أرادوا تضليل الأمة وابتزاز أموالها فعارضتهم".
ودافع في (البصائر) عن اللغة العربية دفاعاً حاراً: "اللغة العربية في القطر الجزائري ليست غريبة، ولا دخيلة، بل هي في دارها وبين حماتها وأنصارها، وهي ممتدة الجذور مع الماضي مشتدة الأواصر مع الحاضر، طويلة الأفنان في المستقبل" .
واهتمت (البصائر) بالدفاع عن قضية فلسطين؛ فكتب فيها الإبراهيمي مقالات رائعة.
عاش الإبراهيمي حتى استقلت الجزائر، وأمّ المصلين في مسجد (كتشاوة) الذي كان قد حُوّل إلى كنيسة، ولكنه لم يكن راضياً عن الاتجاه الذي بدأت تتجه إليه الدولة بعد الاستقلال؛ فأصدر عام 1964 بياناً ذكر فيه: " إن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تنبعث من صميم جذورنا العربية الإسلامية لا من مذاهب أجنبية".
تُوفي – رحمه الله – يوم الخميس في العشرين من أيار (مايو) عام 1965.
بعد أن عاش حياة كلها كفاح لإعادة المسلمين إلى دينهم القويم؛ فجزاه الله خيراً عن الإسلام والمسلمين.




الشيخ العربي التبسي رحمه الله

مولده و نشأته:

هو العربي بن بلقاسم بن مبارك بن فرحات الجدري التبـسي ، وأمه هي السيدة آمـنة بنت عبيد بن فرحـات الجدري التبسي المولود بدوار اسطح من أحواز بلدية العقلة دائرة الشريعة – الواقعة في الجنوب الغربي من ولاية ومدينة تبسة – سـنة 1891م – 1308هـ .
وكان يعرف في سجلات الإدارة الفرنسية البلدية والأمنية بلقب جدري وفرحات ، واشـتهر بلقب العربي التبسي ، وكان العربي وحيد والديه فلم ينجباه إلاّ بعد عقد من زواجهما .
ولما بلغ العربي قرابة الست سـنوات توفي والده بلقاسـم وهو في عقده الخامس ، ليصبح العربي يتيما منذ فجر طفولته ، وسرعان ما تزوج عمه عمار من أرملة أخيـه بلقاسـم على عـادة وأعراف قبيلة النمامشة وسائر القبائل الجزائرية ، فكان له – باعتراف أخيه – نعـم الأب العطوف الرحيم ، معوضا ابن أخيه حرمان عاطفة الأبوة الذي فقده بفقده لأبيه .
وقد رزق العربي – بعد زواج أمه بعمه عمار – بخمسة إخوة هم: ( الحفصي . البشير . بلقاسـم .الهادي . عبد المجيد ) .
وأعمامه : ( الحفناوي ، و الصادق ، و مسعود ، و أحمد ، محمد ، عثمان ) – رحمهم الله – كانوا يحفظون كتاب الله وكانت خيمتهم تسمى بخيمة القرآن حيث يتولى أعمامه – بالإضافة إلى مهامهم الزراعية والرعوية والأمنية والتجاريـة – تحفيظ أبناء العشيرة كلها القرآن الكريم، وكذلك كان أبوهم مبارك جد الشيخ العربي ، الذي كان حافظة للقرآن الكريم وعالما بالعلوم العربية والدينية في قومه .
طلبه للعلم:
نشأ العربي التبسي في عشيرته "الجدور" التي كانت تعتز بخيمة والده وجده وأعمامه القرآنية، وفي تلك الخيمة القرآنية المباركة حفظ العربي التبسي سـور القرآن الكريم الأولى على يد والده أولا، ثم على يد عمه عمار ثانيا وهو دون سن العاشرة .
وقد رأى عمه فيه أمارات النجابـة ومخايل الذكاء فتركــه عهدة عند الشـيخ الطيب بـن الحفناوي الرشـاشـي الزواوي في زاوية ( أولاد رشـاش بالزوّي ) ليحفظ في زاويته وعلى يديه القرآن الكريم فمكث عنده سـنتين كاملتين ، ليعود بعدها إلى بلدته "اسطح "وقد حفظه كاملا وسـنه تقارب الثالثة عشرة ، وذلك أواخر سنة 1904م .
يمكن تقسـيم مراحل طلبه للعلم إلى مايلي :
1 – المرحلة التعليمية الأولى ( 1895 – 1904م )
وتقسم هذه المرحلة بدورها إلى فترتين رئيستين هما :
القسم الأول ( 1895 – 1902م )
وتبدأ هذه المرحلة وهـو يتلقى القرآن في كتاب عشـيرته في خيمة جـده وعمـه القرآنية ، إذ تلقى السور القرآنية الأولى عندهما ، ولتنتهي وعمر العربي عشر سنوات تقريبا سنة 1901م .
القسم الثاني ( 1902 – 1904م )
وتبدأ هذه المرحلة منذ أن عهد به عمه إلى الشـيخ الطيب بن الحفناوي الزواوي في زاوية أولاد رشاش بالزوي ليمكث عنده في زاويته سنتين وبضعة شهور وليحفظ على يديه القرآن الكريم .
2 – المرحلة التعليمية الثانية ( 1904 – 1909م )
وبعد عودتـه إلى دوار اسـطح قـرر الشـيخ الطيب الرشـاشـي أخـذ تلميذه معه إلى زاويـة" الخنقة" المعروفة بزاويـة" خنقـة سـيدي ناجي" ، أو "بخنقة الليانـة " بالقرب من مدينة بسـكرة ، ومكث فيها مدة سـت سنوات أتقن خلالها حفظ القرآن بالقراءة المغربية، وتعلم أيضا مبادئ العلوم العربية والدينية، وليظل في الزاوية طالبا للعلم إلى نهاية سنة 1909م ، وفي زاوية الخنقة قرأ على يد الشيخين الفاضلين : سيدي حامد مدرس الفقه والعربية ، وسيدي سالم مدرس القراءات .
3 – المرحلة التعليمية الثالثة ( 1909 – 1912م )
وبتوصية من أساتذته في زاوية الليانة انتقل ليزاول دراسته في زاوية سيدي مصطفى بن عزوز النفطي الجريدي الرحماني سنة 1910م بالجريد التونسي جنوبا .
وبها حفظ متون العقيدة وعلم الكلام والمنطق والفقه وعلم الأصول واللغة العربية والأدب شعره ونره وبلاغته .. فأتقن متونها من "المكودي ، والأجرومي ، وابن عاشر ، ومتن سيدي خليل .. "
ودرس على يد كبارعلماء الزاوية أمثال الشيخ إبراهيم بن الحداد والشيخ محمد بن أحمد النفزاوي والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ التابعي بن الوادي، وغيرهم .
وبزاوية "نفطة" قضى الشيخ العربي ثلاث سـنوات وبضعة شهور ليعود بعدها إلى "دوار اسطح "في صيف سنة 1912م منتزعا توصية من شـيوخه في الزاويـة تزكيـة للالتحاق بالجامعة الزيتونيـة بتونـس ،نظرا لما رأوا فيه من مخايل الفطنة والنباهة والذكاء والاستقامة وحب العلم والإرادة في طلبه .وهو ما حصل له بالفعل ليجد نفسه طالبا في جامع الزيتونة المعمور .
3 – المرحلة التعليمية الرابعة (1913 – 1919م )
التحق العربي بجامع الزيتونة المعمور بتوصية من شيوخه النفطيين الجريديين الرحمانيين أواخر سـنة 1913م – 1332هـ ، وانظم إلى طلبته فنال شـهادة الأهلية سـنة 1915م – 1334هـ بعد سـنتين من الدراسة والتحصيل، ثم نال شهادة التحصيل سنة 1917م 1336هـ ، واستمر في دراسته لينال بعدها شهادةالتطويع التي تركها سـنة 1919م – 1338هـ بسـبب هجرته إلى مصر ، ولينالها عام 1345هـ – 1927م بعد عودته من مصر ودراسته بجامعة الأزهر وليحمل العالميتين : ( عالمية الأزهر الخاصة بالغرباء 1925م – 1343هـ وعالمية الأزهر الكبرى سنة 1927م – 1345هـ ) .
وهكذا ينال الشـيخ العربي من جامع الزيتونة المعمور شـهاداته العلمية الثلاث : ( الأهلية 1915م والتحصيل 1917م والتطويع 1927م ) .
وكان الشيخ العربي قد انتخب من قبل زملائه الجزائريين في الدراسـة في جامع الزيتونة ليشغل لهم منصب الكاتب العام لجمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين خلال سنوات ( 1914- 1919م ) ، ومن زملائه الذين درس معهم الشيخ مبارك الميلي . ومحمد السعيد الزاهري السنوسي .
5 – المرحلة التعليمية الخامسة ( 1920 – 1927م )
انتقل العربي من تونس إلى مصر أواخر 1919م ، وهو على أبواب اجتياز امتحان شهادة التطويع العالية بالجامعة الزيتونية ، والتي بها سيختم بها دراسته الجامعية على متن باخـرة تجارية فرنسية قديمة متجهة إلى مصر ، متخفيا في إحدى مقصوراتها ، ونـزل متخفيا في ميناء الإسـكندرية ، وليـس معه من النقود شيء وليلتحق بالجامع الأزهر برواق الطلبة المغاربة الذين كانـوا يعيشون من بـر وأموال أوقاف المسلمين الجزائريين ومن الخيرين بمصر. وقد لاقى من شيخ الرواق والمسؤول عنه ومن سائر إخوانه الجزائريين والمغاربة بالرواق الترحاب الكبير ، مما ساعده على الإقبال بانتظام في سلك الدراسة ، التي فاق فيها أقرانه المغاربة والمشارقة من الطلبة المسلمين .
جهوده الدعوية:
وقد بدأ الشيخ رحمه الله نشاطه التعليمي الإصلاحي بممارسته لمهنتي التربية والتعليم مدرسـا ، والإمامة والوعظ والإرشاد في جامع ومدرسة تبسة ، ثم في مسجد سيدي أبي سعيد لاحقا.
فبعد عودته من مصر عام 1927م كان ينظم في مسجد سيدي أبي سعيد دروسـا دينية دعوية يومية بعـد صلاة العشـاء في : الحديث والتفسير والفقه والسيرة والتاريخ الإسـلامي، تناسب مستوى عامة الناس من سكان تبسة.كما لبى الشيخ و الشيخ محمد البشير الإبراهيمي والشيخ مبارك بن محمد الميلي والشيخ الطيب العقبي والشيخ السعيد الزاهري و الشيخ محمد بن خير الدين دعوة الشيخ ابن باديس في سنة1928 م قصد تكوين جمعية دينية "جماعة الرواد" لبداية العمل الإصلاحي الجمعي في الجزائر.
وظل الشيخ العربي بتبسة مدرسا وواعظا ومرشدا بمسجد أبي سعيد متحديا العراقيل الاستعمارية من جهة ، وعراقيل الطرقيين ،إلى أن دعاه الشيخ ابن باديس لإدارة مدرسة سـيق الابتدائية أواخر سنة 1929م ، فترك الشيخ العربي بلدته تبسة مكرها .
وقد شكل الشيخ العربي أثناء تواجده بمدينة سـيق طليعة إصلاحية، قوامها جماعة إرشادية تعمل لصالح الدين والجزائر، وظل الشيخ معلما ومدرسا ومديرا وواعظا وإماما وخطيبا وقاضيا بين الناس وفي عام1933 عاد إلى مدينته تبسة بعد إلحاح أهلها عليه، وأسسوا الجمعية والمدرسة والمسجد الجامع ـــالذي إشترطهم عليهم مقابل العودة .
وقد كان الشيخ العربي مرجعية دينية وعلمية وتربوية وأخلاقية لأهل تبسة، فبمشاركته حققت الجمعية الخيرية لأهل المدينة بناء مدرسة تهذيب البنين والبنات سنة 1934 ،وفي سنة 1936م بوشـر ببنـاء المسجد الجامع الحر ، الذي صار قبلة لكل أهل الإصلاح من سكان المدينة والقادمين من الأرياف ، وأفل نجم المسجدين أبي سعيد والعتيق .
كما أسند للشيخ رحمه الله إدارة معهد عبد الحميد بن باديس (1947-1956م) طيلة عقد من الزمان، يعينه في إدارته الشيخ محمد خير الدين البسكري،إلى حين غلق الإدارة الاسـتعمارية لمدارس الجمعية عامة ولمعهد عبد الحميد بن باديـس يوم 21/11/1956م ، وتشتت طلابه ، ومنها انتقل الشيخ إلى الجزائر العاصمة .
أما بالنسبة لعمله مع جمعية العلماء المسلمين،و مع تأسيسها سنة 1931م ،عُيِّن نائبا للكاتب العام سنة 1932م،ليعيّن كاتبا عاما للجمعية من سنة 1936م إلى1946م و الذي نال فيه منصب نائب الرئيس،و بقي الشيخ رحمه الله نائبا للرئيس حتى بعد رحيل البشير الإبراهيمي إلى المشرق العربي يوم 07/03/1952م
ظل الشيخ العربي يشغل منصب نائب رئيس الجمعية حتى بعد جلستها الإدارية المنعقدة بالجزائر العاصمة أيام27/28/29/ سبتمبر1954م لاعتبارات إصلاحية لها صلة بتماسك الجمعية أثناء غيابه في موسم
الحج إلى غاية حل الجمعية .
و فاته رحمه الله:
اكتنف الغموض ظروف اختطاف الشيخ العربي كما اكتنف الغموض أيضا حيثيات اختفائه عن مسرح الحياة ، وبين اتهـام وتفنيد وتكذيب الأطراف المعنية باختطافه ضاعت حقيقة وفاته واسـتشـهاده ، اعتمد الدارسون في التأريخ لوفـاة الشيخ على بلاغ جمعية العلماء المنشور في جريدة المقاومة، الذي يعد اختفاءه ابتداء من ليلة الخميس 04/رمضان/1377هـ الموافق لـ 04/04/1957م وقد روى الشيخ محمد علي دبوز طريقة وفاة الشيخ العربي بأنه ألقي به من الطائرة في البحر.
المصدر : منارات من شهاب البصائر للشيخ العربي بن بلقاسم التبسي للدكتور أحمـد عيساوي




الشيخ مبارك الميلي رحمه الله

نسبه و نشأته رحمه الله :
هو مبارك بن محمد إبراهيمي الميلي الجزائري، ولد رحمه الله سنة 1898م الموافق لـ1316هـ تقريبا في "دوار أولاد مبارك" من قرى الميلية من أحواز قسنطينة.
نشأ الشيخ مبارك بالبادية نشأة القوة و الصلابة و الحرية ، و ربي يتيماً،فبعيد وفاة والده محمد ، توفيت أمه تركية بنت أحمد بن فرحات حمروش ، فكفله جده "رابح " ثم عماه "علاوة" و" أحمد".
طلبه للعلم:
نزح الشيخ رحمه الله إلى بلدة "ميلية" التي كانت تستقطب طلاب حفظ القرآن بصدر رحب و كرم مشكور و هناك حفظ القرآن ، و زاول الدروس العلمية الابتدائية على الشيخ الزاهد "ابن معنصر الميلي"و قد أهلته هذه الدروس للالتحاق بدروس الشيخ العلامة "عبد الحميد ابن باديس" بالجامع الأخضر، وهناك وجد بغيته في دروس الشيخ الحية و تلقى منه الأفكار الإصلاحية بحماس و إيمان .
التحق الشيخ مبارك بجامع الزيتونة بتونس و انخرط في سلك تلاميذه و أخذ عن جلة رجال العلم و المعرفة به ممن انتفع بهم أستاذه ابن باديس رحمه الله ، و قد كان هناك في تلك السنوات التي قضاها مثلا للطالب المكب المجتهد ، فرجع من تونس بشهادة التطويع سنة 1924 م .
أعماله الدعوية :
قال الأستاذ عبد الحفيظ الجنان رحمه الله :
" و بعد تحصيله على شهادة التطويع رجع إلى قسنطينة ، حاملا معه "مسودة قانون أساسي " ليحث الطلاب و أهل العلم على إنشاء مطبعة كبرى تطبع المخطوطات ، وتنشر الجرائد و المجلات لتحي أمته حياة عملية لا نظرية ، ووجد أستاذه الشيخ عبد الحميد قد بعث بقلمه صيحة مدوية في أرجاء الوطن داعية إلى الخلاص من ربقة الشرك و التحرير من أغلال العبودية فأصدر جريدة "المنتقد " ثم أخرج بعدها "الشهاب " الأسبوعي ، وظل كذلك يكافح وحده إلى أن رفع مبارك قلمه و انضوى تحت لواء أستاذه بالأمس و صاحبه في الحال ،و قال له :ها أنا ذا فكان الفتى المقدام و المناصر الهمام "[1].
و في سنة 1926م انتقل إلى الأغواط بدعوة من أهلها ، و زرع فيهم بذرة العلم الصحيح ، وقضى في هذه المدينة سبع سنوات أسس فيها مدرسة " مدرسة الشبيبة " و هي من أولى المدارس العصرية و النادرة في ذلك الوقت ، كما أسس بعدها "الجمعية الخيرية "لإسعاف الفقراء و المساكين و الأيتام .
و كان له دروس ليلية في الوعظ و الإرشاد يلقيها بالمسجد على عامة الناس ، كما كان يخرج إلى "الجلفة "شمالاً، و "بوسعادة "شرقاً و "آفلو" غرباً لإلقاء دروس يدعوا فيها بالتمسّك بالكتاب و السنة و نفض غبار الجهل و الكسل و محاربة البدعة في الدين.
و أنشأ الشيخ رحمه الله في مدينة الأغواط حركة علمية قوية و سير منها البعثات الدراسية نحو " جامع الزيتونة " على غرار ما كان يفعل أستاذه ابن باديس رحمه الله .
و في سنة 1931 م أسست "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين "و كان الشيخ مبارك عضواً في مجلس إدارتها و أمينا لماليتها .ثم رجع الشيخ رحمه الله إلى موطن الصبا "ميلة" فأنشأ فيها جامعا كان خطيبه و الواعظ المرشد فيه ، ومدرسة " الحياة "التي أشرف على سير التعليم فيها ، ونادي " الإصلاح "الذي يحاضر فيه .ثم أسند له رئاسة تحرير جريدة " البصائر" الأسبوعية بعد الشيخ الطيب العقبي رحمه الله تعالى.و في سنة 1940م لما توفي الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، عُين خلفا له في إدارة شؤون " الجامع الأخضر" و الإشراف على الدروس فيه.
وفاته رحمه الله تعالى:
بعد خروج الشيخ مبارك رحمه الله من " الأغواط "حوالي سنة 1933 م ، ابتلي بداء عضال و مرض مزمن مضني " داء السكري " ، و قد حاول الشيخ علاجه غير مرة في الجزائر بل وخارجها ، فسافر من أجله إلى " فيشي "بفرنسا ،لكنه سرعان ما عاوده ، كما وقع له عند سماعه خبر وفاة شيخه العلاّمة ابن باديس في إبريل 1940 م قال رحمه الله :"عندما سمعت لدى وصولي إلى قسنطينة بموته شعرت أن الدورة الدموية أصبحت تسير في عكس الاتجاه المعهود ، و عرفت في الحين أن داء السكري قد عاودني و أنه لن يفارقني حتى يقضي عليّ"[2]
و كذلك قُدِّر، فقد أخذت صحته في الانهيار حتى وافاه الأجل يوم 25 صفر 1364هـ الموافق لـ 9 فيفري 1945م وشيعت جنازته من الغد في موكب مهيب و في مقدمتهم الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى ، ودفن في مقبرة الميلة رحمه الله تعالى.
تلاميذه :
كانت حياة الشيخ مبارك رحمه الله تعالى مباركة طيِّبة ، فقد أمضاها في الجهاد والتضحية و التعليم و التربية و التثقيف و التزكية ، و في الوعظ و الإرشاد ، و الكتابة و التأليف ،و كانت الأيام التي قضاها بالأغواط هي أخصب أيامه في الإنتاج بأنواعه ، وكان من ثمارها أن تخرج على يده جمع عظيم من طلبة العلم و حملته ، وأنصار الإسلام و دعاته ، ومنهم:
ـ الشيخ أبو بكر الأغواطي.
ـ الأستاذ أحمد قصيبة .
ـ الإمام أحمد شطة .
ـ الشيخ عمر النصيري.
يقول الأستاذ أحمد بن ذياب رحمه الله تعالى:
"" و لقينا ـ و نحن تلامذة ـ بتونس أبناء الشيخ مبارك الميلي من خريجي مدرسة الأغواط، فكنا نشيم في مخايلهم آيات جلال مربيهم ،ونلمح في قرائحهم آثار المقتدر الذي نور عقولهم ، وصفى أذهانهم ن فكنا نعجب بهم ،و نتمنى لو أتيح لنا أن نروى من الفيض الذي منه نهلوا ""[3]
آثاره رحمه الله:
على الرغم من عمره القصير ـــ47 عاماًـــ ،وملازمة المرض له واشتغاله بتأليف الرجال عن تصنيف الكتب ـ فقد خلف الشيخ مبارك رحمه الله تعالى سِفْرين نافعين :
الأول :" تاريخ الجزائر في القديم و الحديث " في جزئين [4]، و هو كتاب حافل ، أثنى عليه غير واحد، منهم شيخه ابن باديس رحمه الله الذي أرسل إليه برسالة ــ بتاريخ 15/1/1347 هـ جاء فيها:
" وقفت على الجزء الأول من كتابك ــ تاريخ الجزائر في القديم و الحديث ــ، فقلت :ــ لو سميته حياة الجزائرــ لكان بذلك خليقا ، فهم أول كتاب صور الجزائر في لغة الضاد صورة تامة سويّة ، بعدما كانت تلك الصورة أشلاء متفرقة هنا و هناك ,و لقد نفخت في تلك الصورة من روح إيمانك الديني و الوطني ما سيبقيها حية على وجه الدهر ، تحفظ اسمك تاجاً لها في سماء العُلا ، و تخطه بيمينها في كتاب الخالدين .
أخي مبارك,
إدا كان من أحيا نفساً واحدة فكأنما أحيا الناس جميعاً ، فكيف من أحيا أمة كاملة ؟أحيا ماضيها و حاضرها و حياتها عند أبنائها حياة مستقبلها ، فليس و الله كفاء عملك أن تشكرك الأفراد و لكن كفاءه أن تشكرك الأجيال " انتهت رسالته رحمه الله.
الثاني :" رسالة الشرك و مظاهره "[5] :و هو كتاب نفيس في بابه ،فريد في موضوعه ، لم ينسج على منواله ، و قد أقر المجلس الإداري لـ "جمعية العلماء ما اشتمل عليه ، و دعا المسلمين إلى دراسته و العمل بما فيه ، و حرّر هذا التقرير كاتبها العام الشيخ العربي التبسي رحمه الله تعالى بقلمه، فعدّها في أوليات الرسائل أو الكتب المؤلفة في نصر السنن و إماتة البدع ، تقر بها عين السنة و السنيين و ينشرح لها صدور المؤمنين ، و تكون نكبة على أولئك الغاشين للإسلام و المسلمين و من أحمرة المستعمرين الذين يجدون من هذه البدع أكبر عون لهم على استعباد الأمم ،فيتخذون هذه البدع التي ينسبها البدعيون إلى الدين الإسلامي مخدِّراً يخدِّرون به عقول بها الجماهير و إذا تخدرت العقول و أصبحت تروج عليها الأوهام وجدت الأجواء التي يرجوها غلاة المستعمرين للأمم المصابة برؤساء دينيين أو دنيويين يغشّون أممهم و يتاجرون فيها "[6]
كما ترك الشيخ رحمه الله تعالى مجموعة من المقالات القيمة و البحوث النافعة و التعليقات البديعة في جرائد و مجلات " جمعية العلماء المسلمين" كـ " المنتقد " و" البصائر " و "الشهاب" و غيرها.
بالاضافة إلى ذلك " الرسائل الخاصة " التي كانت متداولة بينه و بين إخوانه و التي تزيد عن مائتي رسالة .

المصدر : رسالة الشرك و مظاهره للشيخ مبارك الميلي


[1]
: البصائر ، العدد 27 من السلسلة الثانية.

[2]:انظر :مقدمة تاريخ الجزائر " (1/26ـ27) لمحمد بن مبارك الميلي.

[3]:انظر مجلة " الثقافة " ،العدد (37).

[4]:و لم يتمه ،بل توقف عند ابتداء الدور العثماني ، ثم أضاف نجله "محمد بن مبارك الميلي جزءاً ثالثاً في الدور المذكور ،و الكتاب يحتاج إلى تكميل.

[5]:نشر الفصول الأولى في جريدة " البصائر " ثم جمعها في كتاب ، طبع لأول مرة في المطبعة الإسلامية الجزائرية سنة 1937 م ثم أعيد نشره أكثر من مرة .

[6]:رسالة "الشرك و مظاهره" ــ ص7ــ.
عن موقع نور الهدى




الشّيخ الطّيِّب العُقْبِي رحمه الله

هو الطيب بن محمد بن إبراهيم، ينتهي نسبه إلى قبيلة أولادعبد الرحمن الأوراسية، ولد في 15 جانفي 1890 قرب بلدة”سيدي عقبة”وإليها ينسب. وقضىالشيخ سنواته الأولى من عمره في بلدة سيدي العقبة وبها نشأ وترعرع، في جو محافظبعيد عن حضارة المستعمر وتقاليده.
ولما بلغ سن الخامسة من عمر هاجرت أسرة الشيخالطيب العقبي كلها إلى الحجاز، وذلك أثناء حملات الهجرة الواسعة التي فرقتالجزائريين في بلدان عربية مختلفة من الحجاز ومصر والشام وغيرها، هجرة كان سببهاظلم المستعمر الغاشم وتعسفه ومن ذلك محاولته فرض التجنيد الإجباري على الجزائريينفي صفوف الجيش الفرنسي.
واستقرت أسرته في المدينة النبوية حيث نشأ الشيخنشأته العلمية، فحفظ القرآن الكريم على يد أساتذة مصريين، ودرس العلوم الشرعية فيالحرم المدني على يد مشايخ ذلك الزمان ومنهم حمدان الونيسي شيخ ابن باديس الذي هاجرإلى الحجاز عام 1911. وكانت المدينة قبل الحرب العالمية الأولى تغص بحلق العلم،وكانت أيضا تتوفر على مكتبات جامعة كثيرة كما حكاه الإبراهيمي، ورغم أن والده كانقد توفي وهو في سن الثالثة عشر، فإنه لم ينقطع عن طلب العلم، وقد كان لأمه أثر واضحفي تفريغه للطلب حيث أعفته من مهام القيام بشؤون الأسرة مع أنه كان الابن الأكبروكلفت بذلك أخاه الأصغر، وكان ذلك من عناية الله تعالى بهذا الرجل العظيم الذين كانيعد لأن يكون من كبار المجددين في هذا الزمان.
ثم إنه سرعان ما تحول من طالبإلى معلم في الحرم النبوي، وكاتب صحفي متميز حتى عد أحد دعاة النهضة العربية فيالحجاز، وقد أكسبته كاتباته شهرة اخترقت الآفاق، وصداقة مع كبار المصلحين في ذلكالزمان وعلى رأسهم شكيب أرسلان ومحب الدين الخطيب.
وعند قيام ثورة الشريفحسين نفاه الأتراك عام 1916 إلى “الروم ايلي” فـ”الأناضول” بحجة معارضة العثمانيين،وعند انتهاء الحرب العالمية عاد إلى مكة حيث أكرمه الشريف حسين وأسند إليه رئاسةتحرير جريدة القبلة، وكذا إدارة المطبعة الأميرية في مكة خلفا للشيخ محب الدينالخطيب.
العودة على الوطن
مع تلك المكانة التي أحرزهاعند الأشراف الهاشميين إلا أنه قرر الرجوع إلى الجزائر عام 1920، وكان سبب رجوعهالظاهر الذي صرح به، هو عدم الاستقرار الذي خيم على الحجاز في تلك الأيام نتيجة الصراع السعودي الهاشمي، إضافة إلى الاعتداء الذي وقع على أملاك عائلته في مسقط رأسه، وهذا الأخير كان ذريعة لابد من تقديمها للإدارة الفرنسية ليحصل على موافقتها بالدخول إلى الجزائر.
جاء رحمه الله تعالى إلى الجزائر وانتظم أمر تلك الأملاك فهل عاد إلى الحجاز؟ لا لم يعد ولا تفرغ لإدارة تلك الأملاك التي جاء من أجل استرجاعها، بل قرر الاستقرار في أرض الوطن وانطلق في خطته الإصلاحية التي كانجاء من أجلها، حيث يحكي بعضهم أن شكيب أرسلان هو من أشار عليه بالذهاب إلى الجزائر من أجل بعث الأمة الجزائرية وبث الدعوة الإصلاحية بها، ويحتمل أنه استقر بعدما عاين الوضع الذي آلت على الجزائر حيث وجدها غارقة في أوحال الشرك والبدع، والخرافات والضلالات، ووجد الجزائريين مستمعرين من طرف عدو صليبي غاشم ومستعبدين من طرف الطرقية الذي استغلوا جهل الأمة وأميتها.
ما استقر الشيخ وانتظمت الأمور حتى سلك مضمار الدعوة والتعليم وانطلق كالسهم، وقد تنوع نشاطه التعليمي وكان شاملا لجميع الطبقات ، فكان منها مجالس التكوين للطلبة وكان يدرس لهم الجوهر المكنون في البلاغة وقطر الندى في النحو، وكان منها مجالس الوعظ والتذكير للعامة التي كان يلقيها في مساجد المنطقة، وكان موضوع تدريسه التفسير، وقد اختار له الشيخ تفسير المنار للشيخ المجدد محمد رشيد رضا، كما درس أيضا السيرة النبوية والعقيدة الإسلامية، وكان منها المجالس الأدبية في «جنينة البايليك» أين كان يجري الحوار الأدبي يوميا في شتى أنواعه وألوانه ويحضره أدباء ومثقفون أمثال الأمين العمودي و محمد العيد آل خليفة وغيرهم.
وكما أيضا كان يغتنم المناسبات التي يجتمع فيها الناس كالولائم لدعوة الناس إلى التوحيد وإلى الرجوع إلى القرآن والسنة، ولم يغفل عن الرحلة إلى المناطق المجاورة حتى ذاع صيته وانتشرت دعوته في منطة الزيبان كلها ،فأعلن بذلك حربا عوانا على الطرقيين والخرافيين والجامدين الذين كانوا يتغذون منجهل الأمة.
وما إن انتشر نشاطه وذاع صيته حتى سارعت السلطة الفرنسية إلى اعتقاله لتخوفها منه، فلبث في السجن قرابة شهرين، ثم أفرج عنه وخلي سبيله بعد وساطة أخواله وبعض وجهاء.
نشاطه الصحفي
وكان الشيخ حريصا على الكتابة في الصحف وكان يرى في العمل الصحفي الدور الأكبر في نهضة الأمة، واسمع إلى قوله في المنتقد (عدد5):« إن الجرائد في الأعصر الأخيرة هي مبدأ نهضة الشعوب ، والعامل القوي في رقيها، والحبل المتين في اتصال أفرادها، والسبب الأول في تقدمها، والصحافة هي المدرسة السيارة والواعظ البليغ، وهي الخطيب المصقع والنذير العريان لذوي الكسل والبطالة، وهي سلاح الضعيف ضد القوي، ونصرة من لا ناصر له، وهي تأخذ الحق وتعطيه، وترمي الغرض فلا تخطيه وهي المحامي القدير عن كل قضية حق وعدل».
لذلك ما إن جاء إلى الجزائر بدأ الكتابة في بعض الصحف التونسية نظرا للفراغ الذي وجده في الميدان الصحفي، ثم أسس بالاشتراك مع جماعته ببسكرة « جريدة صدى الصحراء » في 1925، ثم أسس جريدة الإصلاح عام 1927، واستمر صدورها في مدد متفرقة إلى سنة 1948.
ولما أنشأ ابن باديس جريدة المنتقد دعاه للمشاركة لبى ندائه ولم يتأخر ولما تأسست الشهاب بعدها كان العقبي من السباقين إلى تلبية دعوتها فنشر مقالاته الحارة وقصائده المثيرة التي تدور غالبا في فلك الإصلاح العقائدي، تلك المقالات التي كان توُصف بالمقالات النارية، لأنها كانت تهدم صروح ضلالات الطرقية صرحا صرحا وتكشف عن انحرافها عن الصراط المستقيم ومخالفتها جوهر الدين.
نشاطه بالعاصمة
في الوقت الذي تأسس فيه نادي الترقي في جويلية 1927، كانت شهرة العقبي قد اخترقت الآفاق فاتصل به أهل النادي ليكون مشرفا على النشاط فيه خطيبا ومدرسا ومرشدا، فقبل عرضهم وانتقل رحمه الله إلى العاصمة والتحق بنادي الترقي عام 1929، ولم يكن خافيا عليه أهمية نشر الدعوة والإصلاح في العاصمة وأثر ذلك على القطر كله، وقدرت محاضراته بهذا النادي بخمس محاضرات في الأسبوع،إضافة إلى الحلقات والندوات التي كان يعقدها من حين لآخر مع جماعة النادي والرحلات التي كان ينظمها في بعض الأحيان إلى المدن المجاورة من عمالة الجزائر.
ولم يكن نشاطه التعليمي مقتصرا على النادي بل كان يلقي دروسا في التفسير في المسجد الجديد بعد صلاة الجمعة وبعد عصر كل أحد، ومن نشاطاته في العاصمة إشرافه على مدرسة الشبيبة الإسلامية، وترأس الجمعية الخيرية الإسلامية، ودعا إلى إنشاء منظمة شباب الموحدين.
محنة الشيخ العقبي
وبعد مدة ظهرت نتائج دعوته ونشاطه حيث كثرت المدارس العربية الحرة في مدن عمالة الجزائر ، وصار تمسك الناس بالدين في العاصمة أمرا ظاهرا، فهجر الناس شرب الخمر والميسر ومواطنها، ورجع أكثرهم إلى بيوت الله بعد أن خلت منهم، وصاروا يحافظون على الصلوات وملازمين لدروس الشيخ، وتخلى كثير منهم عن خرافات وعقائد الطرقية، وتمكن العقبي بعلمه وأسلوبه وصدق لهجته من أن يجلب إليه كل طبقات المجتمع بما فيها طبقات المثقفين الثقافة الفرنسية من محامين وأطباء وغيرهم.
لقد أثارت هذه النتائج قلق المستعمرين في الجزائر وخارجها حيث أصبحوا يرونه يشكل خطرا كبيرا على كيان فرنسا حتى وصفته أحدى الجرائد الفرنسية بالنبي الجديد، فسلكوا مع الشيخ سبلا شتى بغرض إسقاطه وضرب دعوته، فكان أولها سبيلا لإغراء حيث عرض عليه منصب الإفتاء فرفض آثر أن يكون عالما حرا يجهر بالحق ويصدع بهفي كل زمان ومكان.
ومن خططهم أن أصدروا المنشور القاضي بغلق المساجد في وجه غير الرسميين وذلك في 16 فبراير 1933، ويقول أبو القاسم سعد الله:«وفي 24منه (فبراير) إلى شهر مارس جرت مظاهرات عنيفة بالعاصمة ضد منع الشيخ العقبي من إلقاء درسه في الجامع الجديد وتدخل الحكومة في الشؤون الدينية، وقد استعملت السلطات قوات الشرطة والرماة السنيغاليين وقناصة إفريقية ضد المتظاهرين واعتقلت كثيرا منهم ، ولم تهدأ المظاهرات حتى وعدت السلطات بالسماح للعقبي باستئناف دروسه. وبعد استقالات جماعية للنواب والعاملين في المجالس المحلية في يوليو 1933 …قام السيد كارد الحاكم العام بمراجعة بعض القرارات منها إلغاء قرار والي مدينة الجزائر ضد الشيخ العقبي». فلم يكن ذلك القرار ليعيق الشيخ رحمه الله ولا ليحبطه فإنه واصل مجاهدا وداعيا حيث وجد الرجال الذين يحوطونه بمساندتهم وتشجيعهم ويقفون معه في الشدائد.
ولما انظم الشيخ إلى المؤتمر الإسلامي في 1936مع ابن باديس والإبراهيمي ولعب فيه دورا بارزا، بلغ الأمر بالنسبة إليهم منتهاه، فحيكت مؤامرة مقتل المفتي كحول لإحباط مسعى المؤتمر وإسقاط الشيخ العقبي. فدسوا له من قتله، ونفذ جريمته يوم 2أوت، وادعى أن الشيخ العقبي هو من حرضه على قتله مع صاحبه عباس التركي، فاعتقل العقبي ورفيقه وزج بهما في السجن يوم 8أوت، فاحتشدت الجماهير وتجمعت تلقائيا احتجاجا على اعتقال الشيخ وصاحبه فكادت تحدث فتنة عمياء لولا أن توجه إليها العلماء بأن يواجهوا الصدمة بالصبر والتزام الهدوء والسكينة فامتثل الناس، قال الإبراهيمي:« وكان هذا أول فشل للمكيدة ومدبريها». فقضي في السجن ستة أيام بلياليها، ثم إن الجاني تراجع عن تصريحاته بعد أن قابل الشيخ وأنكر أن تكون له علاقة به فأفرج عنه، ووضع تحت المراقبة مع إمكانية التوقيف عند الضرورة. ثم لم تفصل المحكمة في القضية إلا بعد ثلاث سنوات حيث تمت تبرئة العقبي وصاحبه نهائيا.
إن تلك المؤامرة كان لها الأثر الواضح على المؤتمر الذي انسحب بعض السياسيين منه، وأما الجمعية والشيخالعقبي فلم يؤثر فيهم ذلك بتاتا، بل كانوا يروون في هذا الحدث سببا في زيادة التفاف الناس حول الجمعية وتعاطفهم معها، وزادت من شهرتها وصداها في الجزائر وخارجها، قال ابن باديس:« ولكنها كانت في حقيقتها نعمة عظيمة لا يقوم بها الشكر». وكذلك العقبي فإنه ظل ثابتا لم يتغير ولم يضعف (كما قال دبوز)، قال الإبراهيمي:«ومن آثار هذه الحادثة على الأستاذ العقبي أنها طارت باسمه كل مطار ووسعت له دائرة الشهرة حتى فيما وراء البحار».
دوره في جمعية العلماء
مع أن فكرة الجمعية ولدت في المدينة عندما التقى ابن باديس والإبراهيمي هناك عام 1913، فإن الشيخ العقبي كان ممن مهد لها ودعا إليها عبر صفحات الجرائد، بل ربما يكون أول منفعل ذلك في أكتوبر 1925 في جريدة المنتقد ، وقد الشيخ كان ممن حضر اجتماع قسنطينة عام 1928 الذي سماه محمد خير الدين اجتماع الرواد. وحضر المجلس التأسيسي للجمعية فينادي الترقي، وانتخب ضمن أعضاء مجلسها الإداري ، وعين نائب الكاتب العام، كما كان ممثل الجمعية في عمالة الجزائر . وكذلك تولى في ظل الجمعية رئاسة تحرير جرائدها السنة فالشريعة فالصراط، ثم جريدة البصائر من عددها الأول إلى العدد 83 الصادر في 30سبتمبر 1937م .
من أصول دعوته
الأصل الأول: ترتكز الدعوة الإصلاحية التي انتمى إليه الشيخ على الدعوة إلى توحيد الإله جل جلاله والتحذير من الشرك ومظاهره، هذا أمر اشتهر به الشيخ الطيبالعقبي، إلى درجة ارتباط النهي عن مظاهر الشرك عند أكثر العامة في منطقة الوسط باسمه، وقد كان ذلك ظاهرا في خطبه ودروسه وفي كتابته التي كان يملأ بها الجرائد السيارة في ذلك الوقت، حيث كان يوضح هذا التوحيد الذي أرسل به خاتم النبيين r بدلائل الكتاب والسنة، ويخاطب العقول ويهز الفطرة، أيها الناس ما هذا الذي أنتواقعون فيه تعبدون الأشجار تعبدون الأحجار وترجعون إلى الموتى لقضاء حوائجكم،وتتركون الإله الواحد القهار، ومما كان يتميز به الشيخ رحمه الله أنه كان يحاور ويجيب عن الشبهات المثارة في وجوه دعاة التوحيد، وكان لذلك أثر كبير في استجابة للناس لدعوة الإصلاح، ومن ذلك تلك المقالات التي كان يبثها في الشهاب بعنوان:”يقولون وأقول “، ونصوص الشيخ التي خلف في هذا المضمار كثيرة جدا، ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقتصر على جزء من قصيدته الشهيرة إلى الدين الخالص حيث يقول فيها:

لا أنــادي صاحب القبــر أغث أنت قطــب أنت غوث و سناد
قائمــا أو قاعــدا أدعــو بـــه إن ذا عنــدي شــرك وارتـداد
لا أناديـــه ولا أدعــو ســوى خالـق الخلـق رؤوف بالعبـاد
مـن لــه أسماؤه الحسنى وهل أحــد يدفــــع مــا الله أراد؟

مخلصــا ديني لـــه ممتثــلا أمــره لا أمــر من زاغ و حاد

الأصل الثاني : ومما عرف به الشيخ رحمه الله الدعوة إلى إحياء السنن وربط الأمة بكتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا أمر سار عليه جميع دعاة الإصلاح في ذلك الزمان، فكان دروسهم ومواعظهم التي يلقون مع اختلاف مواضيعها مرتبطة بكتاب الله تعالى،وما بحث في سيرة كل واحد منهم إلا وجدت موضوع دروسه هو التفسير ، تفسير كتاب الله تعالى الذي ابتعدت عنه أمة الإسلام فوقعت في مخالفة هدي النبيصلى الله عليه و سلموغرقت في أوحال البدع بل وفي مظاهر الشرك الذي لا يغفره المولى عز وجل، فكان منهج هؤلاء العلماء أنربط الأمة بكتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ينير لها الطريق ويبصرها بالحال التي آلت إليها ، والشيخ العقبي رحمه الله كان من أشد رجال الجمعية حرصا على اتباع السنن ونهيا عن البدع، ومن الأصول التي كان يقررها ويعيدها:« أن لا نعبد إلا الله وحده وأن تكون عبادتنا له إلا بما شرعه وجاء من عنده » السنة (عدد2). ومنها قاعدة كمال الدين التي هي منطلق محاجة كل مبتدع مبدل البصائر (عدد3). وقال مبينا أن الابتداع مضاهاة لله تعالى في شرعه فقال:«وإذا كان التشريع لله وحده ، فليس لكائن من كان أن يشرع لنفسه أو لغير نفسه من الدين ما لم يأذن به الله مهما كانت مقاصده في هذا التشريع ومهما ادعى من ابتغاء قربة ووسيلة» ثم بين أنه لا ينفع هؤلاء المبتدعين أن تكون نية أحدهم حسنة، « لأن النية مهما كانت حسنة لا تغير من حقائق الأشياء » البصائر (عدد4). ومما تميز به نقد العقبي للطرقيين فضح مقاصدهم التي تبين أن كثيرا منهم لم تكن له شبهة دينية، وإنما الذي وجههم هذه الوجهة المخالفة للإصلاح والتي جعلتهم يرضون بالحال التي آلت إليها الأمة هو حب الدنيا والمال، وكان مما قال:

وشيخهم الأتقى الولي بزعمه إذا ما رأى مالا أمال له عنقا
وذلك أقصى سؤله ومرامه متى ناله أولاه من كيسه شقا
أولئك عباد الدراهم ويلهم سيمحقهم ربي وأموالهم محقا

الأصل الثالث: ومن الأمور التي ينبغي الوقوف عندها منهج الإصلاح الذي سار عليه الشيخ، وقد وضحه رحمه الله في افتتاحية العدد الأول من الإصلاح:« وأهم كل مهم وأولاه بالتقديم عندنا مسألة العقائد والكلام على تصحيحها، فلا إصلاح ولا صلاح إلا بتصحيحها، فقد أفسد الناس من أمرها ما أضر بالعامة وسرت العدوى منه حتى لبعض الخاصة والأعمال كلها نتيجة العقائد تصلح بصلاحها وتفسد بفسادها، وحسبنا قول أشرف المخلوقات صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) وليس من الممكن جمع كلمة الأمة وتوحيد أفكارها ما دامت مختلفة في عقائدها متباينة في مشاربها وأهوائها، ولو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم». هذه الدعوة هي الدعوة المباركة التي تجمع أهل الإسلام وترص صفوفهم وتجعلهم أقوياء في مواجهة أعدائهم.
وبهذا التقرير يظهر الجواب عن تساؤل مشهور لماذا لم يطالب العلماء بالاستقلال أول الأمر، فالقضية أن التحرر من الاستعمار المادي لابد أن يسبقه التحرر من الاستعمار الروحي، وأن تحرير الإنسان يسبق من دون شك تحرير الأرض، وقد أبان عن هذه المعنى في الخطاب الذي ألقاه في الملعب البلدي سنة 1936، حيث بين أن الأمة ما زالت بعيدة عن الاستقلال ما دامت لم تستقل في أفكارها وكل مقومات حياتها، وما دامت لا تقدر أنتحرر نفسها من ربقة بعض المرابطين واستعبادهم لها باسم الدين».
وبعد مرور الزمن وتقدم الدعوة لم يخف الشيخ مساندته لحزب الوحدة الجزائرية(1947) الداعي إلى الاستقلال التام، وتفضيله على الأحزاب الأخرى التي كانت تطالب بالاستقلال الذاتي أو الداخلي مع الارتباط بفرنسا. قرر في العام نفسه في جريدة الإصلاح (عدد51) أن الجزائر لا تختلف عن بقية الشعوب الطامحة إلى نيل الحرية والاستقلال وأنها أمة لها كل الذاتيات التي تميزها عن غيرها من تاريخ ولغة ودين. وفي عام 1953 وصرح للمنار بضرورة اتحاد الأمة:« في سبيل تحرير أمتنا من الاستعمار».
الأصل الرابع : الإصلاح عند العقبي كان شموليا فلم يقتصر على المجال الديني وإن عندهم قدما بل كان متسعا لمجالات أخرى، كأعمال البر والإحسان، ولذلك فقد ترأس الجمعية الخيرية الإسلامية منذ تأسيسها عام 1933بالعاصمة، وكانت تعمل على إعانة الفقراء وإغاثة عابري السبيل، وقد توسع نشاطها عام 1939 إلى إيواء المسنين وتعليم الشباب والشابات الصناعات اليدوية، وفتح عيادة تقدم العلاج المجاني.
وشملت دعوته الشباب الذين أسسوا في مطلع الخمسينات منظمة شباب الموحدين في نادي الترقي وكان الشيخ العقبي هو الأب الروحي لهذه المنظمة، التي كان شعارها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصدرت جريدة الداعي ثم جريدة اللواء، والتي كان من دعوتها طلب الحرية ومقاومة الاستعمار.
آثاره ووفاته
قد ترك الشيخ العقبي آثارا كثيرة مكتوبة لو تتبعت وجمعت لجاءت في مجلدات، ومن آثاره تلاميذه الذين لا يعدون كثرة، ومنهم من برز وكان من العلماء ودعاة الإصلاح كفرحات بن الدراجي (ت1951) وعمر بن البسكري)ت1968)، ومحمد العيد آل خليفة (ت1979) وأبو بكر جابر الجزائري.
بعد سنة 1953 مرض الشيخ وضعف، وكان قد أصيب بمرض السكر الذي ألزمه الفراش عام 1958 وأجبره على ترك نشاطاته. وفي مرضه هذا أوصى وصية اشتد في الإلحاح عليها، وهي لابد أنه لابد أن تشيع جنازته تشييعا سنيا بدون ذكر جهري، ولا قراءة البردة، ولا قراءة القرآن حال التجهيز أو حين الدفن وألا يؤذن بتأبينه قبل الدفن أو بعده، وتوفي الشيخ الطيبالعقبي رحمه الله في 21ماي1961، وشيعت جنازته تشييعا سنيا ودفن في مقبرة ميرامار بالرايس حميدو، وكانت جنازة مهيبة حضرها حسب الجرائد في ذلك الوقت قرابة خمسة آلاف شخص.
هذا هو العقبي
هذا هو العقبي الذي قال فيه الشيخ ابن باديس:« حياك الله وأيدك يا سيف السنة وعلم الموحدين ، وجازاك الله أحسن الجزاء عن نفسك وعن دينك وعن إخوانك السلفيين المصلحين ها نحن كلنا معك في موقفك صفا واحدا ندعو دعوتك ونباهل مباهلتك ونؤازرك لله وبالله». هذا هو العقبي الذي قال الشيخ الإبراهيمي في وصفه:« هو من أكبر الممثلين لهديها -أي الجمعية-وسيرتها والقائمين بدعوتها، بل هو أبعد رجالها صيتا في عالم الإصلاح الديني وأعلاهم صوتا في الدعوة إليه …وإنما خلق قوالا للحق أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر وقافا عند حدود دينه ،وإن شدته في الحق لا تعدو بيان الحق وعدم المداراة فيه وعدم المبالاة بمن يقف في سبيله»، هذا هو العقبي الذي قال فيه الشيخ أبو يعلى الزواوي:« العلامة السلفي الصالح داعية الإصلاح الديني ». هذا هو العقبي الذي عده أمير البيان شكيب أرسلان أحد حملة العرش الأدبي في الجزائر إضافة إلى الميلي وابن باديس والزاهري. هذا هو العقبي الذي قال فيه مفدي زكريا:«الأستاذ الأكبر العلامة أبو الجزائر الجديدة الشيخ سيدي الطيب العقبي». هذا هو العقبي الذي قال فيه أبو بكرالجزائري:« دروس الشيخ الطيب العقبي ما عرفت الدنيا نظيرها، ولا اكتحلت عين في الوجود بعالم كالعقبي» عليهم رحمة الله أجمعين ، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لاإله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
عن موقع الشيخ عبد الحميد ابن باديس
يتبع………………… …….




بارك الله فيك على المغلومات
شكراااااا




السلام عليكم…
لا شكر على واجب، قال تعالى ):إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون).[البقرة:159]، و قال تعالى )وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )(آل عمران-18 )، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم):إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له). رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
هذا أقل شيء أستطيع أن أفعله، نسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لما يحبه و يرضاه…