تأليف: أحمد بن عبدالحليم بن عبد السلام ابن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه، نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم تسليما .
اعلم أن [ الإيمان ] و [ الإسلام ] يجتمع فيهما الدين كله، وقد كثر كلام الناس في [ حقيقة الإيمان والإسلام ] ، ونزاعهم، واضطرابهم . وقد صنفت في ذلك مجلدات، والنزاع في ذلك من حين خرجت الخوارج بين عامة الطوائف .
ونحن نذكر ما يستفاد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، مع ما يستفاد من كلام اللّه تعالى فيصل المؤمن إلى ذلك من نفس كلام اللّه ورسوله، فإن هذا هو المقصود . فلا نذكر اختلاف الناس ابتداء، بل نذكر من ذلك في ضمن بيان ما يستفاد من كلام اللّه ورسوله ما يبين أن رد موارد النزاع إلى اللّه وإلى الرسول خير وأحسن تأويلا، وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة .
فنقول : قد فرق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام بين مسمى [ الإسلام ] ومسمى [ الإيمان ] ومسمى [ الإحسان ] . فقال : " الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " .
وقال : " الإيمان : أن تؤمن باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره " .
والفرق مذكور في حديث عمر الذي انفرد به مسلم، وفي حديث أبي هريرة الذي اتفق البخاري ومسلم عليه، وكلاهما فيه : أن جبرائيل جاءه في صورة إنسان أعرابي فسأله . وفي حديث عمر : أنه جاءه في صورة أعرابي .
وكذلك فسر [ الإسلام ] في حديث ابن عمر المشهور، قال : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان " .
وحديث جبرائيل يبين أن الإسلام المبني على خمس هو الإسلام نفسه ليس المبني غير المبني عليه، بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات أعلاها : الإحسان، وأوسطها : الإيمان، ويليه : الإسلام، فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسناً، ولا كل مسلم مؤمنا، كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه في سائر الأحاديث، كالحديث الذي رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من أهل الشام، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " أسلم تسلم " . قال : وما الإسلام ؟ قال : " أن تسلم قلبك للّه، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك " . قال : فأي الإسلام أفضل ؟ قال : " الإيمان " . قال : وما الإيمان ؟ قال : " أن تؤمن باللّه وملائكته، وكتبه ورسله، وبالبعث بعد الموت " . قال : فأي الإيمان أفضل ؟ قال : " الهجرة " . قال : وما الهجرة ؟ قال : " أن تهجر السوء " . قال : فأي الهجرة أفضل ؟ قال : " الجهاد " . قال : وما الجهاد ؟ قال : " أن تجاهد، أو تقاتل الكفار إذا لقيتهم، ولا تَغْلُل، ولا تَجْبُن " . ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : " عملان هما أفضل الأعمال، إلا من عمل بمثلهما قالها ثلاثا حجة مبرورة، أو عمرة " رواه أحمد، ومحمد بن نصر المروزي
لهذا يذكر هذه " المراتب الأربعة " فيقول : " المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر السيئات، والمجاهد من جاهد نفسه للّه " . وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد اللّه بن عمرو، وفَضَالة بن عبيد وغيرهما بإسناد جيد، وهو في السنن، وبعضه في الصحيحين . وقد ثبت عنه من غير وجه أنه قال : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم " . ومعلوم أن من كان مأموناً على الدماء والأموال؛ كان المسلمون يسلمون من لسانه ويده، ولولا سلامتهم منه لما ائتمنوه . وكذلك في حديث عبيد بن عمير، عن عمرو بن عَبَسة .
وفي حديث عبد اللّه بن عبيد بن عمير أيضاً عن أبيه، عن جده؛ أنه قيل لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ما الإسلام ؟ قال : " إطعام الطعام، وطِيبُ الكلام " . قيل : فما الإيمان ؟ قال : " السَّمَاحة والصبر " . قيل : فمن أفضل المسلمين إسلاماً ؟ قال : " من سَلِم المسلمون من لسانه ويده " . قيل : فمن أفضل المؤمنين إيمانًا ؟ قال : " أحسنهم خُلُقاً " . قيل : فما أفضل الهجرة ؟ قال : " من هَجَر ما حَرَّم اللّه عليه " . قال : أي الصلاة أفضل ؟ قال : " طول القُنُوت " . قال : أي الصدقة أفضل ؟ قال : " جُهْد مُقل " . قال : أي الجهاد أفضل ؟ قال : " أن تجاهد بمالك ونفسك، فيُعَقْرُ جَوَادُك، ويُراق دَمُك " . قال أي الساعات أفضل ؟ قال : " جَوْف الليل الغَابِر " .
ومعلوم أن هذا كله مراتب، بعضها فوق بعض، وإلا فالمهاجر لابد أن يكون مؤمناً، وكذلك المجاهد؛ ولهذا قال : " الإيمان : السماحة والصبر " ، وقال في الإسلام : " إطعام الطعام، وطيب الكلام " . والأول مستلزم للثاني؛ فإن من كان خلقه السماحة، فعل هذا بخلاف الأول؛ فإن الإنسان قد يفعل ذلك تَخَلُّقاً، ولا يكون في خلقه سماحة وصبر . وكذلك قال : " أفضل المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده " . وقال : " أفضل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً " ، ومعلوم أن هذا يتضمن الأول؛ فمن كان حسن الخلق فعل ذلك .
قيل للحسن البصري : ما حُسْن الخلق ؟ قال : بَذْل النَّدَى، وكَفُّ الأذى، وطلاقة الوجه . فكف الأذى جزء من حسن الخلق
يتبع
سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك