بسم الله الرحمان الرحيم
الأسرة في ظل الاسلام
دالمحامي حيدر البصري
لكون الدين الإسلامي هو الدين الخاتم لكل الأديان، والذي جاءت أحكامه متناسبة مع ما وصل إليه العقل البشري من الكمال والرقي، كانت عناية هذا الدين بالأسرة أكثر من غيره من الأديان.
إن هذا الأمر لم يكن ليخل بالأديان الأخرى أو ينال منها. ولكن الذي يجب إن يدرك. هو أن تلك الأديان لم يكن نطاق ساحتها ليشمل العالم كافة بل جاءت لمرحلة زمنية مؤقتة، كما أنها لم تسلم من يد التحريف في حين كانت ساحة الإسلام أوسع فهو الدين الذي جاء للبشرية كافة، والذي تكفلت اليد الإلهية بالمحافظة عليه من أن تمتد له يد التحريف.
إن عناية الإسلام بالأسرة لم تقتصر على تلك المرحلة الزمنية التي تكون الأسرة فيها واقعاً قائماً، إنما "تنبت الشريعة الاهتمام بمقدمات بنائها قبل قيامها. فهناك مقدمات مهمة لاختيار الزوج لشريكه حتى يكون البناء الأسري سالماً ودائماً، هذا إضافة إلى الاهتمام البالغ بالأسرة بعد قيامها ودوام ذلك إلى ما بعد قيامها وخصوصاً حول تحديد العلاقات بين الزوجين، وبين ثمار العائلة وهم الأطفال"1.
لقد عنيت الأحكام الإسلامية بتثقيف المسلم بالثقافة الأسرية الصالحة التي تقوم على مبادئ الفضيلة وتركيزها في نفسه، وهذا هو دأب الإسلام إذ يهتم بزرع مبادئه في النفوس. فكان من أثر هذه السياسة أن أورد لنا التاريخ على صفحاته من قصص الحياة الأسرية مما يعده الجاهل بالإسلام ضرباً من ضروب الخيال.
إن هذه القصص تعكس لنا بوضوح مدى ترسيخ التعاليم الإسلامية في نفوس أصحابها الذين يسحقون أنفسهم وفاء للحياة الزوجية تقرباً إلى الله تعالى.
قال الأصمعي الذي كان وزيراً للمأمون:
"كنت أرافق المأمون في قافلة صيد ترفيهية، وفي أثناء المسير أضعت القافلة لأرى نفسي وحيداً في صحراء قاحلة، وبعد مسيرة تحملية شاهدت من بعيد خيمة تلوح في الأفق فتحركت صوبها لأجد فيها امرأة شابة جميلة فسلمت عليها، وجلست في ظل خيمتها وقلت لها:
هل لي شربة ماء؟
فتغير لونها وقالت:
لم أكتسب إذناً من زوجي في مثل هذا الأمر، وإن كان لك أن تشرب شيئاً فهذا غذائي أقدمه لك وهو ضياح من لبن.
يقول الأصمعي: شربت اللبن، وجلست في ظل الخيمة ساعة، وبعدها شاهدت فارساً على جمل، فقامت المرأة من جلستها، وحملت بيدها قليلاً من الماء وكأني بها تنتظر ذلك الفارس.
وصل الفارس إلى الخيمة وكان زوجها، فقدمت له الماء ليشرب ثم نزل عن جمله وإذا به رجل عجوز، أسود الشكل قبيح، لا يطاق منظره، سيء الخلق والأخلاق، فهمَّت المرأة نفسها وجاءته بطبق وإبريق لتغسل به يديه ورجليه ووجهه.
بدأ زوجها بالتحجج، وإثارة ما لا يثيره العاقل الفطن، حيث كان يسيء مخاطبتها، وتتلطف له بالرد، ولسوء خلق لم أتحمل الجلوس في ظل خيمته بل فصلت الجلوس في الشمس المحرقة بعيداً، على أن أجلس إلى خيمته وأستمع إلى سوء أدبه.
وما أن تحركت حتى قامت امرأته لتوديعي، حيث لم يكن هو مهتماً لهذا الموضوع بالمرة، وعندها دنت المرأة مني قلت لها:
أيتها المرأة، إنك شابة جميلة، فلِمَ ارتباطك بهذا الشيخ العجوز الذي لا يمتلك من حطام الدنيا إلاّ أخلاقاً سيئة وجملاً هزيلاً، بالإضافة إلى شكله القبيح؟
فأجابت بعد أن بان عليها الامتعاض:
أيها الرجل أتريد الإيقاع بيني وبينه، ألا تعلم بأن الدنيا زائلة، والآخرة دائمة، وأنني بعملي هذا أروم رضا الله تعالى، ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الإيمان نصفان: نصف في الصبر، ونصف في الشكر"؟
وإن تحملي لسوء خلقه يصل بي إلى درجات الصبر الساميات، وعليه يجب أن أشكر الباري تعالى على هذه النعمة، فنعمة الصبر تحتاج إلى شكر، لذا سأديم خدمتي لزوجي حتى يكتمل إيماني"2.
إن موقفاً نبيلاً مثل هذا إنما هو نتاج التربية التي ربى عليها الإسلام أبناءه.
لقد دافع الإسلام عن الأسرة وتجسد دفاعه عنها خلال مرحلتين: (1) المرحلة الاحترازية: وتتمثل بالأسس التي جاء بها الإسلام كمنهاج يسير على ضوئه من يروم تأسيس الأسرة.
(2) المرحلة العقابية: وتتمثل بالعقوبات الصارمة التي وضعها الإسلام لمن يحاول النيل من الأسرة ككيان قائم والإخلال بها.
فالإسلام وضع أقسى العقوبات لمن يريد العبث بقدسية الأسرة، فالرجم بالحجارة مع قساوته في الظاهر إلاّ أنه يمثل الرحمة بالإنسانية ـ في باطنه ـ في مواجهة من يسعون في دمار الأسرة، وجعل ثمراتها بلا مستقبل.
لم تكن هذه العقوبات مما تفرد به الإسلام، إنما هي "مما جاءت به كل الشرائع السماوية، وهي عقوبة ردع أكثر منها عقوبة انتقام، لأن الإنسان الواعي يفكر بعقله ويدرك خطورة هذه الآثام، أما غير الواعين فإنهم لا يقدرون خطورة العمل إلاّ بمعرفة طرق العقوبة"3.
لقد كان من نتيجة الاهتمام الذي أبداه الإسلام بالأسرة أن حافظت هذه المؤسسة ـ ولم تزل كذلك ـ على مكانتها، ودورها الهام كمؤسسة تربوية، رغم تقلص دور هذه المؤسسة الاجتماعية وفقدانها لأغلب وظائفها في ظل الكثير من النظريات التي سادت العالم على مر العصور.
إن هذه الحقيقة التي تقول بها وتشهدها مجتمعاتنا الإسلامية أدركها الكثير من علماء الغرب ومسؤوليه، بل وأدركته حتى الشعوب الغربية ذاتها.
اعتراف مسؤولي الأمم المتحدة بأهمية الأسرة في الإسلام:
لقد "أقر مسؤولوا الأمم المتحدة عن الأسرة، بأن مفهوم هذه الكلمة (الأسرة) لم يعد له معنى في العالم كله إلاّ في البلدان الإسلامية"4.
الزواج في الإسلام:
لم يكن الإسلام ينظر إلى الزواج تلك النظرة التي تنظر إليه من خلالها النظريات المادية، من أنه وسيلة لإشباع الرغبة ال***ية الملحة والتي تكمن في النفس الإنسانية حسب، أو على أنه ـ الزواج ـ التنظيم الاجتماعي للغريزة ال***ية فقط. إنما ينظر الإسلام للزواج هذه الرابطة المقدسة نظرة أعلى وأكبر من هذه.
فالإسلام يرى في الزواج "فوائد كثيرة، وكثيرة جداً، وإن إرضاء الغريزة ال***ية مقابل تلك الفوائد لا يعد شيئاً"5.
إن الإسلام ينظر للزواج على أنه "إيجاد علاقة زوجية بين الرجل والمرأة لبناء أسرة جديدة وإيجاد جيل جديد، لا إشباعاً للغريزة ال***ية فقط، ولا إطفاءً للشهوة الحيوانية فحسب، ولا لاستخدام الزوجة واتخاذها خادمة لزوجها وأولاده. بل هي سيدة ومربية أولادها"6.
إن بعض النظريات جعل الدافع الذي يتحرك الإنسان على ضوئه باتجاه الزواج وتكوين الأسرة هو الدافع الغريزي، نحو الشهوة ال***ية فقط، تلك الشهوة والغريزة التي بالغت بعض النظريات في تقديسها بحيث جعلت تحركات الإنسان كلها محكومة بدوافع هذه الغريزة.
ونحن حين نقول بأن الإسلام لا يجعل الدافع نحو الزواج هو الغريزة ال***ية لا نعني بذلك أن الإسلام ينفي أثرها ـ الغريزة ال***ية ـ تماماً في هذا المضمار، إنما نعني بذلك أن الغريزة ال***ية لا يجب أن تكون هي الدافع الوحيد الذي يدفع الإنسان نحو الزواج وتكوين الأسرة. بحيث تنتفي حاجة الإنسان إلى تكوين الأسرة وتحمل مسؤولياتها فيما لو انتفت تلك الغريزة أو أشبعت بطريقة ما.
إن الإسلام لا يريد من الغريزة أن تكون سبباً تاماً في الاندفاع نحو الزواج، بل يريد الإسلام لهذه الغريزة أن تكون جزء سبب في الاندفاع بحيث تشكل مع غيرها من الأسباب ـ من قبيل السعي نحو حفظ النسل، وإشباع الغريزة الأبوية من جانب الأب وغريزة الأمومة من جانب الأم وغيرها من الأسباب ـ سبباً تاماً.
—————-
الهوامش 1 الرجل والمرأة ص 41. 2 الأخلاق البيتية ص 195-196. 3 الرجل والمرأة ص 52-53. 4 نفس المصدر ص40. 5 الأخلاق البيتية ص 123. 6 الإسلام والتعاليم التربوية ص 48.
Tags في ( الأسرة في ظل الإسلام…….دالمحامي حيدر البصري ):
-منقول للإفادة –