عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: « مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلاَ يُنْفِقُ إِلاَّ سَبَغَتْ – أَوْ وَفَرَتْ – عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِىَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلاَ يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلاَّ لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلاَ تَتَّسِعُ ».
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ضرب رسول الله مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد أو جنتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى ثدييهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة مكانها قال أبو هريرة فأنا رأيت رسول الله يقول بإصبعه هكذا في جبته فرأيته يوسعها ولا تتسع ".[البخاري: 1443، مسلم: 2406]
لما كان البخيل محبوسا عن الإحسان ممنوعا عن البر والخير، كان جزاؤه من جنس عمله فهو ضيق الصدر، ممنوع من الانشراح، ضيق العطن، صغير النفس، قليل الفرح، كثير الهم، والغم، والحزن، لا يكاد تقضى له حاجة، ولا يعان على مطلوب، فهو كرجل عليه جبّة من حديد قد جمعت يداه إلى عنقه بحيث لا يتمكن من إخراجها، ولا حركتها، وكلما أراد إخراجها أو توسيع تلك الجبّة لزمت كل حلقة من حلقها موضعها، وهكذا البخيل كلّما أراد أن يتصدّق منعه بخله فبقي قلبه في سجنه كما هو.
والمتصدِّق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح بها صدره، فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه فكلما تصدق اتسع وانفسح، وانشرح وقوي فرحه، وعظم سروره، ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبد حقيقا بالاستكثار منها والمبادرة إليها، وقد قال تعالى: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر : 9].
والفرق بين الشح والبخل، أن الشح هو شدة الحرص على الشيء والإحفاء في طلبه والاستقصاء في تحصيله وجشع النفس عليه، والبخل منع إنفاقه بعد حصوله، وحبه وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله بخيل بعد حصوله، فالبخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل والشح كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه، ووقى شره وذلك هو المفلح، ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، والسخيّ قريب من الله تعالى ومن خلقه ومن أهله وقريب من الجنّة وبعيد من النار، والبخيل بعيد من خلقه بعيد من الجنة قريب من النار فجود الرجل يحببه إلى أضداده، وبخله يبغضه إلى أولاده.
ويُظهِرُ عيبَ المرء في الناس بُخلُه * ويَسْتُره عنهم جميعـًا سَخاؤُهُ
تَغطَّ بأثوَابِ السَّخاءِ فإنَّني * أرَى كلَّ عيب فالسخاء غِطَاؤُهُ
وقـَارِنْ إذا قارَنْتَ حرًّا فإنَّما * يَزِينُ ويُزرِي بالفَتى قُرَنَاؤُهُ
وأقلِلْ إذا ما استطعْتَ قوْلاَ فإنّه * إذا قلَّ قوْلُ المرْءِ قلَّ خَطاؤُهُ
إذا قلَّ مَال المرْءِ قلَّ صَدِيقـُهُ * وضاقت عليه أرضُه وسمَاؤُهُ
وأصْبَحَ لا يدري وإنْ كان حَازِمًا * أَقدَّامُه خيرٌ له أمْ وَرَاؤُهُ
إذا المرءُ لمْ يختَرْ صَدِيقًا لنَفْسِه * فناد به في الناس هذا جَزَاؤُهُ
وحدُّ السخاء: بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة وأن يوصل ذلك إلى مستحقه بقدر الطاقة، وليس كما قال البعض: من نقص عمله حد الجود بذل الموجود. ولو كان كما قال هذا القائل لارتفع اسم السرف والتبذير، وقد ورد الكتاب بذمهما وجاءت السنة بالنهي عنهما، وإذا كان السخاء محمودا فمن وقف على حدّه سمي كريما، وكان للحمد مستوجبا ومن قصر عنه كان بخيلا وكان للذم مستوجبا، والسخاء نوعان: فأشرفهما سخاؤك عما بيد غيرك، والثاني سخاؤك ببذل ما في يدك فقد يكون الرجل من أسخي الناس وهو لا يعطيهم شيئا لأنه سخا عما في أيديهم وهذا معنى قول بعضهم: السخاء أن تكون بمالك متبرعا وعن مال غيرك متورعا.
[ الروح لابن القيم: 408]