عبد الحميد ابن باديس رحمه الله تعالى
عبد الحميدهو عبد الحميد بن محمّد المصطفى بن المكي بن محمّد كحول بن علي سليل الجدّ الأعلى "مَنَاد بن منقوش"كبير قبيلة "تَلْكَاتَة" (أو تُلُكّاتة أو وَتْلَكّاتة) ، وقد ظهرت علامات شرفه وسلطانه في وسط قبيلته قبل سقوط الدّولة الأغلبيّة (296 ﻫ / 909 م)، وكان فرع "تَلْكَاتَة" أهل مَدَر (حضريّين)، من بين الفروع العديدة التابعة لأمجاد قبيلةصنهاجة.
ونسب أسرة "ابن باديس" عريق في الشرف والمكانة مشهور بالسلطان والعلم والثراء والجاه، عرفت منه شخصيات تاريخية كبيرة منها "المعِزّ لدين الله بن باديس" أشهر حكام الدَّولة الصّنهَاجيَّة التي عرفت باسم دولة "بني زيري" نسبة إلى الأمير أبو الفتوح سيف العزيز بالله "بُلكّين بن زيري بن مَنَاد الصنهاجي"، الذي ولاه الفاطميون بعد رحيلهم إلى مصر على أفريقية (حكم 361 – 373 ﻫ / 972 – 984 م).
و"المعِزّ لدين الله" ابن الأمير "بَاديس بن المْنصُور بن بُلكّين"، ثالث ملوك بني زيري، كان واليا على أفريقية والمغرب، (حكم : 386 – 406 ﻫ / 996 – 1016 م). وقد لَقب الخليفة الفاطمي "المعِزّ لدين الله" بشرف الدولة، وعمل إبانحكمه (406 – 454 ﻫ / 1015 – 1062 م) على قطع الخطبة للفاطميين وحولها للعبّـاسيين، ونصر السنة وأظهرها، وأعلن المذهب المالكي مذهبًا للدولة.
ومن رجالات الحكم كذلك الأمير "تميم بن المعِزّ لدين الله" ملك أفريقية وما والاها بعد وفاة أبيه (حكم : 454 – 501ﻫ / 1062- 1108 م)، كان محمود الآثار، شهمًا شجاعاً كريمًا عالماً، وهو أحد فحول شعراء الملوك، وذوي السبق والتقدّم في معانيه وبدائعه، حوى فيه الجودة والكثرة.
ومن شعره :
فَإِمَّـا الـمُلْكُ في شَـرفٍ وعـزِّ عليَّ التّـاجُ في أَعلَى السريـرِ
وإمَّـا الموتُ بين ظُبَـا الـعـواليفَلَستُ بخـالدٍ أبَـدَ الدّهـورِ
والأمير "يحي بن تميم بن المعِزّ" (حكم : 501 – 509ﻫ/ 1108 – 1116 م)، كان عادلاً كريمًا محبًا للفتح، أولى عناية فائقة بأسطوله، فزاد في عدد السّفن وكثر من عمليات الغزو في البحر، حتى اتقته جنوة وسردينية بالجزي.
واشتهر من أسرة "ابن باديس" عدة شخصيات في ميدان العلم والقضاء والنّضال السّياسيّ، ويذكر ابن خلدون (تـ 808 ﻫ / 1406 م)أنه اجتمع فيهم أربعون عمامة كلهم صاحب منصب، حازوا مناصب في التدريس والإفتاء والوظائف الدينية، وتكاد تكون وظيفة القضاء في قسنطينة قاصرة على علماء هذه الأسرة زمنا طويلا.
فخلال القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) تميز عالم من أعمدة الفقه المالكي في مدينة قسنطينة هو "حسن بن بلقاسم بن باديس" (أبو علي)، ذكره محمّد العبدريّ في رحلته وقال : « شيخ من أهْل العلم، يذكر فقها ومسائل ذو سمت وهيئة ووقار بقسنطينة..».
كذلك القاضي "حسن بن خلف الله بن حسن بن أبي القسام بن ميمون بن باديس" القيسي القسنطيني (تـ784 ﻫ/ 1382 م)، كان مشهورا بغزارة علمه، خطيبا، من فقهاء المالكية، روى عن ابن غريون وأخذ عن ابن عبد السلام وغيرهما من كبار العلماء.
واشتهر في مجال الأدب الصوفي بقسنطينة العالم المحدِّث الفهيه المالكي أبو علي "حسن بن أبي القاسم بن باديس" (تـ 787 ﻫ / 1385 م)، تولى بعد زيارته حواضر المشرق الكبرى منصب قاضي الجماعة بمدينة تونس سنة (778 ﻫ / 1376 م)، ثم أعفي منه فعاد لمدينة قسنطينة وشغل بها نفس الوظيفة. أدرك في حداثته مـا لم يُدركْه غيره في سنِّه، له شرح لكتـاب « أوجز السير لخير البشر » لأحمد بن فارس القزويني الرازي، و« تقـاليد ». وهو صاحب القصيدة السينية التي نظمها باسم « النفحات القدسية» في الشّيخ الزاهـد "عبد القـادر الجيلاني" (تـ 560 ﻫ/ 1165 م) أحد علماء الحنابلة، صاحب كتاب«الغنية » في مذهب أحمد.. ومطلع القصيدة :
ألاَ صلْ إلى بغداد فهي مُنّي النفس وحدث بها عمن ثوى باطن الرمس
وفي العهد العثماني برز قاضي قسنطينة الشهير الخطيب "أبو العباس أحمد" المدعو "حميدة بن باديس" (تـ 969 ﻫ/ 1562 م) قال عنه شيخ الإسلام عبد الكريم الفكون (تـ 1073 ﻫ/ 1662 م): « هو من بيتات قسنطينة وأشرافها وممن له الريّاسة والقضاء والإمامة بجامع قصبتها، وخَلَفُ سلف صالحين علماء حازوا قصب السبق في الدراية والمعرفة والولاية، وناهيك بهم من دار صلاح وعلم وعمل ».
و"أبو زكرياء يحيى بن باديس" ابن الفقيه القاضي "حميدة بن باديس" كان حييا ذا خلق حسن كثير التواضع، سالم الصدر، ذا تلاوة لكتاب الله. كان نائبا عن قضاة قسنطينة وخطيب جامع قصبتها.
والشّيخ المفـتي "بركـات بن بـاديس" دفين مسجد سيدي قموشبمدينة قسنطينة.
و"أبو عبد الله محمّد بن أبي زكرياء يحي بن باديس" قال عنه الشّيخ عبد الكريم الفكون : «كان يقرأ معنا على الشّيخ التواتيآخر أمره، وبعد ارتحاله استقل بالقراءة عليّ وهو من موثقي البلدة وممن يشار إليه ».
والشّيخ "أحمد بن باديس" الذي كانت بينه وبين الشّيخ عبد الكريم الفكون مودّة وإخاء، شغل في ابتداء أمره منصب كاتباً بين أيد أمراء قسنطينة، ثم تولى خطابةَ جامع قصبة المدينة، وبعد زمن يسيير ترقى للإفتاء ثم استقل به في زمنه.
ومن أسلاف الشّيخ ابن باديس المتأخرين جده لأبيه الشّيخ "المكي بن باديس" (تـ 14 ذي القعدة 1316 ﻫ / 26 مارس 1899 م)، كان قـاضيا مشهورا بمدينة قسنطينة وعضوا في المجلس العام وفي اللجنة البلدية،وقد احتل مقاما محترما لدى السكان بعد المساعدات المالية التي قدمها لهم خاصة أثناء المجاعة التي حلت بالبلاد فيما بين 1862 – 1868 م، ودعى إلى الاستشارة في الجزائر وباريس، وقد تقلد وساما من يد "نابليون الثالث".
وعمه "حميدة بن باديس" النائب الشهير عن مدينة قسنطينة أواخر القرن التاسع عشر الميلادي الذي اشترك مع ثلاثة من النواب في 10 أفريل سنة 1891 م على رفع تقريرا عن الوضع في الجزائر بمناسبة زيارة لجنة برلمانية فرنسية برئاسة "فرانك شقو" عضو مجلس الشيوخ الفرنسي، حضرت إلى الجزائر من أجل البحث وتقصي الأحوال فيها كي تقدمها بدورها إلى الحكومة الفرنسية وأعضاء البرلمان الفرنسي في باريس، وقد اشتمل التقرير على وصف دقيق لوضع الجزائر السّياسيّ والاقتصادي والاجتماعي والقضائي.
أبوه : هو "محمّد المصطفى بن باديس" (1868 – 1951 م) من ذوي الفضل والمروءة ومن حفظة القرآن الكريم. كان صاحب مكانة مرموقة بين جماعة الأشراف، تبوأ منصب النائب المالي والعَمَالي بقسنطينة، عضوا فيالمجلس الجزائري الأعلى وباش آغا شرفيا، ومستشـارا بلديا بمدينة قسنطينة. وشحت فرنسـا صدره "بوسام الاحترام" من رتبة أوفيسي (ضابط). ولوالد "ابن باديس" الفضل في إنقاذ سكان منطقة واد الزناتيمن الإبـادة الجماعية سنة 1945 م على إثر حوادث 8 مـاي المشهورة. وقد اشتغل كذلك بالفلاحة والتجارة، وأثرى فيهما.
أمـه : هي "زهيرة بنت علي" (من مواليد 1869 م)، كريمة من كرائم أسرة "ابن جلول" المعروفة بالعلم والصلاح والثراء في قسنطينة، وهي من فروع قبيلة "بني معاف" المشهورة في جبال الأوراس.
ومن أبرز شخصيات هذه الأسرة "أحمد الزواوي بن جلول" أحد أعيان مدينة قسنطينة في أواخر القرن 18 م ورفيق "صالح بن مصطفى باي" أشهر بايات الشرق في العهد العثماني (حكم 1185 – 1205 ﻫ / 1771 – 1791 م)، وتذكر المصادر أنه تزوج ابنة "بن جلول" بعد توليه الحكم، لما بينهما من صداقة قديمة.
وكذلك الدكتور محمد الصالح بن جلول(1893 – 1985 م) ابن خال الشيخ ابن باديس، وهو من أقطاب النضال السياسي وممثل النخبة المثقفة إبان الاستعمار الفرنسي، فقد كان عضوا في أول برلمان تأسيسي، ومستشارا، وعضوا في مجلس الشيوخ حيث كانتدعوته صريحةإلى المساواة بين الجزائريين والفرنسيين في كل المجالات.
هذا وقد أثمر زواج السيدة "زهيرة" مع "مصطفى بن باديس" تسعة أولاد هم : عبد الحميد، المولود (المدعو زبير)، محمد العربي، سليم، عبد المليك، محمود وعبد الحق، ونفيسة والبتول.
المصدر : كتاب الإمام عبد الحميد بن باديس رائد النهضة العلمية والإصلاحية في الجزائر (1889-1940) لـ : عبد المالك حداد.
عن موقع الشيخ عبد الحميد ابن باديس
الشيخ العربي التبسي رحمه الله
مولده و نشأته:
هو العربي بن بلقاسم بن مبارك بن فرحات الجدري التبـسي ، وأمه هي السيدة آمـنة بنت عبيد بن فرحـات الجدري التبسي المولود بدوار اسطح من أحواز بلدية العقلة دائرة الشريعة – الواقعة في الجنوب الغربي من ولاية ومدينة تبسة – سـنة 1891م – 1308هـ .
وكان يعرف في سجلات الإدارة الفرنسية البلدية والأمنية بلقب جدري وفرحات ، واشـتهر بلقب العربي التبسي ، وكان العربي وحيد والديه فلم ينجباه إلاّ بعد عقد من زواجهما .
ولما بلغ العربي قرابة الست سـنوات توفي والده بلقاسـم وهو في عقده الخامس ، ليصبح العربي يتيما منذ فجر طفولته ، وسرعان ما تزوج عمه عمار من أرملة أخيـه بلقاسـم على عـادة وأعراف قبيلة النمامشة وسائر القبائل الجزائرية ، فكان له – باعتراف أخيه – نعـم الأب العطوف الرحيم ، معوضا ابن أخيه حرمان عاطفة الأبوة الذي فقده بفقده لأبيه .
وقد رزق العربي – بعد زواج أمه بعمه عمار – بخمسة إخوة هم: ( الحفصي . البشير . بلقاسـم .الهادي . عبد المجيد ) .
وأعمامه : ( الحفناوي ، و الصادق ، و مسعود ، و أحمد ، محمد ، عثمان ) – رحمهم الله – كانوا يحفظون كتاب الله وكانت خيمتهم تسمى بخيمة القرآن حيث يتولى أعمامه – بالإضافة إلى مهامهم الزراعية والرعوية والأمنية والتجاريـة – تحفيظ أبناء العشيرة كلها القرآن الكريم، وكذلك كان أبوهم مبارك جد الشيخ العربي ، الذي كان حافظة للقرآن الكريم وعالما بالعلوم العربية والدينية في قومه .
طلبه للعلم:
نشأ العربي التبسي في عشيرته "الجدور" التي كانت تعتز بخيمة والده وجده وأعمامه القرآنية، وفي تلك الخيمة القرآنية المباركة حفظ العربي التبسي سـور القرآن الكريم الأولى على يد والده أولا، ثم على يد عمه عمار ثانيا وهو دون سن العاشرة .
وقد رأى عمه فيه أمارات النجابـة ومخايل الذكاء فتركــه عهدة عند الشـيخ الطيب بـن الحفناوي الرشـاشـي الزواوي في زاوية ( أولاد رشـاش بالزوّي ) ليحفظ في زاويته وعلى يديه القرآن الكريم فمكث عنده سـنتين كاملتين ، ليعود بعدها إلى بلدته "اسطح "وقد حفظه كاملا وسـنه تقارب الثالثة عشرة ، وذلك أواخر سنة 1904م .
يمكن تقسـيم مراحل طلبه للعلم إلى مايلي :
1 – المرحلة التعليمية الأولى ( 1895 – 1904م )
وتقسم هذه المرحلة بدورها إلى فترتين رئيستين هما :
– القسم الأول ( 1895 – 1902م )
وتبدأ هذه المرحلة وهـو يتلقى القرآن في كتاب عشـيرته في خيمة جـده وعمـه القرآنية ، إذ تلقى السور القرآنية الأولى عندهما ، ولتنتهي وعمر العربي عشر سنوات تقريبا سنة 1901م .
– القسم الثاني ( 1902 – 1904م )
وتبدأ هذه المرحلة منذ أن عهد به عمه إلى الشـيخ الطيب بن الحفناوي الزواوي في زاوية أولاد رشاش بالزوي ليمكث عنده في زاويته سنتين وبضعة شهور وليحفظ على يديه القرآن الكريم .
2 – المرحلة التعليمية الثانية ( 1904 – 1909م )
وبعد عودتـه إلى دوار اسـطح قـرر الشـيخ الطيب الرشـاشـي أخـذ تلميذه معه إلى زاويـة" الخنقة" المعروفة بزاويـة" خنقـة سـيدي ناجي" ، أو "بخنقة الليانـة " بالقرب من مدينة بسـكرة ، ومكث فيها مدة سـت سنوات أتقن خلالها حفظ القرآن بالقراءة المغربية، وتعلم أيضا مبادئ العلوم العربية والدينية، وليظل في الزاوية طالبا للعلم إلى نهاية سنة 1909م ، وفي زاوية الخنقة قرأ على يد الشيخين الفاضلين : سيدي حامد مدرس الفقه والعربية ، وسيدي سالم مدرس القراءات .
3 – المرحلة التعليمية الثالثة ( 1909 – 1912م )
وبتوصية من أساتذته في زاوية الليانة انتقل ليزاول دراسته في زاوية سيدي مصطفى بن عزوز النفطي الجريدي الرحماني سنة 1910م بالجريد التونسي جنوبا .
وبها حفظ متون العقيدة وعلم الكلام والمنطق والفقه وعلم الأصول واللغة العربية والأدب شعره ونره وبلاغته .. فأتقن متونها من "المكودي ، والأجرومي ، وابن عاشر ، ومتن سيدي خليل .. "
ودرس على يد كبارعلماء الزاوية أمثال الشيخ إبراهيم بن الحداد والشيخ محمد بن أحمد النفزاوي والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ التابعي بن الوادي، وغيرهم .
وبزاوية "نفطة" قضى الشيخ العربي ثلاث سـنوات وبضعة شهور ليعود بعدها إلى "دوار اسطح "في صيف سنة 1912م منتزعا توصية من شـيوخه في الزاويـة تزكيـة للالتحاق بالجامعة الزيتونيـة بتونـس ،نظرا لما رأوا فيه من مخايل الفطنة والنباهة والذكاء والاستقامة وحب العلم والإرادة في طلبه .وهو ما حصل له بالفعل ليجد نفسه طالبا في جامع الزيتونة المعمور .
3 – المرحلة التعليمية الرابعة (1913 – 1919م )
التحق العربي بجامع الزيتونة المعمور بتوصية من شيوخه النفطيين الجريديين الرحمانيين أواخر سـنة 1913م – 1332هـ ، وانظم إلى طلبته فنال شـهادة الأهلية سـنة 1915م – 1334هـ بعد سـنتين من الدراسة والتحصيل، ثم نال شهادة التحصيل سنة 1917م 1336هـ ، واستمر في دراسته لينال بعدها شهادةالتطويع التي تركها سـنة 1919م – 1338هـ بسـبب هجرته إلى مصر ، ولينالها عام 1345هـ – 1927م بعد عودته من مصر ودراسته بجامعة الأزهر وليحمل العالميتين : ( عالمية الأزهر الخاصة بالغرباء 1925م – 1343هـ وعالمية الأزهر الكبرى سنة 1927م – 1345هـ ) .
وهكذا ينال الشـيخ العربي من جامع الزيتونة المعمور شـهاداته العلمية الثلاث : ( الأهلية 1915م والتحصيل 1917م والتطويع 1927م ) .
وكان الشيخ العربي قد انتخب من قبل زملائه الجزائريين في الدراسـة في جامع الزيتونة ليشغل لهم منصب الكاتب العام لجمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين خلال سنوات ( 1914- 1919م ) ، ومن زملائه الذين درس معهم الشيخ مبارك الميلي . ومحمد السعيد الزاهري السنوسي .
5 – المرحلة التعليمية الخامسة ( 1920 – 1927م )
انتقل العربي من تونس إلى مصر أواخر 1919م ، وهو على أبواب اجتياز امتحان شهادة التطويع العالية بالجامعة الزيتونية ، والتي بها سيختم بها دراسته الجامعية على متن باخـرة تجارية فرنسية قديمة متجهة إلى مصر ، متخفيا في إحدى مقصوراتها ، ونـزل متخفيا في ميناء الإسـكندرية ، وليـس معه من النقود شيء وليلتحق بالجامع الأزهر برواق الطلبة المغاربة الذين كانـوا يعيشون من بـر وأموال أوقاف المسلمين الجزائريين ومن الخيرين بمصر. وقد لاقى من شيخ الرواق والمسؤول عنه ومن سائر إخوانه الجزائريين والمغاربة بالرواق الترحاب الكبير ، مما ساعده على الإقبال بانتظام في سلك الدراسة ، التي فاق فيها أقرانه المغاربة والمشارقة من الطلبة المسلمين .
جهوده الدعوية:
وقد بدأ الشيخ رحمه الله نشاطه التعليمي الإصلاحي بممارسته لمهنتي التربية والتعليم مدرسـا ، والإمامة والوعظ والإرشاد في جامع ومدرسة تبسة ، ثم في مسجد سيدي أبي سعيد لاحقا.
فبعد عودته من مصر عام 1927م كان ينظم في مسجد سيدي أبي سعيد دروسـا دينية دعوية يومية بعـد صلاة العشـاء في : الحديث والتفسير والفقه والسيرة والتاريخ الإسـلامي، تناسب مستوى عامة الناس من سكان تبسة.كما لبى الشيخ و الشيخ محمد البشير الإبراهيمي والشيخ مبارك بن محمد الميلي والشيخ الطيب العقبي والشيخ السعيد الزاهري و الشيخ محمد بن خير الدين دعوة الشيخ ابن باديس في سنة1928 م قصد تكوين جمعية دينية "جماعة الرواد" لبداية العمل الإصلاحي الجمعي في الجزائر.
وظل الشيخ العربي بتبسة مدرسا وواعظا ومرشدا بمسجد أبي سعيد متحديا العراقيل الاستعمارية من جهة ، وعراقيل الطرقيين ،إلى أن دعاه الشيخ ابن باديس لإدارة مدرسة سـيق الابتدائية أواخر سنة 1929م ، فترك الشيخ العربي بلدته تبسة مكرها .
وقد شكل الشيخ العربي أثناء تواجده بمدينة سـيق طليعة إصلاحية، قوامها جماعة إرشادية تعمل لصالح الدين والجزائر، وظل الشيخ معلما ومدرسا ومديرا وواعظا وإماما وخطيبا وقاضيا بين الناس وفي عام1933 عاد إلى مدينته تبسة بعد إلحاح أهلها عليه، وأسسوا الجمعية والمدرسة والمسجد الجامع ـــالذي إشترطهم عليهم مقابل العودة .
وقد كان الشيخ العربي مرجعية دينية وعلمية وتربوية وأخلاقية لأهل تبسة، فبمشاركته حققت الجمعية الخيرية لأهل المدينة بناء مدرسة تهذيب البنين والبنات سنة 1934 ،وفي سنة 1936م بوشـر ببنـاء المسجد الجامع الحر ، الذي صار قبلة لكل أهل الإصلاح من سكان المدينة والقادمين من الأرياف ، وأفل نجم المسجدين أبي سعيد والعتيق .
كما أسند للشيخ رحمه الله إدارة معهد عبد الحميد بن باديس (1947-1956م) طيلة عقد من الزمان، يعينه في إدارته الشيخ محمد خير الدين البسكري،إلى حين غلق الإدارة الاسـتعمارية لمدارس الجمعية عامة ولمعهد عبد الحميد بن باديـس يوم 21/11/1956م ، وتشتت طلابه ، ومنها انتقل الشيخ إلى الجزائر العاصمة .
أما بالنسبة لعمله مع جمعية العلماء المسلمين،و مع تأسيسها سنة 1931م ،عُيِّن نائبا للكاتب العام سنة 1932م،ليعيّن كاتبا عاما للجمعية من سنة 1936م إلى1946م و الذي نال فيه منصب نائب الرئيس،و بقي الشيخ رحمه الله نائبا للرئيس حتى بعد رحيل البشير الإبراهيمي إلى المشرق العربي يوم 07/03/1952م
ظل الشيخ العربي يشغل منصب نائب رئيس الجمعية حتى بعد جلستها الإدارية المنعقدة بالجزائر العاصمة أيام27/28/29/ سبتمبر1954م لاعتبارات إصلاحية لها صلة بتماسك الجمعية أثناء غيابه في موسم
الحج إلى غاية حل الجمعية .
و فاته رحمه الله:
اكتنف الغموض ظروف اختطاف الشيخ العربي كما اكتنف الغموض أيضا حيثيات اختفائه عن مسرح الحياة ، وبين اتهـام وتفنيد وتكذيب الأطراف المعنية باختطافه ضاعت حقيقة وفاته واسـتشـهاده ، اعتمد الدارسون في التأريخ لوفـاة الشيخ على بلاغ جمعية العلماء المنشور في جريدة المقاومة، الذي يعد اختفاءه ابتداء من ليلة الخميس 04/رمضان/1377هـ الموافق لـ 04/04/1957م وقد روى الشيخ محمد علي دبوز طريقة وفاة الشيخ العربي بأنه ألقي به من الطائرة في البحر.
المصدر : منارات من شهاب البصائر للشيخ العربي بن بلقاسم التبسي للدكتور أحمـد عيساوي