وفي الصحيحين عن مسروق قال: "كنت متكئا عند عائشة رضي الله عنها فقالت: يا أبا عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية قلت: ما هن. قالت: "من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ومن زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية ومن أعظم أنه كتم شيئا مما أوحى إليه فقد أعظم على الله الفرية" قال: "وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين انظري ولا تعجليني ألم يقل الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ}{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} فقالت: "أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض" وفي لفظ: "فقلت: فأين قوله عزوجل {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}
قالت: "إنما ذاك جبريل عليه السلام كان يأتيه في صورة الرجال وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد أفق السماء".
وفي الصحيحين أيضا عن الشيباني قال سألت زر بن حبيش عن قول الله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} قال: "أخبرني ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح" وعن ابن مسعود أيضا قال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رأى} قال: "رأى جبريل له ستمائة جناح" وعنه أيضا {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال: "رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح" وقال البخاري في بعض طرقه: "رأى رفرفا اخضر قد سد الأفق" وعن عبد الله قال: {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال: "رأى رفرفا أخضر قد سد الأفق" وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قال: "رأى جبريل".
وقد قال سبحانه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} فبين أن الرسول الذي جاء به إلى محمد رسول كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وهذه صفة لا تنطبق على ما في النفس من الخيال ولا على العقل الفعال فانه اخبر أنه مطاع والمطاع فوق السموات ليس هذا ولا هذا وكذلك قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} وقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} وقال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ}.
وفي الصحيحين عن عائشة أن الحرث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ قال: "أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده على فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" قالت عائشة: "ولقد رايته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصد عرقا".
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: "كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: ما أنا بقارىء قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وذكر الحديث بطوله وذكر فترة الوحي قال جابر في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم في فترة الوحي قال: "بينا أنا امشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني
زملوني فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}فحمى الوحي وتتابع".
وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وهو في الصحيحين ومن حديث عمر وهو في مسلم ومن حديث غيرهما "أنه جاءه أعرابي شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه اثر السفر ولا يعرفه منا أحد فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا اله إلا الله وان محمد رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت قال صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه؟ قال: وسأله عن الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره قال: صدقت" وقال في الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك" وسأله عن الساعة؟ فقال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" وسأله عن أشراطها؟ فقال ما ذكروه فلما أدبر قال: على بالرجل فطلب فلم يوجد فقال: "هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم".
وقد استفاض أنه كان يأتيه في صورة دحية الكلبي وكان من أجمل الناس صورة وقد اخبر الله في القران أن الملائكة أتوا إلى إبراهيم ثم لوطا في صورة رجال فقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ
قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} فأخبر أنهم دخلوا على إبراهيم وسلموا عليه فرد عليهم وأنكرهم لما رأى من صورهم العجيبة واتاهم بالعجل السمين ضيافة لهم فلما رآهم لا يأكلون أو جس منهم خيفة فقالوا له لا تخف واخبروه أنهم رسل الله وبشروه بالغلام العليم إسحاق بعد كبره وكبر امرأته وذلك من خوارق العادات وقالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين والملائكة أرسلوا الحجارة من السماء على قرى قوم لوط وقد ذكر الله قصتهم في مواضع من القران في سورة هود والحجر والعنكبوت وفي كل موضع يذكر نوعا مما جرى.
واخبر الله تعالى أنه أرسل إلى مريم العذراء البتول ملكا في صورة بشر فقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ