الحلقة الاولى
يبدأ مراسل شبكة فلسطين الاخبارية في رام الله بنشر يوميات الحصار البغيض الذي تعرض له في مقر الرئيس الراحل ياسر عرفات، والذي كان محاصرا معه، حيث كان الموت يحوم على رؤوسهم في كل لحظة وهم متسلحون بعزيمة لا تلين وإرادة لا تخبو وإصرار الى المقاومة حتى النهاية، وإن كان مراسلنا اعزل من السلاح الا قلمه الذى اثبت انه أمضى من كل سلاح .. ومع الحلقة الاولى:
شاهد على الحصار – الحلقة الأولى
(لم أكن مقاتلا .. لكني كنت متسلحا بـ(قلم)
رشيد هلال – شبكة فلسطين الاخبارية
تجربة الموت مثيرة بكل تفاصيلها ، لكن أن تنتظر قدومه في كل لحظة فهذا ما كان الجديد في تجربتي … تستحضرك كل التفاصيل الصغيرة والدقيقة التي لم يسبق لك أن تذكرتها .وكأن دوي الانفجارات يذهب بك بعيدا إلى عالم استحضرته عنوة .
لم أكن مقاتلا حتى أفكر في كيفية التصويب نحو الهدف المتربص بي .. لكني كنت متسلحا بقلم لم يتسن له بعد أن يخط ما يدور في هذه اللحظة المجنونة التي لم أستوعبها بعد .. أدركت في أعماقي أن الموت قادم لا محالة .. وداعا عاهد .. وداعا سارة .. وداعا أحمد ورامي .. وداعا أيتها الزوجة وأيها الأم العظيمة .. وداعا لكل تلك الذكريات التي عشتها معك أيتها الشقيق ماجد .. كلمات الوداع التي بعثها قلبي إلى أحبتي أفزعتني للحظة .. لكني استجمعت كل ما لدى من قوة داخلية لأترجم ما تعلمته من شعبي لمواجهة الموت بشجاعة .. عندها سأحلق عاليا لأُبعث للحياة مجددا .
ما دفعني لولوج تجربة (الموت) هذه ليست الفضولية المتصلة بخصال الانسان كائنا من كان ، بل كان الواجب المهني الذي يقتضي وبالضرورة التواجد في قلب الحدث الساخن ، تغطية الحدث وأن لا تقتصر هذه التغطية على مجرد محادثة هاتفية أو مجرد رسالة ، بل نقلا حقيقيا وعن قرب لما يجري من خلال معايشته .
كان هناك إحساس مسبق لدي بأن الحكومة الإسرائيلية تحضر لضربة شاملة للفلسطينيين يكون هدفها الأساس الرئيس ياسر عرفات وقيادته هذه المرة ،لكن الرياح لا تسير بما تشتهي السفن ، فكانت الهواتف معطلة في مقر الرئيس عرفات ، ووضعت قوات الاحتلال شبكة تشويش على الهاتف النقال (الجوال الفلسطيني) الأمر الذي منعني من التواصل مع عملي ، واستعضت عن نقل الخبر بكتابة تجربة الحصار اليومية ، لأكون شاهدا حيا على هذه التجربة الفريدة .
ليلة ما قبل الاجتياح
التوتر والترقب يسودان الشوارع في رام الله والبيرة .. وازدحام في الأسواق ، وإقبال شديد على شراء المواد التموينية ، والجميع يتحدث عن ضربة إسرائيلية ، فقد كانت التصريحات الإسرائيلية المتتالية والصادرة عن المسئولين الإسرائيليين وخاصة من رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون تتوعد بتوجيه ضربة ماحقة للفلسطينيين ردا على العملية الأستشهادية التي نفذتها كتائب عز الدين القسام في نتانيا وأسفرت عن مقتل أكثر من (28) إسرائيليا .
هذه التهديدات ألقت بظلال ثقيلة على الفلسطينيين في كل مكان ، وعلى الفور كانت مقار قوات الأمن العام الفلسطيني مستنفرة حيث قامت بعملية إخلاء تحسبا من غارت يشنها الطيران الإسرائيلي .
الفلسطينيون وبحدسهم الخاص توقعوا أن تكون الضربة الإسرائيلية موجهته إلى رام الله والبيرة العاصمة المؤقتة للفلسطينيين بهد ف الإطاحة بالحلم الفلسطيني .
جميع المواقع تم إخلاؤها باستثناء مقر الرئيس ياسر عرفات الذي ظل فيه مع حرسه الخاص ، ليواجهوا فيما بعد أزمة جديدة كغيرها من الأزمات التي عاشها عرفات في بيروت وغيرها من المواقع .
مساء الخميس 28 / 3 وبعد مكالمة ساخنة جرت بين الرئيس عرفات ووزير الخارجية الأميركي كولن باول ، عقد الرئيس عرفات مؤتمرا صحفيا على عجل أعلن خلاله مجددا استعداده للعمل على وقف إطلاق النار مع الجانب الإسرائيلي ، وتحدث في المؤتمر مطولا عن تمسكه ببنود تفاهمات تينت الأمنية بترابطها مع توصيات ميتشل والأفق السياسي ، وكرر رفضه الخروج عن بنود تينت أو الاستسلام للطروحات الإسرائيلية .
كان واضحا أن إعلان الرئيس عرفات وبالصيغة التي طرحها لوقف إطلاق النار هو لامتصاص رد الفعل الإسرائيلية ، إلا أن تصريحات الانتقام الإسرائيلية تواصلت ولم تعر إنتباها لاعلان الرئيس عرفات هذا.
رجعت إلى المنزل بعد المؤتمر ، وبدأت أستعد لما قد تأتي به الساعات القادمة .
فجر الجمعة 29 / 3
كانت الأحوال الجوية عاصفة ، فالأمطار تنهمر بغزارة والضباب الكثيف يلف المدينتين ، وهدوء مشوب بالحذر لا يبدده سوي نباح الكلاب الضاله . تناولت الهاتف لتحدث مع أبو (يمن) مدير غرفة المخابرات العامة في رام الله لأعرف عن تحركات قوات الاحتلال والحشود الجديدة على محاور مدينتين رام الله والبيرة ، أبلغني عن حشود جديدة وصلت بالمئات للدبابات الإسرائيلية .
كان تقدير القيادة العسكرية الفلسطينية أن تتم اجتياح المدينتين من محور الأرسال في المدخل الشمالي لمدينة رام الله لمحاصرة نقر الرئيس عرفات ، وبالفعل كانت التعليمات الصادرة من قيادة الأمن العام الفلسطيني لمختلف الوحدات القتالية بتوزيع قواها في مختلف المحاور ، وشملت التعليمات أيضا التمركز في عدد من البنايات المرتفعة لشل حركة تقدم الدبابات الإسرائيلية .
في الساعة الثالثة والنصف فجرا بدأ هدير الدبابات الإسرائيلية يسمع عن بعد في أكثر من محور ، وأخذ هذا الهدير يزداد وضوحا مع كل دقيقة تمر . سارعت في الخروج من المنزل للتوجه إلى مقر الرئاسة .
الحالة الجوية العاصفة لم تمنعني من زيادة عداد السرعة إلى أقصى حد ممكن ، فالوضع لا يسمح لي بالتباطؤ ، كنت وسط الشارع الرئيسي المؤدي مقر الرئيس ورأيت القذائف المدفعية الإسرائيلية تتطاير من أمام ناظري ، وفي الطريق بدأت تظهر حشود قوات الأمن العام الفلسطيني التي كانت تستعد لخوض غمار معركة جديدة من المواجهة .
أمام بوابة مقر الرئيس عرفات توقفت تعرف على هويتي أحد حراس الرئيس ، وأدخلني على عجل للمقر الذي كان يعج بالحركة أيضا .
دقائق قليلة وأذا بمئات الدبابات تتقدم من محوري الهاشمية جنوب البيرة ، وبتونيا مرورا بحي عين مصباح غرب رام الله . وسبق تقدم الدبابات دخول وحدات خاصة إسرائيلية لاكتشاف الطريق أمام عملية التوغل . ومع ذلك اعترضتها قوات من الاستخبارات العسكرية الفلسطينية اشتبكت معها في حي عين مصباح ، لكن المعلومات التي وصلت إلى مقر الرئيس عبر جهاز اللاسلكي من قوات الأمن الوطني أن الاشتباك كان مع قوات صديقة الأمر الذي شوش وحدادات الاستخبارات العسكرية الفلسطينية .
وأمام التقدير الخاطئ والقاصر عن وجهة التوغل الإسرائيلي ، استدعت القيادة على عجل القوات التي كانت ترابط في ميدان المنارة وسط رام الله وتلك القريبة من مقر الرئاسة للمرابطة في محيط الرئاسة ، حيث بدأت الدبابات الإسرائيلية بالاقتراب متجنبة المحاور الرئيسة التي توصل إلى المدينتين .
وما أن اقتربت الساعة من الخامسة والنصف صباحا حتى بدأت فوهات المدافع بقصف بوابات الرئاسة والأسوار المحيطة بالمقر . كان حرس الرئيس الخاص وقوات أمن الرئاسة الـ(17) خلف الأسوار يستبسلون في الدفاع لصد التقدم الإسرائيلي نحو المقر .
إلا أن المعركة غير المتكافئة دفعت بالجميع للتراجع أمام فوهات المدافع الإسرائيلية .
في تلك الأثناء تمكنت دبابات الاحتلال من هدم الأسوار الغربية للمقر ، اخترقت مبني الاستخبارات الذي يقع في مقدمة المدخل الغربي للرئاسة ، وفي الوقت ذاته بدأت هذه الدبابات بهدم البوابة الشرقية . وتمكنت من دخول مبنى المخابرات العامة الذي يقع في مقدمة البوابة الشرقية وقصفته بصورة عنيفة وكأنها تحقق انتقاما خاصا لهذا المبني ومن يتواجد فيه .
عندما اقتربت قوات الاحتلال من مبنى المخابرات العامة نزل الرئيس عرفات من مكتبه في الطابق الثالث إلى الطابق الثاني واختار إحدى الغرف مقرا له ، ولتكون أيضا غرفة العمليات التي تدار فيها معركة الوجود الفلسطيني .
في تلك الأثناء كانت البوابة الداخلية للمقر تشهد معركة شرسة بين حرس الرئيس وقوات أمن الرئاسة الـ(17) وبين قوات الاحتلال المدعومة بالدبابات والمجنزرات ، إلا أن المتاريس المصفحة التي وضعها حرس الرئيس في مقدمة البوابة لم تصمد ، حيث استشهد في خلال الدقائق الأولى من الأشتباك مع قوات الاحتلال الضابط شاهر أبو شرار وأصيب أكثر من 18 جنديا وضابطا من حرس الرئيس الخاص .
أمام حجم الهجوم الإسرائيلي بدأ حرس الرئيس ومغاوير قوات أمن الرئاسة الـ(17) بالانتشار وأخذ مواقع جديدة لهم داخل مقر الرئاسة والذي هو مؤسس على شكل مستطيل تتواجد فيه مقار الأمن الوطني والمخابرات العامة وقوات أمن الرئاسة الـ(17) ومقر المحافظ بالإضافة إلى مقر الرئيس عرفات بشكل متصل .
أمام القصف المتواصل استطاعت قوات الاحتلال من إحداث ثغرات في مبني المخابرات حيث تمكنت من النفاذ إلى داخل مبني المخابرات ، وأصبحت الجهة الشرقية لمبنى الرئيس عرفات محتلة تماما ، ولا يفصله عن غرف الرئيس سوي حائط ، بدأت التهديدات تزداد والوضع أكثر خطورة مع محاولات التقدم لقوات الاحتلال من جهة مقر المحافظة التي يتواجد بداخلها مغاوير قوات الـ(17) الذين شكلوا رأس حربه في معركة الدفاع عن حياة الرئيس عرفات ، المعركة بدأت تشتد وتتصاعد وجها لوجه ومن غرفة لأخرى ، فجنود الاحتلال أخذوا يتواجدون في غرف قوات الأمن الوطني وبدأوا بالوصول والاقتراب إلى مقر المحافظة عبر البوابة الرئيسة ومن الفتحات الداخلية للغرف .
في هذه اللحظة قرأ جميع من في المقر الفاتحة وتلو الشهادة … الرصاص بدأ ينهمر كالمطر باتجاه قوات الاحتلال من كافة المحاور لصدهم من التقدم أكثر . وبالفعل بعد أكثر من ساعة ونصف من المواجهة داخل غرف المحافظة استطاع المغاوير من صد جنود الاحتلال .
كان خوف المقاتلين ينبع أساسا من وجود باب خلفي يربط بين مقر الرئيس ومقر المحافظ ، ويمكن لجنود الاحتلال السيطرة عليه وبالتالي تضيق مساحة مقر الرئيس .
صعدت إلى الطابق الثاني حيث يتواجد الرئيس عرفات الذي لم يغمض له جفن طوال الليلة الأولي من الاقتحام والحصار . فالقذائف المدفعية تتساقط على مقره وزخات الرصاص تنهمر من كل صوب وحدب
الحلقة الثانية
الرئيس ياسر عرفات أخذ يتفحص عيون المحاصرين المتواجدين معه في الطابق الثاني، وكأنه يرى فيها عالما آخر غير الذي يعيش فيه من قصف مدفعي، أو لعله كان يجرى في هذه اللحظات عملية اختبار لمن تمالك شجاعته في هذه الفترة العصيبة التي يداهم فيها الموت الجميع من كل اتجاه وزاوية، لا أعرف حقا ماذا كان يبحث عنه الرئيس في هذه اللحظة، لكني كنت متأكدا أنه يحث الجميع بنظراته الثاقبة على الصبر والثبات.
اليوم الثاني للحصار ـ 30/3
واصل الرئيس عرفات سيره في الممر الضيق وهو ممسك بجهاز الاتصال اللاسلكي، وقد لجأ لوسيلة الاتصال هذه بعد أن قطعت الاتصالات الأرضية والخلوية بالخارج، الأمر الذي شكل أزمة حقيقية للرئيس عرفات، فهو غير قادر على أن يجرى اتصالاته مع القادة والزعماء العرب والغربيين لحثهم على الضغط على شارون لوقف العدوان على مقره وعلى الشعب الفلسطيني.
اقترح العميد توفيق الطيراوي مدير المخابرات العامة الفلسطينية في الضفة الغربية أن تكون وسيلة الاتصالات مع الخارج هي جهاز الاتصالات اللاسلكي ، حيث يتصل الرئيس بالمسئولين الفلسطينيين وبعد ذلك تنقل رسائله إلى دول العالم عبر عدد من المسئولين الفلسطينيين. وبالفعل اتصل الرئيس عرفات مع الطيب عبد الرحيم أمين عام الرئاسة، وصائب عريقات وزير الحكم المحلي، وياسر عبد ربه وزير الثقافة والاعلام، وبمدير المخابرات العامة اللواء أمين الهندي الذي أراد منه نقل رسالة عاجلة إلى المسئولين العرب والغربيين والأميركيين لإطلاعهم على حقيقة الوضع في مقر الرئاسة.
الرئيس عرفات الوضع خطير جدا، القصف من كل اتجاه على المبنى، المطلوب تحرك جدي الآن وفي هذه اللحظات لوقف محاولات الاقتحام.
ما أنهى الرئيس عرفات مكالمته اللاسلكية حتى عرج للغرفة التي أتواجد بها وهي مقابل غرفته مباشرة، طلب منا القيام بوضع خزانة المكتب على النافذة الوحيدة للغرفة، كما طلب من المدنيين العاملين في مقر الرئاسة بأن نبقى منبطحين على الأرض خوفا على سلامتنا من الإصابة بالرصاص الإسرائيلي الذي يأتي من كل اتجاه.
ورغم تشجيع الرئيس عرفات لنا، فان الجميع نطق بالشهادة استعدادا للموت القادم، فالانفجارات كان دويها يتصاعد ويتلاحق.
وفي أثناء الصمت القاتل الذي ساد ممر الطابق الثاني كان الرائد وليد عبدو من حرس الرئيس الخاص يتلقى مكالمة خاصة من أحد أخواله بواسطة جهاز لاسلكي وبادره الرائد وليد بكلمة (سامحني، سامحني يا خالي) حتى أن طلب المسامحة وصل مسامع الرئيس عرفات، كلمات المسامحة كان لها وقع خاص لم نسمعه من قبل، بل تأكد الجميع أنها تخرج من شفاه من وضع نصب عينيه الشهادة، وفي هذه الأثناء كان الضابط وليد حمد يخط بيده الثابتة على جدار الممر كلمة (أهلا بروائح الجنة). ومضت الدقائق ثقيلة وبطيئة أمام القصف المتواصل.
في اليوم الثاني استطاعت قوات الاحتلال الإسرائيلي الدخول إلى شبكة الاتصالات اللاسلكية الخاصة بحرس الرئيس، وبدأنا نسمع عبر الأجهزة اللاسلكية ضباط الاحتلال الإسرائيلي يتحدثون إلى المحاصرين يطالبونهم بالاستسلام وأن قوات الاحتلال ستتعامل مع الحرس باحترام إذا ما سلموا أنفسهم. فيما يرد أحد حراس الرئيس عليهم بالقول (اذهب إلى الجحيم… أنتم من يجب أن يسلموا أنفسهم ويرحلوا من هنا… فيما أجاب الرائد سهيل عيسى من قوات أمن الرئاسة الـ(17) بقوله أنتم من دخلتم رام الله، وعليكم أن تفكروا كيف ستخرجون منها أحياء… ولا تخلو المهاتفة اللاسلكية من بعض الشتائم والسباب الموجهة للإسرائيليين.
انهمك الرئيس عرفات بتفقد وتفحص غرف المقر، وفي الأثناء يطلب من بعض الحرس أخذ الراحة والاسترخاء ليتمكنوا من المناوبة والقيام بواجباتهم فيما بعد، لكن دوي المدافع أخذ يشتد ويمنع الجميع من النوم.
لم أصدق أبدا أن خيوط الشمس الذهبية قد بدأت تخترق الشقوق التي أحدثتها القذائف في المبنى، أذكر أن غفوت وأنا أجلس القرفصاء من شدة الإرهاق الذي أصابني.
السبت ـ اليوم الثالث للحصار ـ 31/3
الشعور بالخطر يتعاظم مع كل دقيقة تمر، ومحاولات الاقتحام لمبنى الرئاسة، ونفدت المياه وكميات التموين في المقر، وما زاد الطين بلة ان إمكانية الذهاب إلى المراحيض أصبحت غير واردة بالحسبان، فكل خطوة غير محسوبة ستكلفك حياتك.
وطوال اليوم الثالث من الحصار كانت قوات الاحتلال تعزز من تواجدها في محيط مقر الرئاسة وتواصل محاولات اقتحامها لمقر الرئاسة عبر فتح المزيد من الثغرات الداخلية في المباني الملاصقة لمقر الرئيس عرفات، فيما قامت قوات الاحتلال بعمليات تمشيط واسعة بداخل المباني التي استطاعت الوصول إليها خوفا من وجود جيوب للمقاومة.
ومع ساعات المساء هدأت حدة القصف ثم توقف كليا، وتناهى إلى مسامعنا طلب قوات الاحتلال عبر مكبرات الصوت من المحافظ مصطفى عيسى أبو فراس محافظ رام الله والبيرة، والذي كان محاصرا مع الرئيس عرفات الخروج إليهم للتفاهم كما قالوا.
نزل إليهم وكان بانتظاره في مرآب الرئيس عرفات قائد اللواء الإسرائيلي العسكري الذي احتل مقر الرئاسة، وضابط استخبارات كبير والعقيد أبو (عمري) مسئول الارتباط العسكري الإسرائيلي، حيث طلبوا من المحافظ أبو فراس إبلاغ الرئيس عرفات رسالة مفادها أن لديهم قرارا باقتحام مقر الرئيس عرفات لأخذ المطلوبين بداخله. رد عليهم المحافظ أنه وبحكم الاتفاقات الموقعة بين الجانبين لا يمكنكم الدخول إلى مقر الرئاسة، قاطعه قائد الحملة العسكرية الإسرائيلي بقوله لا توجد اتفاقات فما كان على المحافظ سوى القول أنه سينقل الرسالة إلى الرئيس عرفات، وذهب دون أن يرجع إليهم وعقب المحافظ أبو فراس على تلك المحادثة مع القادة العسكريين بقوله ان لديهم إصرارا على إذلال الفلسطينيين.
كان الإسرائيليون قد قطعوا الاتصال بمسئول الارتباط العسكري الفلسطيني العميد ربحي عرفات الذي تواجد أيضا داخل الحصار مع الرئيس عرفات، وكان مهمة العميد عرفات الاتصال والتنسيق مع الجانب الإسرائيلي في حال نشبت خلافات ومواجهات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، إلا أن الحكومة الإسرائيلية قررت ألغاء مهمة الارتباط العسكري بين الجانبين، وأعادت ما يسمى بالإدارة المدنية التي كان يعمل بها فترة الاحتلال الإسرائيلي الأولى منذ عام 1969.
الأمر الذي يؤكد أن إسرائيل ألغت عمليا السلطة الفلسطينية بأجهزتها التي أفرزتها اتفاقية أوسلو وبقية الاتفاقات المبرمة بين الجانبين.
وأصبحت تتعامل مع السلطة الفلسطينية بأنها سلطة خاضعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأن رموز السلطة الفلسطينية يجب من الآن فصاعدا أن تتعامل مع الأدوات الاحتلالية وليس تلك الأدوات والأجهزة التي أفرزتها الاتفاقات.
نصف الساعة التي خرج بها المحافظ مصطفى عيسى كانت تعني دهرا للبعض، فهي ستحدد ملامح المعركة القادمة… ومع عودة المحافظ ارتفعت حالة الاستنفار في صفوف الجميع.
يبدو أن عدم رد المحافظ على رسالة الإسرائيليين أغاظهم، فاقترب جنود الاحتلال إلى بوابات مقر الرئيس الداخلية بحماية الدبابات وبدأوا بطرق الأبواب المؤدية إلى مقر الرئيس عرفات عندها أيقن الجميع أن الاقتحام وشيك.
في هذه اللحظة ارتفع صوت الرئيس عرفات عاليا خلال اتصاله مع صائب عريقات بواسطة اللاسلكي طالبا منه سرعة التحرك واجراء الاتصالات مع الأطراف الدولية والعربية لابلاغهم بما يجرى على الأرض وما يمكن أن تشهده اللحظات القادمة من ارتكاب مجازر حقيقية، فأجاب صائب (ما أسمعت لو ناديت حيا، ولكن لا حياة لمن تنادى) فرد الرئيس هذه مؤامرة. أيضا كان على وسيلة الاتصال الأخرى أمين عام الرئاسة الطيب عبد الرحيم الذي طلب منه ذات الشيء. دقائق معدودة وهو يرد على أسئلة الطيب عبد الرحيم وعريقات ويقول هم أي الإسرائيليون يكذبون… يكذبون، ها هي محاولات الاقتحام تتكرر. أكدوا أي للأطراف الدولية والعربية أكدوا لهم الحقيقة بأن قوات الاحتلال تواصل بكل قواها اقتحام المقر.
كان وزير الحرب الإسرائيلي يتحدث مع الأطراف الدولية وحتى العربية أن قوات جيشه توقفت عن عمليات قصف المقر.
وبينما كان صوت الرئيس عرفات يرتفع كانت القلوب تزداد خفقانا، والشفاه تتمتم بآيات من الذكر الحكيم والشهادة لا تفارق شفاه الجميع.
في هذه الأجواء القاتمة كان البعض منا يهمس في أُذن الآخر عن سيناريوهات مختلفة لاقتحام المقر.. ويبدو أن مخيلة المحاصر تكون عادة أكثر تفتحا وتحملا من التخيلات التي لا حد أو مدى لها. لكن لحظة الموت بدأت بالاقتراب رويدا رويدا، تشعر بها وتتحسسها كما تتحسس أطرافك.
كنت أحسد أحد العاملين في نقليات الرئيس عرفات ويدعى محمد النمر الذي واجه أزمة الموت بنوم عميق طوال ثلاثة أيام متتالية، فلا دوي القذائف ولا أزيز الرصاص أيقظه، ولا تكدس المتواجدين داخل الغرفة… نعم أجزم أنه كان يمارس بوعي تام رياضة اليوغا التي تدخله عالمه الخاص.
هذا الوضع دفع بالمهندس باسل للقول يبدو أننا في يوم واحد دخلت عليه الفصول الأربعة مرة واحدة فالنيران المشتعلة التي أحدثتها القذائف المدفعية غيرت معالم المكان والزمان.
الثلاثة أيام الأولى من الحصار كانت قاسية بكل تفاصيلها، لكني حسمت أمري وتوكلت على الله العلي القدير بأن الشهادة هي مطلب كل مؤمن محتسب، هذا الشعور أدخل الطمأنينة لنفسي، ولم اعد بقذائف المدافع وأزيز الرصاص، ولكني تألمت كثيرا لوالدتي التي شعرت بألمها وحزنها، لكني كنت متأكدا أن صلواتها ودعاءها الدائمين ستحميني من بربرية الاحتلال.
كانت مشكلة جميع من في المقر وعددهم نحو (300) هي نفاد السجائر، كنت أحمل معي أربع علب وقت حضوري إلى المقر، وكان الشاب خالد الحلو يتبرع باستمرار بسجائره ولكن سرعان ما نفدت أيضا عشنا تجربة الحرمان مرة أخرى ليس فقط للسجائر وانما للطعام أيضا وتجددت آلام الأمعاء الخاوية.
فرح غير اعتيادي في مقر الرئاسة
تفاجأ جميع من في المقر بوجود تجمع كبير من الأجانب أمام البوابة الشرقية الخارجية للرئاسة، عصر اليوم الثالث للحصار.. وهم يرفعون اللافتات ويرددون الهتافات بصوت مرتفع حتى أن صداه وصل للرئيس عرفات، اطلق جنود الاحتلال النار فوق رؤوسهم في محاولة منهم لردعهم لكنهم لم يرتدعوا وواصلوا تقدمهم إلى أن باتوا قريبين من البوابة الداخلية التي كانت محصنة بالمتاريس، استعد حرس الرئيس لاستقبال هؤلاء الأجانب الذين جاؤوا على غفلة من أمرهم وفتحوا فسحة في التحصينات من أجل إتاحة المجال لمرورهم، وبالفعل قدموا إلى المقر وسط تصفيق حار وابتهاج من في داخل المقر، وعلى الفور صعد جميعهم إلى داخل غرفة الرئيس عرفات الذي استقبلهم بحفاوة، وأكد لهم أن خطوتهم هذه تعبير عن الضمير الحي للذين يرفضون همجية الاحتلال الإسرائيلي التي تمارس أبشع الأساليب ضد الفلسطينيين ومن أعمال قتل وتدمير ومجازر مماثلة لصبرا وشاتيلا.
كان وفد الأجانب الذين تمكنوا من دخول مقر الرئيس المحاصر ينضم إلى لجنة الحماية الشعبية الدولية ويتشكل من عدة جنسيات، وأيضا من عرب جزائريين ومغاربة يحملون جنسيات فرنسية.
مسئولة الوفد كانت كلوديا لويوستيك فرنسية الجنسية، تعمل مدرسة للغة الفرنسية في نابلس.
قالت لـ(الوطن) لحظة سماعي لما يجري في رام الله والبيرة المحاصرتين وامكانية ارتكاب مجزرة حقيقية إذا ما حاولت قوات الاحتلال اقتحام مقر الرئيس عرفات قررت التوجه إلى رام الله بأي ثمن.
قالت كلوديا ان أعضاء الوفد يحملون قناعات بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون هو مجرم حرب قديم، ويريد تدمير الشعب الفلسطيني، واتفق أعضاء الوفد مع كلوديا بأن لا سلام مع شارون وحكومته.
يعتقد أعضاء الوفد أن الصمود الفلسطيني يعزز من صمودهم في دائرة الصراع الجاري حاليا ضد العولمة، والتي تريد الولايات المتحدة الأميركية من خلال العولمة إحكام سيطرتها على العالم. وأكدت كلوديا أن الفلسطينيين ومعهم الوفد المتضامن سيكسبون الحرب، وأن الاسرائيليين هم الخاسرون في النهاية. وقاطعت الحديث الدائر نتايا غولان يهودية تحمل الجنسية الكندية ومتزوجة من فلسطيني من نابلس، وقالت لشبكة فلسطين الاخبارية أريد أن يعيش أولادي بسلام، ولكن في ظل اختلال المفاهيم والكيل بمكيالين من قبل الولايات المتحدة الأميركية، أشك أن يستطيع أولادي أن يعيشوا بسلام بسلام في وطنهم… شارون وبوش ينظران للدم اليهودي بأنه دم ثمين، أما الدم الفلسطيني فما زال رخيصا وفق معتقدهما.
رفض أعضاء الوفد الأجنبي الأربعون أن يعاملوا كضيوف مميزين لدى المحاصرين، بل تطوعوا لكل الأعمال الروتينية التي يقوم بها الحرس من أعمال نظافة وغيرها حتى أن بعض المتطوعات مثل كلوديا قامت بمحاولة طبخ ما تبقى من وجبات .لقد جلبوا معهم بعض علب الحلوى وقاموا بتوزيعها على المقاتلين، وفي ساعات الليل يتوزع أعضاء الوفد على جميع غرف الرئاسة لجعل أنفسهم دروعا بشرية أمام هجمات قوات الاحتلال المحتملة.
جوليا الألمانية كانت فتاة تكره العنف بجميع أشكاله، ومن أنشط أعضاء الوفد، كنا نشاهدها وهي تمزق قميصها لتضميد جراح أحد المصابين، كانوا كخلية نحل، فهذا البروفيسور جرار ابن الستين يواصل ليله بنهار في كتابة التقارير التي تكشف نازية الاحتلال، ولم يكل من كتابة الفظائع الإسرائيلية طوال أيام الحصار رغم الاعياء الذي بدا على جسده النحيل المرهق.
وللأسف الشديد لم يمض على المغربي محمد بن بركة والذي يحمل الجنسية المغربية سوى يومين حتى علم من القنصلية الفرنسية بموت والده، كان مشهدا مؤثرا عندما اصطف الحرس وقاموا بتقديم واجب العزاء له. لم يطلب من القنصلية الفرنسية ان تخرجه من مقر الرئيس المحاصر بل فضل البقاء مع الرئيس عرفات رغم فاجعته بموت والده.
رغم الحزن في الوفد الأجنبي كان هناك مناسبة سعيدة لأحدهم، حيث احتفل نيكلسون بول 55 ـ من اقليم الباسك في أسبانيا ـ بعيد ميلاده في إحدى غرف الرئاسة، وكان سعيدا بحفلة عيد الميلاد المتواضعة، وكمفاجأة لضيوف الحفل حمل صينية صغيرة تحتوي على بعض قطع الحلاوة والبندورة بديلا عن قطع الكيك. وأشعل شمعة ثم اطفأها مع تمنيات الجميع بعيد ميلاد سعيد، وكان مشهدا مؤثرا عندما قام العميد توفيق الطيراوي مدير المخابرات العامة في الضفة الغربية بإهداء بول ميدالية بيت لحم (2000) والعلم الفلسطيني، وبعد ذلك تناولوا الصور التذكارية لهذا الحفل الغريب.
الحلقة الثالثة
عانى المحاصرون أوضاعا صعبة جراء النقص الشديد في الماء والغذاء في اليوم الرابع للحصار، ورفضت قوات الاحتلال السماح لسيارات الصليب الأحمر بإدخال مواد التموين وعبوات المياه .
ومنذ اليوم الأول من الحصار تم تدمير شبكة المياه والاستيلاء على مستودعات التموين والتي كانت قد تم تخزين الطعام فيها قبل يوم واحد من الحصار .
واكتفى جميع المحاصرين على رشفات قليلة من المياه وعلى كسرات الخبز الجافة وقطعة صغيرة من الجبنة الصفراء.
شعر الرئيس عرفات بمدى العطش والجوع الذي ألم بالمحاصرين ، فبدأ يكثف من لقاءاته مع الحرس والمحاصرين لحثهم على التحمل والصبر .ولتفويت الفرصة على قوات الاحتلال وإغاظتهم بهذا الصمود .
بدأ محافظ رام الله والبيرة مصطفى عيسى أبو فراس يكثف اتصالاته عبر الأجهزة المتوفرة من اللاسلكي والهواتف الإسرائيلية الاتصال بالصليب الأحمر لإدخال التموين للمحاصرين والدعوة إلى إصلاح شبكة المياه المدمرة .ولكن هذه الاتصالات لم تثمر بعد … والجميع ينتظر . وبات الوصول إلى رشفة الماء منالا صعبا ، وان توفرت للبعض فـانهم يمتنعون عن تناولها لإتاحة الفرصة لمن هو بحاجة لتلك الرشفة أكثر ليطفئ ظمأه .
في هذه الأجواء الصعبة بدأت أيضا تواجه المحاصرين مشكلة جدية وهي امكانية تفشى الأمراض خاصة في ظل تراكم القاذورات والأوساخ والروائح غير الصحية التي أخذت تظهر في الحمامات الرئاسية لكثرة العدد الموجود . الأمر الذي أثار رعبا حقيقيا بين المحاصرين .
وأكد الطبيب عمر دقة الطبيب الخاص للرئيس عرفات أن عدم وصول المياه للمقر في هذه اللحظات يعني تفشى الوباء والأمراض ، خاصة أن بعض المحاصرين أصيبوا بحالات إسهال شديد، عدا عن حالات القمل ، وكانت هناك خشية من أن تصل الأمور للإصابة بالقمل والكوليرا.
ولم تقتصر المعاناة على النظافة لعدم وجود المياه بل ومن قلة الأدوية خاصة تلك المضادة لمرض الكزاز ، وتزداد هذه الخشية في وجود عدد كبير من المصابين داخل مقر الرئاسة لم يتم نقلهم إلى المستشفيات خشية من أن تخطفهم قوات الاحتلال كما فعلت مع المصاب أسامة الياسيني الذي فقد إحدى عينيه ومع ذلك ورغم آلامه اقتادته إلى السجن بدلا من المستشفى .
أمام هذه الأوضاع الصعبة قرر عدد من المغاوير خوض مغامرة خطيرة بكل مقاييسها ، فقد تسللوا من الطابق الثالث من جناح قاعة المؤتمرات إلى الطابق الأول ، وفتحوا إحدى النوافذ المطلة على أحد المستودعات التي تسيطر عليها قوات الاحتلال ، ورغم الاحتمال الكبير من قوع المجابهة مع قوات الاحتلال أو الوقوع في كمائنهم ، فقد أصروا على إحضار عبوات المياه من المستودع بعد ان تأكدوا من مدير مكتب الرئيس عماد النحاس من مكان وجودها ، وفعلا تقدموا باتجاه المستودع بخفة ورشاقة ومارسوا التضليل للوصول للموقع ، وبعد أقل من عشر دقائق كانوا يحملون عبوات المياه ويدخلونها من النوافذ . شعروا بنصرهم الذي حققوه وارتاح جميع المحاصرين ، وأصر الجميع أن تكون رشفات المياه الاولى هي من نصيب هؤلاء المغاوير. مغامرة كادت ان تؤدى بحياتهم ، لكنها كانت تستحق فقد بلغ العطش أشده .
صاروخ لاو داخل غرفة مجلس الوزراء
لأول مرة أشعر بخوف حقيقي في الحصار ، فقد صعدت إلى الطابق الثالث بعد أن بدأت أشعر بضيق التنفس في الطابق الثاني لكثرة التحصينات التي أدخلت عليه ولإغلاق جميع المنافذ التي تتيح بإدخال الأكسجين ، صعدت لأتنفس رغم خطورة ذلك ، وبينما كنت أسير في الممر الذي يؤدي إلى مكتب الرئيس عرفات وقاعة مجلس الوزراء كان يجلس في الممر العقيد محمود ضمره أبو عوض مسئول قوات امن الرئاسة الـ(17) الذي تبادلت معه أطراف الحديث وعزمني على فنجان قهوة وهي تعتبر في هذه الظروف عزيمة ملوكية ، وبينما كنا نتحدث فإذا بانفجار ضخم يقع بداخل قاعة مجلس الوزراء مصدره صاروخ لاو محمول من جندي إسرائيلي ، حملني انفجار الصاروخ مع الكرسي الذي كنت جالسا عليه وأنا ممسك بفنجان القهوة ، لم أصب بأذى فقد حماني الجدار الذي كنت أستند عليه ، وأصيب أربعة من قوات أمن الرئاسة كانوا يتواجدون داخل القاعة بجروح بليغة .
كان قصف قاعة مجلس الوزراء ردا مقصودا على قوات أمن الرئاسة الـ(17) التي ترابط في هذه المنطقة من مقر الرئيس ، والتي خاضت معركة عنيفة مع قوات الاحتلال بقيادة أبو عوض تمكنت فيها من استعادة مقر المحافظة والذي احتل بعد رابع محاولة اقتحام من قبل قوات الاحتلال .
اعتبر العقيد أبو عوض احتلال مقر المحافظة خطوة خطيرة يجب الرد عليها ، وبدأت المعركة صباح اليوم التاسع للحصار عندما دهمت مجموعة من المغاوير الباب الفاصل بين المحافظة ومقر الرئيس وسط إطلاق كثيف للنيران وإلقاء عبوات ناسفة شديدة الانفجار . وفي أقل من دقيقة استطاعت مجموعة المغاوير من التسلل عبر البوابة التي احترقت كليا ، وواصلت إطلاقها النار على جنود الاحتلال الذين تقهقروا وبدأوا بالنزول إلى درج المحافظة في هذه اللحظة ألقى المغاوير عددا من القنابل الناسفة على جنود الاحتلال مما أوقع خسائر حقيقية بين قتلى ومصابين لم تعترف بها قوات الاحتلال . قام المغاوير بتمشيط المنطقة واستولوا على جميع مقر المحافظة .
لم يكتف الشبل يوسف من قوات أمن الرئاسة بتواجده داخل مقر المحافظة ، بل أراد الوصول إلى ما هو أبعد من ذلك ، فدخل في الثغرة التي فتحتها قوات الاحتلال عبر الحائط الفاصل بين المحافظة ومقر قوات الأمن الوطني ، واصطدم خلال تسلله بجنود الاحتلال الذين أطلقوا عليه القذائف المحمولة ، وكانت ردة فعله بأن بادر بفتح وابلا من الرصاص وهو مختف وراء الأبواب مما أدى إلى جرح عدد منهم بجروح . ورجع الشبل يوسف فرحا لقيامه بهذه المغامرة القاسية .
كان عدد من المغاوير مهتمين بعد تحرير مقر المحافظة بجمع مواد التموين التي كانت تتواجد في المقر وهي عبارة عن ثلاثة من أكياس الأرز وبعض عبوات المياه وبعض الأغطية والمرطبات ، فكانت هناك فرحتان الأولى بالسيطرة على المحافظة ، والثانية بما حصلوا عليه من تموين .
بعد المعركة عدت إلى ذات المكان في الممر بين قاعة مجلس الوزراء وغرفة الرئيس عرفات ، وجلست مرة أخرى بجانب العقيد أبو عوض وهو المطلوب بشدة لقوات الاحتلال ، نعم كان قائدا للمعركة ، وصلبا في تحديه لقوات الاحتلال ، تحدى الحصار وأخترق التحصينات التي أقامتها قوات الاحتلال ، وأطلق قذائف (البى سفن)، وشكل رأس حربة في معركة الوجود الفلسطيني في مقر الرئاسة ، أحبه المقاتلون وجعلوه قدوتهم ، وحاولوا تعلم عدم رهبة الموت والاقدام عليه بابتسامة… ببساطة أرادوا تشرب مسلكياته البطولية.. فهذا القائد ينام مع مقاتليه ويأكل معهم .. ويقوم بواجب الحراسة كأي جندي عادي ، لا يتذمر ولا يعرف سوى الاقدام .
لقد اختير أبو عوض لأن يكون داخل مقر الرئاسة وليس خارجه ، مع ان إمكانياته في الخارج توفر له فرصة ليكون أشد انقضاضا على قوات الاحتلال ومع ذلك بقي مقاتلا عنيدا .
قال أبو عوض لـ(الوطن) وهو ينفث سيجارته ، حاولت قوات الاحتلال اقتحام المقر عدة مرات ، لكنهم لم ينجحوا أمام التصدي البطولي لقواتنا ، وكانت تدور المعارك الشرسة من غرفة إلى غرفة .
بادرته بالسؤال عن سبب إسناد المهام الخطرة في حماية مقر الرئيس لقوات أمن الرئاسة الـ(17) ، قال أبو عوض قوات الـ(17) هي القوة التنفيذية لحماية الرئيس عرفات ، ورجالها مدربون ومتمرسون في القتال .
وتابع أبو عوض قوله نحن جاهزون للقتال ، فاما أن نكون شهداء أو أحرارا ( النار ولا العار ) . وبرر أبو عوض سرعة وصول دبابات الاحتلال إلى مقر الرئاسة بتأكيده أن الحملة العسكرية الإسرائيلية لم يسبق لها مثيل ، حيث اقتحمت رام الله والبيرة أكثر من (500) دبابة . ولم تكن لدى القوات الفلسطينية أسلحة ثقيلة تواجه هذا الكم من الدبابات .
ومع ذلك أوضح أبو عوض أن إسرائيل ستكون مهددة في عمقها إذا ما حاولوا المس بحياة الرئيس ياسر عرفات .
العقيد أبو عوض الذي كان يمضى ليله متنقلا من سيارة إلى أخرى خشية من قيام مروحيات الأباتشي من اغتياله ، أوقف ترحاله القسري وبدا أكثر راحة ببقائه محاصرا.
صور ومشاهد من داخل الحصار
أبو فراس في الخمسين من عمره رفض إعطاء اسمه رغم أنه معروف بعمله في مكتب السكرتارية لدى الرئيس عرفات ، هادئ الطباع ولا يتحدث كثيرا ، غزا الشيب شعره وذقنه الحليقة ، كان دائم الحركة يبحث من زاوية إلى أخرى عن إرسال أفضل للهواتف النقالة التي كان يحملها بنظام الأورنج وليس الجوال الذي ما زال مقطوعا . أخذ على عاتقه مهمة الاتصال بالمواقع المختلفة في جنين ومخيمها الذي يتعرض لأبشع مجزرة ، وفي البلدة القديمة في نابلس ، كان يستقى الأخبار من المسئولين والمعارف ومن كل من له علاقة بالحدث .
ما أن يكتب حرفا أو كلمة أو جملة حتى ينقطع الاتصال مجددا ، ويزداد توتره ، فعليه إرسال الأخبار وتفاصيلها إلى الرئيس عرفات الذي ينتظر ، ودون كلل كان يعاود الاتصال ، وتزاد مهمته صعوبة خاصة في ساعات الليل ، فالظلام يسود المكان ، وتزداد الضجة والضوضاء من حوله فالكل يريد الاتصال بذويه ليطمئنهم أنه بخير ليسكن روعهم .
ومع ذلك يشعل شمعته التي بالكاد تضيء بنورها الخافت المكان الذي يجلس فيه ليواصل متابعة أخبار المجازر .
أجلس بجانبه لأسمع الأخبار ، وبين وقت وآخر أسمعه يتحدث عن ضرورة متابعة المسئولين لعدد من القضايا ، ويقول : هذه أوامر (الختيار) أي الرئيس عرفات ، ويجب تنفيذها على عجل ، على الجميع أن يتعاون في هذا الظرف الصعب ، فلا مجال للصغائر ، الوطن بحاجة للجميع .
لم تكن رتابة في يوم المحاصر ، رغم هدوء القصف ، فالتهديد ما زال قائما ، واحتمالات اقتحام مقر الرئيس واردة في كل الأحوال ضمن عقلية شارون النازية .
ومع ذلك فإن هذا التوتر الساكن يحمل دائما خواطره التي تدهم البعض ، ويبدو أن عدم رؤية الشمس ، وهواء ابريل المشبع بروائح الأزهار والليمون التي تهب من الجبال والهضاب المحيطة برام الله والبيرة مخترقة الحصار أثارت الشجون .
أتفحص وجوه المحاصرين ، أحدق في عيونهم ترى في كل وجه حكاية وقصة ما يتألم القلب لها وتدمع العين ، فهي حكاية عذابات الفلسطيني المشتت والمطارد والمحاصر .. حكاية الكفاح الطويل الذي لم يصل إلى محطته النهائية بعد .
أجواء الجدية والاستنفار لم تمنع سعد اليتيم من رسم الابتسامة على شفاهه .. سعد اليتيم هكذا اسمه أو هكذا يفضل رفاق السلاح أن يطلقوا عليه هذه التسمية ، عنيف وعنيد ، لكنه رقيق القلب ، متزوج وأب لثلاثة زهرات ، ملتحق بقوات أمن الرئاسة الـ(17) ، مختص في اطلاق قاذف البي سفن ، جلست بجانبه القرفصاء شعرت بحنينه إلى زوجته وأطفاله ، كان قلقا على دعاء ابنة الأربعة أعوام فهي مريضة ، وبحاجة إلى عملية جراحية ، زوجته المتواجدة في العاصمة الأردنية عمّان لا تستطيع أخذ دعاء إلى المستشفى لعدم توفر أية نقود معها حاليا .
تأسف سعد لحاله ، ولكنه أكد أن بإمكان زوجته الذهاب إلى بعض الأصدقاء لحل هذه المشكلة .
لم يشاهد زوجته وأطفاله منذ أكثر من عام ، فهو لا يستطيع الخروج من رام الله ، وكيف يغادرها ومعركة الدفاع عن الوجود متواصلة مع قوات الاحتلال منذ عام ونصف .
أحضر زوجته من عام قبل سنة ، واستأجر غرفة في فندق الميرلاند بمدينة رام الله ومكثت معه عشرة أيام .
سعد اليتيم المحارب لا يملك بيتا في وطنه .. ولا يملك ما يشعره بالانتماء وبحافز القتال… رغم جهوزيته الدائمة وتوثبه والمخاطر التي عاشها .
كان ضمن رأس الحربة في الدفاع عن مقر الرئيس عرفات يحمل قاذف البي سفن ويتقدم الصفوف ليكون متراسا عنيدا لا يعرف التراجع .
وتبقى أمنية اليتيم إيجاد منزل يضمه وزوجته وأطفاله ليستقر في رام الله وفي وطن محرر .
الساعة السادسة مساء، أشعر بجوع شديد ، فلم يدخل معدتي شيء اليوم … ورغم الجوع فإني أشعر بحاجتي الماسة للسيجارة حتى أواصل كتابتي .. التي انقطعت عنها اليوم للجوع وللشوق للسيجارة.
الحلقة الرابعة:
كان النقيب سعيد اللحام المسئول عن أمن احدى القاعات التي يتواجد بها المحاصرون، يحاول جاهدا توزيع بعض كميات الطعام القليلة التي تأتي كمخصص للقاعة، ومهما كان عادلا في التوزيع فان الكميات القليلة تجعله يخوض صراعا مريرا في جعل الجميع قانعين بعدالة توزيعه.
وجبة أو وجبتان توزع على المحاصرين من معلبات أو قطعة جبن صفراء لكي تكون كافية لصمود المحاصر.
دفع الجوع الذي يحس به المحاصر للحديث عن الموائد العامرة وعن صيد الغزلان مثلما كان يفعل باصر عبد اللطيف في دير السودان (قرية غرب رام الله).
الضجة التي تحدثها عملية التوزيع سرعان ما تنتهي عند أول استنفار يطلبه مسئول الأمن في مقر الرئاسة والذي يأتي عادة عقب أي تحرك لقوات الاحتلال الإسرائيلي في مقر الرئاسة.
ويقطع الصمت العقيد جهاد الغول أحد مسئولي أمن الرئيس عرفات ليسأل عن نظارة طبية.. العقيد الغول عادة ما يتجول في قاعات مقر الرئيس عرفات ليطلع على الأوضاع عن كثب وليتحقق من سير الحراسة، وتحركات قوات الاحتلال، فيما إذا كانت هذه التحركات تستحق إعلان استنفار أم لا.
للعقيد الغول حكايات قد يكون بعضها خياليا إلا أنها تعكس ما يواجهه الفلسطيني في ثورته وشتاته.
كان العقيد الغول مع الرئيس عرفات في حصاره في بيروت وطرابلس، وكان معه عندما سقطت طائرته في الصحراء الليبية في 7/4/1992، وكان من بين الذين كتبت لهم حياة جديدة.
يتحدث مع هذا المقاتل أو ذاك عن الجاهزية والاستعداد.
آه من الوجع والألم والقهر، أراه غير قادر على تحريك جسده المنهك والهزل.. يتألم بشدة عندما تداهمه نوبة ألم جديدة.. يرتفع صوته الضعيف طالبا من الله أن يترفق به ويريحه من عذابه. رجوته أن لا يفعل ذلك، خالد أبو شاويش المقعد حاليا جراء اصابته بتسع رصاصات من عيار (250) في ظهره وبطنه ويده. كان أبو شاويش (30 عاما) قد اشتبك مع قوات الاحتلال الإسرائيلي عند توغلها في رام الله في شهر (10) من العام الماضي، حيث اشتبك مع هذه القوات في محيط مستشفى خالد بمنطقة الإرسال في رام الله.
توغل خالد خلف خطوط العدو إلا أن دبابتين حاصرته وأطلقت النار عليه بغزارة وذلك عندما شخصته بأن الموجود في المكان هو خالد أبو شاويش المطلوب حيا أو ميتا لقوات الاحتلال.
فتحت هذه القوات النار بغزارة عليه، وظنت أنه استشهد، وللمفارقة الغريبة أن من قام بإنقاذه هي الفدائية وفاء الإدريسي، والتي كانت تزوره فيما بعد في المستشفى وهي تحمل بطاقات الزهور.
أخضع خالد لسلسلة من العمليات الجراحية المعقدة جراء اصابته الخطيرة، ومع ذلك بقي مقعدا.
ُحمل خالد على عجل إلى مقر الرئيس، خوفا من قيام قوات الاحتلال من اختطافه من داخل مستشفى الرعاية الطبية الذي كان يرقد بداخله، وبالفعل علمنا أن قوات الاحتلال اقتحمت المستشفى بعد ساعة واحدة من اجتياحها لرام الله.
كان رئيس أركان جيش الاحتلال شاؤول موفاز أطلق عليه لقب (رامبو فلسطين) بسبب البندقية التي يحملها والتي مصدرها إسرائيلي وهي من طراز (أم 18) والتي تستطيع إطلاق قذائف الأنيرجا، وكانت قوات الاحتلال وأجهزة أمنها تتهمه بأنه كان يعمل ضمن خلية تقود كتائب شهداء الأقصى الجناح العسكرى لفتح، وتتكون هذه الخلية المسئولة من قائدها الشهيد أحمد غندور والذي استشهد خلال عملية اغتيال وتصفية تعرض لها في ظروف ما زالت غامضة، والشهيد مهند حلاوة والذي استشهد خلال قصف مروحيات الأباتشي لسيارته التي كان يقودها يوم 8/2/ 2022 وسط رام الله.
وخالد الذي تعرض أيضا لمحاولتي اغتيال وتصفية، وكانت الأولى في جنين خلال مطاردة مروحيات الأباتشي له، أما المحاولة الثانية له فكانت خلال اطلاق صاروخ أرض ـ أرض من مستعمرة بساجوت باتجاه سيارة كان يستقلها مع الشهيد مهند أبو حلاوة وسط مدينة البيرة.ونجا فيها أبو شاويش، فيما أصيب أبو حلوة بجروح وحروق.
أطلق الإسرائيليون على خليتهم بأنها الخلية الأخطر لأنها تتجول في المدن الفلسطينية وتتميز بالجراءة الفائقة والعمل المتقن.
خالد يفتح دفتر يومياته.. ويبتسم.. فهو لا يجد من العناوين المدونة فيها إلا أسماء الشهداء.. وبقي هو بانتظار الموت القادم الذي يعرف موعده ولا مكانه.. فهل سيكون لقاؤه مع ربه في مقر الرئيس عرفات هذه الليلة أو غدا.. هو لا يعرف ولا أحد منا يعرف أيضا متى سيكون موعده مع الموت.
عمل خالد في سجن جنيد في نابلس، وبدلا من يكون سجانا لرفاق السلاح من حركتي الجهاد الاسلامي وحماس متن علاقاته معهم وخلق تعاونا جهاديا مع الشهداء إياد الحردان ومحمد بشارات، وأنور حمران، وابراهيم بني عودة.
وكانت قوات الاحتلال في حينها اتهمت الشاويش وقوات أمن الرئاسة الـ(17) بأنهم ينسجون العلاقات مع حركتي الجهاد الإسلامي وحماس ويفتحون قنوات اتصال مع الأجنحة العسكرية للحركتين واستخدام قادتهم في العمليات العسكرية الجهادية.
يغمض عينيه وهو مستلق على فرشة بسيطة وكأنه يغوص إلى داخلها يستعرض شريط ذكرياته الحافلة بالمغامرات البطولية والمعاناة، لكن نوبات الألم المتلاحقة تخرجه من صفاء ذهنه المتوقد ليرجع مجددا لألمه المبرح.
ذات ليلة وعندما كان الرئيس عرفات يتفقد غرف الرئاسة كان خالد نائما، فانحنى الرئيس بجسده إلى خالد ليطبع قبلة على جبينه، واستدعى الأطباء ليطمئن على وضعه الصحي.
خالد حتى مع اصابته وشلله كان يمارس دوره القيادي في كتائب شهداء الأقصى، كانت دارين أبو حجلة وقت ما فجرت العبوة الناسفة على جسدها عند الحاجز العسكري المقام بالقرب من مستعمرة مودعين على الهاتف الخلوي مع خالد، قالت له لقد تجمع أكثر من عشرة جنود عند السيارة الفرصة مؤاتية، ولم يسمع بعدها سوى صوت الانفجار.
مشاريع الشهداء كانوا بجانبه يعتنون به ويخففون عنه ألمه الدائم.
أزحت وجهي قليلا لأرى قصة أخرى تروى ذات البطولة والفداء في رجال وصبية ينتظرون لقاء ربهم وهم شامخو الرؤوس.
قلق القيادة الفلسطينية من خلق قيادة بديلة
طوال الثمانية الأولى من الحصار عاشت القيادة الفلسطينية قلقا حقيقيا من إمكانية تحقيق شارون لمخططه من خلق قيادة فلسطينية بديلة، وكيف لا وشارون بدأ بترجمة تصريحاته على الأرض، فهو الآن يحاصر الرئيس عرفات في مقره، ويقف على عتبة المقر، وحاول جديا اقتحام المقر، لكن صمود وبسالة المقاتلين دحرت مخططه بالاقتحام في الأيام الأولى من الحصار، حيث تأكد شارون أن أي محاولة اقتحام لا بد أن تصاحبها مجزرة حقيقية قد تكون لها حسابات عكسية لسياسته.
ومع ذلك أكد شارون أنه سيعزل الرئيس عرفات وسينفيه، وأن عرفات ليس شريكا له في عملية السلام.
تزامنت تصريحات شارون بتصريحات للرئيس الأميركي جورج بوش يبرر فيها العدوان الشامل والسافر على الشعب الفلسطيني بما فيها عملية حصار الرئيس عرفات في مقره، مشيرا إلى أن الرئيس عرفات فوت الفرصة على شعبه لتحقيق السلام.
وما زاد الطين بلة دعوة ممثل السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي خافير سولانا ، الرئيس عرفات وشارون إلى الاستقالة والتقاعد.
أدرك الرئيس عرفات حينها أن المؤامرة قد حيكت ضده شخصيا والتي بدأ شارون بتنفيذ فصولها.
الرئيس عرفات المحاصر والذي يتعرض لقصف الدبابات كان وحيدا في مواجهة هذا التحدي الوجودي، ولم يكن معه في حصاره أحد من القادة الفلسطينيين السياسيين سوى مستشاره نبيل أبو ردينة، وبعض القادة العسكريين، ومع انقطاع الاتصالات الهاتفية بدأت الأمور تزداد صعوبة وتعقيدا بالنسبة للرئيس عرفات، فالمطلوب أميركيا وإسرائيليا من القيادة الفلسطينية هو نفي ذاتها.
اقتصر الرئيس عرفات في اتصالاته في الأيام القادمة من الحصار على أربعة مسئولين فلسطينيين هم محمود عباس أبو مازن أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وياسر عبد ربه وزير الثقافة والاعلام، وصائب عريقات وزير الحكم المحلي، والعقيد محمد دحلان رئيس جهاز الأمن الوقائي في غزة، وفيما بعد محمد رشيد المستشار الاقتصادي.
الرئيس عرفات لحق أيضا بالباحثين عن زاوية في محاولة لالتقاط الإرسال من هاتف نقال يعمل بنظام الأورنج بعد انقطاع الاتصالات الأرضية وصعوبة الاتصالات اللاسلكية.
ووجد هذا الركن في احدى زوايا المطبخ، وهذا اضطره للتنقل من الطابق الثاني إلى الثالث للقيام باتصالاته.
لقد أدرك الرئيس عرفات حجم وعمق المؤامرة الإسرائيلية والدولية، ورد عليها في أول حديث علني تمكن من إجرائه بأنه لن يكون أسيرا أو طريدا، بل شهيدا.
في الحقيقة لم تكن هذه الكلمات مجرد كلمات للاستهلاك المحلي أو للتحريض.. بل هي تلخيص حقيقي للموقف الذي اتخذه الرئيس عرفات في مواجهة معركة الوجود هذه.
لقد أراد أولا أن يوجه رسالة للمحاصرين معه أن الأمر قد حسم باتجاه المواجهة التي قد تؤدى إلى شهادة جميع من في المقر، وبالتالي فان عليهم ترتيب أوضاعهم على هذا النحو.
ثانيا: وجه رسالة للقيادة الفلسطينية في الخارج مفادها أن المواجهة ستكون حتى النهاية، وهذا النهج الذي اختطه رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأن لا مجال لعقد صفقات جانبية قد تضر بهذا التوجه، إلا إذا غيرت الولايات المتحدة من موقفها الحالي الداعم لشارون في عملياته العدوانية التي تستهدف القيادة والسلطة على حد سواء.
وثالثا: وهو الأهم قطع الطريق كلية أمام المخططات الإسرائيلية والأميركية في خلق قيادة فلسطينية بديلة، فمن سيتجرأ حتى على التفكير لأن يكون بديلا لمشروع الشهادة الذي أطلقه الرئيس عرفات.
لقد أخرج الرئيس عرفات بكل أوراقه ليواجه المعركة حتى وان كان وحيدا، فقد اعتاد اللعب بالنار وأجاد اللعب بها على مدى ثلاثين عاما، ولكن الورقة الأساسية التي كانت بيديه هي الجماهير الفلسطينية والعربية التي أثبتت بجدارة أنها قادرة بتحركها أن تكون عاملا مؤثرا في حقيقة المعادلة السياسية العربية القائمة.
وأدرك الرئيس عرفات بحسه الفطري أن حركة الجماهير العربية التي انطلقت في مختلف العواصم العربية مع مزيد من الصمود والثبات الفلسطيني قد يؤتي بثماره قريبا. رغم استمرار التصريحات الإسرائيلية والأميركية العدائية.
الحلقة الخامسة:
بعد أربعة أيام على حصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات جرت الاتصالات تباعا بين الرئيس عرفات والقيادة الفلسطينية لمواصلة اتصالاتها مع الأطراف الدولية.
وفي اليوم الثامن لحصار الرئيس عرفات في يوم الجمعة 5/4 كان مقررا أن يأتي المبعوث الأميركي أنتوني زيني لمقر الرئيس عرفات، تبادر لذهن البعض أن الجنرال زيني وهو مبعوث الرئيس الأميركي لن يأتي إلى المقر والدبابات الإسرائيلية تحاصره، بل أن احتمالية عالية بدأت تقترب لرفع الحصار، ولكن الحصار بقي مفروضا ولم تتزحزح الدبابات والمجنزرات عن البوابة الداخلية لمقر الرئيس.
الرئيس عرفات أدى صلاة الجمعة في غرفته، ولم يطلب من الطهاة إعداد طعام خاص كما جرت العادة إذا قدم أحد الضيوف الكبار للقائه وقت الطعام، وكيف يقدم الطعام وقوات الاحتلال تمنع دخوله إلى المقر.
وحضر الجنرال زيني إلى المقر الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرا وهو محروسا بقوات كبيرة من جيش الاحتلال أوصلته إلى بوابة المقر.
استمر اللقاء مدة تسعين دقيقة بين عرفات والجنرال زيني، وكان من الواضح أن زيني كان لديه قائمة مطالب يدركها الرئيس عرفات مسبقا.
أعاد زيني في هذا الاجتماع مطالب شارون والمتمثلة أساسا في تسليم أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطيني أحمد سعادات، وخمسة أعضاء من الجبهة الشعبية وهم عاهد أبو غلمه المتهم بمسئوليته عن كتائب الشهيد أبو على مصطفي الجناح العسكري للجبهة الشعبية، ومجدي رحيمي المتهم بمسئول الخلية التي قامت بتنفيذ قتل وزير السياحة الإسرائيلي المتطرف رحبعام زئيفي، وحمدي قرعان المتهم بتنفيذ عملية القتل، وباسل الأسمر المتهم بالمساعدة في عملية القتل، أضافة إلى العميد فؤاد الشوبكي مسئول الادارة المالية لقوات الأمن الوطني، والمتهم في قضية سفينة الأسلحة (كارين أيه).
والمطلب الآخر الذي جاء به زيني هو إعلان الرئيس عرفات لوقف اطلاق النار.
عمليا الاجتماع لم يحرز أية نتائج على صعيد وقف العدوان الإسرائيلي، وكان ذلك متوقعا من الرئيس عرفات سيما وأن الجنرال زيني جاء إلى المقر في ظل تواصل الحصار الإسرائيلي لمقر الرئيس عرفات.
رأى البعض في قدوم زيني ولقائه مع عرفات وأن لم يحرز نتائج على صعيد وقف العدوان، هو العودة الأميركية للشرعية الفلسطينية مرة أخرى ممثلة بالرئيس عرفات، بعد أن كانت الإدارة الأميركية قد بدأت عمليا بالابتعاد عن إجراء أي اتصال مع القيادة الفلسطينية.
لكن بعد هذا اللقاء أمر الرئيس عرفات بتشكيل لجنة فلسطينية يترأسها الدكتور صائب عريقات لاستكمال المباحثات مع الجنرال زيني في القدس، والتي سرعان ما منعها الإرهابي شارون من مواصلة عملها عبر منع وصول الوفد الفلسطيني وعدم الأحتجاج الأميركي على ذلك.
في الحقيقة أن لقاء زيني مع الرئيس عرفات اعتبر مهما في شكله وليس في نتائجه، وهذا ما جعل من بعض المحاصرون يؤكدون أن بالإمكان القول الآن أن السكين ابتعدت عن الرقبة بضع السنتيمترات، بعد أن بدأت بالتعامل مع الرئيس عرفات مجددا، وأعلان صريح بفشلها أنها لم تستطع إيجاد بديل عن الرئيس عرفات كقائد حقيقي للشعب الفلسطيني.
طبعا استفاد المحاصرون من مجيء زيني بأن سمحت قوات الاحتلال إدخال أول كمية تموين لمقر الرئيس وبالتالي نام المحاصرون لأول مرة بعد أن تناولوا وجبه طعام وشربوا المياه.
ومضى شارون في سياسة تنفيذ مجازره في مخيم جنين والبلدة القديمة في نابلس، وبدأت الأخبار عن المجازر وأن كانت تصل بصعوبة إلى الرئيس عرفات إلا أنها بدأت تثير قلقا حقيقيا لدى الرئيس الذي بدأ يدرك أن المقصود هو تدمير شامل للشعب الفلسطيني ولتقويض السلطة الفلسطينية.
ورغم قتامة الأيام القادمة وصعوبتها، إلا أن عصر يوم الثلاثاء 9/4 وهو اليوم الثاني عشر للحصار كان يوما مختلفا، فقد دخلت البسمة إلى قلوب المحاصرين بعد سماعهم نبأ طلب قوات الاحتلال من المقاتلين في مخيم جنين وقف إطلاق النار بعد مقتل أكثر من (16) جنديا إسرائيليا وأصابة عشرات الجرحى في كمين نصبه المقاتلون لجنود الاحتلال في المخيم، مما ترك الأثر الطيب في نفوس المحاصرين الذين هم في شوق لسماع القصص البطولية التي يصنعها المقاتلون مخيم جنين.
وعلى الفور أعلن عن استنفار في المقر المحاصر لم أعرف سببه، ولكن من الواضح أنه أعلن تحسبا من ردات فعل إسرائيلية انتقامية قد تقوم بها.
في هذه الأثناء تبادلت مع اللواء إسماعيل جبر مدير الأمن العام وقائد قوات الأمن الوطني في الضفة الغربية الحديث عن ما يجرى من مجازر في جنين ونابلس، كان قلقا للغاية لمصير مخيم جنين، وخاصة بعد الأنباء التي أفادت عن وجود مجزرة تنفذها قوات الاحتلال في مخيم جنين .
اليوم الثالث عشر للحصار الأربعاء 10 ـ 4
سمع المحاصرون بوقوع عملية استشهادية نفذتها كتائب عز الدين القسام على طريق حيفا ـ القدس، وأسفرت عن مقتل عشرة جنود إسرائيليين، وتوقع المحاصرون أن تقدم قوات الاحتلال على إجراءات انتقامية ضد المحاصرين، وفعلا بعد أقل من ساعة كانت عدد من الطائرات الحربية الإسرائيلية من نوع (أف 16) تحلق على ارتفاعات مختلفة فوق مقر الرئيس عرفات.
تبادر لذهني لبعض الوقت أن جنون شارون وفاشيته قد تجعله يأمر الطائرات بأطلاق صواريخها على المقر، هذا الخوف مرده دعوات من الائتلاف اليميني الحاكم الإسرائيلي بقصف مقر الرئيس على من فيه، لم تمض ساعة بدأنا نسمع دوى أنفجارات في محيط الرئاسة، حيث كانت قوات الاحتلال تقوم بتفجير مقر الأمن العام ومبني الادارة المالية وبعد المباني الملاصقة لمقر الرئيس عرفات.
شعر الرئيس عرفات والمحاصرون بخطورة الخطوة الإسرائيلية، فعمليات التفجير تجرى على بعد أمتار قليلة، ولذلك استنفر حرس الرئيس وقوات أمن الرئاسة الـ(17) استعدادا لأي محاولة إنزال جوية يمكن ان تقوم بها قوات الاحتلال على سطح المقر أو من عمليات اقتحام للبوابات الداخلية لمقر الرئيس.
وبعد ساعة من الاستنفار صعد الرئيس عرفات إلى الطابق الثالث رغم خطورة الوضع، وبدأ يتمشى في قاعة المؤتمرات، وهو متجهم الوجه ويقول على مسمع الحرس ليتفرج علينا العرب كما تفرجوا علينا في حصار بيروت عام 1982 وقاطعه أحد المقاتلين من كبار السن بقوله رؤيتك بهذه العزيمة يحينا أخ أبو عمار وتبعث فينا الأمل فرد عليه بارك الله فيك.. ثم تابع سيره ليتفقد الحرس.. كما شجع الوفد الأجنبي. ومن عادة الرئيس عرفات أن يحمل معه في هذه الظروف رشاشا صغيرا.
التوتر ازداد واكفهرت الأجواء مع منع وفد لجنة المفاوضات الفلسطينية من الوصول إلى مقر الرئيس عرفات، ولكن بعد تدخل عدة أطراف دولية سمح للوفد بأن يدخل للمقر وهم محمود عباس أبو مازن أمين سر اللجنة التنفيذية، وياسر عبد ربه وزير الثقافة، وصائب عريقات وزير الحكم المحلي، والعقيد محمد دحلان رئيس جهاز الأمن الوقائي في غزة.
وكان الأكثر طرافة في هذا اللقاء أن الرئيس عرفات ورغم حصاره وشح طعامه أعد مائدة طعام لأعضاء الوفد.
وكان أعطى الوفد تعليمات بخصوص اللقاء مع المبعوث الأميركي الجنرال زيني في الساعة السابعة من مساء اليوم ذاته، الذي تناول الترتيبات لأعداد زيارة وزير الخارجية الأميركي كولن باول.
أجواء اللقاءات الفلسطينية ـ الأميركية، والاستعداد لزيارة باول بعثت الأمل من جديد لفك الحصار عن مقر الرئيس، وبدأت الأجتهادات المقبولة المستندة إلى معطيات وكذلك غير المقبولة التي من الواضح ان الرغبة الذاتية كان مصدرها تسرى بين المحاصرين مع اقتراب زيارة باول للمنطقة، لكن هذه التأملات سرعان ما تلاشت مع التأكيد للقيادة الفلسطينية أن باول سيأتي إلى المقر والحصار عليه مستمر.
وفي ذلك اليوم تفاجأ المحاصرون من قيام قوات الاحتلال بإخراج جثة الشاب محمود فريد بواطنة 22 عاما من داخل الثكنة (منامة الجنود) التي كانت قوات الاحتلال دمرتها في اليوم الأول للحصار. والشاب محمود يعمل طاهيا لحرس الرئيس عرفات وفقد أثاره، وظن الجميع أن جنود الاحتلال تمكنوا من أسره، إلا أنهم أعدموه بدم بارد وقاموا بتفخيخ جثته التي بقيت طوال ثلاثة عشرة يوما داخل الثكنة.
في اليوم التالي الخميس وصل الأمن الأميركي المسبق صباحا لوضع ترتيبات لزيارة وزير الخارجية الأميركي باول التي كانت مقررة غدا الجمعة، وكنت مرهقا للغاية، فلليوم الثاني على التوالي لم يغمض لى جفن، فطوال الليلة الماضية وحتى فجر اليوم كان استنفارا متواصلا، واللواء اسماعيل جبر كان يتجول ويحث الحرس لرفع جاهزيتهم.. جلست القرفصاء أنظر من حولي.. ليل دامس يعم أرجاء المكان.. وهدوء لا يقطع سكونه سوى قرقعة السلاح.. وكنت أخشى أن تعم الفوضى خلال عملية إطلاق النار داخل الغرف والقاعات، ومع ذلك كنت من بين المستنفرين، ليس لأنني أحمل بندقية، بل لا أريد أن تصيبني رصاصة أو قذيفة وأنا مستلق على الأرض.
وصل الرئيس عرفات وبدأ يتفقد التحصينات، ولم يخلو الأمر من بعض التوجيهات للحرس ووضع المزيد من التحصينات، وفي هذه الأثناء أصر الرئيس عرفات أن يتوجه إلى بوابة السطح مما أثار قلق حراسه الشخصيين الذين حاولوا أن يشرحوا خطورة الوضع والموقف، لكنه أصر ووصل إلى بوابة السطح ليتفقدها بنفسه.
كان اليوم الجمعة 12/4 حدثا غير عاديا ومخيبا للآمال، فقد وصل وزير الخارجية المصري لمقر الرئيس ظهرا وهو مصحوبا بعدد من دوريات الاحتلال ويحمل معه بعض عصير المانجا وبعض عبوات المياه المعدنية مما أثار استياء لدى المحاصرين، ورغم ترحيب القيادة بزيارة ماهر الذي أطلع الرئيس عرفات على نتائج زيارة باول للقاهرة، إلا أن هذه الزيارة في مجملها كانت تعتبر في إطار المجاملة ليس إلا، فالوزير ماهر جاء وفقا للشروط الإسرائيلية لمقر الرئيس عرفات، ولم يقدم شيئا للمحاصرين في جنين أو المهد، ولم يحمل معه سوى رسالة تضامن من الرئيس حسني مبارك، وهذا ما عزز القناعة لدى الجميع بعمق حالة العجز العربي الرسمي عن فعل أي شئ لمساعدة الشعب الفلسطيني الذين يتعرضون لأباده جماعية.
الحلقة السادسة:
قلق وتوتر في مقر الرئيس جراء اقتراب زيارة وزير الخارجية الأميركي كولن باول ومن المطالب التي سيتقدم بها ، خاصة أنه جاء للمنطقة وهو متفهم للعمليات العسكرية التي يقوم بها شارون في الضفة الغربية ، وأنه سيناقش هذه العمليات مع شارون. والقيادة الفلسطينية في موقف لا تحسد عليه ، فرغم صمودها في وجه شارون ، إلا أن حقيقة المطالب الأميركية تنصب أساسا على الورقة الإسرائيلية التي ما زالت تطالب الرئيس عرفات بتنفيذ كافة البنود المتضمنة لتفاهمات تينت المتعلقة بالجوانب الأمنية ، والرئيس عرفات ما زال يخضع تحت حراب البنادق وفوهات المدافع الإسرائيلية ، ولكن الأخطر من ذلك هو الطلب الأميركي من القيادة الفلسطينية قيامها بحملة الاعتقالات وبجمع الأسلحة في غزة والقطاع. وهذا ما لا طاقة للسلطة الوطنية القيام به ضمن واقع الدمار الشامل الذي مارسته قوات الاحتلال في المدن الفلسطينية.
وتعززت هذه المخاوف للقيادة الفلسطينية عندما أجل باول زيارتة المقررة للرئيس عرفات يوم الجمعة 12/ 4 ، بسبب امتناع القيادة عن إصدار بيان أدانه للعملية الفدائية التي وقعت في القدس ونفذتها فتاه فلسطينية.
(اتصالات دولية وعربية كان في معظمها ساخنة)
وكان وصل ظهر السبت 13/ 4 إلى مقر الرئيس عرفات محمود عباس أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ، والوزير ياسر عبد ربه ، والعقيد محمد دحلان برفقة ممثل النرويج لدى السلطة الفلسطينية. وعكف المسئولون الفلسطينيون مع الرئيس عرفات على صياغة بيان الإدانة الذي شكل عقبة حقيقية في اللقاء بين الرئيس عرفات ووزير الخارجية باول. وبعد ساعة من الاجتماع صدر البيان والذي جاء بصيغة (إدانة قتل المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء).
وصعد أبو مازن مباشرة إلى الطابق الثالث ليفتش عن زاوية في المطبخ ليتمكن من الاتصال برئيس الوزراء الأردني. وما أن صدر البيان حتى انتهت أزمة اللقاء بين وزير الخارجية الأميركي كولن باول والرئيس ياسر عرفات. وعقد اللقاء المنتظر ظهر يوم الأحد 14/ 4 في اليوم الثامن عشر لحصار مقر الرئيس.
وصل باول المقر مصحوبا بالدبابات الإسرائيلية وسط حراسة مكثفة حيث دقق حراسه الشخصيون الممرات التي سيسير بها باول ، وكانت الدبابات الإسرائيلية قد رابطت بالقرب من بوابة الرئيس عرفات الداخلية. وسبق مجيء باول قيام جرافات الاحتلال بإزالة السيارات المدمرة. وكانت سيارتي (الأودي) من تلك السيارات وكانت لعنتي متواصلة على الاحتلال وفاشيته عندما صعدت عليها دبابة وجعلتها صفيحة رقيقة ، كما أزالت جرافات الاحتلال الضخمة أثار الدمار الذي يعترض سيارة باول من أمام بوابة المقر.
استغرق اجتماع باول مع الرئيس عرفات ثلاث ساعات متواصلة ، ورغم أنه لم يرشح شيء حقيقي عن ما جرى في الاجتماع ، إلا أن نبيل أبو ردينة مستشار الرئيس عرفات أكد أن الرئيس عرفات عرض مطولا على الوزير باول ممارسات جيش الاحتلال الإسرائيلي ، وطالبه بانسحاب إسرائيلي فوري.
وفي الحقيقة أن باول لم يحمل في لقائه مع الرئيس عرفات أي أجابة إسرائيلية للجانب الفلسطيني بخصوص الانسحاب الإسرائيلي. ورغم ان باول تحدث بأنه عرض بعد الأفكار مع الرئيس عرفات والخطوات الواجب اتخاذها. وأنه تم الاتفاق على مواصلة المباحثات بين طاقمين أميركي وفلسطيني.
الاجتماع وصفه الفلسطينيون بالفاشل وعكس مدى التواطؤ الأميركي مع شارون في مواصلة تنفيذ مخططاته.
كنت مشدودا لمعرفة ما يجرى خلف الكواليس وتحت الطاولة وليس للمواقف العلنية التي يصرح بها الطرفان الفلسطيني والأميركي ، وكانت صلتي لمعرفة الخبر والأجواء داخل مقر الرئاسة هي نبيل أبو ردينة الذي رافق الرئيس عرفات منذ سنوات طويلة ، تسميته الرسمية مستشارا للرئيس عرفات ، لكن الحقيقة هو أكثر من مستشار خاص بالرئيس عرفات ، فهو إذا ما جازت تسميته بالدفتر المحتفظ والموُثق لكل الاتصالات والمباحثات التي يقوم بها الرئيس عرفات ، وبات دفتره الأزرق بخطه الأخضر يتضمن الحركة السياسية الفلسطينية بما تشمله من تموجات. فضل أبو ردينة أن يكون محاصرا مع الرئيس عرفات بدلا من المكوث في منزله ، وفعلا وصل عند الساعة الرابعة من فجر الجمعة إلى مقر الرئيس عرفات أي قبل عملية الاقتحام بفترة وجيزة.. كان يحمل الكلاشنكوف ، وهذه المرة الأولي التي أراه فيها حاملا سلاحا.
وللمفارقة العجيبة أن الشهيد شاهر أبو شرار هو الذي أوصله من بيته إلى مقر الرئيس وكان يسابق الدبابات للوصول إلى المقر. وكان استشهد في الساعة الأولي لاقتحام قوات الاحتلال للمقر.
وكان أبو ردينة هو المسئول الفلسطيني الوحيد على المستوى السياسي الذي كان لصيقا بالرئيس عرفات قبل الحصار ، وازداد هذا الالتصاق في زمن الحصار وفي اللحظات الصعبة التي عاشها الرئيس عرفات بحيث بات يشاركه غرفة نومه.
كنت دائم الحديث معه لأخذ ردود الفعل الرسمية على هذه القضية أو تلك ، ولكن في زمن الحصار لم أطلب هذه المرة تصريحا رسميا ، بل شرحا تفصيليا لحقيقة الموقف الفلسطيني في ظل هذه الأزمة الطاحنة ، لأنني ببساطة عشت تفاصيل الحدث بكل دقائقه الصغيرة والكبيرة ، ومع ذلك لا يعني الأدعاء بالاطلاع المطلق لما يدور في الكواليس الضيقة من اتصالات أو سيناريوهات محتملة كانت تطرح داخليا أو على مختلف الأطراف الدولية بشكل غير رسمي.
وحقيقة كنت أفضل كشف هذه التفاصيل والخفايا لقارئ (الوطن) لأنها ستكون وقائع تاريخية بكل تأكيد في زمن كشف فيه عن الوجه العاري للنظام السياسي العربي الذي وقف عاجزا عن اتخاذ موقف حقيقي يدعم فيه الرئيس عرفات في الوقت الذي كان شارون ينفذ فيه مخططه الرامي لتدمير السلطة الفلسطينية وحتى بإمكانية اغتيال رمز الشعب الفلسطيني الرئيس ياسر عرفات.
عرضت على أبو ردينة فكرة التوسع في الحديث في أكثر من مرة ، لكنه ما أن نبدأ حتى يستدعى مرة أخرى للرئيس عرفات ، ويتابع عددا من القضايا والمهام ، وتأجل الحديث إلى وقت آخر.
وفي هذه الأثناء يقطع مصور الرئيس عرفات خالد جحشن المنتدب من التليفزيون الفلسطيني محاولات استمراري في متابعة ما يجرى بحيرته وارتباكه ، فهو يفتش بين الأدراج عن كاسيت للكاميرا ، لكن محاولاته كانت بلا جدوى ، فقد نفدت الأشرطة ، ولا يستطيع الآن تصوير أي حدث أو مشهد طارئ قد يقع في مقر الرئاسة أو تغطية أي لقاء وخاصة ان الزيارة الثانية لوزير الخارجية الأميركية اقترب موعدها وهذا ما زاده توترا ، يمسك بجهاز اللاسلكي يتحدث عن حاجته للأشرطة وأهمية توفيرها في مستشفي الشيخ زايد لإحضارها مع سيارات الإسعاف أو التموين إن أمكن.
لعب خالد دورا هاما في حصار مقر الرئيس عرفات ، فقد أخرج للفضائيات العربية والعالمية صور الرئيس عرفات الأولي من الحصار وتبعها صور اللقاءات مع زيني وماهر وباول ، وكان الوزيران صائب عريقات وياسر عبد ربه والعقيد محمد دحلان يخرجون الأشرطة معهم للخارج ومن ثم توزيعها على وسائل الإعلام.
(اللقاء الثاني مع باول)
لم يحمل اللقاء الثاني بين الرئيس ياسر عرفات ووزير الخارجية الأميركي باول والذي عقد صبيحة يوم الأربعاء أي أضافة جديدة للجانب الفلسطيني ، وكما قيل لم يحمل باول في جعبته أيضا أية أجوبة إسرائيلية سوى الإصرار على مطالب شارون بوقف الرئيس الفلسطيني إطلاق النار وتسليم المطلوبين.
وفي هذا السياق وصف أبو ردينه الجهود الأميركية بالجهود الفاشلة أمام تعنت شارون ، لكن فشل مهمة باول فشل مهم باول لم ينهى المهمة الأميركية في المنطقة فأبقت على وليام بيرنز مساعد وزير الخارجية الأميركي لمواصلة الاتصالات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ، كما اتفق على قدوم جورج تينت رئيس وكالة المخابرات الأميركية للمنطقة.
الرئيس عرفات سخر وأمام باول من الادعاءات الإسرائيلية بأنها انسحبت من 42 قرية ومن طولكرم وقلقيلية ، وأكد أن شارون يمارس عدوانه على الفلسطينيين بخلاف بيان الأطراف الدولية الأربعة التي اجتمعت في مدريد وهي (الولايات المتحدة ، روسيا ، الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) ، وقال الرئيس عرفات: ( يطالبون مني تنفيذ قضايا وأنا ممنوع من الخروج من هذا الباب).
كانت الحكومة الإسرائيلية اتخذت خطوة هزلية بتحريك الدبابات والآليات الثقيلة من وسط مدينتي رام الله والبيرة في اليوم الرابع والعشرين من الحصار ، واعتبره شارون انسحابا من رام الله والبيرة ، وكانت في الحقيقة قامت بإعادة انتشار تواجدها في المدينتين ، وأبقت على الطرق المؤدية إلى مقر الرئاسة مغلقة ومحاطة بالدبابات ، كما لجأت إلى عمليات تجريف واسعة في المنطقة المحيطة بالرئاسة وشددت من حصارها على مقر الرئيس عرفات.
وخرج المواطنون في المدينتين ليشاهدوا حجم الدمار الذي خلفته قوات الاحتلال.. فالشوارع والمباني العامة والخاصة مدمرة ، كما تم تدمير مؤسسات السلطة الفلسطينية ومقارها الأمنية. ولم يبق داخل هذه المؤسسات أو المقار شيئا صالحا للاستعمال ، وكانت أبواب المحال التجارية قد فتحت ودمر ما في داخلها أو تم سرقته.
إن ما جرى يؤكد على الفاشية الجديدة التي يتميز بها الجندي الإسرائيلي.
الاتصالات عبر أجهزة اللاسلكي كانت تتوارد من الخارج للمقر ، وكانت تؤكد أن ما حدث كان كارثة بكل معنى الكلمة وجريمة لا يمكن أن تغتفر.
في هذه الأثناء نشطت اتصالات اللواء إسماعيل جبر مدير الأمن العام وقائد قوات الأمن الوطني في الضفة الغربية مع ما تبقى من قواته ومن أفراد الشرطة الذين اختفوا خلال عملية الاجتياح الإسرائيلي ، وكان يطالبهم بإعادة صفوفهم لإعادة تنظيم الحياة داخل المدينتين.
أنباء الانسحاب الهزلي لم تكن هي الوحيدة في إثارة الضجة داخل المقر المحاصر ، كان أيضا رد أعضاء وفد الحماية الشعبي الدولي للقنصل الفرنسي دينس بيتون الذي جاء صبيحة يوم الأحد طالبا من أعضاء الوفد اصطحابه إلى الخارج ضمن حماية الجيش الإسرائيلي ، وأكد بيتون أنه لا يستطيع أن يضمن للوفد ما يمكن حدوثه خلال الأيام القليلة القادمة ، وأشار إلى الضغوط الإسرائيلية التي تمارس عليه لأخراج أعضاء الوفد من مقر الرئيس عرفات.
وانتظر القنصل الفرنسي جواب الوفد المتضامن ، لكنهم فضلوا عقد اجتماع لهم ليقرروا في هذه القضية المصيرية بالنسبة لهم ، وكان ردهم مفاجئا للقنصل الفرنسي بأنهم سيواصلون تضامنهم مع الرئيس عرفات وسيربطون مصيرهم مع مصيره مهما كانت النتائج ، رغم أن ستة من أعضاء الوفد من أصل أربعين كانوا يخططون للخروج من الحصار لارتباطهم بظروف شخصية وبأعمالهم ، إلا أن هؤلاء الستة رفضوا الخروج تحت حماية الحراب الإسرائيلية ، وفضلوا الخروج من المقر مثلما دخلوه وأنهم سيتعرضون لمخاطر حقيقية.
عصر يوم الأحد 21 /4 كانت المفاجأة أكبر من رد الوفد الأجنبي ، حيث شاهدنا تجمهرا كبيرا من وفود أجنبية متضامنة عند بوابة مقر الرئيس الخارجية من الجهة الغربية ، وهذا ما استدعي لأن تقوم قوات الاحتلال بالتوجه عند البوابة الغربية ، وان يسلط جنود الاحتلال أنظارهم إلى الجهة الغربية ، وفي الأثناء تسلل عند زاوية البوابة الشرقية سبعة أعضاء من الوفد الأجنبي إلى باحة مقر الرئاسة وفتح جنود الاحتلال الرصاص فوق رؤوسهم ومع ذلك واصلوا ركضهم وتقدمهم إلى البوابة الداخلية وتمكن جنود الاحتلال من إلقاء القبض على أحدهم وأشبعوه ركلا وضربا. وأثر ذلك قام جنود الاحتلال بوضع المزيد من الأسلاك الشائكة لتكون بمثابة حواجز وموانع لمن يحاول التسلل سواء من داخل أو خارج المقر.. واستقبل الجميع الوفد الأجنبي بالتصفيق الحاد للمغامرة البطولية التي قاموا بها للوصول إلى المحاصرين والتضامن معهم ، وكان من حسن الطالع أن من بين الذين استطاعوا الدخول للمقر عددا من الأميركيين الذين يشكلون درعا جيدا في وجه أي حماقة شار ونية من الممكن أن يقدم عليها لاقتحام مقر الرئيس عرفات.
الحلقة السابعة:
بدأت التهديدات الإسرائيلية باقتحام مقر الرئيس عرفات تتصاعد، وأكد العميد توفيق الطيراوى مدير المخابرات العامة في الضفة الغربية أن قوات الاحتلال عززت من تواجدها في محيط مقر الرئيس عرفات، ووضعت بعض التقنيات العسكرية الخاصة بعملية الانقضاض على المقر. وقال العميد الطيراوي الذي كان يراقب وضع تحركات قوات الاحتلال من داخل المقر، إن التصريحات الإسرائيلية المتتالية تشير بوضوح إلى الاحتمالات المرتفعة لامكانية اقتحام مقر الرئيس عرفات.
رغم أن تصريحات المتحدث باسم البيت الأبيض مساء الجمعة بأنه ليس بالضرورة تسليم المتهمين بقتل الوزير الإسرائيلي المتطرف رحبعام زئيفي . والأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد سعادات، والعميد فؤاد الشوبكي المتهم بقضية سفينة الأسلحة (كارين آيه).
وأوضح المتحدث باسم البيت الأبيض أن صاحب العلاقة في قضية المتهمين هو القضاء الفلسطيني.
ورغم أن التصريحات الأميركية هذه كانت مطمئنة للقيادة الفلسطينية، إلا أن الرئيس عرفات لم يكن يركن أبدا على مجرد التصريحات رغم مؤشراتها الإيجابية، فقد لجأ إلى المزيد من الاحتياطات عبر تواصل الاستنفار داخل المقر خوفا من الخداع الإسرائيلي والقيام بمحاولات اقتحام متوقعة في كل دقيقة.
ما أن دخلت مقر الرئاسة في اليوم الأول للحصار حتى تفاجئت من تواجد الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد سعادات (أبو غسان) ومعه أيضا عاهد أبو غلمة المتهم بقيادة كتائب الشهيد أبو على مصطفي الجناح العسكري للجبهة الشعبية، ومجدي رحيمي المتهم بمسئولية الخلية التي قامت بقتل الوزير الإسرائيلي زئيفي، وكذلك حمدى قراعين وباسل الأسمر المتهمان بتنفيذ عملية القتل.
كانت المخابرات العامة نقلتهم على عجل من السجن إلى مقر الرئيس عرفات خوفا من قتلهم أو اعتقالهم من قبل قوات الاحتلال.
الرئيس عرفات كان يصُر قبل وبعد اقتحام المقر على أن محاكمة سعادات ورفاقه، والعميد فؤاد الشوبكي هو من حق السلطة الوطنية الفلسطينية وليس من حق حكومة شارون المطالبة بهم وفق الاتفاقات المبرمة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي والتي تتيح للسلطة الفلسطينية محاكمة من يخرق القانون.
سعادات الذي عاش حياته مطاردا أو معتقلا في سجون الاحتلال الإسرائيلية ، معروفا بصلابته وتحديه للمخاطر، اعتقلته السلطة الوطنية الفلسطينية بعد تعرضها لضغوط أميركية وإسرائيلية كبيرة، وحتى تفوت أيضا الفرصة على شارون تنفيذ مخططه العدواني على الشعب الفلسطيني والسلطة الوطنية.
كان يجلس سعادات على المرتبة وبجانبه عاهد أبو غلمة الذي كسرت رجلاه الاثنتين خلال عملية مطاردة ساخنة قامت بها المخابرات الفلسطينية في نابلس لاعتقاله مع حمدى وباسل اللذين لاجئا اليه لتخبئتهما في أحد المنازل في نابلس ووضعت في الجبس.
وكان حمدى قراعين (27) عاما المتهم الرئيسي بقتل الوزير الإسرائيلي المتطرف رحبعام زئيفي يدلك لعاهد أحد رجليه، فيما يغط مجدي رحيمي في المرتبة المجاورة في نوم عميق.
سعادات بدا حليق الذقن.. والشعر الأبيض كسا رأسه ولحيته إلا أن بريق عينيه ما زال قويا ومؤثرا.. ومع كل الهدوء الذي تميز به سعادات ورفاقه فأن ما يجرى من أحداث متلاحقة وخاصة محاصرة مقر الرئيس عرفات والذين هم بداخله وامكانية اقتحامه بين لحظة وأخرى ما زالت تثير قلقهم، كيف لا وهم المطلوبون الأشد للجزار شارون وزمرته الفاشية.
مجدي رحيمي استيقظ على دردشتنا، وعبر بكلمات بسيطة عن هذا القلق الذي يعيشه بقوله (صحيح أن السلطة تعاملنا باحترام، وتوفر لنا كافة مقومات الحياة الكريمة، ولكن في نهاية المطاف فان الأبواب تغلق علينا، ونكون داخل السجن)، وأضاف (الآن مصيرنا مجهول أو بالأحرى هي على كف (عفريت) كما يقال، لا نعرف حتى متى سيقتحمون المقر، أو متى ستكون القذيفة التالية من نصيبي).
كان يتمني هو ورفاقه أن تطلق السلطة سراحهم قبل اقتحام مقر الرئيس أو اجتياح رام الله ليتمكنوا من الاختفاء بطريقتهم الخاصة رغم صعوبة هذا الاختفاء في ظل اجتياح إسرائيلي شامل للأراضي الفلسطينية وبالتالي خطورة المغامرة، لكن تبقي هذه أمنية ورغبة مجدي ورفاقه الذين أكدوا لشبكة فلسطين الاخبارية أنهم لن يسلموا أنفسهم أحياء لجنود الاحتلال حتى وأن تم اقتحام المقر.
نظرت في عيون سعادات التي ما زالت تتجول في المكان بادرته بالسؤال عن صحته وأحواله ضمن هذه الظروف الصعبة والمعقدة، فكانت اجابته المعتادة جيدة و(ماشي الحال) لكن الألم من الحال الذي وصل إليه الواقع الفلسطيني بدا واضحا عليه ، تحدث أبو غسان عن التصعيد الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، وأن ما يقوم به شارون هو مخطط ما قبل قتل زئيفي، أكد على أهمية ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي في مواجهة الصلف والعدوان الإسرائيلي، قال لشبكة فلسطين الاخبارية من الممكن وضع هدنة لمدة ستة شهور مثلا مع قوات الاحتلال لكن شريطة ترتيب وضعنا الداخلي والتحضير لمعركة قادمة مع الاحتلال الذي يواصل قمعه للشعب الفلسطيني.
سعادات الذي يحمل رؤيا سياسية مختلفة عن رؤية الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، إلا أنه كان معجبا بموقف الرئيس عرفات والذي قال عنه حرفيا (أنه رجل المواقف الصعبة) و(رجل اللحظة، وقائد محنك متمرس) تحدث عن السمات الشخصية للرئيس عرفات الذي وقف في وجه الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية رافضا تسليم الأمين العام للجبهة الشعبية والمتهمين في قتل زئيفي والعميد فؤاد الشوبكي.
إعجابه بعرفات كشخصية مقاومة لم يمنعه من توجيه الانتقادات لبعض القيادات الفلسطينية وخاصة الأمنية والعسكرية وبعض الرموز السياسية. الذين اتهمهم بالقصور الواضح والذي أدى إلى هذه الحالة من الحصار.
قام أبو غسان بتوديع رفاقه في الغرفة وصعد إلى الطابق الثاني حيث يتواجد الرئيس عرفات الذي كان يصُر على دعوته لمائدة الطعام دائما، لا بل كان يذهب إليه في غرفته لمشاركته الحديث في مختلف القضايا، وطبعا كان الرئيس يطلعه على تطورات الوضع أولا بأول.
عاهد الذي استلقي جيدا على مرتبته المتواضعة بعد أن انتهي حمدي من عملية التدليك الطويلة والتي كان يشعر خلالها عاهد بأن الدماء تسرى في عروق رجليه وخاصة أنه لا يستطيع أن يقف عليهم أو يسير. تنهد عميقا نظر إلى حمدي وشكره على عمله هذا، الذي أجابه بالقول عفوا يا رفيق هذا لا شئ، طلب منى أن أنقل له صورة ما يجرى في الخارج بصفتي صحفيا، جوابي أني لا أملك الكثير ولكن الدنيا قائمة وقاعدة كما يقولون عندنا عليكم، قلت لهم مازحا (أنتم القتلة) وقوات الاحتلال لن تدعوكم أن تخرجوا بسلام، قال عاهد بالفعل الأوضاع صعبة، ولكن ما يضايقني حقيقة هو تكرار الفضائيات العربية للمصطلحات الإسرائيلية التي تقول وتكرر دائما (قتلة زئيفي)، قاطعنا حمدي قائلا: أصبحنا في هذا الاعلام قتلة وليس مناضلين.
المحكمة
في تمام الساعة التاسعة من صباح يوم الخميس 25/4 أي في اليوم الثامن والعشرين للحصار، عقدت المحكمة العسكرية الميدانية في مقر الرئيس ياسر عرفات المحاصر بتكليف من الرئيس جلستها برئاسة العميد ركن ربحي عرفات، وعضوية كل من العقيد شرطة محمد أبو صلاح، والنقيب منجد أبو غزالة، ومثل الدفاع العميد معاذ يونس (سامح)، فيما مثل الإدعاء العام النقيب سليم المدهون. وذلك لمحاكمة المتهمين الأربعة بقضية قتل الوزير الإسرائيلي رحبعام زئيفي.
المحكمة وبعد جلسات ثلاث حكمت خلالها على المتهم الأول حمدي عثمان قرعان بالسجن الفعلي لمدة (18 عاما) مع الأشغال، وهو المتهم الرئيسي في إطلاق النار على المحروق زئيفي.
وحكمت بالسجن الفعلي لمدة (12 عاما) على باسل عبد الرحمن الأسمر، وهو المتهم الثاني وهو المتهم بمساعدة قرعان في تنفيذ عملية القتل، أما مجدي حسين رحيمي فقد حكم عليه بالسجن لمدة (8 سنوات) بتهمة قيادته للخلية التي نفذت عملية القتل، فيما حكمت على عاهد أبو غملة لمدة عام واحد بتهمة إيواء مطلوبين. وصادق الرئيس عرفات على هذه الأحكام في ذات اليوم.
وكانت المحكمة العسكرية قد عقدت جلستين سابقتين لها في ظل الحصار، الأولي كانت مساء يوم الاثنين 22/4، حيث قرأ الإدعاء العام فيها لائحة اتهام المتهمين والتي استندت إلى أقوال حمدي قرعان كما قالوا، وهي قيام حمدي قبل يوم واحد من مقتل زئيفي باستئجار غرفة في فندق حياة ريجنسي في القدس، وفي الصباح وبعد عملية رصد حذرة قاموا بالدخول إلى الغرفة التي كان مقيما فيها وأطلقوا الرصاص عليه من مسدس كاتم للصوت كان سلمها مجدي رحيمي لقرعان.
من الواضح أن الرئيس عرفات المحاصر أراد من محاكمة الأربعة بعث رسالة للأميركيين والإسرائيليين والأوروبيين، بأن مطلب شارون بتسليم أعضاء الشعبية قد سقطت مع الحكم عليهم، وكانت الجلسة الأولي عقدت عقب لقاء الرئيس عرفات مع وليام بيرنز مساعد وزير الخارجية الأميركي.
فيما عقدت جلسة النطق بالحكم أثناء لقاء الرئيس عرفات مع وزير الخارجية اليوناني بابا أندريو والتركي إسماعيل جيم، وسلمهم الرئيس عرفات ورقة الحكم على المتهمين الأربعة.
ومع ذلك فقد رد شارون مباشرة على هذه الأحكام الصادرة بالرفض وعدم الاعتراف، وطالب مجددا بتسليمهم إلى إسرائيل إضافة إلى تسليم سعادات والشوبكي.
ويبدو أن البضاعة التي أراد الرئيس عرفات تسويقها للإسرائيليين ردت إليه، ولكن إمكانية تسويقها أميركيا وأوروبيا واردة سيما وأن المحكمة كانت مطلبا أميركيا وأوروبيا.
كان لوقع المحكمة صدى وتأثيرا سلبيا في أوساط العديد من المحاصرين، حيث شعروا بأن الظروف غير مواتية لعقد مثل هذه المحكمة والحصار الإسرائيلي يطبق على مقر الرئاسة، وفوهة المدفعية لا تبعد سوى ثلاثة أمتار عن البوابة الداخلية.
وما زاد هذه الأجواء قتامةً هو الجوع الذي بدأ يفعل فعله في الأجساد المنهكة، فقوات الاحتلال ما زالت تمنع دخول مواد التموين إلى مقر الرئاسة لليوم الثامن على التوالي، وكان المحاصرون قد عاشوا منذ أربعة أيام متتالية على كأس صغير من الحساء والذي هو أقرب للماء منه للحساء.
البعض شعر بغضب لآلام المعدة الخاوية، وبدأوا يتصرفون بعصبية. وبدأ الحديث يسرى حول طبقية الحصار (البعض يأكل، وآخرون لا يأكلون.
كان المعنيون في مقر الرئيس يقدمون كل الإمكانات من الطعام للوفد الأجنبي، ولكنهم وبعقلية التنظيم استطاعوا أن يحافظوا على وجباتهم القليلة.
وجود بعض علب الكورنفلكس والحليب لديهم، أثار حفيظة البعض وطالبوا بتوحيد ما يقدم إن وجد، وإلغاء مظاهر كل التميز.
لا أعرف إذا كان الرئيس عرفات مطلعا على تفاصيل كيفية توزيع الوجبات وخاصة على أصحاب الرتب العالية أم لا. ولكن أستطيع أن أجزم أن الرئيس يرفض أي تميز في تقديم الوجبات بين المحاصرين سواء كانوا رتبا عالية أو عاديين، وكانت له تجربة على ذلك، عندما قدم له أحد المقربين ذات ليلة تفاحة ليأكلها، فنال الرد فورا بالتعنيف والتقريع على هذا السلوك.
ومع ذلك فأن فوضى إدارة الطعام الذي يصل وتوزيع المسئوليات أدت لمثل هذا التمييز والطبقية في توزيعه.
عماد النحاس مدير مكتب الرئيس عرفات الذي كان يعمل بصمت شديد أربكته حالة الفوضى القائمة هذه، وأراد أكثر من مرة ان يكون التوزيع عادلا على الجميع بدون استثناء، لكنه يصطدم في كل مرة بكثير من المعوقات.
فمنذ اليوم الأول عين مجموعة من الموظفين في مكتب الرئاسة كمعاونين له في المستودعات، وليكونوا مسئولين عن توزيع الحصص والمخصصات حتى أن الأمر استدعى تعيين سعادة الدرسا المرافق الشخصي للدكتور رمزي خوري مدير عام مكتب الرئيس عرفات للعمل كمسئول لمستودع الطعام.
ومع ذلك فإن عملية توزيع الطعام أصابها إرباك شديد جراء نقص الكميات في التموين ولعدم السماح بدخول كميات كافية، إن سمحت قوات الاحتلال بدخوله أصلا.
يوم الجمعة 26/4 كان مربكا لي فقدت علبة سجائري التي حصلت عليها بعد ثمانية أيام متتالية، فرحت بها وأردت أن يكون صباح هذا اليوم خاصا واستثنائيا، كيف لا وقد تغنيت بوصولها، وعلى الفور هرعت إلى غرفة الوفد الأجنبي لعمل كأس من النسكافيه الخاصة بهذه المناسبة، وسرعان ما تلاشت هذه الفرحة بعد ان تبين أني فقدتها ولم أعثر عليها، سارع زميل لي في الغرفة واسمه إبراهيم باجس بالتبرع لى ببعض السجائر بعد أن رثي لحالي فهو يعرف جيدا أنني لا أستطيع الكتابة دون السيجارة اللعينة والتي كنت أعاني من غيابها طيلة ثمانية أيام متواصلة.
حالة الكدر هذه تواصلت مع قيام قوات الاحتلال بتدمير ما تبقي من سيارات في مقر الرئاسة والعمل منها سواتر إضافية، كما قامت بعمليات تفجير جديدة في عدة مبان داخل مقر الرئاسة.
الحلقة الثامنة والاخيرة
في الجمعة الخامسة للحصار وصلني نبأ استشهاد ابن عمتي رائد موسى نزال في مدينة قلقيلية، بقذيفة (أنيرجي) ظهر اليوم عندما أعادت هذه القوات احتلال المدينة، تمكنت والدتي من الاتصال بي عصر اليوم وتحدثت معى باكية قائلة (رشيد يسلم رأسك، ابن عمتك رائد، قتلوه.
عاش أسيرا في أقبية سجون الاحتلال لأكثر من أربعة عشرة سنة، كان صغيرا عندما اعتقل في إطار حملة هدفت اعتقال مجموعات للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في قلقيلية ولم يتجاوز عمره ستة عشرة ربيعا، خرج قبيل انتفاضة الأقصى بقليل تزوج وأنجب ابنا وحيدا أسماه (أسير)، وعاد ليكون مطاردا بين مدن الضفة الغربية لقوات الاحتلال وأجهزتها الأمنية التي بدأت تضيق عليه الخناق مجددا. ومع ذلك استطاع رائد أن ينشأ الذراع العسكري للجبهة العسكرية للجبهة الشعبية في منطقة قلقيلية، وأن يقض مضاجع الاحتلال في أكثر من موقعة.
ادعت قوات الاحتلال أن الشهيد رائد كان مسئولا عن مواد متفجرة تقدر 250 ضبطت في أحد منازل قلقيلية كانت في طريقها إلى إحدى البنايات التجارية في تل أبيب وتسمى عزرائيل، وادعت إسرائيل أن العملية كانت لو نفذت شبيه بعمليات التفجير في المركز التجاري في نيويورك ، وأن حجم الخسائر البشرية التي ستقع جراء هذه العملية بين 3000 و10000 قتيل وأن الخسائر المادية ستقدر بنحو 70 مليون دولار.
كانت قوات الاحتلال التي اجتاحت المدينة منذ فجر اليوم تقوم بعملية مطاردة واسعة النطاق للشهيد ورفاقة، من خلال مروحيات الأباتشي، وتمكنت عند ظهر اليوم من تضييق الخناق عليه في منطقة صغيرة ومغلقة، إلتجأ إلى أحد المنازل وتحصن فيه، ومع ذلك أمر رفاقه بالانسحاب لأنه سيغطي أنسحابهم وأستمرت المعركة بينه وبين قوات الاحتلال طيلة ثلث ساعة استخدمت فيها قوات الاحتلال قذائف الأنيرجا فسقط شهيدا وفاضت روحه إلى باريها.
تحدث شقيقه واصف بواسطة الهاتف الخلوى المشوش والذي أكاد أسمعه (رائد استشهد قصفوه بالقذائف أولاد الكلاب) وقطع الاتصال.
بكى قلبي المحاصر، ودمعت عيني التي تشاهد حجم مأساة شبعي.. فهذا طريد.. وهذا أسير وهذا شهيد، ولم يبق منزل فيه فلسطيني إلا وأصيب بنكبات الاحتلال.
وقفت أمام نافذة الجسر المؤدى بين غرفة الرئيس وقاعة المؤتمرات، لا لشيء سوى النظر لهضاب رام الله البعيدة، ولأتنفس الهواء المتسرب من شقوق أحدثها رصاص الاحتلال، لم أقف طويلا وإذا بقنابل الصوت والغاز يطلقها جنود الاحتلال على النوافذ مما اضطرني للتراجع مع من كانوا يمارسون لعبة تنفس الهواء الطلق إلى الداخل مرة أخرى.
المحاصرون واصلوا حياتهم الصعبة، ويتأملون أن ينتهي هذا الحصار البغيض، زميلي علي صوافطة من وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) كان متكدرا نوعا ما رغم أنه أظهر رباطة جأش حقيقية في الحصار، كان موعد زواجه الذي حدده مع خطيبته وأهلها قد مر وهو محاصر، وكان الموعد حدد يوم الخميس الموافق 11/4، ولم يعد علي إلى أهل خطيبته المنتظرة، وكيف يعود وهو يواجه الموت في كل لحظة، كان علي قد انقطع عن التدخين بتدخل من خطيبته سائدة، ولكنه عاد إلى التدخين، لا بل أصبح شغوفا للبحث عن سيجارة ينفث فيها همومه وشوقه لخطيبته سائدة التي تحاول دائما الاطمئنان عن خطيبها وفتى أحلامها، ولكن كان الاحتلال بدباباته ومجنزراته يقفون لأحلامها بالمرصاد. طمأنته بعض الشيء فالحديث بدأ يتسرب عن وجود اجتماعات بين الجانبين الفلسطيني واللجنة المشتركة والتي تضم بريطانيين وأميركيين، وأن هناك انفراجا ما قد يحدث في أي لحظة، أتحدث إليه والشك يخامرني من التوصل إلى أية نتائج ملموسة على الأرض بخصوص فك الحصار، لا بل أن المسائل تزداد تعقيدا بالنسبة لقضية المهد.
كان غبره من قوات الـ(17) متضايقا لأنه بحاجة إلى حمام حقيقي حتى يزيل الأوساخ التي علقت به طوال أيام الحصار، قلت له (الرئيس لم يستحم طوال أكثر من 22 يوما متواصلا ولم يغير ملابسه التي بدا عليها الاتساخ، واضطر للذهاب إلى حمامه وتدبير بعض كميات المياه القليلة ليستحم لأن الدكتور أشرف الكردي طبيه الخاص حضر من الأردن برفقة وزير الخارجية الأردني مروان المعشر للكشف عنه وليطمئن على وضعه الصحي، فأصبر كما صبر الرئيس عرفات).
أسماء تعلق بذهنك دائما ماجد السلمي، الياسيني، ضبع، أبو الليل، النقيب سعيد وغسان، ومحمد دعاجنة، والشرطي فايز، ونبال، وفادى، ومحمد، وأسد، وهاتى، هؤلاء وغيرهم من صناع الصمود في زمن القحط هذا، كانوا يجترعون المعجزات، نعم كانوا حالمون بوطنهم وهم على استعداد لاجتراع المعجزات، وكيف لا وأنت ترى أحد الموظفين في مكتب الرئيس إبراهيم الأدريسي، يؤثر غيره على ذاته حتى في بعض كسرات الخبز من مخصصه، يرفض أن ينام على مرتبة وغيره بحاجة إليها.
مساء يوم الأحد 28/4 وصل إلى مقر الرئيس عرفات القنصلان الأميركي رونالد شليكر والبريطاني جيفرى آدم، علمت أنهما يحملان خطة مشتركة، ولكن لم يرشح عنها أي تفصيلات، لكنها حملت بكل تأكيد تصورات عن حل لقضية المحاكمين بقتل الوزير المتطرف زئيفي، وتضمنت هذه الخطة أن يخضع المعتقلين لأشراف أميركي ـ بريطاني مشترك في أحد السجون الفلسطينية، ورشح أن يكون سجن أريحا هو السجن المرشح.
في هذا الاجتماع اتفق على أحضار لجنة من الخبراء من الخارج لمناقشة التفاصيل مع لجنة فلسطينية، ترأسها الوزير ياسر عبد ربه، وبعد أنتهاء الأجتماع أحضر الرئيس القنصلين البريطاني والأميركي للغرفة التي يتواجد بها المعتقلون المحاكمون بقتل زئيفي.
مساء الاثنين 29/4 كان مقررا أن يلتقي الرئيس عرفات بأعضاء اللجنة الفنية، ولكن استعيض عن هذا اللقاء، بلقاء آخر عقده معهم الوزير ياسر عبد ربه، وخالد سلام (محمد رشيد) المستشار الاقتصادي للرئيس عرفات، ودحلان.
أظهر الرئيس عرفات استياءه من الاجتماع، وأكد في محادثته مع المسئولين الفلسطينيين أنه سينسف الاتفاق مع الجانبين الأميركي والبريطاني إذا لم يلتزموا بما تم الاتفاق معهم، ففي أجواء اللقاءات والاتصالات هذه كانت إسرائيل تنفذ مجزرة جديدة في الخليل حيث استشهد صباح اليوم (8) فلسطينيين، ومنعت قوات الاحتلال من ادخال مواد التموين للمحاصرين في كميسة المهد في بيت لحم، وفي ذات الوقت تماطل الحكومة الإسرائيلية في فك الحصار عن الرئيس عرفات.
ومن الواضح أن الرئيس عرفات لم يعجب من اطالة الوقت في عمل اللجنة المشتركة الأميركية ـ البريطانية.
كان الرئيس عرفات تلقى اتصالا من ولي العهد السعودي الأمير عبد الله أكد فيه أن الأحد سيكون الانسحاب الإسرائيلي، وأن القضية قد حسمت، ولكن جاء الأحد والاثنين والقضية لم تحسم بل أن مباحثات الجانبين الفلسطيني والأميركي والبريطاني بدأت تدخل متاهات لم تكن موجودة أصلا. وخاصة تلك المتعلقة بإقامة المعتقلين الستة، فقد كان نص الاتفاق الذي أصر الرئيس عرفات عليه هو أن يقيم الأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات والعميد فؤاد الشوبكي كل في شقة خاصة وليس داخل السجن.
عادت اللجنة الفلسطينية صباح اليوم الثلاثاء 30/4 للاجتماع مع الخبراء الأجانب، وكان هذا الصباح بالنسبة للمحاصرين متوترين، فوسائل الاعلام تعلن عن قرب فك الحصار عن مقر الرئيس عرفات، في الوقت الذي تتواجد فيه الدبابات داخل المقر بل تقوم بعمليات وضع المتاريس والسواتر، والجميع يكذب ما يشاع في وسائل الاعلام.
كانت اللجنة والخبراء ذهبوا إلى أريحا لتفقد السجن الذي سينقل إليه المعتقلون من أعضاء الشعبية وسعدات والشوبكى، وعادت اللجنة في المساء لتجتمع مرة أخرى مع وفد الخبراء، والجميع بانتظارنا سيتمخض عنه هذا الاجتماع، كمن متشوقا لمعرفة ما يجرى في الاجتماع، سألت المستشار نبيل أبو ردينة قال (الرئيس بانتظار اللجنة لإطلاعه على التفاصيل التي بحثت في الاجتماع).
ومن الواضح أن إطالة أمد الحصار على المقر تأتي في إطار حملة الانتقام الشخصية التي يمارسها شارون على الرئيس عرفات.
في هذا الأنتظار لما قد يحدث تمشيت مع العميد توفيق الطيراوي الذي أكد فشل حملة شارون بأبعادها السياسية وحتى العسكرية وأن كان شارون وصل حتى باب مقر الرئيس عرفات، ورغم ارتكابه للمجازر في المناطق الفلسطينية، أراد شارون شطب الرئيس عرفات، لكن الرئيس عاد قويا أكثر من ذي قبل، وكما قال الرئيس يلمع في الأزمات.
لكن العميد الطيراوي أكد أن هذه التجربة قد طرحت حقيقة على الطاولة ضرورة استخلاص العبر والنتائج على القيادة التي يجب ان تسارع باجراء جملة من التغيرات التي تؤكد استخلاص العبرة مما حدث.
في الساعة الثامنة من مساء الأربعاء 1/5 كانت تقف على بوابة المقر (8) سيارات شفرليت أميركية مصفحة، وبداخلها عدد كبير من الأمن الأميركي والبريطاني، دخل عدد من رجال الأمن الأميركي للطابق الأول من المبنى وأخذوا معهم المعتقلين، طبع قيدوا باليدين، باستثناء سعدات والشوبكى، ورافقهم حرس الرئيس إلى أريحا، ودع المعتقلون من قبل المحاصرين، وودعهم المعتقلون وهم يلوحون بأشارت النصر، الأمر الذي خلق عند البعض أجواء من الكآبة.
الجميع بدأ ينتظر انسحابا إسرائيليا، حيث بدأت هذه المؤشرات تتضح في ساعات الليل، فقد رفعت قوات الاحتلال التشويش عن الهواتف الجوالة، وبدأت عدد من آلياتها ودباباتها بالخروج من المقر، كنت في هذه اللحظات أقف على الجسر وبجانبي اللواء إسماعيل جبر نرصد تحركات قوات الاحتلال، سيما وأن انفجارا قويا وقع قبل قليل بالقرب منا، ومع ذلك بقينا نرقب حركة قوات الاحتلال، وفي غرفة مجاورة كان سعد اليتيم يغنى الزجل ويرقص الدبكة الشعبية وبعض المحاصرين يلتفون حوله يشاركونه الغناء بالتصفيق وترديد أغاني الدلعونة وأبو الزلف.
أمسكت جهاز اللاسلكي اتصلت بالمصور الصحفي جمال العار وري بادرت بسؤاله أين أنت الآن، قال لأقف الآن بالقرب قصر الحمرا بعد أن لاحقتنا قوات الاحتلال عندما اقتربنا من الطريق المؤدية إلى مقر الرئاسة (طلبت منه التقدم ولكن بحذر لأن قوات الاحتلال التي قامت بمطاردتكم شاهدتها قد خرجت، وعلق اللواء جبر بالقول عليه أن يحذر الطريق خوفا من وجود قنابل مفخخة طرقها الاحتلال، رد بقوله: سأمشى ذات الطريق التي سلكتها قوات الاحتلال، وبالفعل ما هي لحظات حتى شاهدنا مجموعة من الصحفيين تدخل مهبط الرئاسة وتتوجه إلى البوابة الداخلية لمقر الرئيس عرفات، حيينها صفق جميع من في المقر، توجهت مباشرة إلى مكتب الرئيس عرفات الذي كان غاضبا لأقصي درجة من خرق قوات الاحتلال لاتفاقها بأن تحل قضيتي مقر الرئيس وكنيسة المهد في وقت واحد).
خرج المحاصرون إلى باحات المقر وبدأوا في عناق بعضهم بعض، وما أن سمع أهالي المحاصرين بفك الحصار وانسحاب قوات الاحتلال حتى سارعوا بالوصول إلى المقر.
الحرية التي كتبت من جديد للمحاصرين كانت بالنسبة حياة جديدة، ولكن معظمهم عادوا إلى المقر الذي أبقى الرئيس عرفات فيه كامل الاستعدادات والجاهزية خوفا من هجوما إسرائيلي آخر وشيك.
وبقى الفلسطيني ينتقل من حصار إلى حصار دون تردد أو خوف أو وجل، فهو يعشق حريته ووطنه