[فوائد مستخلصة] التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُه قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا. وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ. وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ. وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ([1]). وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
شرح الشيخ عمر بازمول: قول ابن عباس رضي الله عنه أصل عظيم من أصول التفسير ، يقول التفسير على أربعة أنحاء :
النوع الأول : تفسير يعلمه العرب، أي : يُعرف من كلام العرب، ومن دلالاتها، ومن لسانها، لأن القرآن العظيم أُنزل بلسان عربي مبين، فهذا النوع من التفسير يُرجع فيه إلى كلام العرب، وهذه مقتضيات اللسان العربي.
النوع الثاني : لا يُعذر أحد بجهله، وهو ما يتعلق بمعرفة أحكام الدين: الصلوات، الزكاة، الصوم، الحج، فالآيات التي تضمَّنت الأمر بهذه العبادات الواجبة؛ وما يتعلق بوحدانية الله في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، ورسالة النبي ، وبلاغه ودعوته، فإنه لا يُعذر أحد بالجهل بها ، كل ما وجب على المسلم القيام به في عبادته إذا ما ذُكر في القرآن فإنه لا يُعذر أحد بجهله.
لا يُعذر أحد بجهل : (أقيموا الصلاة)، لأنه مطالب بالصلاة في كل يوم وليلة خمس مرات، فإذا لم يَعرف كيف يقيم الصلاة؛ فهو جهل لا يُعذر به، لأن هذا واجب ، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: ما تعيَّن على المسلم طلبه؛ فإن الجهل به لا يرفع عنه الإثم، لأنه واجب عليك أن تتعلم، فإذا قصَّرْتَ في تعلُّم هذا الواجب عليك فقد أثمتَ، وجهلك لا يرفع عنك الإثم.
وهذا معنى ما جاء في الأحاديث : أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما شاهد رجلاً يصلي صلاة لا يُتم ركوعها ولا سجودها ، فقال له: لو مُتَّ على هذه الصلاة لمت على غير فطرة الإسلام، وهذا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "ارجع فصلِّ فإنك لم تصل"، ولم يعذره بجهله، لا نقول: هو جاهل، وصلاته مثل ما يفعلها فربنا يقبلها، لا "ارجع فصل فإنك لم تصل"، "ولو مت على هذا لمت على غير فطرة الإسلام"، يعني: في هذا العمل، فالجهل ليس بعذر في عدم تعلم ما يجب عليك، أنت تعرف نفسك لا تحسن إقامة الصلاة، لا تحسن إيتاء الزكاة، لا تحسن أحكام النكاح، لا تحسن أحكام الطلاق، وأنت تحتاجها؛ فهو مما يجب عليك تعلمه، فقصورك فيه يلحقك فيه الإثم، ما يعذرك الجهل، الجهل لا تعذر به، فإنك آثم، وواجب عليك أن تطلب العلم بهذه الأمور من الدين التي تحتاجها لتقيم شرع الله على نفسك، وتقصيرك أنت آثم فبه ، فإذا بذلت وسعك وطاقتك في الطلب، ومع ذلك ما وجدت فأنت هنا معذور، أما إذا لم تسع ولم تطلب العلم فأنت لست معذوراً بالجهل، فهذا النوع من التفسير لا يعذر أحد بجهله، وهو ما يتعلق بتفسير القرآن الكريم، [أصول العقيدة، وأركان الإسلام] والمعاملات التي يحتاج المسلم إلى تعلمها.
النوع الثالث : تفسير يعلمه العلماء، وهو تفسير الآيات الأخرى التي لا يعلمها عوام الناس.
النوع الرابع : تفسير لا يعلمه إلا الله، وهو ما يتعلق بكيفية صفاته، وحقيقة أمور الجنة والنار التي ذكرها الله عزوجل في القرآن العظيم.
والقرآن الكريم لا يوجد فيه ما لا يُعلم معناه، فمن قال : إن في القرآن شيء لا يعلم معناه فقد قال بقول أهل البدع .
ونبَّه بعض أهل العلم إلى أن العبارة التي يذكرها بعض الناس في الأحرف المقطعة، حيث يقولون: "الله أعلم بمراده منها"، بمعنى : أنه لا يبين معناها، قالوا : هذا تفسير الأشاعرة، ليس تفسير أهل السنة والجماعة، فليس في القرآن ولا في السنة ما لا يُفهم معناه ، وإلا لزِم منه أن يكون الله قد خاطب الناس بما لا يُعلم معناه، ولزم منه تقصير الصحابة في السؤال وطلب العلم بما خوطبوا به.
فإن قيل : ما معنى قول ابن عباس في النوع الرابع : تفسير لا يعلمه إلا الله ؟
فالجواب : قال العلماء معناه : معرفة حقائق الأمور، وما أبهمه و أعلم أنه لا يعلمها إلا هو، مثلاً : الاستواء معلوم، لكن كيف الاستواء؟ ما حقيقته؟ الله سميع بصير، كيف سميع بصير؟ ما حقيقته؟ ليس كمثله شيء، تُثبت المعنى وتَكِل الكيفية إلى الله. معرفة القيامة؛ لكن متى تقع وكيف؟ لا نعرف. أمور الجنة والنار ، أمور من الأشياء الغيبية التي ذكرها الله عز وجل في القرآن، فنحن نذكر معناها بحسب ما دل عليه الشرع، أو بحسب اللغة، أو ما اتفق عليه أهل العلم، ولكن نَكِل حقيقتها إلى الله.
فهذا النوع هو الذي أراده ابن عباس بقوله : "وتفسير لا يعلمه إلا الله"، وهو أحد القولين في تفسير قول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) (آل عمران:7)؛
من وقف عند قوله : (إلا الله) قال: المراد بالتأويل : حقيقة الشيء، فلا يعلم حقيقة الأمور إلا الله سبحانه وتعالى.
ومن وصل قال : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، من وقف عند (الراسخون في العلم) قال : المراد هنا بالتأويل : التفسير وبيان المعنى. فإذا كان المراد بالتأويل حقيقة الشيء؛ يجب أن تقف على (وما يعلم تأويله إلا الله)؛ لأن هذا لا يعلمه إلا الله.
(والراسخون يقولون آمنا به كل من عند ربنا)، وهذا هو الراجح في هذا الموطن، أن الوقف عند لفظة الجلالة.
وعلى القول الثاني : أنك تقف عند (العلم)؛ فعليه يكون المراد بالتأويل : التفسير بمعنى بيان المعنى، لا حقائق الأشياء، فهذا يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم، لأنه لا يوجد في القرآن ولا في السنة ما لا يعلم معناه إلا الله من حيث المعنى، أما من حيث الحقيقة فهناك أشياء لا يعلم حقيقتها إلا الله، يكفي أن تعلم أنه ليس في الدنيا مما في الجنة مما سماه الله لنا إلا الأسماء، إذا كنا أمور الجنة لا نعرف حقيقتها، فقط نعرف الأسماء، ومعانيها، يوجد فيها فاكهة وتفاح وعنب ، ولكن لا ندري ما حقيقته؛ فما بالك بالأمور الأخرى .
مقتطف من شرح مقدمة اصول التفسير للشيخ بن تيمية شرح الشيخ عمر بازمول |
||