التصنيفات
العربية والعرب,صرف,نحو,إملاء...إلخ

اللغة العربية في مهب الريح

اللغة العربية في مهب الريح (1)
د. كمال بشر
المصدر: من كتاب: "الحضارة في مهب الريح"

اللغة العربية في مهب الريح
إذا كان البعض يقول: إنَّ اللغة العربيَّة أصبحتْ في مهبّ الريح، فأنا أقول: إنَّ العروبة كلها في مهب الريح، وإنَّ الانتماء إلى العربيَّة والخواصّ العربيَّة كلها – سواء سياسيًّا أو ثقافيًّا أو اجتماعيًّا أو أخلاقيًّا – أصبحتْ في مهبّ الريح، وأعتقد أنَّ الريح سوف تذهب بهذه الأشياء بلا عودة، لأنَّ كون اللغة في مهب الريح يدل على أنَّ القوم أجمعين في مهب الريح، لأنَّ اللغة هي الإنسان: جسمًا وعقلاً وفكرًا، فاللغة مرتبطة بالعقل والجسم أيضًا، وقد قال العربي في القديم.
لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ فَلَمْ تَبْقَ إِلاَّ صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ
وهذا أبلغ تعبير عن حقيقة اللغة، وأنَّها لها جانب مادي، وجانب فكري، وأنا هنا حين أتكلَّم عن اللغة، فإنَّني أتكلَّم عنِ اللغة المنطوقة، لأنَّ اللغة في الاصطلاح هي اللغة المنطوقة لا المكتوبة. فاللغة المكتوبة ليست سوى تمثيلٍ للمنطوق، لأنَّ اللغة المنطوقة هي اللغة الواقعيَّة الحيَّة التي بها يصدق الواقع، أمَّا هذا المكتوب ففيه اصطناع وتكلّف، فأنت تجلس أمام الخطاب ساعة تكتب فيه وتعيد وتزيد، ولكنَّ المنطوق يختلف حين تتكلَّم، ثم لماذا ننعى اللغة؟ إنَّ علينا أن ننعَى أنفُسَنَا أوَّلاً، كما يجب أن نعلم أنَّ اللغة لا تعيش وحدها أو لِنَفْسِها ولِذَاتِها، فاللغة لا تعيش إلاَّ في مجتمع، ومن ثمَّ لا بُدَّ من التَّنازُل المستمرّ بينها وبين أهلها.

وتفسير هذه القضيَّة في الكمبيوتر، فالكمبيوتر فيه "الهاردوير" و"السوفت وير"، وكذلك اللغة فيها جانبان، فهناك شيء يُسمَّى الكفاية اللغوية أو المقدرة اللغويَّة، وهذه خاصية إنسانيَّة ممنوحة من الله لكل إنسان سوي على وجه الأرض، فالماكينة جاهزة للعمل، ولكن هذه الماكينة مثل "الهاردوير" عبارة عن إمكانيَّات ماديَّة وهو لا يعمل إلاَّ بالبرمجة "السوفت وير"، فلا بُدَّ من إعداد البرامج أولاً، وإعداد البرامج يكون من البيئة، فإذا كانت البيئة تتكلَّم الإنجليزية يكون البرنامج إنجليزيًّا، وإذا كانت البيئة تتكلَّم العربية يكون بالعربي، بدليل أنَّنا نتكلم العامية بدقة وصحة كاملة، فهل تعلَّمْناها؟ هل أخذنا فيها دروسًا؟ إطلاقا؛ إنَّما الذي حدث ويحدُث هو أنَّنا نسمعها مرارًا وتَكرارًا، ثم نأتِي على منوال ما سمعنا؛ لأنك عندما تسمع اللغة – وهي اللغة المنطوقة – فإنَّ آثار هذا المنطوق تستقرّ في ذهنك، وتكوّن القواعد العامَّة التي يمكن فيما بعد أن تولد منها ما تشاء، ولأنَّنا ليس لدينا مخزون من اللُّغة العربيَّة الفصيحة وإنَّما لدينا مخزونٌ من العاميَّة فلِذَلِكَ نتكلَّم العاميَّة بطلاقة، ومن هنا أقول: إذا أردتُم أن تتعلَّموا لغة أو تكتسبوا لغة أو تُجِيدُوا لغة فعليكم أن تستمعوا لهذه اللغة، ثم عليكم بعد ذلك أن تتكلَّموها جهرًا، لأنَّ هذا الجَهْرَ له آثار صوتيَّة، تذهب إلى الذهن، وتستقِرّ وتكون القواعد.

والسؤال الآن هو: مَن الذي يتكلَّم العربيَّة الفصيحة الآن؟ لا وجود لها إلاَّ على الملابس، فاللغة كلها أخطاء في الإذاعة والتليفزيون، أمَّا أخطاء المُعلم فاللهُ وحده أعلم بها؛ بل إنَّ الذي يُعلم النَّحو نفسه يتكلَّم بالعاميَّة، فكيف يتعلَّم الولد؟ إنَّ التَّعليم في المدارس – في العالم العربي كله – لا قيمة له مُطلقًا بالنّسبة للّغة العربيَّة؛ لأنَّهم يُقدِّمون قواعد اللغة مُنعزلة عن اللغة، بينما المفروض أن يبدأ العمل في تعليم القواعد بقراءة نَصّ وفهم هذا النَّصّ، ثم قراءته جهرًا أكثر من مرَّة بوساطة معلم ماهر، ثم يقرأ الأولاد، وبعد هذا يستخلص المعلم القاعدة من هذا النَّص، ثُمَّ يُطبق هذه القاعدة على هذا النَّص وعلى نَصّ آخَر، فالطَّالب يتعلَّم قواعد اللغة في الفصل الدراسي وقد يحصل على الدَّرجة النهائيَّة، ولكنَّه إذا خَرَجَ من الفصل لا يستطيع أن يتكلَّم لحظة واحدة، ولا يستطيع أن يكتب سطرًا واحدًا، وتنطبق هذه القضيَّة على الإذاعة والتليفزيون، وإن كانت الإذاعة مُلتزمة إلى حدٍّ ما باللغة العربيَّة، فالإذاعة والتليفزيون مدرسة جماهيريَّة مُتنقّلة بالمجَّان، ويسمعها الصَّغير والكبير، الرَّجل والمرأة، والعامل في دكَّانه، وفي ورشته، وفي شارعه، وفي حقْلِه، فإذا سمع كلامًا عربيًّا استطاع فيما بعد أن يأتي على منوال هذا الكلام العربِي.
أمَّا المُصيبةُ الأخيرة في رأيِي فهي المدارس الأجنبيَّة، والجامعات الخاصَّة، ومدارس اللغات، وقد قُلْتُ هذا أمام كِبار المَسؤولين في هذه الدَّولة، فكانوا يتعجَّبون منّي، ويرَونني على أنِّي رجلٌ مُتخلّف، ففي المدارس الأجنبيَّة ومدارس اللغات والجامعات الخاصَّة الموادّ كلّها – ما عدا اللّغة العربيَّة – تدرس باللغات الأجنبيَّة فكيف إذًا يستطيع الولد أن يستوعب اللغة العربيَّة، وكيف يستطيع أن يستوعِبَ المادَّة الَّتي تُقدَّم باللغة الأجنبيَّة، وهو يعيش في المجتمع العربي؟!
إنَّ هذا هو ما أسمّيه بالتَّلوّث اللغوي، والتَّلوث اللغوي معناه: كلام باللغة العربيَّة مخلوط ومغلوط ومملوءٌ باللَّهجات والرَّطانات، ومحشوّ بالكلمات والعبارات الأجنبيَّة التي تنطق وتستخدم خطأ في المبنى والمعنى، ومِن هُنا فأنا أرى أنَّها قضيَّة قوميَّة، وليستْ مجرَّد قضيَّة اللغة، فاللّغة هي العِماد الأوَّل أوِ المرآة التي تُوضِّح لَنَا، فإذا كانت اللغة قويَّة دلَّ ذلك على قوَّة أهلها، والعكس صحيح، لأنَّها المرآة العاكسة لكلّ أعمالك واتّجاهاتك، ولكلّ ما تعمل في هذه الدنيا. إذًا المسألة هي جفاف الفِكْر العربِي، وأيضًا البلادة العربية، فهذا الطالب لا يفكّر عربيًّا؛ وإنَّما يفكّر مرَّة باللغة الألمانيَّة، ومرَّة بالإنجليزيَّة، ومرَّة بالفرنسيَّة، حتَّى أصبحت الموضة أن يتكلَّم جملة بالعربيَّة، ويمزج معها بعض الإنجليزيَّة.
والحقيقة أنَّ القضيَّة من أبسط ما يمكن، فالقضيَّة ليست قضيَّة اللغة، وإنَّما هي قضيَّة أصحاب اللغة من الذين يكتُبون، ويحاوِرُون اللغة، ويبتكرون ما يشاؤون، فكُلّ لُغة على وجه الأرض قابلةٌ للتَّجديد والتَّحديث، والتَّحديثُ عادةً يبدَأُ فرْديًّا من خلال أيّ شَخْصٍ منَ الأشخاص النَّابغين عندما يستعْمِلُ كلمةً أو عبارة ما، مثل المصطلحات الحديثة التي كُنَّا نسمعها في أثناء الحرب من (الصحَّاف)، فقدِ استعمَلَ مجموعةً من الكلمات وبعضها قُبِل، وبعضها لم يُقْبل. إذًا قل ما تشاء، فإذا قبِلَهُ المُجتمع انضمَّتِ الكلمة أوِ العِبارة إلى نظام اللغة، والعكس صحيح؛ لكن لا تنتظر من اللغة أن تُعْطِيَكَ وأنْتَ نائم؛ لأنَّ اللُّغَة لا تَعِيشُ وحْدَها؛ ولذلك أقول: حرِّكْ فِكْرَك، وحرِّكْ ثَقَافَتَكَ، وحرِّك معارِفَك، واطْلُبْ منَ اللغة تُعْطِكَ هذه اللغة ما تشاء، ولكنَّ القضيَّة أنَّنا قومٌ بُلَداء، فضلاً عن أنَّ كلَّ شيء في العالم العربِيّ أصبح مُنْهارًا: الثقافة منهارة، العِلْم منهار، ومِنْ ثمَّ فإنَّ اللّغة من الطبيعي أن تكون منهارة أيضًا، فنحن الذين نقدم الزَّاد للغة، وليست اللغة هي التي تقدم لنا الزَّاد، وبالتالي فالقضيَّة قضيَّة النَّاس؛ لكنَّ العرب الآن نائمون في كل شيء، بما في ذلك العِلم نفسه، فهل نحن عِنْدَنا عِلْم عربِيّ في أيّ فرع من فروع العلم؟ إطلاقًا، حتَّى العلوم النظريَّة هي الآنَ مُتَرْجَمة، أو معرَّبة، أو خليط من عربي وأجنبي، وليس هناك إبداع.
إنَّ اللغة ليست كائنًا حيًّا، وإنَّما اللّغة تُشْبِه الكائنَ الحيَّ، أمَّا العبارة التَّقليديَّة التي ترِدُ عندنا بأن "اللغة كائن حي" فهي عبارة مجازيَّة، لأنَّ الكائن الحيّ يموت بنفسه، بينما اللغة لا تموت بنفسها، فاللغة تموت بموت أهلها، والدَّليل أنَّ اللغات الَّتِي نسمّيها لغات ميتة مثل اليونانيَّة ما زلنا نتعلَّمُها ونقرؤُها ونفهَمُها، فاللغة تختفي وتظهر مثل اللغة العبريَّة فهي في فترة من الفترات انتهتْ ولكنَّها لم تَمُتْ، بلِ اختفت نظرًا لاختفاء قوَّتِها هي، فإذا عادت هذه القوة عادت اللغة، لأنَّ اللغة لا تعيش وحدها أبدًا.
والحقّ أنَّ اللهجة المصريَّة أخفّ وأسهل في النطق؛ لأنَّها مُتناسقة الأصوات والنَّغمات لا أكثر ولا أقلّ، أمَّا الكلمات ومدى صحَّتها فهذِه تَحتاج إلى دراسة علميَّة؛ لكن على أيَّة حال فإنَّنا فيما يتعلَّق بضَعْفِ اللّغة العربيَّة لا نلوم الحكومة، ولا نلوم الشعب، ولا نلوم الأفراد، وإنَّما نلوم الجميع، فكلّنا مُخْطِئون: الأفراد والهيئات والحكومة والقاعدة، ومن ثمَّ فإنَّ القضيَّة قضيَّة قوميَّة كبيرة جدًّا، ولكنَّنا في المقابل لا نستطيع أن نقرّر شيئًا، وإنَّما نَحْنُ ننصح ونوجّه فقط.




اللغة العربية في مهب الريح (2)
د. عبداللطيف عبدالحليم
المصدر: من كتاب: "الحضارة في مهب الريح"

اللغة العربية في مهب الريح
في ربيع سنة 1976 كنتُ حديث عهد بالبعثة في مدريد، وَلَم أَكُنْ أعْرِفُ غيْرَ بعْضِ كلمات من الإسبانية، والإسبان لا يتحدَّثون إلاَّ لغتهم، فذهَبْتُ إلى بائعِ الخُبْزِ، وكنتُ أسكُنُ في الشَّقَّة الَّتي كان يعيش فيها الدكتور أحمد نوار بعد أن أنجز مُهِمَّته، وعاد إلى القاهرة، فذهبتُ إلى الرَّجُل، وقلتُ له بتلعْثُمٍ شديد (بان) بتخفيف الباء، فقال لي: ليس عندي، فأشرتُ إشارةَ الخُرْسِ إلى الخُبْز، فقال لي: تريد (بان) بتثقيل الباء أوِ الباء الثَّقيلة، ففي الإسبانية ثلاث باءات: الفا، والباء الخفيفة، والباء الثقيلة، ثم قال لي عبارة، لا أزال أحفظها حتَّى هذه اللَّحظة، غَيْرَ أنّي لم أَكُنْ أعْرِفُها وقْتَها، فذهبتُ إلى أحد أصدقائي وقلتُ له: ما معنَى هذه العبارة؟ فإذا به يُفَسّرُها لي بأنَّها منَ الأشياء المُستَقْبَحة الَّتي يشد عليها السيفون، وكنتُ أنا ذلك الشَّيء.
هذا الرَّجُل لم يَكُنْ عُضوًا في الأكاديميَّة الملكيَّة لِلّغة الإسبانيَّة في إسبانيا، ولا كان من أهل هذه اللّغة، وإنَّما كانتِ الغيرة هي الَّتي تحرّكه وتُظْهِرُ كوامِنَهُ حتَّى مع الأجانب والغُرباء عن اللغة، وظَلَّ الرَّجُل يُعَلّمُني كلمة (بان) أكثرَ من خمس أو ست مرات، والحقّ أنَّنا كان لديْنا مثل هذه الغيرة والنَّخوة على لغتنا، لكن أين ولَّت الآن؟ هي ولَّت كما ولَّى النَّاس؟ ولأنَّ البلاد بأهلِها كما يقول ابن حزم. واللغة أيضًا بأهلها.
والواقع أنَّنا نُعانِي لا أقول من ازدواجيَّة التَّعليم، بل من تثليث التَّعليم، فعندنا التعليم المدني وكلّنا تخرَّجْنَا فيه تَقْرِيبًا، وهُناكَ التَّعليمُ الأَجْنَبِيّ، وهُناك التَّعليم الدّينِيّ في الأزهر، ولا تَسْتَطِيعُ أن تقولَ إنَّ هذه المؤسسات التَّعليميَّة تقوم بدورها على الإطلاق، بل كانت تقوم بدورها منذ زمن لأنَّ النَّاس كانوا جادّين، وكانتْ لديهم هذه الغاية، فانْظُرْ إلى المناهج التعليميَّة في الفِرقة الرَّابعة الابتدائيَّة مثلاً، حيثُ كنتُ طالبًا بِهَذه الفِرقة في عام 1954 أو 1955، وكانت النّصوص التي تدرس لنا يَضعها محمد عبدالحميد بك أبو العزم، ومحمد برانق، وعلي الجمبلاطي، ومجموعةٌ ضخمة من الأساتذة الذين كانوا يُؤلّفون هذه الكتُب للطلاَّب، وكانَ هُناك شَيْءٌ آخَرُ وهُو كتاب المختارات – كما الحال في المنتخب – وكانَتِ الكتاتيب تقومُ بِدَوْرٍ أَيْضًا في تَجْهِيز أداةِ النُّطق أو جهاز النطق؛ بينما نَحْنُ الآن نُعاني من جهاز النطق لا لغة؛ وإنما على المستوى الصوتي، فأصبحتْ كلمة (أيظُنّ) تُنْطَق (أيزن أنّي لعبة بيديه)، و"الثاء" لا تُقال، و"الذال" لا تقال، إذًا فهو جهاز وهبه الله لنا؛ ولكننا لا نسخره التسخير المطلوب.
ونحن نتمسَّح الآن في التعليم الأزهري الذي أصبح الآن شديد البُؤس، وبعد عشر سنوات مجرمات سوف يأتِي إلينا شيخ الأزهر والمفتي وهما لا يَحْفَظَان القرآن الكريم، لأنَّنا كُنَّا نَحفظ القرآن الكريم قبل أن نَدْخُلَ هذه المؤسسة التعليميَّة؛ كما أصبَحْنا نتمسَّح الآن أيضًا بالنَّحو ونشكو من أنَّهُ صَعْب، وما إلى ذلك من هذا الكلام السخيف، في حين أنَّنا – أيُّها السَّادة – نبحث عن حقوقِنا ولا نبحث عن واجباتِنا، فنحْنُ دائمًا نُرِيدُ أن تُقدَّم لنا الأشياء كلّها جاهزة مثل الأطفال، فأين الجهد الَّذِي تبذُلُه لِكَيْ تُحَصّل شيئًا؟! ولذلك جاءتِ المدارس والمجموعات الخاصَّة والدروس الخصوصيَّة وغيْر ذلك، لأنَّك لا تُرِيدُ لِوَلَدِك – أو الولد نفسه لا يريد – أن يتنفَّس وحْدَهُ، بَلْ عليْكَ أن تُنَفّسه تنفّسًا صناعيًّا، ولذلك فأنا أرى أنَّ مسألة تيسير النَّحو هي كلام سخيف جِدًّا، فالنحو الإسباني – مثلاً – من أشقّ ما عرف النَّاس من اللغة، ومع ذلك فلم أر واحدًا على الإطلاق خلالَ ثَماني سنوات يشكو من النَّحو الإسباني، فالأزمنة هناك من أصعب ما يمكن، ومع هذا يدرسونَها ويحفظونها.
ونَحْنُ ننتَمِي إلى أُمَّة كانتْ لديْها طبقة تُسمَّى طبقة الحُفَّاظ، ولكنَّهم يخرجون علينا الآن ويقولون التَّلقين الكذا والكذا، وأنا أقول إنَّ هذا الحِفْظ نعمة، وإنَّه ينبغي أن يحفظ الناس، فمازال الأجانبُ يَحفظون مشاهدَ من (دون كي خوت)، ويحفظون مشاهد من (لوركا) وغيرهما، يحفظون كل هذا حفظًا؛ بينما نحن لا نقوم بالحفظ على الإطلاق حتَّى على مستوى الجامعة، وكان هُناك كتابٌ ألَّفه حفني بك ناصف، والشيخ مصطفى طامون، ومجموعة كبيرة من هؤلاء الأعلام الأجلاَّء يُسمَّى "الدّروس النَّحْويَّة"، وعِنْدِي الطَّبعة الَّتي صدَرَتْ عام 1903 وفيها كُلّ النَّحْوِ وَالصَّرف والبلاغة في حَوَالَيْ 200 صفحة، ولكنَّنا الآنَ نُغْرِقُ الطلاَّب في أشياءَ كثيرةٍ ليستْ من نَحْوِ الكلام؛ وإنَّما هي من نَحْوِ الصَّنعة كما يقولون، ومع ذلك فأنا أطالب بنحو الصنعة للمُتخصّصين ووسائل الإعلام.
وأنا أعلَمُ جيّدًا أنَّ المُذيعين في الإذاعة والتليفزيون حُرصاء على حضور الدَّورات التَّدريبيَّة وتعليمها، ومع ذلك لا يهتمّ أصحابُ اللّغة العربيَّة في التليفزيون بِمِثْل هذا، وحين تحذف من على خريطة التليفزيون بعضُ البَرَامِج تكونُ البَرامج الأدبيَّة والثقافيَّة أوَّل البرامج التي تحذف. وقد كانتْ جريدة الأهرام أيَّام أنطون باشا الجميل لا تَنْشُر شيئًا باللغة العاميَّة على الإطلاق، بل كان الكلام يُنْخَل نَخْلاً، بينما هُناك الآنَ صفحاتٌ بِالكامل مكتوبةٌ باللغة العاميَّة، ولا أقول الأهرام لأنَّها النموذج الأعلى والأرقَى لكلّ الصّحف المصريَّة بلْ والعربيَّة، أيضًا نحن عندنا أزمة فيما يتصل بالمُصْطلح، فكلّ النَّاس يريدون أن يكونوا شُعَراء، وهذا لا يصحّ على الإطلاق، فإذا كثُر الشُّعراء قلَّ الشِّعر؛ كما قال إسماعيل باشا صبري، فكل النَّاس في المدارس الإعدادي والثانوي أصبحوا الآنَ شُعراء، والَّذي يَكْتُب العاميَّة يكون شاعِرًا عاميًّا أو شاعرًا شَعْبِيًّا، مع أنَّ امرأ القيس والمتنبّي وأبا العلاء المعرّي شعراء شعبيّون، فهم يتحدثون إلى الشعب.
والطَّامَّة الكُبرى أنَّه أصبح يدرس في المدارس الآن موضوعات رديئة للغاية، لا تعلّم البطولة؛ وإنَّما تعلم الاستخذاء، بَيْنَما حينَ تدرس سيرة "فارس بني حمدان" ذلك الشاعر الطَّموح المَلِك فهِيَ سيرة رجل شجاع، ومن ثمَّ لا يتعلَّم الطلاَّب اللغة فقط، ولكن يتعلمون أيضا البطولة، ونحن في حاجة إلى تعلّم البطولة في مثل هذه الأجواء التي نعيشها الآن؛ فنحن مثلاً كنا ندرس في كتُب المُطالعة فصولاً من الميثاق، والَّذين من سنّي يعرفون هذه القضيَّة، وهو كلام سخيف يدرس للطلاَّب، فماذا يعلّمُهم الميثاق؟ أيضًا نَحْنُ نفتقد القدوة في أساتذتنا، إذ إنَّ بعض الذين يتخصَّصون في النَّحو لا يُقِيمونَ جُملة، وبعضُهم حاصل على الدكتوراه، وأنا شاهد عيان على بعض الوقائع التي لا أريد أن أرويها الآن.
وإذا كانتِ اللّغة العربيَّة تُعانِي من مسألة التغريب – وهِيَ قضيَّة قديمة – فإنَّها تُعَانِي أيضًا مِنْ مُشْكِلة التَّشريق (نسبة إلى الشرق)، إذْ حِينَ تَخْرُج من مِصْرَ وتَذْهَبُ إلَى الخليج تَجِدُ كُلَّ البُيوت وكُلَّ المحالّ تتحدَّث اللغة الأرديَّة ونحوها، لأنَّ الخادم أو الخادمة هناك هي التي تسيّر الحركة الثقافيَّة والحركة اللغويَّة، وأظنّ أنَّه بعد فترة قصيرة سيتحدَّث النَّاس الأرديَّة، وقد كُنَّا في الإمارات وسلطنة عمان نجد أنَّ الأولاد والبنات على أعلى مستوى في الحديث؛ ولكنهم حينما يأتون في الفصول لا يعرفون اللغة العربيَّة، كما أنَّ حالة القراءة الآن حالة يُرثى لها، فقد أصبح الناس أيضًا لا يقرؤون، وهذا من أسباب الأزمة الضَّخمة، بالرغم من أنَّ الكُتُب في الوقت الحالي أصبحتْ مُيَسَّرة، فَقَدْ كُنَّا نهرع إلى محطَّة السّكّة الحديد في المركز لكي نشتري مجلة الثقافة أوِ الرسالة في عهدِهِما الثَّاني، وكُنَّا نَستعير بعض الكتب من مكتبة البلدية في طنطا وفي شبين الكوم، ونقرأ هذه الكتب ونحفظ كُلَّ هذا.
ومن الأكاذيب السخيفة كذلك ما يسمَّى باللغة العربيَّة المعاصرة، وكأنَّ اللّغة العربيَّة مرتبطةٌ بِعَصْرٍ دون عصْر، وإذا صحَّ هذا في لغة أخرى فإنَّه لا يصحّ في اللغة العربيَّة على الإطلاق، فنحن نقرأ امرأ القيس ونقرأ أبا العلاء، وغيرهما بلغتهم هم، أمَّا الإسبان والإنجليز فيقرؤون الـ (دون كي خوت) وشكسبير مترجَمين إلى اللغة الإسبانية المعاصرة، ولكن الذين يُشيعون هذه المسألة أعْتَقِدُ أنَّ لهم بعضَ المآرب الغربيَّة فيما يتَّصل بمسألة اللغة العربيَّة المعاصرة، ودعونِي هنا أنقل بعضًا من الأسطُرِ التي كتبتْها أفعَى وتقدمها على أنَّها شعر – وبعضُ الناس تستخذي، فحتَّى الذين كانوا يكتُبون الشّعر الموزون المُقفَّى استخْذَوْا وكتبوا شِعرًا حُرًّا، ثم كتبوا بعدها لُغَةً عامية عندما وجدوا أنَّ الاتجاه يسير في اتجاه العاميَّة، ورحمة الله على الأستاذ عبدالقادر القط، وكنت أعتب عليه في هذا كثيرًا – المُهِمّ تقول هذه المرأة:
"عِندما أقِفُ على فاترينة مُضيئةٍ مُزْدَهِرة بِالملابس الدَّاخليَّة
أَمْنَعُ نفسي من التفكير في ماركس
احترامُ ماركس هو الشيء الوحيد المشترك بَيْنَ مَنْ أَحْبَبْتُهُمْ
وسَمَحْتُ لَهُمْ بأن يقطِفُوا – بِنِسَبٍ مُخْتَلِفَةٍ – بَعْضَ الزُّهور البَرّيَّة مِنْ جَسَدِي"
وفيما يتَّصل بتعليم الأولاد في الأزهر، فأنا أُقَرّر أنَّه لا يَقوم أيُّ جهازٍ أوْ مُؤَسَّسة الآن بالدور المنوط به في مسألة التعليم، وإنَّما الاعْتِمَادُ كله على البيت، وأنا كُنْتُ أُحَفِّظُ ولدي وابنتي وهما في سن 4 – 5 سنوات؛ لكيْ أُدَرّب لَدَيْهِما جهازَ النُّطْقِ فَقَطْ.
مَا لَنَا كُلُّنَا جَوٍ يَا رَسُولُ أَنَا أَهْوَى وَقَلْبُكَ الْمَتْبُولُ
فكلام المتنبي وكلام أبي علاء كُنْتُ أُحَفّظه للأولاد، فعلينا أن نَعِيَ هذا، وأنا من غَيْرِ حديثٍ عنِ النفس كنت أحفظ أكثرَ من خمسَةَ عَشَرَ أَلْفَ بيتٍ من الشعر، فلا المدارس علَّمَتْنَا هذا، ولا الأزْهَر، رغم أنّي قد حَصَلْتُ على ثانويَّة الأزهر.
ولا يَفُوتُنِي هنا أن أقول في موضوع القضيَّة التي بين أيدينا الآن إنَّنِي وأنا أُتَرْجِمُ بعض الأشياء وجدتُ أنَّ فِي اللغة العربيَّة سَعَةً لَم أجِدْها في اللُّغة الإسبانية، وسأكْتَفِي هُنا بِضَرْب بعض الأمثلة: المثال الأوَّل كلمة (ليندس) وتعني أساطير، فقَدْ ورَدَتْ في مقالٍ كَتَبَهُ (بوزفيلا) – وهو أستاذٌ في جامعة غرناطة – عن عِلْم الأنساب عِنْدَ (ابْنِ حَزْم)، لكنَّنِي ظلِلْتُ أدير هذه الكلمة في السياق فلا تَسْتَقِيم على الإطلاق، فإذا بِي أجِدُها – لأنَّنِي ثقافَتِي من المشايخ – تعني كلمةَ (الإسرائيليات) ومن ثَمَّ فقدِ انتقلتِ الكلمة من سياق إلى سياق آخر. أيضًا حين كان (أونا مونو) يتحدَّث عن أستاذه (خوليو فيخادور) حديث اللهفة والمودة – وكان رجلاً أعور – تذَكَّرتُ أنَّنِي لو قلتُ إنَّ أستاذ "أونامونو" كان أعور فسيكون فيها نوع من المثلبة بالنسبة للرَّجُل، فإذا بِي أعود إلى لُغَتِي وأرَى فيما يتَّصِلُ بـ (ابن جنّي) العظيم – وكان بعين واحدة – أنَّهم كانوا يقولون عنْهُ إنَّه كان مُمَتَّعًا بإِحْدَى عيْنَيْهِ، فإذا بِي أقَعُ على الكلِمَة الَّتي يُمْكِنُ أن تُسْعِفَنِي في هذا السياق.




والله أعجبني طرحك…

وسأعود إلى هذين المشاركتين بحكم ضيق وقتي الآن

أحسست بطرح هام ويستحق التوقف والمناقشة..

تقديري لك وكم نحن بشوق إلى مثل هذه المواضيع

بوركت أخي وتشرف المنتدى بأمثالك

تحياتي…




مشكوووووور والله يعطيك الف عافيه




اللُّغة قد يتصوَّر البعض منَّا أنَّها مُجرَّد أداة يُمكِن أن تستبدل، وأن يعوض عنها بشيء غيرها، وهي حقًّا أداة للفِكْر والتَّفاهم: أداة للتَّفاهم الحالي، وأداة للتَّفاهُم بين الأجيال المختلفة، ولكنَّها إلى جانب ذلك أداة للجمال؛ بل هي مادَّة خام للجمال، فإذا كان المثَّال يستخدم الرُّخام، أو ما شابهه ليصنع تمثالَه، فإنَّ الشَّاعر يستخدم الألفاظ ليصنع قصيدته التي نعجب بها، ومن ثمَّ فاللغة مادة خام، يُعطيها الشَّاعر الصور الجماليَّة المُختلفة التي تعجب النقَّاد، وهي إلى جانب ذلك رمز وجودها، فأنا لا أعرف عربيًّا لا يتكلَّم العربيَّة، ولا أعرف أجنبيًّا يتكلَّم العربيَّة إلاَّ إذا كان مستعمرًا، بل إنَّنا نعرف العرب الآن بأنَّهم من يتحدثون العربيَّة، وليس بأنَّهم من ينتمون بالعرق، أو الدم إلى الجنس العربي الذي كان يعيش في الجزيرة العربيَّة.

إذًا العربيَّة هي الشعار، وكما أنَّ الإنسان يحرص على شعارات هويته المختلفة، وكما أنَّ العَلَم رمز الوطن والسَّلام الوطني كذلك، فإنَّ اللغة العربيَّة أيضًا هي أحد الشعارات، وإذا كنت أستطيع أن أجلس مع صديق لي ونَتَسَامَرُ حول أشياء كثيرة جدًّا، لكنَّني لا أستطيع أن أسمع من أجنبِيّ سخرية بِعَلَمِي أو نشيدي الوطني، وكذلك يجب ألاَّ أسمح لإنسان بأن يسخر من لغتي العربيَّة أو يسخر من أنِّي أتكلَّم لغة سليمة……………….. ……………………. ………………..موضوع مميـــز مشكوورة اختي …………………سلاا امي




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.