هل يصح تسمية الأحكام الشرعية بالتكليفية؟ وما هو موقف ابن تيمية وابن القيم من ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبد الذي اصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى. أما بعد: فقد شاع عند الأصوليين تسمية الأحكام الشرعية بالتكليفية، وفسروا التكليف بأنه إلزام بما فيه مشقة وكلفة. ووصفوا الأحكام الشرعية بذلك. فإن في هذه التسمية وهذا الإطلاق نظرا من عدة وجوه: الوجه الأول: أن القول بأن الأحكام الشرعية لابد فيها من الكلفة والمشقة حتى يثاب عليها هو مبني على عقيدة المعتزلة في التحسين والتقبيح العقلي، حيث قالوا: إن العقل يقضي بأن العبد لا يثاب إلا على فيه مشقة وكلفة، وما خلا عن المشقة والكلفة فلا ثواب فيه، فاشترطوا المشقة في التكاليف الشرعية، وزعموا أن العقل يحكم بذلك. الوجه الثاني: أن هذه التسمية مبنية على القول بأن الأحكام الشرعية مشتملة على المشقة والكلفة، وهذا الإطلاق والتعميم ليس بصحيح لأن الأحكام الشرعية منها ما لا مشقة فيه، بل هو لذة، كما قال على الصلاة والسلام: (( وفي بضع أحدكم صدقة )) رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه. الوجه الثالث: أن المشقة الواقعة في بعض التكاليف ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي واقعة تبعا، ولا يجوز للمكلف أن يقصد المشقة في العبادة. والشرع لم يأت بالمشقة على العباد بل بالتخفيف عليهم ونفي الحرج، وفي هذه التسمية إيهاما بعكس ذلك. يوضحه: الوجه الرابع: أن المشقة والكلفة في الأحكام الشرعية جاء نفيها في النصوص، كما قال تعالى: (( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )) فالله عز وجل لم يكلفنا إلا ما هو في وسعنا، والوسع هو ما لا حرج فيه ولا مشقة. الوجه الخامس: أن الشارع لم يسم الأحكام الشرعية بالتكليفية، وهذه التسمية ليست شرعية ولم ترد في النصوص بل الوارد أن الله تعالى سمى شرعه: روحا، ووحيا، وهدى، ونورا، ونحو ذلك. وهذا المعنى قد قرره شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله. (( وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ : وقال ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان 1/31-32: (( … لا كما يقوله من قل نصيبه من التحقيق والعرفان وبخس حظه من الإحسان : إن عبادته وذكره وشكره تكليف ومشقة لمجرد الابتلاء والامتحان أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل كالمعاوضة بالأثمان أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان كما هي مقالات من بخس حظه من معرفة الرحمن وقل نصيبه من ذوق حقائق الإيمان وفرح بما عنده من زبد الأفكار وزبالة الأذهان. وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقة والكلفة بالقصد الأول وإن وقع ذلك ضمنا وتبعا في بعضها لأسباب اقتضته لابد منها هي من لوازم هذه النشأة فأوامراه سبحانه وحقه الذي أوجبه على عباده وشرائعه التي شرعها لهم هي قرة العيون ولذة القلوب ونعيم الأرواح وسرورها وبها شفاؤها وسعادتها وفلاحها وكمالها في معاشها ومعادها بل لا سرور لها ولا فرح ولا لذة ولا نعيم في الحقيقة إلا بذلك كما قال تعالى : { يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } … فإن قيل : فقد وقع تسمية ذلك تكليفا في القرآن كقوله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} ، وقوله :{ لا نكلف نفسا إلا وسعها} . قيل : نعم إنما جاء ذلك في جانب النفي ولم يسم سبحانه أوامره ووصاياه وشرائعه تكليفا قط بل سماها روحا ونورا وشفاء وهدى ورحمة وحياة وعهدا ووصية ونحو ذلك )) انتهى وبالرغم من ظهور هذه الأوجه والانتقادات المذكورة آنفا، إلا أنه يمكن أن تعد هذه التسمية اصطلاحا محضا، فلا مانع من إطلاقها بهذا الاعتبار لكن مع مراعات منـزع هذا الإطلاق، والتنبيه على مأخذه وأصله وأنه ليس على إطلاقه والله أعلم. ملاحظة: النصوص نقلتها من المكتبة الشاملة، ومن يقف على نصوص أخرى لأهل العلم المتقدمين والمعاصرين فليذكرها ولا يبخل بها، بارك الله فيكم.
|
||