التصنيفات
العقيدة الاسلامية

مناظرة بين مؤمن موحد ومادي ملحد للشبخ عبد الرحمن بن سعدي||||

تعليمية
تعليمية
مناظرة بين مؤمن موحد ومادي ملحد للشبخ عبد الرحمن بن سعدي


[مناظرة بين مؤمن موحد ومادي ملحد]

أذكر هـهنا محاورة بين مؤمن موحد ومادي ملحد، وذلك أن
رجليْنِ مسلميْنِ كانا متصافييْنِ على الإسلام وفي طلب العلم، فغاب أحدهما عن صاحبه مدة طويلة، ثم التقيا؛ فإذا هذا الغائب قد تغيرت أحواله وأخلاقه، فسأله صاحبه وبحث معه في تبيين السبب الذي
أوصله إلى هذا التغير الذي لا يعهده منه؛ فإذا هو قد تغلبت عليه
دعايات الملحدين الذين يدعون لنبذ الدين ورفض ما جاء به سيد المرسلين، فحاوله صاحبه وقلبه على كل وجه لعله يرجع عن هذا الانقلاب الغريب الذي توجه به وجهة خبيثة؛ فلم يفد فيه النصح،
فعرف أن هذه علة تفتقر إلى استئصال أصل الداء ومقابلته بضده،
وأن ذلك متوقف على معرفة الأسباب التي حولته وإلى تمحيصها وتوضيحها ومقابلتها بما يضادها وبقمعها، وشرحها شرحاً يبين
مرتبتها من الحقيقة؛ فقال له مستكشفاً له عن الحامل له على ذلك، فقال له:
يا هذا! ما هذه الأسباب الي حملتك على ما أرى، وما
الذي دعاك إلى نبذ ما كنت عليه، فإن كان خيراً كنت أنا وأنت
شريكين فيه وتابعتك على ذلك، وإلا؛ فانظر لنفسك، وانظر من
عقلك وأدبك أنك لا ترضى أن تقيم على ما يضرك ويثمرك الثمرات الرديئة!

فقال له: لا أخفيك العلم أني رأيت حالة المسلمين حالة لا يرضاها عاقل، رأيتهم في ذل وخمول وأمورهم مدبرة وأحوالهم سيئة، ورأيت في الجانب الآخر هؤلاء الأجانب قد ترقوا في هذه الحياة وتفننوا في الفنون العجيبة، واخترعوا الاختراعات المدهشة والصناعات المتفوقة، وقد دانت لهم الأمم وصاروا يتحكمون في الأمم الضعيفة بما شاؤوا ويعتبرونهم كالعبيد لهم والأجراء وأدنى من ذلك؛ فرأيت منهم العز الذي بهرني والتفنن الذي أدهشني؛ فقلت في نفسي: لولا أن هؤلاء القوم هم القوم، وأنهم على الحق والمسلمون على ضده؛ ما كانوا على الوصف الذي ذكرت لك، فرأيت سلوكي سبيلهم خيراً لي وأحمد عاقبة؛ فهذا الذي صيرني إلى ما رأيت.

فقال له صاحبه حين أبدى له ما كان مستوراً: إذا كان هذا هو السبب الذي حوَّلك إلى ما أرى؛ فهذا ليس من الأسباب والطرق والحقائق التي يبني عليها العقلاء وأولو الألباب عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم، ويعلقون بها مستقبلهم وآمالهم، أما تأخر المسلمين فيما ذكرت؛ فليس ذلك من دينهم، بل دينهم يضاد هذا أشد المضادة، وقد علمت وتيقنت ببعض ما عرفت أن دين الإسلام يدعو إلى الصلاح والإصلاح من كل وجه: إصلاح العقائد والأخلاق والدين والدنيا، وإصلاح الأحوال الداخلية والخارجية بكل وسيلة تصلح الأمة وتكف عنها عادية الأعداء، والاستعداد لهم بكل قوة تستطاع، وها هو لا تزال تعاليمه وإرشاداته قائمة لدينا، تنادي أهلها: هلموا إلى جميع الأسباب النافعة التي تعليكم وترقيكم وتعزكم في دينكم ودنياكم! أفبتفريط أهل الدين بل المنتسبين إلى الدين تحتج على الدين وتوالي أعداءه؟! أليس العاقل إذا رأى هذا التفريط منهم أوجب له أن يكون نشاطه وجهاده متضاعفاً لينال المقامات العالية

يستنقذ الهالكين من الهوة العميقة؟! أليس القيام التام لنصر الدين في هذه الحالة من أفرض الفروض وأوجب الواجبات؟! فالجهاد في حال قوة المسلمين وكثرة المشاركين له فضل عظيم يفوق سائر العبادات؛ فكيف إذا كانوا على هذا الوصف؟! فإن الجهاد في سبيله لا يمكن التعبير عن فضله وجليل ثمراته، ففي هذه الحال يكون الجهاد قسمين:
ـ قسم جهاد لتقويم المسلمين وإيقاظ هممهم وعزائمهم، وتعليمهم كل علم ينفعهم، وإرشادهم إلى كل صلاح وإصلاح، وتهذيبهم بالأخلاق الراقية، ولعل هذا أشق النوعين وأفضلهما.
ـ وقسم فيه مقاومة الأعداء وإعداد العدد لهم من كل وجه.
أفحين صار الأمر على الوصف الذي ذكرت والحال التي شرحت، وصار الموقف حرجاً تتخلى عن إخوانك المسلمين وتتخلف مع الجبناء والمتخلفين؛ فكيف وأنت منضم إلى حزب المحاربين، لا تكن يا هذا أرذل ممن قال الله فيهم: {{تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا}} [آل عمران: 167] ، قاتلوا لأجل الدين أو ادفعوا لأجل الرابطة القومية؛
فأعيذك من هذه الحالة التي لا يرضاها ذوو الديانات ولا أهل
النجدات والمودات فهل ترضى أن تشارك قومك في حال عزهم
وقوة عددهم وعديدهم، وتفارقهم في حال ذلهم ومصائبهم، وتخذلهم
في حالة اشتدت فيها الضرورة إلى نصرة الأولياء وغيرهم
وقمع عدوان الأعداء؛ فكيف مع هذا تظاهر الأعداء الألداء؛ فهل
رأيت ديناً خيراً من دينك؟!
فقال له ذلك المنقلب: الأمر كما ذكرت لك ونفسي تَتُوق إلى أولئك الأقوام الذين أتقنوا الفنون والصناعات، وألفوا السياسات الراقية والحضارات.
فقال له صاحبه وهو يحاوره: أرفضت ديناً قيماً كامل القواعد نير البرهان يدعو إلى الخيرات، ويحث على جميع طرق السعادة والفلاح، ويقول لأهله: هلموا إلى الفلاح والنجاح! هلموا إلى دين عظيم مبني على الحضارات الصحيحة الراقية التي بنيت على العدل والتوحيد وأسست على الرحمة والشفقة على الخلق والحكمة وأداء الحقوق ومنع الظلم من جميع الوجوه والعقوق.
دين شمل بظله الظليل وخيره الكثير الطويل وإحسانه الشامل وبهائه الكامل ما بين المشارق والمغارب، واعترف بذلك
الموافق والمنصف المخالف؛ أتتركه يا هذا لحضارات ومدنيات
زائفة مبنية على الكفر والإلحاد، مؤسسة على الجشع والطمع
وظلم العباد، فاقدة لروح الإيمان ورَوْحه ورحمته، حضارة
ظاهرها مزخرف وباطنها خراب، وتظنها تعميراً للوجود وهي حقيقة الهلاك والتدمير؟! ألم تر آثارها وما جلبته للعباد من الهلاك والفناء؛
فهل سمع الخلق منذ أوجدهم بمثل هذه المجازر البشرية والفوضى المادية؟! فهل أغنت عنهم مدنيتهم وحضارتهم من عذاب الله من
شيء لما جاء أمر ربك؟! وما زادتهم غير تتبيب؛ فلا يخدعنك يا هذا ما ترى من المناظر والزخرفة والأقوال المموهة والدعاوي والدعايات الطويلة العريضة التي أخذت بقلوب الرعاع الهمج، فانظر إلى بواطن الأشياء ولا تغرنك الظواهر، وتأمل النتائج الوخيمة؛ فهل أسعدتهم هذه الحضارة في دنياهم التي لا يرجون حياة غيرها فضلاً عن أخراهم؟! ألم ترهم ينتقلون من شر إلى شرور ولا يسكنون في وقت قليل إلا وهم يتحفزون إلى الطامات؟!
ثم هب أنهم متعوا في حياتهم بالعز والرياسات ومظاهر الحياة؛ فهل إذا انحزت إليهم وواليتهم يشركونك في حياتهم ويجعلونك كأحدهم؟
كلا والله، إنهم إذا رضوا عنك بمظاهرتك إياهم جعلوك من أخس خدامهم وأقذر أجرائهم، يقضون بك وطراً، ويجعلونك مصيدة لهم يصطادون بها كل من لا بصيرة عنده؛ فالله الله يا هذا في دينك! والله الله في مروءتك وأخلاقك وأدبك وفي بقية رمقك! فالانضمام إلى هؤلاء هو والله الهلاك.
فلما سمع هذا الكلام وتأمل جميع الوسائل التي تنال بها
الأغراض من أولئك الأقوام؛ فإذا هي مسدودة؛ فلا دين ولا دنيا، ولا راحة قلب ولا بدن ولا سلامة، عرف أنه من المغرورين، وأن الواجب عليه متابعة الناصحين، وأن الرجوع إلى الحق الذي فيه سعادة
الدنيا والآخرة خير من التمادي على الباطل الذي يحتوي على الضرر العظيم؛ فقال لصاحبه: كيف لي بالرجوع، وأنّى لي وقد انحزت إلى أولئك النزوع؟
فقال له صاحبه: ألم تعلم أن من أكبر فضائل الإنسان أن يتبع الحق الذي تبين له ويدع ما هو عليه من الباطل، وأن الموفق الحازم هو الذي إذا وقع في الهلاك سلك كل وسيلة توصله إلى النجاة والفكاك وتخلِّصه مما وقع فيه الأشراك؟ واعلم أنه كلما ذاق العبد مذهب المنحرفين وشاهد ما فيه من الغي والضلال، ثم تراجع إلى الحق الذي هو حبيب القلوب كان أعظم لوقعه وأكبر لنفعه؛ فارجع إلى الحق ثابتاً، وثق بوعد الله أن الله لا يخلف الميعاد.
فقال: الحمد لله الذي أنقذنا بلطفه وحسن عنايته من الهلاك والشقاء، ومنَّ علينا بالسعادة والهدى؛ فنسأل الله أن يتم علينا نعمته ويثبتنا عليها.
فقال له الناصح: يا أخي! وأزيدك بياناً عما ذكرت لك أن هذه المظاهر التي تراها من الكفار قد نبهنا الله عليها في كتابه، وأخبر عنها وحذرنا أن نغتر بها، قال تعالى: {{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ *مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }} [آل عمران: 196 ـ 197] ؛ فهذا الاغترار مصيدة لهم وللجاهلين بأحوالهم، وقد أرانا الله من أيامه ووقائعه فيهم ما فيه عبرة للمعتبرين وموعظة للمتقين. والحمد لله رب العالمين.

المصدر: كتاب مجموع الفوائد واقتناص الأوابد للشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى

للامانة العلمية الموضوع منقول

تعليمية تعليمية




السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جزاكِ الله خيرا على طيِّبِ ما نقلتِ

وفقكِ الله و بارك فيكِ أخية




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.