[مقال] إتحاف الراغب بحكم قراءة الحزب الراتب . أو إتحاف المؤمنين بحكم قراءة القرآن مجتمعين قراءة الحزب الراتب :
وآخر مسألة في هذه الرسالة المباركة – إن شاء الله- هي:حكم قراءة القرآن مجتمعين بصوات واحد بما يسمى عندنا الحزب.فأقول وبالله التوفيق . لقد اختلف العلماء في هذه المسألة كما اختلفوا في غيرها من المسائل ،وتنازع الناس فيها كثيرا، فمنهم من عدها من المحدثات في الدين،ومنهم من أجازها . فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – هذا السؤال :(1).فقراء يجتمعون يذكرون ويقرءون شيئا من القرآن ، ثم يدعون ويكشفون رؤوسهم ويتضرعون وليس قصدهم بذلك رياء ولا سمعة ، بل يفعلونه على وجه التقرب إلى الله ، فهل يجوز ذلك أم لا؟. فأجاب : الحمد لله رب العالمين . الاجتماع على القراءة والذكر والدعاء حسن مستحب إذا لم يتخذ ذلك عادة راتبة ، كالاجتماعات المشروعة ، ولا اقترن به بدعة منكرة .وقد وصل سؤال شبيه بهذا الذي ألقي على شيخ الإسلام إلى شيخ من أشياخ غرناطة بالأندلس المفقود –رده الله على المسلمين -،وانتقد جوابه الشاطبي . ونص السؤال هو(2): ما يقول الشيخ فلان في جماعة من المسلمين ؛ يجتمعون في رباط على ضفة البحر في الليالي الفاضلة، يقرءون جزءا من القرآن، ويستمعون من كتب الوعظ والرقائق ما أمكن في الوقت..فهل يجوز اجتماعهم على ما ذكر؟ أم يمنعون وينكر عليهم؟. فأجاب ذلك الشيخ بقوله : مجالس تلاوة القرآن وذكر الله هي رياض الجنة ، ثم أتى بالشواهد على طلب ذكر الله (3). قال الشاطبي رحمه الله :(4) فكان مما ظهر لي في هذا الجواب : أن ما ذكره من مجالس الذكر صحيح إذا كان على حسب ما اجتمع عليه السلف الصالح فإنهم كانوا يجتمعون لتدارس القرآن فيما بينهم ، حتى يتعلم بعضهم من بعض ويأخذ بعضهم من بعض ، فهو مجلس من مجالس الذكر التي جاء في مثلها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : > الحديث(5). وكذلك الاجتماع على الذكر ، فإنه اجتماع على ذكر الله ففي رواية أخرى :أنه قال: > (6) ، لا الاجتماع للذكر على صوت واحد . إذا فالشاطبي يعد قراءة القرآن مجتمعين بصوت واحد مما لم يكن من هدي السلف الصالح ، وإذا لم يكن من هديهم فهو من المحدثات . وممن كره هذه الكيفية والطريقة وعدها من المحدثات الإمام مالك ، كما نقله عنه الطرطوشي في كتابه الفذ" الحوادث والبدع" (ص312 – 322) وفيه بحث نفيس في المسألة، وكذلك نقل عن الباجي في المنتقى نسبته إلى مالك . ونقل الونشريسي(7) عن المازري أنه قال :في شرحه حديث أبي هريرة : > الحديث. ظاهره يبيح الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد، وإن كان مالك قد كره ذلك في المدونة ولعله إنما قال ذلك لأنه لم ير السلف يفعلونه، مع حرصهم على الخير. وأما الإمام النووي فقد جعلها مستحبة فقال (8): فصل: في استحباب قراءة الجماعة مجتمعين ، وفضل القارئين من الجماعة والسامعين، وبيان فضيلة من جمعهم عليها وحرضهم وندبهم إليها . اعلم أن قراءة الجماعة مجتمعين ، مستحبة بالدلائل الظاهرة ، وأفعال السلف والخلف المتظاهرة ، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنه قال : (9) . وعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >(10).وعن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال :> قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى ونحمده لما هدانا للإسلام، ومن علينا به.قال:>. قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذاك.قال :>(11). وروى ابن أبي داود:أن أبا الدرداء رضي الله عنه كان يدرس القرآن معه نفر يقرءون جميعا.وروى ابن أبي داود فعل الدراسة مجتمعين عن جماعات ، من أفاضل السلف والخلف وقضاة المتقدمين(12). وعن حسان بن عطية والأوزاعي ، أنهما قالا : أول من أحدث الدراسة في مسجد دمشق ، هشام بن إسماعيل في قدمته على عبد الملك . وأما ما روي ابن أبي داود عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عزرب : أنه أنكر هذه الدراسة.وقال ما رأيت ولا سمعت ، وقد أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعني ما رأيت أحدا فعلها. وعن وهب قال : قلت لمالك أرأيت القوم يجتمعون فيقرءون جميعا سورة واحدة حتى يختموها؟ فأنكر ذلك وعابه، وقال: ليس هكذا تصنع الناس إنما كان يقرأ الرجل على الآخر يعرضه. فعقبه بقوله :هذا الإنكار منهما مخالف لما عليه السلف والخلف ،ولما يقتضيه الدليل، فهو متروك.والاعتماد على ما تقدم من استحبابها، لكن القراءة في حال الاجتماع لها شروط قدمناها ينبغي أن يعتنى بها ، والله أعلم (13). وسئل القابسي :(14) عن المجتمعين بعد صلاة الصبح يقرؤون الحزب من القرآن متفقين فيه هل يجوز أم لا ؟ . فأجاب : إن كان لما يجدون في ذلك من القوة والنشاط في الحفظ والدراسة فلا بأس ، ولو قدر على الدراسة خاليا كان أفضل وأسلم ، وربما ترك الناس شيئا في الوقت إذ هو أسلم من غيره . وسئل الأستاذ سعيد ابن لب نفس السؤال ،فأجاب بنفس الجواب تقريبا (15).ونقل عن ابن رشد أنه كرهه. وخلاصة القول في المسألة :أنها ليست من هدي السلف وإليك البيان . 1 – لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، وخير الهدي هدي محمد وخير سبيل ، سبيل أصحابه. 2 – أن الحديث الذي استشهدوا بهو هو قوله صلى الله عليه وسلم : > وهذا عام من وجه خاص من وجه كما قال الطرطوشي ، فلم يبين الكفية التي كانوا يتلون بها ويتدارسون بها كتاب الله بينهم ، قال رحمه الله مبينا تلك الكفية:(16) والجواب أن هذه الآثار تقتضي جواز الاجتماع لقراءة القرآن على معنى الدرس له والتعلم ، والمذاكرة ؛وذلك يكون بأن يقرأ المعلم على المتعلم ، ويقرأ المتعلم على المعلم ، إذ يتساويان في العلم فيقرأ أحدهما على الآخر على وجه المذاكرة والمدارسة، هكذا يكون التعليم والتعلّم دون القراءة معا. وجملة الأمر أن هذه الآثار عامة في قراءة الجماعة معا على مذهب الإدارة ، وفي قراءة الجماعة على المقرئ ، وقوله تعالى :{{ وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا }} خاص في وجوب الإنصات عند القراءة .فإن قيل : الآية خاصة في وجوب الإنصات عند القراءة عامة في المحل فنخص عمومها ونحمله على صلاة الجهر وعلى الخطبة بدليل حديثنا الخاص المذكور آنفا .. قلنا : وحديثكم أيضا خاص من وجه عام من وجه ، فخصوصه في تدارس القرآن ، وعمومه في وجه التدارس إذ لم يبين على أي وجه يتلونه ويتدارسونه لأن التدارس يحتمل ما قلتم وما قلنا ، فأما التلاوة والتدارس فعام في نفسه على ما ذكرنا فيقضي عليه خصوص آيتنا .والسر فيه أن قوله صلى الله عليه وسلم : > خطاب عربي.ومعلوم من لـسان الـعرب أنهم لو رأوا جماعة قد اجتمعوا لقراءة القرآن على أستاذهم ورجل واحد يقرأ القرآن لجاز أن يقولوا : هؤلاء جماعة يقرؤون القرآن أو يتدارسونه ، وإن كانوا كلهم سكوتا ، وكذلك لو مر عربي بجماعة قد اجتمعوا لتدريس العلم والتفقه فيه أو لسماع حديث رسول الله لجاز أن يقول: هذه جماعة يدرسون العلم ويقرءون العلم؛ والحديث وإن كان القارئ واحد . وقال الشاطبي في الاعتصام (1/ 341): وهو ينتقد جواب ذلك الشيخ الغرناطي: وهذا الاجتماع كالذي نراه معمولا به في المساجد من اجتماع الطلبة على المعلم يقرئهم القرآن ، أو علما من العلوم الشرعية ، أو يجتمع إليه العامة فيعلمهم أمر دينهم ، ويذكرهم بالله ، ويبين لهم سنة نبيهم ليعملوا بها ، ويبين لهم المحدثات التي هي ضلالة ليحذروا منها ، ويجتنبوا مواطنها والعمل بها . 3 – الأمر بالاستماع والإنصات للقراءة ، لقوله تعالى : :{{ وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا }}وهذا يمنع قراءة اثنين معا ، ويؤكد هذا أن الله نهى نبيه أن يقرأ مع جبريل،ويحرك به لسانه يتعجل به خوفا أن ينفلت منه بل أمره أن يستمع له ففي صحيح مسلم باب الاستماع للقراءة،ثم ساق إلى ابن عباس قال: في قوله عز وجل :{{ لا تحرك به لسانك لتعجل به }}قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي وكان مما يحرك به لسانه؛ وشفتيه فيشتد عليه ؛وكان يُعرف منه، فأنزل الله الآية التي في القيامة:{{ لاتحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه }} قال: علينا أن نجمعه في صدرك، وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، فإذا أنزلناه فاستمع (17).وهكذا كان جبريل يعرضه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستمع، أو يعرضه النبي وجبريل يستمع، في كل عام مرة، وفي العام الذي توفي فيه مرتين (18). وربما طلب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أصحابه أن يقرأ عليه كما طلب من ابن مسعود.( متفـق عليه ح463) أو عرض هو على بعض أصحابه.كما قال لأبي: >(19). 5 – إن القراءة مجتمعين فيها من الإخلال بشروط وآداب القراءة ، من قراءته هذا كالشعر ، وعدم مراعاة أحكام الترتيل ، والوقف ، والوقوع في اللحن ، وغير ذلك .. فأصحاب هذه الكيفية يقرءونه هذا كهذ الشعر ، بألحان مطربة ، أو ينثرونه نثر الدقل ، ولا يراعون فيه وقفا ولا رؤوس الآي ، فواحد يتوقف والآخر يواصل ، واحد يمد والآخر يقصر ، واحد يرفع والآخر يخفض ، وربما انقطع نفس أحدهم ، فترك بعض الآيات ، حتى يلحق بهم ، واختلاط العامة بهم ، وتكريرهم معهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . 6- وفيه من التشويش على من في المسجد ممن يصلي أو يذكر الله ، أو يتعلم ، ويتدارس القرآن ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجهر بعضهم على بعض بالقراءة فقد روى أبو داود في سننه عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه- قال : اعتكف رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ – في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة ، فكشف الستر ، وقال : " ألا إن كلكم مناج ربه ، فلا يؤذين بعضكم بعضاً ، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة – أو قال : " في الصلاة " (20) قال صلى الله عليه وسلم : > رواه مالك في الموطأ عن أبي هريرة وعائشة.(21). 7- ما فيها من تخصيص الوقت والمكان ، فإنهم يخصونه بأوقات الصلوات في المساجد، أو المقابر ، أو المآتم ، وتخصيص عبادة بوقت أو مكان هذا من خصائص الشارع ، ولم ثبت عنه ذلك ، وخاصة بعد أو قبل صلاة الجماعة كما يفعله الكثير ممن لا يريدون الانقياد لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا إنما يتبعون أهواءهم .
قال العلامة تقي الدين الهلالي رحمه الله في كتابه الحسام الماحق : أبو بكر يوسف لعويسي
الدويرة : الجزائر العاصمة 1- الـفتـاوى الكـبرى المصرية لابن تيمية (1/53) تحـقيق وتـعليـق محمد عبد القادر عـطا وأخوه مصطفى عبد القادر عطا.
|
||