بيان أهمية الفقه الإسلامي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين ، وعلى آله وأصحابه ، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن معرفة الفقه الإسلامي وأدلة الأحكام ، ومعرفة فقهاء الإسلام الذين يرجع إليهم في هذا الباب – من الأمور المهمة التي ينبغي لأهل العلم العناية بها ، وإيضاحها للناس؛ لأن الله سبحانه خلق الثقلين لعبادته ، ولا يمكن أن تعرف هذه العبادة إلا بمعرفة الفقه الإسلامي وأدلته ، وأحكام الإسلام وأدلته ، ولا يكون ذلك إلا بمعرفة العلماء الذين يعتمد عليهم في هذا الباب من أئمة الحديث والفقه الإسلامي .
فالعلماء هم ورثة الأنبياء ، والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ، ومن أسباب السعادة للعبد ، ومن علامات النجاة والفوز أن يفقه في دين الله ، وأن يكون فقيها في الإسلام ، بصيرا بدين الله على ما جاء في كتاب الله الكريم وسنة رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام .
والعلماء قد بين الله شأنهم ورفع قدرهم ، وهم أهل العلم بالله وبشريعته ، والعاملون بما جاء عن الله وعن نبيه عليه الصلاة والسلام ، وهم علماء الهدى ، ومصابيح الدجى ، وهم العالمون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهم الذين قال فيهم جل وعلا 🙁 شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وقال فيهم جل وعلا : (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )وقال فيهم سبحانه 🙁 إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من يرد الله يه خيرا يفقهه في الدين متفق على صحته .
فهذا الحديث العظيم يدلنا على فضل الفقه في الدين .
والفقه في الدين : هو الفقه في كتاب الله عز وجل ، والفقه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الفقه في الإسلام؛ من جهة أصل الشريعة ، ومن جهة أحكام الله التي أمرنا بها ، ومن جهة ما نهانا عنه سبحانه وتعالى ، ومن جهة البصيرة بما يجب على العبد من حق الله وحق عباده ، ومن جهة خشية الله وتعظيمه ومراقبته ، فإن رأس العلم خشية الله سبحانه وتعالى ، وتعظيم حرماته ، ومراقبته عز وجل فيما يأتي العبد ويذر .
فمن فقد خشية الله ومراقبته فلا قيمة لعلمه ، وإنما العلم النافع ، والفقه في الدين الذي هو علامة السعادة هو العلم الذي يؤثر في صاحبه خشية الله ، ويورثه تعظيم حرمات الله ومراقبته ، ويدفعه إلى أداء فرائض الله وإلى ترك محارم الله ، وإلى الدعوة إلى الله عز وجل ، وبيان شرعه لعباده ، فمن رزق الفقه في الدين على هذا الوجه فذلك هو الدليل والعلامة على أن الله أراد به خيرا ، ومن حرم ذلك وصار مع الجهلة والضالين عن السبيل ، المعرضين عن الفقه في الدين ، وعن تعلم ما أوجب الله عليه ، وعن البصيرة فيما حرم الله عليه ، فذلك من الدلائل على أن الله لم يرد به خيرا ، وقد وصف الله الكفار بالإعراض عما خلقوا له وعما أنذروا به؛ تنبيها لنا على أن الواجب على المسلم أن يقبل على دين الله ، وأن يتفقه في دين الله ، وأن يسأل عمل أشكل عليه ، وأن يتبصر ، قال عز وجل : وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ وقال سبحانه : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ
فمن شأن المؤمن طلب العلم ، والتفقه في الدين ، والتبصر ، والعناية بكتاب الله ، والإقبال عليه وتدبره ، والاستفادة منه ، والعناية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتفقه فيها ، والعمل بها ، وحفظ ما تيسر منها ، فمن أعرض عن هذين الأصلين وغفل عنهما ، فذلك دليل وعلامة على أن الله سبحانه لم يرد به خيرا ، وذلك علامة الهلاك والدمار ، وعلامة فساد القلب وانحرافه عن الهدى ، نسأل الله السلامة والعافية من كل ما يغضبه .
فجدير بنا معشر المسلمين أن نتفقه في دين الله ، وأن نتعلم ما يجب علينا ، وأن نحرص على العناية بكتاب الله؛ تدبرا ، وتعقلا ، وتلاوة ، واستفادة ، وعملا بذلك ، وأن نعني بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام حفظا وعملا وتفقها فيها ، وأن نعني أيضا بالسؤال عما أشكل علمنا ، فالإنسان يسأل عما أشكل عليه ، ويسأل من هو أعلم منه ليستفيد؛ عملا بقول الله سبحانه : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
وعليه أن يحضر حلقات العلم؛ ليستفيد ويتذاكر مع إخوانه الذين يرجو أن يكون عندهم علم حتى يستفيد من علمهم ، وحتى يضم ما لديهم من العلوم النافعة إلى ما لديه من العلم ، فيحصل له بذلك خير كثير ويحصل له بذلك الفقه في الدين ، ويحصل له بذلك البعد عن صفات المعرضين والغافلين ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
وبما ذكرنا يعرف المؤمن فضل فقهاء الإسلام ، وأنهم قد أوتوا خيرا كثيرا ، وقد فازوا بحظ عظيم من أسباب السعادة وطرق الهداية؛ لأن العلم النافع من أسباب الهداية ، ومن حرم العلم حرم خيرا كثيرا ، ومن رزق العلم النافع فقد رزق أسباب السعادة ، إذا عمل بذلك واتقى الله في ذلك .
وعلى رأس العلماء بعد الرسل أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ، فإنهم هم الفقهاء على الكمال ، الذين تلقوا العلم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وتفقهوا في كتاب ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام ، ونقلوا ذلك إلى من بعدهم غضا طريا ، تفقهوا وعملوا ، ونقلوا العلم إلى من بعدهم من التابعين ، نقلوا كتاب الله إلى من بعدهم لفظا وتفسيرا وقراءة . إلى غير ذلك .
ونقلوا إلى من بعدهم أيضا ما بينه لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام من معنى كلام الله عز وجل ، ونقلوا أيضا لمن بعدهم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي سمعوها منه ، والتي رأوها منه عليه الصلاة والسلام ، والتي أقرهم عليها ، نقلوها إلى من بعدهم بغاية الأمانة والصدق ، نقلوها إلى الأمة بواسطة الثقات من التابعين ، حتى نقلت إلينا بالطرق المحفوظة الثابتة التي لا يتطرق إليها الشك ، نقلها الثقات عن الثقات ، والثقات عن الثقات ، حتى وصلت إلى هذا القرن وما بعد .
وهذا من إقامة الحجة من الله عز وجل على عباده ، فإن نقل العلم من طرق الثقات عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم عن الصحابة إلى من بعدهم؛ إقامة للحجة ، وإيضاح للمحجة ، ودعوة إلى الحق ، وتحذير من الباطل ، وتبصير للعباد بما خلقوا له من عبادة الله وطاعته جل وعلا .
وبهذا يعلم أن لهم من الحق على من بعدهم : الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة والرضا ، والحرص على الاستفادة من علومهم ، وما جمعوه وألفوه من العلوم النافعة ، فإنهم سبقوا إلى خير عظيم ، وإلى علم جم ، سبقوا إلى الفقه في كتاب الله ، وإلى الفقه في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام ، ونقلوا إلينا ما وصل إليهم من علم بالله ، وبكتابه ، وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام .
فوجب علينا أن نعرف لهم قدرهم ، وأن نشكرهم على علمهم العظيم ، وعلى ما قاموا به من حفظ رسالة الله وتفقيه الناس في دين الله ، وأن نستعين بما دونوه ، وخلفوه من الكتب المفيدة والعلوم النافعة ، حتى نعرف بذلك معاني كلام الله ، ومعاني كلام رسوله عليه الصلاة والسلام .
وإن من أعظم الفائدة ، ومن أكبر الخير الذي نقلوه إلينا أن حفظوا علينا سنة نبينا عليه الصلاة والسلام ، ونقلوها إلينا طرية غضة سليمة محفوظة ، وفيها تفسير كتاب الله ، وفيها بيان ما أجمل في كتاب الله ، وفيها بيان الأحكام التي جاء بها الوحي الثاني إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وهو الوحي من الله له إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو السنة المطهرة ، فإن الله جل وعلا أعطى نبيه صلى الله عليه وسلم القرآن ومثله معه ، كما قال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام : ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه فعلى أهل العلم أن ينقلوا ما جاءت به السنة ، وأن يوضحوا ذلك للناس ، وأن يرشدوهم إلى معاني كلام ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام ، في الخطب والمواعظ والدروس وحلقات العلم ، وغير هذا من أسباب التوجيه والتعليم والإرشاد .
ولهذا ارتحل العلماء إلى الأمصار ، واتصلوا بالعلماء في كل قطر؛ للفائدة والعلم ، ففي عهد الصحابة سافر بعض الصحابة من المدينة إلى مصر والشام ، وإلى العراق واليمن ، وإلى غير ذلك؛ للفائدة ولنقل العلم ، فتجد الصحابة رضي الله عنهم – وهم أفضل الناس بعد الأنبياء – ينتقلون من بلاد إلى بلاد؛ ليسألوا عن سنة من سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتتهم ولم يحفظوها ، فبلغهم ذلك عن صحابي آخر فيسافر أحدهم إليه؛ ليسمع ذلك منه ، ولينتفع بذلك ، ولينقله إلى غيره من إخوانه في الله التابعين لهم بإحسان .
ثم جاء العلماء بعدهم من التابعين ، هكذا فعلوا ، ارتحلوا في العلم ، وساروا في طلب العلم ، وتبصروا في دين الله ، وتفقهوا على الصحابة وسألوهم – رضي الله عنهم وأرضاهم – عما أشكل عليهم ، وعملوا بذلك ، ثم نقلوا ذلك إلى من بعدهم من أتباع التابعين رواية ودراية ، ثم هكذا أتباع التابعين نقلوه لمن بعدهم ، ثم ألفوا كتبا عظيمة في الحديث والتفسير واللغة العربية . . . وغير هذا من أنواع العلوم الشرعية ، حتى بصروا الناس ، وحتى أرشدوا إلى الطريق السوي ، وحتى علموهم القواعد الشرعية التي بها يعرف كتاب الله ، وبها تعلم معانيه ، وبها تحفظ السنة ، وبها تعلم معانيها .
وبذلك يحصل العمل بكتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على بصيرة وعلى هدى وعلى نور ، فجزاهم الله عن ذلك خيرا وضاعف لهم الأجور ، وضاعف لهم الحسنات ، ونفعنا بعلومهم جميعا ، وأعاذنا جميعا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .
ومما يتعلق بهذا حضور حلقات العلم؛ لأنها من طريقة أهل العلم ، وفي الحديث الصحيح : إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قيل يا رسول الله وما هي رياض الجنة؟ قال حلق الذكر وقال عليه الصلاة والسلام : من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وقال عز وجل : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فهذه أشياء مهمة تتعلق بالفقه والفقهاء ، وبطلب العلم في المساجد ، وبالرحلة إلى البلدان التي فيها العلماء المعروفون بالاستقامة ، كل هذا من أسباب تحصيل العلم ، ومن الطرق التي توصل إليه ، وصاحبها يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم : من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة فإذا سأل أهل العلم ، أو سافر إليهم في بلادهم ، أو زارهم في بيوتهم وفي المساجد فقد سلك طريقا يلتمس فيه علما . وذكر أهل العلم : أن من الطرق المعينة على حفظ العلم كتابته ، والعناية بحفظه ، كما فعل سلفنا الصالح رحمهم الله ومن بعدهم من أهل العلم ، كل هذا من وسائل تحصيل العلم ، ومن الطرق الموصلة إليه .
كما أن الرحلة والانتقال من بلد إلى بلد ، ومن مسجد إلى مسجد ، ومن حلقة إلى حلقة ، ومن بيت عالم إلى بيت عالم؛ لطلب العلم ، وللتفقه في الدين ، كل ذلك أنواع وطرق من طرق تحصيل العلم ، وهي داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم : من سلك طريقا يلتمس فيه علما الحديث .
والله ولي التوفيق . وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه .
المصدر: كلمة ألقاها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في المسجد الجامع الكبير بالرياض بتاريخ 27 1400هـ وسبق أن نشرت في كتاب سماحته ( مجموع فتاوى ومقالات متنوعة) الجزء التاسع ص 128 – 141.
جزاكم الله خيرا على النقل الطيب