التصنيفات
العقيدة الاسلامية

الشرك الخفي للدكتور طلعت زهران حفظه الله

تعليمية
تعليمية
الشرك الخفي للدكتور طلعت زهران حفظه الله


الحمد لله وكفي والصلاة والسلام على من اصطفي…أما بعد:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: خرج علينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال ( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ ) فقلنا بلى يا رسول الله ! قال ( الشرك الخفي، أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل) حسن الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم 27

الرياء قناع خداع يحجب وجها كالحا ونفسا لئيمة وقلبا صدئا صلدا، والرياء طلاء رقيق يخفي سوءات بعضها فوق بعض، والرياء زيف كاسد في سوق تجارة، قال وهب بن منبه: "من طلب الدنيا بعمل الآخرة نكس الله قلبه وكتب اسمه في ديوان أهل النار"، وقال أبو العالية: " قال لي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،: لا تعمل لغير الله فيكلك الله إلى من عملت له". وقال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف على نفسه من النفاق"، وقال الربيع بن خثيم: " كل ما لا يبتغى به وجه الله يضمحل". وقال: " السرائر السرائر اللاتي تخفين من الناس وهن لله تعالى بواد التمسوا دواءهن".

ومن علم شدة حاجته إلى صافي الحسنات غدا في يوم القيامة، غلب على قلبه حذر الرياء وتصحيح الإخلاص بعمله حتى يوافي الله تعالى يوم القيامة بالخالص المقبول؛ إذ عُلم أنه لا يخلص إلى الله جل ثناؤه إلا ما خلص منه ولا يقبل يوم القيامة إلا ما كان صافيا لوجهه لا تشوبه إرادة شيء بغيره، قال أبو عبد الله الأنطاكي: "من طلب الإخلاص في أعماله الظاهرة وهو يلاحظ الخلق بقلبه فقد رام المحال؛ لأن الإخلاص ماء القلب الذي به حياته والرياء يميته"، وكتب يوسف بن أسباط إلى حذيفة: "إن لنا ولك من الله مقاما يسألنا فيه عن الرمق الخفي وعن الخليل الجافي ولست آمن أن يكون فيما يسألني ويسألك عنه وساوس الصدور ولحاظ الأعين وإصغاء الأسماع".

اعلم أن مما يوصف به منافقو هذه الأمة أنهم خالطوا أهل الدين بأبدانهم وفارقوهم بأهوائهم ولم ينتهوا عن خبيث أفعالهم، كثرت أعمالهم بلا تصحيح فأحرمهم الله الثمن الربيح. والرياء مشتق من الرؤية، وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس برؤيتهم خصال الخير ويجمعه خمسة أقسام وهي جوامع ما يتزين به العبد للناس:

* وأصل الرياء حب الجاه، والجاه هو قيام المنزلة في قلوب الناس، وهو اعتقاد القلوب نعتا من نعوت الكمال في هذا الشخص، إما لعلم أو عبادة أو نسب أو قوة أو حسن منظر أو غير ذلك مما يعتقده الناس كمالا، فبقدر ما يعتقدون له من ذلك تذعن قلوبهم لطاعته ومدحه وخدمته وتوقيره.

ومن غلب على قلبه حب هذا صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفا بالتردد إليهم والمراءاة لهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتا إلى ما يعظم منزلته لديهم، وذلك بذر النفاق وأصل الفساد؛ لأن من طلب هذه المنزلة في قلوب العباد اضطر أن ينافقهم بإظهار ما هو خال عنه ويجر إلى المراءاة بالعبادات واقتحام المحظورات والتوصل إلى اقتناص القلوب

وهذا باب غامض لا يعرفه إلا العلماء بالله العارفون به المحبون له وإذا فصل رجع إلى ثلاثة أصول:

حب لذة الحمد، والفرار من الذم، والطمع فيما في أيدي الناس

كتب خالد بن صفوان إلى عمر بن عبد العزيز: "يا أمير المؤمنين إن أقواما غرهم ستر الله وفتنهم حسن الثناء فلا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك أعاذنا الله وإياك أن نكون بالستر مغرورين وبثناء الناس مسرورين وعما افترض الله علينا متخلفين ومقصرين وإلى الأهواء مائلين. فبكى عمر ثم قال: أعاذنا الله وإياك من إتباع الهوى".

* والرياء منه الجلي ومنه الخفي

فالرياء الجلي: هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه
أما الرياء الخفي: فهو الذي لا يحمل على العمل بمجرده إلا أنه يخفف مشقة العمل على النفس كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف تنشط للقيام وخف عليه. ومن الرياء الخفي كذلك أن يخفي العبد طاعته ولكنه مع ذلك إذا رأي الناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه وأن يسامحوه في البيع والشراء وأن يوسعوا له في المكان فإن قصر مقصر ثقل ذلك على قلبه كأنه يتقاضى الاحترام على الطاعة التي أخفاها.

ومن الرياء الخفي أن الإنسان يذم نفسه بين الناس يريد بذلك أن يرى أنه متواضع عند نفسه فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، قال مطرف ابن عبد الله: " كفى بالنفس إطراء أن تذمها على الملأ كأنك تريد بذمها زينتها وذلك عند الله سفه". وقال الحسن البصري :" من ذم نفسه في الملأ فقد مدحها وذلك من علامات الرياء".

روى َالْحَاكِمُ: (أَوَّلُ النَّاسِ يَدْخُلُ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، يُؤْتَى بِالرَّجُلِ، فَيَقُولُ: رَبِّ عَلَّمْتَنِي الْكِتَابَ فَقَرَأْتُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَيْ سَاعَاتِهِمَا رَجَاءَ ثَوَابِك، فَيَقُولُ: كَذَبْتَ إنَّمَا كُنْتَ تُصَلِّي لِيُقَالَ: إنَّك قَارِئٌ مُصَلٍّ وَقَدْ قِيلَ، اذْهَبُوا بِهِ إلَى النَّارِ؛ ثُمَّ يُؤْتَى بِآخَرَ، فَيَقُولُ: رَبِّ رَزَقْتَنِي مَالا فَوَصَلْتُ بِهِ الرَّحِمَ وَتَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَحَمَّلْتُ بِهِ ابْنَ السَّبِيلِ رَجَاءَ ثَوَابِك وَجَنَّتِك، فَيُقَالُ: كَذَبْتَ إنَّمَا كُنْتَ تَتَصَدَّقُ وَتَصِلُ لِيُقَالَ: إنَّهُ سَمْحٌ جَوَّادٌ فَقَدْ قِيلَ، اذْهَبُوا بِهِ إلَى النَّارِ، ثُمَّ يُجَاءُ بِالثَّالِثِ فَيَقُولُ: رَبِّ خَرَجْتُ فِي سَبِيلِك فَقَاتَلْتُ فِيك غَيْرَ مُدْبِرٍ رَجَاءَ ثَوَابِك وَجَنَّتِك فَيُقَالُ: كَذَبْتَ إنَّمَا كُنْتَ تُقَاتِلُ لِيُقَالَ: إنَّك جَرِيءٌ وَشُجَاعٌ فَقَدْ قِيلَ، اذْهَبُوا بِهِ إلَى النَّارِ). وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ: (( مَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعْ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَاءِ يُرَاءِ اللَّهُ بِهِ: وَمَنْ كَانَ ذَا لِسَانَيْنِ فِي الدُّنْيَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ لِسَانَيْنِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

** أقسام الرياء من حيث القبح:

أ ـ َأَقْبَحُهَا الرِّيَاءُ فِي الإِيمَانِ:
وهو شأن المنافقين الذين أكثر الله من ذمهم في كتابه العزيز: (إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ)
ب ـ وَيَلِيهِمْ الْمُرَاءُونَ بِأُصُولِ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ:
كأن يعتاد تركها في الخلوة ويفعلها في الملأ خوف المذمَّة، وهذا أيضًا عظيم عند اللَّهِ تعالى لإنبائه على غاية الجهل وأدائه إلى أعلى أنواع المقتِ.
ج ـ وَيَلِيهِمْ الْمُرَاءُونَ بِالنَّوَافِلِ:
كأن يعتاد ذلك فيها وحدها خوف الاستنقاص بِعدم فعلها في الملإ، وإيثارًا للكسل وعدم الرَّغبة في ثوابها في الخلوةِ.
د ـ وَيَلِيهِمْ الْمُرَاءُونَ بِأَوْصَافِ الْعِبَادَاتِ:
كتحسيِنها وإطالة أركانها، وإظهار التَّخشُّعِ فِيهَا، والاقتصار في الخلوةِ على أدنى واجباتها، فهذا محظورٌ أيضًا؛ لأنَّ فيه كالَّذي قبله تقديم المخلوقِ على الخَالِقِ.

أ ـ فأقبحها أن يقصدَ التَّمكُّن من معصيةٍ كمن يظهر الورع والزُّهد حتَّى يعرف به فيولَّى المناصبَ وَالوَصَايَا، وَتُودَعَ عندهُ الأموالُ، أو يفوَّض إليه تفرقة الصَّدَقَاتِ وَقَصده بِكلِّ ذلك الخيانة فيه.
ب ـ ويليها من يتَّهم بمعصيةٍ أو خيانةٍ فيظهر الطَّاعة والصَّدقة قصدًا لدفعِ تلك التُّهمة.
ج ـ ويليها أن يقصدَ نيل حظٍّ مباحٍ من نحوِ مال أو نكاحٍ، أو غيرهما من حظُوظِ الدُّنيا.
د ـ ويليها أن يقصد بإظهار عبادته وورعه وتخشعه ونحو ذلك أن لا يحتقر وينظر إليه بِعين النَّقص، أو أن يعدَّ من جملة الصَّالحين وفي الخلوة لا يفعل شيئًا من ذلك،.
قال الغزالي: وجميعهم تحت مقت اللَّهِ تعالى وغضبه وهو من أشدِّ المهلكات.

من مظاهر الرياء عند طلبة العلم التي ينبغي الحذر منها:

أولاً ــ الجرأة على الفتوى وتعجل التدريس:
وهذه للأسف الشديد هي سمة الكثيرين من طلبة العلم من أهل هذا العصر.
قال الله تعالى: ( آلله أذن لكم أم على الله تفترون) [ يونس/59 ]
ومن تأمل سير السلف يعرف حقًا كيف كان هؤلاء الأكابر أكثر الناس علمًا وورعًا، فكانوا يهابون مما يقتحمه المتعالمون في هذه الأيام.
قال أبو داود في مسائله: ما أحصى ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول لا أدري. قال: وسمعته يقول ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى أحسن فتيا منه، كان أهون عليه أن يقول لا أدري.
وقال عبد الله ابنه في مسائله سمعت أبي يقول وقال عبد الرحمن بن مهدي سأل رجل الإمام مالك بن أنس عن مسألة فقال لا أدري فقال يا أبا عبد الله تقول لا أدري قال نعم فأبلغ من ورائك أني لا أدري.
وقال عبد الله: كنت أسمع أبي كثيرًا يسأل عن المسائل فيقول: لا أدري، ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف، وكثيرا ما كان يقول: سل غيري فإن قيل له من نسأل قال سلوا العلماء ولا يكاد يسمي رجلا بعينه.
يقول ابن القيم: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى.
قال عبد الرحمن ابن أبي ليلى: أدركت عشرين و مائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وقال سحنون بن سعيد: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه.
فأين هؤلاء الأصاغر المتعالمون من أدب سلفنا الصالح في الفتيا والاستفتاء،فترى هؤلاء المتعالمين المتفيقهين يتعجل أحدهم الفتيا ويتعجل التدريس ويتعجل كل شيء، يظن بنفسه أنه محيي الدين يود أحدهم لو كان مفتي البلاد والعباد، ولكنها الشهوة الخفية، وأين هؤلاء من الشروط والأسس التي وضعها سلفنا لحفظ جناب الدين من المتفيقهين.

* قال الإمام أحمد: " لا ينبغي للرجل أن يعرض نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
إحداها: أن تكون له نية، أي أنْ يخلص في ذلك لله تعالى، ولا يقصد رياسة ولا نحوها، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور،إذ الأعمال بالنيات.
الثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة، وإلا لم يتمكن من فعل ما تصدى له من بيان الأحكام الشرعية.
الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته، و إلا فقد عرض نفسه لعظيم.
الرابعة:: الكفاية و إلا أبغضه الناس، فإنه إذا لم تكن له كفاية احتاج إلى الناس، وإلى الأخذ مما في أيديهم فيتضررون منه.
الخامسة: معرفة الناس
فحذار حذار من فتنة التصدر، وطلب الشهرة والجاه، فإنها عمار للنار، قتالة للقلب، مفسدة له، دالة على سوء النوايا، وإنما من ابتلي بذلك صبر، ومن استراح من هذا شكر لو تعلمون.

ثانياً ــ الاشتغال بفرض الكفاية عن فرض العين:
فتجد هذا المتعالم والمتفيقه بلا عقيدة صحيحة، ولا معرفة صادقة بأسماء الله وصفاته، ولا إلمام بتصحيح العبادات الظاهرة والباطنة، ومع ذلك هو عاكف على علوم الآلات، ويهجم على النصوص ويستنبط ويرجح بين الأقوال، ويرد على العلماء ويتعصب، ويغضب لنفسه ورأيه، لا لدين الله عز وجل، فهذا هو الخذلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال في مختصر منهاج القاصدين: "وأنت تجد الفقيه يتكلم في الظهار واللعان والسبق والرمي، ويفرع التفريعات التي تمضي الدهور ولا يحتاج إلى مسألة منها، ولا يتكلم في الإخلاص، ولا يحذر من الرياء، وهذا عليه فرض عين؛ لأنَّ في إهماله هلاكه، والأول فرض كفاية، ولو أنَّه سئل عن علة ترك المناقشة للنفس في الإخلاص والرياء لم يكن له جواب ) [ مختصر منهاج القاصدين ص (27)].

ثالثاً ــ حب المناظرة، وحب الجدل و كثرة الكلام: ( يهرف بما لا يعرف )
قال الله تعالى: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً) [ الكهف /54]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ في رَبَضِ الْجَنّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقاّ، وَبِبَيْتٍ في وَسَطِ الْجَنّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كان مَازِحاً، وَبِبَيْتٍ في أعْلَى الْجَنّةِ لِمَنْ حَسّنَ خُلُقَهُ ) [ أخرجه أبو داود (4800) ك الأدب، باب في حسن الخلق، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (4015)].
قال الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم الجدل، ومنعهم العمل.
قال معروف الكرخي: إذا أراد الله بعبد خيرًا فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرًا فتح له باب الجدل، وأغلق عنه باب العمل.

وقال بعض السلف: إذا رأيت الرجل لجوجًا مماريًا معجبًا برأيه فقد تمَّت خسارته.
وإنما يعطى الجدل الفتانون، فما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل، وما يشتهي المناظرة إلا الباحثون عن أعراض الدنيا الزائلة، وإنما كان الرجل من السلف لا يقع في المناظرة إلا اضطرارًا، وما زلَّ من زلَّ في هذا الباب إلا بسبب الرياء والسمعة، وإنما كان همُّ الأوائل الأعمال لا الأقوال، وصار قصارى همّ بعضنا الآن الكلام طلبًا للظهور.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فان من ورائكم أياما الصبر فيهن القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم."[ أخرجه الترمذي (3058) التفسير، باب ومن سورة المائدة، وقال: حسن غريب].
وهذه وصية نبوية غالية، تشير إلى أمراض خطيرة: ( شح مطاع، هوى متبع، دنيا مؤثرة، عجب وإعجاب بالرأي ) فيا لها من أمراض قتَّالة، وأوبئة فتَّاكة، تفتك بالدين، وتقتل الإخلاص، وإنَّما المرض العضال الحامل على كل هذا والمؤدي إليه: ( حب الظهور، وشهوة التصدر، والرغبة في الشهرة، والعلو على الأقران ) فنسأل الله العافية من أمراض القلوب، ونسأله هو العلي القدير أنْ يرزقنا الإخلاص، وأنْ يجمعنا على الصالحين من عباده في الدنيا والآخرة.
عن عبد الله بن المبارك قال: قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا ؟!! قال: لأنَّهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق.
قال أبو قلابة لأيوب السختياني: يا أيوب إذا أحدث الله لك علمًا فأحدث لله عبادة، ولا يكونن همك أن تحدث به الناس.
قال الحسن البصري: همة العلماء الرعاية، وهمة السفهاء الرواية.
فإذا لم تجد القول موافقًا للعمل فاعلم أنه نذير النفاق.
قال عبد الله بن المعتز: علم المنافق في قوله، وعلم المؤمن في عمله.
وحكى الذهبي عن أبى الحسن القطان قوله: ( أُصبت ببصري، وأظن أنى عوقبت بكثرة كلامي أيام الرحلة )، ثم قال الذهبي: " صدق والله، فقد كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالباً يخافون من الكلام، وإظهار المعرفة. واليوم يكثرون الكلام مع نقص العلم، وسوء القصد ثم إن الله يفضحهم، ويلوح جهلهم وهواهم واضطرابهم فيما علموه فنسأل الله التوفيق والإخلاص. أهـ( من سير أعلام النبلاء ).
وعن معمر بن راشد قال: إنَّ الرجل يطلب العلم لغير الله فيأبى عليه العلم حتى يكون لله.
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: نعم يطلبه أولاً، والحامل له حب العلم، وحب إزالة الجهل عنه وحب الوظائف، ونحو ذلك، ولم يكن عَلِم وجوب الإخلاص فيه، ولا صدق النية، فإذا علم حاسب نفسه، وخاف من وبال قصده، فتجيئه النية الصالحة كلها أو بعضها، وقد يتوب من نيته الفاسدة، ويندم، وعلامة ذلك أنه يُقْصِر من الدعاوى وحب المناظرة، ومن قَصْدِ التأثير بعلمه، ويُزْري على نفسه، فإن تَكَثَّر بعلمه، أو قال أنا أعلمُ من فلان فبعداً له).

رابعاً ــ الولع بالغرائب والبحث عن المهجور من الأقوال:
فترى من ابتلي بهذه الشهوة الخفية ألا وهي الرياء يتصيد الغرائب ويتصيد المهجور من أقوال العلماء، فبمجرد أن يتصيد مسألة من هنا أو هناك، سمعها في مجلس، أو من شريط، أو قرأها في صحيفة، أو في كتاب، يوالي ويعادى على تلك المسألة.، وأكثر الناس اليوم لا علم له إلا ببعض المسائل، وليتها بالنافعة، وإنما شواذ المسائل، وغريب الآراء، والمهجور من الأقوال، وكأن الشعار "خالف تُعرف" فالخلاف عنده أشهى من الاتفاق.
حتى وجدنا بعض المتعالمين من يشغل العامة بالمسائل النادرة الحدوث والمختلف عليها والتي هي أصلاً ليست أهلاً لطرقها على المنابر من أمثال ( الحجامة ) فتراه يصطنع عليها خطباً متكررة متنوعة، إنما الشذوذ والغرابة والبحث عن المهجور من الأقوال ساقه إليها، وكان الأولى شغل الناس والعامة بعوالي الأمور والمهمات الجسيمة التي ترقى بهم وبإيمانهم.
فالولع بالغريب والشاذ من الأقوال، وإحياء المسائل المهجورة والتي حسمها أهل العلم منذ زمن بعيد، كل ذلك ـ إن كان عن عمد ـ يدل على خلل واضح، وسوء قصد بيِّن، لا سيما إذا كان الأمر زلَّ فيه عالم من العلماء، ومن هنا حذر أهل العلم من تتبع هذه المسائل التي أسموها بـ (( الطبوليات )) إذ قيل: ( زلة العالم مضروب لها الطبل) [حلية طالب العلم ص (7) للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد].

خامساً ــ الشغب على المخالف والزهو بالمتبع.
فإنك تراه يشاغب على من خالفه، ويعاديه، وينفر منه، ويفرح بالمدح، ويزهو بكثرة الأتباع، وبالضد تتميز الأشياء، وتلك من نتاج العصبيات والحزبيات، لعدم تحقيق عقيدة الولاء والبراء فيصير الولاء للمتبع، والبراء من المخالف، وما كان هذا هدي السلف في الخلاف، لا سيما في الفروع،وكم من مجر للخلاف على ألسنة الناس لمجرد الشغب عليه لمخالفته إياه، أو الزهو بمن اتبعه، ومن أهم علامات الصادق استواء المدح والذم عنده، فإن لم يكن كذلك فليتهم نفسه.
قال الإمام الذهبي في [سير أعلام النبلاء (7/393 )]: عن عبد الرحمن بن مهدى عن طالوت: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: ما صدق الله عبد أحب الشهرة.
ثم قال الذهبي: علامة المخلص الذي قد يحب الشهرة، ولا يشعر بها، أنه إذا عوتب في ذلك لا يحرد، ولا يبرئ نفسه، بل يعترف ويقول: رحم الله من أهدى إلىَّ عيوبي، ولا يكن معجباً بنفسه، لا يشعر بعيوبها، بل يشعر أنه لا يشعر، فإن هذا داء مزمن " أهـ
وما أغلاه من كلام، وصدق من قال: الذهبي ذهبي الكلام، حقاً إنه كلام أغلى من الذهب، فالمخلص إذا اتهم لم يكابر، لم يشمخ بأنفه، ولم تأخذه العزة بالإثم فيقول: أنا.. أنا.. أنا، وإنما يخضع ويذعن، ويخاف ويخشى، ويتهم نفسه، ويسيء الظن بها، ويقول: ويلى، وويل أمي، إنْ لم يرحمني ربى.
وعن الفضيل بن عياض قال: يا مسكين، أنت مسيء وترى أنَّك محسن، وأنت جاهل وترى أنَّك عالم، وتبخل وترى أنَّك كريم، وأحمق وترى أنَّك عاقل، أجلك قصير، وأملك طويل.
قال الذهبي: ( قلت: إي والله صدق، وأنت ظالم وترى أنَّك مظلوم، وآكل للحرام وترى أنَّك متورع، وفاسق وتعتقد أنَّك عدل، وطالب العلم للدنيا وترى أنَّك تطلبه لله ) [سير أعلام النبلاء (8/440)].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من تعلم علما يبتغي به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة )) رواه أبو داود بسند صحيح.

فهذا هو الرِّياء

من الأدواء المهلكة، والأمراض الفاتكة، والخسائر الفادحة الرياء، حيث فيه خسارة الدين والآخرة، ولهذا حذر منه المتقون، وخافه الصالحون، ونبه على خطورته الأنبياء والمرسلون، ولم يأمن من مغبته إلا العجزة، والجهلة، والغافلون، فهو الشرك الخفي، والسعي الرديء، ولا يصدر إلا من عبد السوء الكَلَِّ المنكود.

الرياء كله دركات، بعضها أسوأ من بعض، وظلمات بعضها أظلم من بعض، وأنواع بعضها أخس وأنكد من بعض، فمنه الرياء المحض، وهو أردأها، ومنه ما هو دون ذلك، ومنه خطرات قد أفلح من دفعها وخلاها، وقد خاب من استرسل معها وناداها.

فالعمل لغير الله أنواع وأقسام، كلها مذمومة مردودة، ومن الله متروكة، فالله سبحانه وتعالى أغنى الشركاء، وأفضل الخلطاء، فمن أشرك معه غيره تركه وشركه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه".

وفي رواية لابن ماجة: "فأنا منه بريء وهو للذي أشرك".

والأنواع هي:
وهو العمل الذي لا يُراد به وجه الله بحال من الأحوال، وإنما يراد به أغراض دنيوية وأحوال شخصية، وهي حال المنافقين الخلص كما حكى الله عنهم:

"وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً".4

"ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله".5

"فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون".6

وهذا النوع كما قال ابن رجب الحنبلي يكون في الأعمال المتعدية، كالحج، والصدقة، والجهاد، ونحوها، ويندر أن يصدر من مؤمن: (فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة).

وهو نوعان:

Ý. إما أن يخالط العملَ الرياءُ من أصله

فقد بطل العمل وفسد والأدلة على ذلك بجانب حديث أبي هريرة السابق:

· عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدَّق يرائي فقد أشرك، وإن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي شيئاً، فإن جدة عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني".

وعن أبي سعيد بن أبي فضالة الصحابي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: من كان أشرك في عمل عمله لله عز وجل فليطلب ثوابه من عند غير الله عز وجل، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك".

وخرج الحاكم من حديث ابن عباس: "قال رجل: يا رسول الله: إني أقف الموقف وأريد وجه الله، وأريد أن يُرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً".

قال ابن رجب: (وممن روي عنه هذا المعنى، وأن العمل إذا خالطه شيء من الرياء كان باطلاً: طائفة من السلف، منهم عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، والحسن، وسعيد بن المسيب، وغيرهم.

ومن مراسيل القاسم بن مُخَيْمِرَة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله عملاً فيه مثقال حبة من خردل من رياء".

ولا نعرف عن السلف في هذا خلافاً، وإن كان فيه خلاف عن بعض المتأخرين).

ب. وإما أن يطرأ عليه الرياء بعد الشروع في العمل

فإن كان خاطراً ماراً فدفعه فلا يضرُّه ذلك، وإن استرسل معه يُخشى عليه من بطلان عمله، ومن أهل العلم من قال يُثاب ويُجازى على أصل نيته.

قال ابن رجب: (وإن استرسل معه، فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يُجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن البصري وغيره.

ويستدل لهذا القول بما خرجه أبو داود في "مراسيله"11 عن عطاء الخرساني أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن بني سَلَمَة كلهم يقاتل، فمنهم من يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نجدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله، فأيهم الشهيد؟ قال: كلهم، إذا كان أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا".

وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله، كالصلاة، والصيام، والحج، فأما ما لا ارتباط فيه، كالقراءة، والذكر، وإنفاق المال، ونشر العلم، فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نية.

وكذلك روي عن سليمان بن داود الهاشمي12 أنه قال: ربما أحدث بحديث ولي نية، فإذا أتيت على بعضه تغيرت نيتي، فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات.

ولا يرد على هذا الجهاد، كما في مرسل عطاء الخرساني، فإن الجهاد يلزم بحضور الصف، ولا يجوز تركه حينئذ فيصير كالحج).

كمن يريد الحج وبعض المنافع، والجهاد والغنيمة، ونحو ذلك، فهذا عمله لا يحبط، ولكن أجره وثوابه ينقص عمن نوى الحج والجهاد ولم يشرك معهما غيرهما.

خرج مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الغزاة إذا غنموا غنيمة تعجلوا ثلثي أجرهم، فإن لم يغنموا شيئاً تمَّ لهم أجرُهم".13

وروي عن عبد الله بن عمرو كذلك قال: "إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقاً، فلا بأس بذلك، وأما أن أحدكم إن أعطي درهماً غزا، وإن مُنع درهماً مكث، فلا خير في ذلك".

وقال الأوزاعي: إذا كانت نية الغازي على الغزو، فلا أرى بأساً.

وقال الإمام أحمد: التاجر، والمستأجر، والمكاري أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزاتهم، ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره.

وقال أيضاً فيمن أخذ جعلاً على الجهاد إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس أن يأخذ، كأنه خرج لِدِينه، فإن أعطي شيئاً أخذه.

وقال ابن رجب: (فإن خالط نية الجهاد نية غير الرياء، مثل أخذ أجرة للخدمة، أوأخذ شيء من الغنيمة، أوالتجارة، نقص بذلك أجر جهادهم، ولم يبطل بالكلية..

وهكذا يقال فيمن أخذ شيئاً في الحج ليحج به، إما عن نفسه، أوعن غيره، وقد روي عن مجاهد أنه قال في حج الجمَّال، وحج الأجير، وحج التاجر، هو تمام لا ينقص من أجورهم شيء، وهو محمول على أن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب.

وفي رواية لابن ماجة: "الرجلُ يعمل العمل لله فيحبُّه الناس عليه".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيُسِِرُّه، فإذا اطلع عليه، أعجب، فقال: "له أجران: أجر السر وأجر العلانية".

قال ابن رجب: (وبالجملة، فما أحسن قول سهل بن عبد الله التُستري: ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب.

وقال يوسف بن الحسين الرازي: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر.

وقال ابن عيينة: كان من دعاء مطرِّف بن عبد الله: اللهم إني أستغفرك مما تبتُ إليك منه، ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي، ثم لم أفِ لك به، وأستغفرك مما زعمتُ أني أردت به وجهك، فخالط قلبي منه ما قد علمتَ).

ورحم الله القائل:

أستغفرُ الله من أستغفر الله من كلمة قلتها خالفتُ معناها

اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً ونحن نعلم، ونستغفرك لما لا نعلم، وصلى الله وسلم على إمام المتقين وسيد المتوكلين المخلصين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين.

جواب فتوى ما هو الشرك الخفي للدكتور طلعت زهران حفظه الله

للامانة الموضوع منقول

تعليمية تعليمية




بارك الله فيك

قال سبحانه: – إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ – سورة النساء الآية 48.




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.