من أدب السلف في التعامل بالأموال :
عن يوسف بن ماهك المكي قال : " كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم ، فغالطوه بألف درهم ، فأداها إليهم ، فأدركت لهم من مالهم مثليها ، قال : قلت أقبض الألف الذي ذهبوا منك ؟ قال : لا حدثني أبي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أد الأمانة إلى من ائتمنك و لا تخن من خانك " رواه أبو داود (3534) ، وصححه الألباني فيه .
لم يرض هذا الرجل أن يأخذ حقه من هذا المال على الرغم من أن أصحابه قد حرموه بعض حقه ، والسبب في ذلك أن أصحابه كانوا قد ائتمنوه على أموالهم من غير نقصان .
وفي هذه القصة بيان رائع لكيفية تعامل السلف مع أحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم و صدقهم في ذلك ، ولو كان فيه إضاعة لأكبر حظ من حظوظ النفس التي تحبها ، ألا و هو المال .
ولو كان المسلمون اليوم على هذا الخلق من أداء الأمانة و حفظ الحقوق لكان من أكبر عون لهم على هداية الناس إلى دين الإسلام ، لأن الكفار يحبون المال حبا جنونيا ، بل ليس لهم في الحياة أمل بعد جمع المال ، لانهم يعيشون لبطونهم و فروجهم ، فلو وجدوا من معاملات المسلمين مثلما سبق لرأيت العجب في دخولهم في دين الله أفواجا ، بل حتى ضعفاء الإيمان من المسلمين ، فإن أمثال هؤلاء جميعا سريعوا التأثر بالمعاملات المالية النزيهة ، و لذلك كان كفار قريش – على كفرهم و عتوهم و استكبارهم – يضعون أمانتهم عند النبي صلى الله عليه و سلم ، لما عرفوا من خلقه العظيم ، ولما أخرجه الكفار من بلده لم تطب نفسه صلى الله عليه و سلم ببقاء أموالهم عنده ، ولم يكن قادرا على أن يردها إليهم مناولة خشية من أن يقتلوه يوم أن كانوا يطلبون دمه ، فانتدب عليا رضي الله عنه لذلك ، روى البيهقي في (( السنن الكبرى )) ( 6 – 289) في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة قال : حدثني رجال قومي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم – فذكر الحديث في خروج النبي صلى الله عليه و سلم – قال فيه : " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و أقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثلاث ليال و أيامها ، حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الودائع التي كانت عنده الناس ، حتى إذا فرغ منها لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، و الحديث حسنه الألباني في (( الإرواء )) ( 1546 ) .
قد فعل هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم مع قوم كفار ،بل هؤلاء الكفار هم الذين أخرجوه من بلده : خير بلد ، و آذوه أشد ما يؤذى نبي من قومه : و هو خير نبي ، خرج و هم يريدون حبسه أو قتله أو طرده من بلده ، قال الله عز و جل : { و إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين } ( الأنفال – 30 ) ، مع هذا كله ، فلم يفكر رسول الله صلى الله عليه و سلم في حرمانهم من أماناتهم ، و لا قال : (أحتفظ منها بقدر ما أتبلغ به الطريق ، لأنهم هم المتسببون في إخراجي من بلدي ) ، مع حاجته صلى الله عليه و سلم الماسة إلى المال ، لأنه طرد من البلد الأمين و هو لا يملك ما يسافر به ، و لولا أن أنفق عليه أبو بكر رضي الله عنه ما كان يجد مركبا يركبه ، و لا راحلة لزاملته ، مع ذلك لم يجد بدا عليه الصلاة و السلام من أن يرد إليهم أماناتهم ، ممتثلا الخلق الكريم الذي نص عليه ربه عز و جل بقوله : { و الذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون } ( المؤمنون8).
كان صلى الله عليه وسلم صاحب أمانة بحق ، و قد أداها إلى عدوه ، و اليوم تأتينا شرذمة من المحتالين على الشرع باسم الجهاد ، يريدون إقناع المسلمين بضد ذلك ، حديثهم الأكبر عن الحكم بما أنزل الله ، وعن قتال الأعداء ، وعن محاربة اليهود و العلمانيين ، يشرحون مذاهبهم و يشرحونها تشريحا ، و ينددون بمستعمراتهم وابتزازهم أموال المسلمين ، ثم يذهبون إلى بلاد الكفار مستحلين كل شيء يحل بأيديهم ، ليعيشوا فيها على الاختلاس و التلصص باسم أنها فيء ؟؟
و الفيء هو نوع من الغنائم التي تجتنى من دار الحرب بغير قتال ، لا أن تجتنى غدرا من دار السياحة و الإقامة على الراحة في بلاد بني الأصفر ، فهل تلصصهم هذا مما أنزل الله ؟؟ فقد شوهوا صورة الإسلام أيما تشويه ، حتى اقترنت اللصوصية بالإسلام في مخيلة كثير من الكفار ، وقد علمت ذلك ممن اتصل بي من بلاد الكفر وممن لقيت أيضا ، وقال بعضهم : عندنا جماعة ظاهرها الصلاح ، يدخلون الأسواق و يأخذون منها ما شاؤوا بلا ثمن ، و إذا قيل لهم : مالكم ؟ أليست السرقة محرمة في دينكم ؟ قالوا : هذا مما أفاء الله علينا من الغنائم ؟؟؟؟؟
الفيء هو الغنيمة الباردة التي يغنمها الجيش من عدوه الذي قامت بينه و بينهم حرب في الأصل ،أي يدخل المسلمون أرض العدو فيستسلم العدو ، و يسلم نفسه و ما لديه ، فيكون ذلك غنيمة للمسلمين ، و أما هؤلاء اليوم ، فإنهم يدخلون بلاد الكفر مسالمين ، بل يدخلونها أذلة صاغرين ، يتكففون ( الرحمة ) من نظام الكفار ، وربما لم تسمن كروشهم إلا بقروشهم التي يعطونها كما يعطى المتسول ، لأن الغالب أنهم يقيمون إقامة اللاجئين السياسيين ، ثم لا يجدون أدنى حرج من أكل أموال الناس بالباطل ، فيسخطون ربهم ، و يسخطون الناس عليهم ، ثم لا يأبهون لتشويه الإسلام و الصد عن سبيله بمثل فعالهم هذه ، هذا حين يكون الجهاد على بعض المعاني المحرفة ، مع أن قدوة المسلمين و سيد المجاهدين صلى الله عليه و سلم كان يرد أمانات عدوه الذي نصب له العداء جهارا كما مر ، فهل من مدكر ؟ .
من كتاب " الموعظة الحسنة في الأخلاق الحسنة " تأليف : الشيخ عبد المالك رمضاني الجزائري حفظه الله
بارك الله فيكم
وجزاكم الخير المديد