فبعضهم لا يتمالك عندها حتى لعله لا يعلق بذهنه منها إلا هي! وبعضهم ينثني عن متابعة القراءة؛ لأنه انتقِد له فيها متبوعه، وما أقل من ينتصر للحق قبل الرجال! فكل هؤلاء لا يستفيدون من الخير إن وُجِد في كتابي هذا؛ لأن أخبار الناس عُرفَت أو أُنكرت لا تغيرها {
فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرآءً ظَاهِراً}.فأرجو حينئذ من القاريء إمعان النظر في الأصول والقواعد العلمية التي نقلتها عن أهل العلم، والتي منها:
1 ـ أنني بذلت نصحي للمتصدين للدعوة أنه بدلاً من أن يستجيبوا للاستفزازات السياسية، ويُضيِّعوا مواهبهم في المهاوشات الحزبية، فليُعْنَوا بتعظيم الشريعة: تعلُّمًا وتعليمًا؛ حتى يُخرج الله منهم أو من أصلابهم علماء مجتهدين، يكونون على مستوى ما استعجلوه الآن، ليحققوا الأصل الذي من أجله ألَّفت هذا الكتاب، ألا وهو ألاّ يُفتي في النوازل السياسية إلا عالم مجتهد. وما تَغَوُّل سفلة من رجال القانون للتوغّل في هذا الميدان ـ بزعم أن الشريعة ليست حكراً على أحد ـ إلا عدوان عظيم؛ جرَّؤوا به نوابت من شباب الإسلام على ولوج هذا الباب زاعمين أن الشريعة أمرت كل مسلم بالاجتهاد في كل المستجدات!
ـ أن الطريق الذي ارتضاه لنا ربنا واحد.
ـ وأن هذا الطريق منضبط بفهم السلف الصالح للكتاب والسنة.
ـ وأن المتمسك بالسنة في أمن من الهزيمة والكفر.
ـ وأن الرد على المخالف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ـ وأن نيل السؤدد منوط بالعلم.
ـ وأن تفصيل ذلك بسلوك سبيل التصفية والتربية.
لا الثورات! وتعدد الجماعات! وتكفير المسلمين والمسلمات! 3 ـ بيّنتُ أن الزّجّ بالشباب في خنقة التحزب هو سبب الجناية على هذه الأصول، ومن حُرِم الأصول حُرِم الوصول؛ قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ: " العلم .. العلم .. أيها الشباب! لا يُلهيكم عنه سمسارُ أحزاب ينفخ في ميزاب! ولا داعية انتخاب في المجامع صخاب! ولا يَلفتنَّكم عنه معلِّلٌ بسراب، ولا حاوٍ بجراب، ولاعاوٍ في خراب يأتمُّ بغراب([1])، ولا يَفتننّكم عنه مُنْزَوٍ في خنقة، ولا مُلْتَوٍ في زَنقة([2])، ولا جالسٌ في ساباط([3]) على بساط، يُحاكي فيكم سنّة الله في الأسباط([4])
فكل واحد من هؤلاء مشعوِذ خلاّب! وساحر كذاب! إنكم إن أطعتم هؤلاء الغواة، وانصَعْتم إلى هؤلاء العُواة، خسرْتم أنفسكم وخسرَكم وطنُكم، وستندمون يوم يَجني الزارعون ما حصدوا، ولاتَ ساعة ندَم " ([5]). 4 ـكما بيَّنتُ أن تضييع الدعوة إلى الدين الحق وتنكّب طريق الأنبياء سببه تفسيرُ أكثرِ الدعاة اليوم الدينَ تفسيراً سياسياً وحَصْرُ الدعوة في السبيل السياسية أو التركيز عليها؛ يُخَيَّل إليهم من سحرها أنها تسعى!! مع أنها تزيدهم كل يوم نكسة، وترجع بهم القهقرى، وهذا أيضا من إفرازات الحزبية، التي كثيراً ما تَخدع، حتى يظن الظّانُّ أن الطرق مسدودة إلا بمخالفة الأنبياء!!! 5 ـ لذا بذلت وسعي في ربط هذه الأمة بعلمائها: علماء الكتاب والسنة لا علماء ضرائر كتب العلم: الجرائد …
ولعل القاريء يلاحظ أنه ليس لقلمي في هذا المؤلَّف سوى النقول عنهم؛ أبيِّن هذا كي لا يقال: كيف تكتب في السياسة ولستَ من أهل الاجتهاد؟!
هذا، وشباب الدعوة مع هذه المؤلفات في أمر عجب! فمنهم من أقعده العجز عن طلب معالي الأمور، وطمع في دخول حمى غيره، فزعم أن باب الاجتهاد قد أُقفل! فالكل إذًا يتكلم في السياسة؛ لأنهم في مستوى واحد!!!
ومنهم الهالك في باطن الإثم، فيرى أن هذه الكتابة في زمن الجهاد تثبيط! ولا يكتب فيها إلا ( عميل ) صُنِع على عين تخطيط!!
ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، كلما صاح باطل لم يُسمَع لهم حسّ، وإذا نطق فيه حقٌّ بحقٍّ قاموا ولم يقعدوا، وضجّوا ولم يسكتوا: ليس ذا الوقت! وليس ذا الأسلوب! هذا تنفير! ما الفائدة من هذه الكتابات والفتنة قد غلت مراجلها، وأُضرِمت نارها!!!
وهؤلاء يتظاهرون بالرجوع إلى المنهج الحق كلما طاردتهم الأدلة أو غالبتهم مطارق الأنظمة، ولا يُؤتَمَنون؛ لأنهم {كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا}، ومن أبرز أماراتهم قولُهم: لماذا لايَرُدّ على الحكومة كما رَدَّ على إخوانه؟!
ومنهم .. ومنهم .. ولله في خلقه شئون.
([1]) لعله يريد قول الشاعر:
ومَن يكن الغراب له دليلا يَمُرَّ به على جِيَف الكلابِ
([2]) الزَّنَقة: بالتحريك، هي السكة الضيّقة، كما في لسان العرب مادة: زنق، ولا يزال أهل المغرب إلى اليوم يستعملونها كثيرا، لكن بتسكين النون.
([3]) الساباط: "سقيفة تحتها ممرّنافذ " المصباح المنير مادة: سبط.
([4]) سنة الله في الأسباط هي التفرق، قال تعالى:{وقطَّعْناهمُ اثْنَتَيْ عشرْةَ أَسْباطاً أُمَمًا}. وما أصدق هذه الأوصاف التي ذكرها الشيخ على التحزب! لذا لم يكن هذا السجع كسجع الكهان؛ لأن الكهان يكذبون، وهذا حق مثلما أنكم تنطقون؛ فإنه وإن بدا التحزب واصلا جامعا، فإنه لا يلبث أن يكون ممزقا قاطعا. وإن بدا أنه يحيي في الناس الغيرة على المحارم، فإن حقيقته أنه يحيي فيهم الغيرة على (محارم الحزب) ويقتل فيهم الغيرة على محارم الله؛ ألا ترى الواحد منهم إذا انتُقِد قطب حزبه كيف يفارق، وتحيَى فيه معاني البراء؟! وإذا جاءه الطاعن في الصحابة فلا بأس أن يعانق، ويذكر معه معاذير الولاء؟! بل لا يمانع من التقارب مع الطاعن في صفات ربه بخنجر التأويل والتحريف، أو بتسليط سيف التكذيب والتكييف. وهكذا يجمع الحزبُ ما صفا وكدر من المعتقد، كما يجمع الميزاب من الماء ما صلح وفسد، كما أن التحزب تغرير بسراب الأماني، وحسبك أنه حرب على العلم؛ كما يظهر من أول كلام الشيخ. ثم إنني حين كنت أعدّ الكتاب للطبع جاءني الخبر المتواتر بأن الثوار عندنا وصل بهم الحد إلى منع التعليم الشرعي؛ فأقفلوا المعهد الوطني العالي لأصول الدين بالجزائر زمناً؛ لأنه مؤسسة من مؤسسات دولة الطاغوت!! فاللهم رحماك.
([5]) آثاره (2/350ـ351 ).
منقول للامانة من كتاب/ مدارك النظر/
و للاستزادة هذا هو الكتاب ، نفعنا الله و إياكم به
عنوان الكتاب: مدارك النظر في السياسة
قرأه وقرّظه:
العلاّمة الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني
والعلاّمة الشيخ: عبد المحسن بن حمد العبّاد البدر
——————————
تجد في هذا الكتاب : –
تأصيلاً لقاعدة: الفتوى في النوازل السياسية قاصرة على المجتهد: قال الله تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وقال ابن القيم: " العالِم بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة فهو المجتهد في النوازل، فهذا النوع الذي يَسوغ لهم الإفتاء ويَسوغ استفتاؤهم ويتأدى بهم فرضُ الاجتهاد، وهم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم: (( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها )) ".
وبيانَ أنه لا يفتي في دقائق الجهاد إلا هو، وأنه يَحرُم استفتاء طلبة العلم فيها ـ فضلاً عن غيرهم ـ مهما زعموا أنهم فقهاء الواقع:
قال ابن تيمية: " وفي الجملة فالبحث في هذه الدقائق ـ أي دقائق أحكام الجهاد ـ من وظيفة خواص أهل العلم .. ".
وبيانَ أنه لو أفتى فيها مَن ليس في رتبة العالم المجتهد أفسد البلاد وأرهق العباد؛ لأن العالِم يشمّ الفتنة قبل وقوعها، وأما غيره فلا يعرفها إلا إذا وقع فيها، وقد لا يعرفها:
قال الحسن البصري: " إن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كلُّ عالم، و إذا أدبرت عرفها كلُّ جاهل ".
وتحذيراً من مسالك الحركيين من الإسلاميّين الذين اتَّخذوا من السياسة جارحةَ صيد، واتَّخذها الأعداء آلةَ كيد:
قال عبد الحميد بن باديس: " فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها عن علم وبصيرة … ولو أردنا أن ندخُل الميدان السياسي لدخلناه جهراً … ولقُدنا الأمّة كلها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهل شيءٍ علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نَبْلغ من نفوسها إلى أقصى غايات التأثير عليها؛ فإن مما نعلمه، ولا يخفى على غيرنا أن القائد الذي يقول للأمّة: (إنّكِ مظلومة في حقوقك، وإنّني أريد إيصالكِ إليها)، يجد منها ما لا يجد من يقول لها: (إنّك ضالة عن أصول دينك، وإنّني أريد هدايتَك)، فذلك تلبِّيه كلها، وهذا يقاومه معظمُها أو شطرُها …".
وتحذيراً من الحزبية التي فرّقت شمل المسلمين:
قال محمد البشير الإبراهيمي: " أوصيكم بالابتعاد عن هذه الحزبيات التي نَجَمَ بالشّر ناجمُها، وهجم ـ ليفتك بالخير والعلم ـ هاجمُها، وسَجَم على الوطن بالملح الأُجاج ساجِمُها، إنّ هذه الأحزاب! كالميزاب؛ جمع الماء كَدَراً وفرّقه هَدَراً، فلا الزُّلال جمع، ولا الأرض نفع! ".
وتحذيراً من مسالك الثوار:
قال ابن خلدون: " ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء؛ فإن كثيرا من المنْتَحِلين للعبادة وسلوك الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجَور من الأمراء، داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف رجاءً في الثواب عليه من الله، فيَكثُر أتباعُهم والمتشبِّثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويُعَرِّضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يَهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين؛ لأن الله سبحانه لم يَكتب ذلك عليهم … ".
وبيانَ مغبَّة الخروج على السلطان:
قال الحسن البصري: " والله! لو أنّ الناس إذا ابتُلُوا مِن قِبَل سلطانهم صبروا، ما لبِثوا أن يرفع اللهُ ذلك عنهم؛ وذلك أنهم يَفزَعون إلى السيف فيوكَلُوا إليه! ووالله! ما جاؤوا بيوم خير قطّ!"، ثم تلا:{وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ودَمَّرْنا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُون}.
الكاتب : الشيخ عبد المالك بن أحمد بن المبارك رمضاني الجزائري حفظه الله
قال الحسن البصري: " والله! لو أنّ الناس إذا ابتُلُوا مِن قِبَل سلطانهم صبروا، ما لبِثوا أن يرفع اللهُ ذلك عنهم؛ وذلك أنهم يَفزَعون إلى السيف فيوكَلُوا إليه! ووالله! ما جاؤوا بيوم خير قطّ!"، ثم تلا:{وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ودَمَّرْنا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُون}.