بسم الله الرحمان الرحيم
:_here:
إليكم أعزائي الطلبة والمهتمين بفقه اللغة تبيان الدور الذي قام به العرب في ترسيخ علم المصطلح مع بداية ظهور الحركة العلمية في العصور الأولى من خلال الحديث عن طرائق وضع المصطلح العربي و ذلك من خلال عرض ما يلي :
1. مفهوم اللغة والاصطلاح
2. وسائل نمو اللغة
أ ـ الاشتقاق
ب ـ المجاز
ج ـ النحت
د ـ التعريب
3. المصطلح اللغوي العربي في العصر الجاهلي.
4. المصطلح اللغوي في العصر الإسلامي.
5. الخلاصة.
1 ـ مفهوم اللغة والاصطلاح:
أ ـ اللغة، من الفعل لغَا يلغُو لغواً، فهو لاغ، يقال: لغَا الشخص في قوله: أخطأ وقال باطلاً. ولغَا الحالفُ، حَلف بيمين بلا اعتقاد. ولغا الشخصُ، تكلَّمَ. جاء في الحديث الشريف [من قال يوم الجمعة والإمام يخطب لصاحبه: صَهْ، فقد لغَا]([2]).
واللغة، جمع لغات، ولغُون، وهي مأخوذة من اللَّغْوِ، واللَّغَا، وهو، السَّقط وما لا يُعْتَدُّ به من كلام وغيره، ولغا في قوله: أخْطَأَ. وكلمة لاغية: أي فاحشة. واستلْغِ العَرَبَ: اسْتَمِعْ لغَاتِهِم من غير مسألة([3]).
واللغة هي الأسلوب الصوتي، المؤلف من كلمات ذات هيئات خاصة مشحونة بمعانٍ متفق عليها، مستعملة استعمالاً متفق عليه أيضاً، وأقدم أمثلتها ما وصلنا عن عرب الجاهلية، وخير أمثلتها ما نجده في القرآن الكريم.
واللغة أداة تواصل وإبلاغ، وهي أصوات تعبر عن الأفكار، والعواطف، والأحاسيس، والمشاعر، والقضايا والأغراض المختلفة، كما جاء في الخصائص لابن جني فحينما تحدث عن اللغة وما هي؟ قال: "أما حدّها فهي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"([4]).
ب ـ الاصطلاح، للاصطلاح معنيان، معنى لغوي، ومعنى اصطلاحي.
ففي اللغة، نقول: اصطلح الناس، زال ما بينهم من خلاف، كقولنا: اصطلح الأعداء. واصطلح القوم على الأمر، تعارفوا عليه واتفقوا. كقولنا: (اصطلح العلماء على تسمية العناصر الكيماوية).
وفي الاصطلاح، لفظ أو شيء اتفقت طائفة مخصوصة على وضعه، ولكل علم أو ميدان مَعرفة، اصطلاحاته، مثل اصطلاحات الفقهاء، واصطلاحات البنائين([5]).
2 ـ طرائق وضع المصطلح العربي:
اللغة العربية كائن ينمو ويتطور باستمرار، فهي تملك من الإمكانات الذاتية، والطاقات التعبيرية المتجددة والخلاقة، ما يؤهلها لمواجهة كل جديد والتكيف معه، والتصدي لكل طارئ ومستجد، وما يجعلها قادرة على استيعاب متطلبات العصر. ومن وسائل نمو اللغة العربية ما يأتي:
أ ـ الاشتقاق، من بين الأدوات المهمة في إثراء اللغة العربية، في صيغها ومفرداتها، ودلالاتها، الاشتقاق، وهو يعني نزع كلمة من كلمة أخرى، على أن يكون بين الكلمتين تناسب في اللفظ والمعنى: وذهب (ابن فارس) في باب القول على لغة العرب هل لها قياس، وهل يشْتَق بعض الكلام من بعض؟ قال: "أجمع أهل اللغة ـ إلاّ من شَذَّ منهم ـ أن للغة العرب قياساً، وأن العرب تشق بعض الكلام من بعض. وأن اسم الجن مأخوذ من الاجتنان، وأن الجيم والنون تدلان أبداً على السَّتر. تقول العرب للدرع: جُنَّة. وأجنّه الليل. وهذا جنين، أي هو في بطن أمه أو مقبور. وأن الإنس من الظهور. يقولون: آنست الشيء: أبصرْته. وعلى هذا سائر كلام العرب، علم ذلك من عِلم. وجهله من جهل"([6]).
وذهب السيوطي إلى أن الاشتقاق هو "أخذ صيغة من أخرى مع اتفاقهما معنى، ومادة أصلية، وهيئة تركيب لها، ليدل بالثانية على معنى الأصل بزيادة مفيدة لأجلها اختلفا حروفاً أو هيئة كضارب من ضرب، وحَذِرٍ من حذر([7]).
ويعرفه المحدثون على أنه "توليد لبعض الألفاظ من بعض، والرجوع بها إلى أصل واحد يحدد مادتها ويوحي بمعناها المشترك الأصيل مثلما يوحي بمعناها الخاص الجديد"([8]).
من خلال ما سبق ذكره يتبين أن الاشتقاق، هو نزع كلمة من كلمة أخرى، على أن يكون بين الكلمتين تناسُب في اللفظ والمعنى، فالاشتقاق يتكفل بالبحث عن توليد الصيغ المتعددة من الأصل، فيبحث في الألفاظ من حيث صياغتها، ودلالة هذه الصياغة على معنى من المعاني، كأن تدل صيغة (كاتب) على الشخص الذي يقوم بالكتابة، ونسميه صرفياً صيغة اسم الفاعل، أو كأن تدل صيغة (مكتوب) على الشيء الذي وقعت عليه الكتابة، ونسميه صرفياً اسم المفعول، أو كأن تدل صيغة (كَتَبة) على جمع كاتب، ونسميها صرفياً جمع تكسير، أو كأن تدل صيغة (كُتبي) على رجل ينتسب إلى العمل في الكتب ببيع أو غيره، ونسميها صيغة نسب، أو كأن تدل صيغة (كُتب) على العدد الكثير من الكتاب، ونسميها صيغة جمع.
والاشتقاق أنواع([9]):
1. الاشتقاق الصغير، وهو ما تضمّن الحروف الأصلية عدداً وترتيباً. مثل: سمع سامع ومسموع.
2. الاشتقاق الكبير، أو القلب: وهو ما كان بين الكلمة الأصلية، والكلمة المشتقة تناسب في اللفظ والمعنى دون ترتيب في الأحرف مثل: عَثى وعَاث، جَذَبَ وجَبَذَ، حَمَرَ وحَرَمَ.
3. الاشتقاق الأكبر: أو الإبدال، وهو أن تنزع لفظاً من لفظ مع تناسب بينهما في المعنى والمخرج، واختلاف في بعض الأحرف، مثل: غُفْران وعُنْوَان.
ويدخل في هذا النوع ما يزيد فيه على الحرفين حرفاً ثالثاً في أوله مثل: حَمَرَ وخَمَرَ. أو في وسطه نحو: رَحَمَ، ورَدَمَ، أو في آخره، نحو: نَبَزَ ونَبَسَ.
والاشتقاق يتم من أسماء المعاني (المصادر)، كما يتم من أسماء الأعيان العربية مثل: أبْحَرَ من البَحْرِ، وأجْبَلَ من الجَبَلِ. ومن أسماء الأعيان المعربة، مثل: رَسْكَلَ وتَلْفَنَ وهَنْدَسَ، من الرسكلةِ والتليفون والهندسة.
وقياساً على القواعد السابقة تم اشتقاق ألفاظ حديثة كثيرة جداً، فمن المصادر أسماء الأعيان أُخِذَ المِبْذَر من البَذْر، والمشرَط، والمتحَف من الإتحاف.
ومن أسماء الأعيان أخذ اسم البستَنَة والنِّحالة، من البُسْتان والنَّحْل. واشتق بَلْوَرَ وأكْسَدَ من البلَّوْر والأكسيد.
كما اشتقت أسماء للأمراض على وزن (فُعَال) مثل: زُكَام وصُدَاع واشتقت أسماء الآلة على وزن:
1. فاعِل، مثل: لاصِق، عازِل، كاشِف.
2. فاعِلة، مثل: فارزة، رَافِعة.
3. فعَّال، مثل: سحَّاب، طرَّاد.
4. فعَّالة، مثل: ثلاَّجة، جَرَّافة، قلاَّبة.
5. مِفْعَال، مثل: مِجْدَاف، مِنشَار. مِفْتَاح، مقْرَاض.
6. مِفْعَل، مثل: مِشْرَط، مِبْرَد، مِخْرَز.
7. مِفْعَلة، مثل: مِدْخَنَة، مطْرَقة، مكْسَحة.
وقد يكون اسم الآلة جامداً غير مأخوذ من الفعل، ولا على وزن من الأوزان السابقة، مثل: القدوم والفأس والسكين والجرس والناقوس والساطور([10]).
وهكذا يكون موضوع الاشتقاق البحث في الصيغ التي تأتي وفقها المفردات، وما تدل عليه، وما تتسمى به، وبالتالي يعمل على توليد الكلمات بعضها من بعض، وتنمية اللغة، وسد العجز الذي تعاني منه اللغة فيما يخص الجانب العلمي والتقني والتكنولوجي والمعلوماتي، والحضاري، وكل ما يخص التغيرات الحاصلة في جميع المجالات الحياتية الأخرى.
ب ـ المجاز: اللغة العربية إما أن تُستَعمل عن طريق الحقيقة، وإما أن تستعمل عن طريق المجاز. والمجاز عند علماء البيان "هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالاً في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها، مع قرينة مانِعَةٍ عن إرادة معناها في ذلك النوع"([11]). وعند علماء البديع: "المجاز عبارة عن تَجوّز الحقيقة بحيث يأتي المتكلم إلى اسم موضوع لمعنى فيختصره، إما بأن يجعله مُفْرَداً بعد أن كان مركباً، أو غير ذلك من وجوه الاختصار"([12]).
ومثال الأول قول جرير:
إذا نزَلَ السماءُ بأرض قوْم
رَعَيْنَاهُ وإن كانوا غِضَابا
يريد بـ"السماء" مطر السماء، فجعله مفرداً، ويريد بالضمير في "رعيناه" ما ينبته مطر السماء.
ومثال غير ذلك قول العتابي:
يا ليْلة لِي بحُوَّارينَ ساهِرَةً
حتَّى تكلَّم في الصُّبْحِ العصافَيرُ
فقوله (ساهرة) مجاز([13])
والمجاز هو أن يُستعمل اللفظ في غير ما وُضِع له مع قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلي، نحو: "رأيت أسداً يقاوم العدوَّ. فالمقصود بالأسد هو الرجل الشجاع وليس الأسد الحقيقي.
والاستعمال المجازي يساعدنا على استخدام ألفاظ كثيرة، وفق هذه الطريقة، كما يساعد على نقل الكلمة من معناها الأصلي إلى معنى جديد غير المعنى الأول، وقد استخدم الأقدمون ألفاظاً كثيرة جداً وفق هذه الطريقة.
ومن ذلك، الصلاة، فهي تعني في الأصل الدعاء، وفي الشرع أصبحت تدل على أفعال (أعمال وأقوال) يحصل معها الدعاء. والصوم في الأصل مطلق الإمساك، وفي الشرع، الإمساك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وغيرها كثير، ومثل ذلك بطريقة مجازية قالوا: النحو والصرف والعَروض.
والجدير بالذكر أن "نقل الألفاظ من معناها الأصلي إلى معنى علمي كان وما برح من أنجع الوسائل في تنمية اللغة، وفي جعلها صالحة لاستيعاب العلوم الحديثة. والألفاظ التي نقلها الأجداد من معناها اللغوي إلى معناها الاصطلاحي لا تعد ولا تحصى"([14]).
وبإمكاننا في العصر الحديث الرجوع إلى المجاز في وضع عدد كبير من مصطلحات العلوم والمخترعات، وقد اعتمد اللغويون المجاز، فقالوا: السيّارة والطيارة، والسيارة في الأصل القافلة، والطيّار، الفرس الشديد، ومثلها قيل: القطار والقاطرة والشاحنة، والمدرعة والطرادة والغواصة والباخرة، وغيرها كثير([15]).
هذا وليس كل كلمة وضعت مجازاً للدلالة على شيء تكون ناجحة، بل العمدة في ذلك الذوق الاجتماعي، إن رَاقها واستحسنها بقيت، وإن نفر منها واستهجنها أهملت من الاستعمال.
ج ـ النحت: هو طريقة من طرائق توليد الألفاظ، وهو قليل الاستعمال في اللغة العربية شائع في غيرها من اللغات الهندوأوربية على عكس الاشتقاق الذي هو القاعدة الأساسية في توليد الألفاظ في اللغة العربية([16]).
وهو انتزاع كلمة من كلمتين أو أكثر على أن يكون تناسب في اللفظ والمعنى بين المنحوت والمنحوت منه. وقد استعمل القدماء النحت فقالوا: البسملة، من (بسم الله)، والحمدَلة، من (الحمد لله)، وسَبْحَلَ، من (سبحان الله)، والحوقلة، من (لا حول ولا قوَّة إلا بالله)، وعبشمي نسبة إلى (عبد شمس).
والنحت "طريقة كانت مستعملة في العصور العربية القديمة [في حدود ضيقة] ومن تلك العصور بقيت هذه الألفاظ الرباعية والخماسية المنحوتة، ولكن العربية فيما بعد أهملت هذه الطريقة في توليد الألفاظ الجديدة وسلكت طريق الاشتقاق"([17]).
والاشتقاق طريقة حيويّة خلاقّة في توليد الألفاظ وزيادتها ونموها، بخلاف النحت فطريقته جامدة تعتمدها اللغة في الزيادة والنمو عن طريق اللصق والإضافة.
وقد استعمل النحت حديثاً في توليد المصطلحات العلمية، فعلى سبيل المثال (حيوان برمائي)، أي: حيوان يعيش في البر وفي الماء، وهندوأوربي، نسبة إلى الهند وأوربا، وإفروآسيوي، نسبة إلى إفريقيا وآسيا.
ويصح النحت إذا كان المصطلح الأجنبي مركباً من كلمتين نحو: كهرومنزلي، بدلاً من كهربائي منزلي، وكَهْرَطيسي، بدلاً من كهربائي مغناطيسي.
وإذا كان القدماء استعملوا النحت في حدود ضيقة، فإن مجمع اللغة العربية بالقاهرة أفتى بعدم اللجوء إلى النحت إلاّ عند الضرورة، خشية الوقوع في الإسراف والتعقيد مثل: خلمهة، أي خلّ وإماهة، والملاحظ أن الكلمة المنحوتة فيها صعوبة وغرابة، فهي أصعب من الكلمتين المنحوت منهما من جهة، كما أنها لا تتناسب مع الذوق من جهة أخرى، والفيصل والحَكم في صواب النحت من عدمه إنما هو العُرف الاجتماعي، والذوق السليم، والمزاج الصافي الصقيل.
د ـ التعريب، إن اللغات تلتقي بالتقاء أصحابها في السلم والحرب، وبالتجاور والاتصال أو الاحتلال والحكم، في ميدان الثقافة والعلم، أو في ميدان الاقتصاد والتجارة، أو غير ذلك من ضروب الاتصال فيؤثر بعضها في بعض بوجه عام أو في ميادين محدودة([18]).
لذلك وجدت بعض الألفاظ الأجنبية طريقها إلى اللغة العربية، عن طريق التعريب، والتعريب هو أن يلفظ العرب الكلمة الأجنبية على طريقتهم، ووفق منهجهم ومذهبهم في الكلام، ويسمى المعرب الدخيل، والتعريب قديم قدم الأمة العربية أملته ضرورة الاتصال بالأمم الأخرى، وحاجة العرب إلى ألفاظ لا وجود لها في الجزيرة العربية.
ففي الجاهلية، أخذ العرب عن اللغة الفارسية ألفاظاً من قبيل: السندس والنرجس والإبريق والديباج.
وعن الهندية أخذوا ألفاظاً مثل: القرنفل والفلفل والكافور والشطرنج.
ومن اليونانية أخذوا: القسطاس والقنطار والفردوس والترياق.
ومن السريالية أخذوا: المسيح والكنيسة والكهنوت والناقوس.
ومن العبرية أخذوا: التوراة، والأسباط، والشيطان الرجيم.
ومن الحبشية: النجاشي والتابوت والمنبر.
وبعد مجيء الإسلام، توسعت رقعة الدولة العربية الإسلامية، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ودخلت أجناس كثيرة في الدين الجديد، خاصة وأن هذا الدين الجديد يحث على القراءة، وطلب العلم، وأن الأجناس الأخرى لها تقاليد في مجال العلم والمعرفة، لذلك أدى هذا الموقف إلى امتزاج الأجناس والثقافات والحضارات، ونتيجة لذلك أخذ العرب ألفاظاً كثيرة من الفرس مثل: الفيروز، والبلُّور، والعنبر، والسوسن. وأخذوا من اليونانية مصطلحات مثل: الفلسفة، والسفسطة، والجغرافيا، والباتالوجيا، والذغماطيقي.
والجدير بالذكر أن مجمع اللغة العربية في القاهرة أجاز تعريب الألفاظ العلمية والتقنية والحضارية من قبيل: الميكروب، الإلكترون، السينما، الفلم، الترام، وغيرها كثير.
إن التعريب لما هو ضروري من المصطلحات الأجنبية المختلفة، يثري اللغة العربية في مصطلحاتها، ويوسع معجمها المعد لهذا الغرض، ويحل الكثير من المشكلات التي تعترض سبيل تعريب العلوم، والفنون والمعارف والتقنيات المختلفة. مع مراعاة وإخضاع هذا المصطلح المعرب إلى العرف الاجتماعي وإلى الذوق، ويشترط فيه أيضاً موافقة الصيغة المعربة أحدَ الأوزان العربية المألوفة.
3 ـ المصطلح اللغوي العربي في العصر الجاهلي:
اللغة العربية، إحدى اللغات السامية، وهي كغيرها من اللغات، ظاهرة اجتماعية، تتماشى وسيرورة المجتمع، فتتقدم بتقدمه، وتتأخر بتأخره، فالمجتمع المتقدم فكرياً وحضارياً، نجد لغته متقدمة، مثل المجتمع اليوناني والمجتمع الفارسي، والمجتمع الهندي.
أما العرب فبحكم تخلفهم من الناحية الحضارية، كانت لغتهم متخلفة، وبما أن عرب الجاهلية لم يملكوا تراكماً علمياً وثقافياً ومعرفياً يمكنهم من مسايرة التقدم والحضارة الإنسانية آنذاك…
وبما أن اللغات تحكمها سُنَنُ التأثر والتأثير، نتيجة عوامل متعددة كالجوار، والتجارة، والحروب، وغيرها. فنتيجة لهذه العوامل تأثرت اللغة العربية بغيرها من اللغات. واضطر العرب إلى اقتراض ألفاظ من اللغات الأخرى، بعد أن يَعْرِضوها على محك التعريب، فيصقلوها، ويعطوها المسحة العربية حتى تصير بهم أجدر([19]).
فأخذوا عن الفارسية ألفاظاً، مثل، الدولاب، والدسكرة، والكعك، والسكباج، والسميد، والجُلاّب، والجلْنَار والطبق، وغيرها.
ومن الهندية أخذوا، الزنجبيل، والجاموس، والصندل، والمسك، وغيرها. ومن اليونانية، أخذوا القسطاس والقبان وغيرها.
كما أخذوا من السريالية مصطلحات دينية (سبق ذكرها أثناء الحديث عن التعريب) ومصطلحات زراعية مثل: الفدان، والفجل، والزعرور، والبلوط.
وأخذوا من العبرية والحبشية أيضاً.
وبما أن العرب قبائل متعددة، ولكلّ قبيلة لهجتها الخاصة بها، وانطلاقاً من الخصائص المشتركة، التي من شأنها أن تقرب بين العرب، عمل العرب كل ما من شأنه أن يوحد لغتهم. فكان موسم الحج بمثابة مؤتمر كبير، تحضر إليه القبائل من كل حدب وصوب، وكانت قبيلة قريش بحكم مجاورتها للكعبة، تتولى شؤون الكعبة، كما ترعى شؤون الحجيج، ففي موسم الحج تأتي القبائل المختلفة إلى قريش، وتقيم ثلاثة أيام في (سوق ذي المجاز)، وسبعة في (سوق مجنة)، وثلاثين في (سوق عكاظ)، وعشرين يقضون فيها مناسك الحج، وفي أثناء ذلك كانت العرب تتناشد الأشعار أمام قضاة الأدب، وتترنم بالخطب، حتى اتحدت اللغة العربية، وكانت لغة قريش هي المهيمنة عليهم، السائرة على ألسنتهم، وبها نزل القرآن الكريم([20]).
ونتيجة لما سبق يمكن القول: إن اللغة العربية كانت مرآة عاكسة للحياة العربية، فقد كانت بسيطة ومحدودة المضامين العلمية والحضارية في العصر الجاهلي، لذلك عمل أهلها على إثرائها، ونموها عن طريق استقراض ألفاظ من الحضارات الأخرى لكن في نطاق ضيق، كما ساعدت الحروب بين القبائل العربية، والرحلات التجارية، والأسواق الأدبية، وأيام العرب، على توحيد اللهجات العربية في لهجة قريش الأمر الذي أكسبها قوة وحيوية وانتشاراً ورسوخاً.
وبعد مجيء الإسلام ساعدت عوامل متعددة دينية، واجتماعية، وسياسية وحضارية على تطور اللغة العربية، وهذا التقدم فرض عليها آليات معينة لإنتاج المصطلح اللغوي العربي، وهذه الآليات تتمثل في الاشتقاق والقياس والتعريب والمجاز، والتي زودت اللغة العربية بثروة اصطلاحية ومصطلحية، لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.
4 ـ المصطلح اللغوي في العصر الإسلامي:
القرآن الكريم، كتاب دين ودنيا، شغل اهتمام العرب والمسلمين الأوائل، فسارعوا إلى فهم آياته، وتدبر معانيه، وحفظه في الصدور، كما انصرفت فئة أخرى إلى فهم الحديث الشريف، وأفرز هذا الوضع الجديد ظهور علماء كبار في شتى العلوم والفنون، ونشأت معهم نواة علوم تُعَدُّ من أرقى ما توصل إليه العقل البشري في هذا المجال.
وظهرت العلوم المختلفة، وأخذت اللغة العربية تنزع نحو الاصطلاح، فشهدت اللغة العربية حركة اصطلاحية، لمْ يعرف لها تاريخ البشرية مثيلاً من ذي قبل، وكانت هذه الحركة الاصطلاحية نواة لوضع مصطلحات الحضارة، والعلوم والفنون، واللغة، والأدب، والفقه، والتفسير، والحديث وغيرها.
ووضعت مصطلحات لهذه العلوم، استنبطت من اللغة العربية نفسها عن طريق الاشتقاق والمجاز والتضمين والقياس، والتعريب.
فظهرت المصطلحات الدينية، كالفقه، إذ الفقه في الأصل: الفهم، وفي الشرع: معرفة الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات.
ومن المصطلحات الفقهية الجديدة: الطهارة، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، البيع، الربا، الدَّيْن، الحَجْر، الوكالة، المزارعة، الإجارة، الوديعة، الهبة، الصداق، الزواج، الطلاق، الحضانة، وغيرها كثير.
ومن مصطلحات الحديث، الإسناد.
وظهرت العلوم اللغوية مثل: النحو والصرف، والعَروض، والبيان، والبديع.
ووضعت مصطلحات جديدة لهذه العلوم، حتى إنَّ أسماء تلك العلوم نفسها تحولت مدلولاتها من المعنى الأصلي، المعنى الشائع في المجتمع (المعنى اللغوي) إلى المعنى الاصطلاحي.
فمثلاً: النحو: يعني في الأصل القصد والاتّبَاع، وفي الاصطلاح: يعني انتحاء سمت كلام العرب، في تصرفه من إعراب وغيره، كالتثنية والجمع، والتحقير، والتكسير والإضافة، والنسب والتركيب، وغير ذلك([21]).
وفي علم النحو: ظهرت مصطلحات، مثل، الكِلم، والاسم، والفعل، والحرف، والإعراب والبناء، والنصب والجر والرفع والجزم، وغيرها كثير.
وفي علم الصرف: ظهرت مصطلحات، مثل: الأبنية، والأوزان، والزيادة، والإعلال، والإبدال، والقلب، والحذف، والإدغام، وغيرها.
وفي العَروض: كانت مصطلحات البحور الشعرية، كالطويل، والبسيط، والوافر، والمديد، والممتد، والرمل وغيرها.
وفي علم المعاني: نجد مصطلحات، مثل: الفصاحة والبلاغة.
وفي البيان: نجد مصطلحات، مثل: الاستعارة، والكناية، والمجاز.
وفي البديع: نجد، السَّجع، والطباق، والجناس.
وظهرت المصطلحات الفلسفية: مثل: الفلسفة، والمنطق، والحد.
أما في مجال السياسة والإدارة([22]) فحينما امتدت رقعة الدولة العربية الإسلامية، أصبح المجتمع العربي مجتمعاً تعددياً، من حيث ال*** واللغة والثقافة، وكانت الأمور الإدارية والمالية تجري بلغة الشعوب التي فتحوها، واستمرت الأمور على هذه الحالة حتى عهد خلافة عبد الملك بن مروان، الذي تم في عهده تعريب الدواوين والإدارة.
فعربوا مصطلحات مثل: ديوان، وبريد، ودينار، ودرهم، وطراز، وغيرها. وحوروا ألفاظاً من قبيل، الخلافة، والإمارة، والدولة، والشرطة، والحجابة…
كما نعثر على مصطلحات من قبيل المصطلحات الآنفة الذكر، في الشؤون المالية والقتالية، فمن المصطلحات المالية: الجباية، والمكس، والسكة، والراتب، ودار الضمان وغيرها.
ومن المصطلحات القتالية: الدبّابة، والعرّادة، والمتطوعة، والمسترزقة، وغيرها كثير.
5. الخلاصة:
– اللغة العربية مطواعة مرنة، لها من الإمكانات الذاتية، ومن الطاقات التعبيرية المختلفة، ما يجعلها قادرة على استيعاب كل جديد، والتعبير عن كل القضايا والمواقف اللغوية المتجددة، بوسائل وطرائق مختلفة.
– نزوع اللغة العربية في العصور الإسلامية الأولى نحو الاصطلاح، وكانت هذه الحركة الاصطلاحية، النواة لوضع مصطلحات جديدة كثيرة جداً.
– أصالة المصطلحات اللغوية المعربة، فالعرب يأخذون اللفظة الأعجمية، ويدخلونها إلى اللغة العربية، فيلفظونها على طريقتهم، ووفق مذهبهم في الكلام، فتجري على ألسنتهم وكأنها عربية أصيلة.
إخضاع المصطلحات العربية إلى العُرف الاجتماعي، وإلى الذوق العربي السليم، فالمصطلح الذي يكتب له الحياة هو ذلك الذي يتوافق مع الذوق العربي الرفيع، أما ما يخالفه فلا يكتب له النجاح.
المصادر والمراجع:
1 ـ جامع الدروس العربية مصطفى الغلاييني، المكتبة العصرية، صيدا ـ بيروت، ط35، 1418هـ ـ 1998م.
2 ـ الخصائص ابن جني، تحقيق محمد على النجار. المكتبة العلمية، (د ت).
3 ـ دراسات في فقه اللغة: د. صبحي الصالح، دار العلم للملايين، ط10، 1983.
4 ـ رجال المعلقات العشر: مصطفى الغلاييني، المكتبة العصرية، صيدا ـ بيروت، 1990.
5ـ شرح الكافية البديعية: صفي الدين الحلي، تحقيق د. نسيب نشاوي. د م ج، الجزائر (د ت).
6 ـ الصاحبي: ابن فارس، تحقيق عمر فاروق الطباع. مكتبة المعارف. بيروت ـ لبنان، ط1، 1414هـ ـ 1993م.
7 ـ فقه اللغة وخصائص العربية: محمد المبارك، دار الفكر. ط7، 1401هـ ـ 1981م.
8 ـ مختار القاموس: الطاهر أحمد الزاوي، الدار العربية للكتاب، 1983.
9 ـ المزهر: السيوطي، مطبعة محمد علي صبيح. مصر، (د ت).
10 ـ المصطلحات العلمية: مصطفى الشهابي.
11 ـ المصطلح الفلسفي عند العرب: د.عبد الأمير الأعسم، الدار التونسية للنشر (تونس)، المؤسسة الوطنية للكتاب (الجزائر).
12 ـ المعجم العربي الأساسي. لاروس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والفنون، 1989.
* – مدرس في قسم اللغة العربية ـ جامعة ـ عنابة ـ الجزائر.
([1]) – المصطلح الفلسفي عند العرب. د. عبد الأمير الأعسم، ص7.
([2]) – المعجم العربي الأساسي. ص1092.
([3]) – مختار القاموس. الطاهر أحمد الزاوي، ص554.
([4]) – الخصائص: ابن جني، تحقيق محمد علي النجار. ج1، ص33.
([5]) – انظر: المعجم العربي الأساسي. ص844.
([6]) – الصاحبي. ابن فارس، تحقيق عمر فاروق الطباع. ص66، 67.
([7]) – المزهر. السيوطي ج1، ص201.
([8]) – دراسات في فقه اللغة. د. صبحي الصالح، ص174.
([9]) – المعجم العربي الأساسي. ص15، 16.
([10]) – جامع الدروس العربية. مصطفى الغلاييني، ج1، ص206.
([11]) – شرح الكافية البديعية. صفي الدين الحلي، تحقيق د. نسيب نشاوي. ص208.
([12]) – المرجع نفسه، ص208.
([13]) – المرجع نفسه، ص208، 209.
([14]) – المصطلحات العلمية في القديم والحديث، الأمير مصطفى الشهابي، ص17.
([15]) – انظر: المعجم العربي الأساسي، ص16.
([16]) – فقه اللغة وخصائص العربية، محمد المبارك، ص148، 149.
([17]) – المرجع نفسه، ص149.
([18]) – فقه اللغة ، محمد المبارك، ص292.
([19]) – رجال المعلقات العشر. مصطفى الغلاييني، ص36.
([20]) – رجال المعلقات مصطفى الغلاييني، ص36.
([21]) – الخصائص. ابن جني، ج1، ص34.
([22]) – المصطلحات العلمية. مصطفى الشهابي، ص23.