نقد مصادر التلقي عند الأشاعرة
نقد مصادر التلقي عند الأشاعرة
(انتقيته من أحد البحوث)
أبو جهاد الجزائري
إن من المهم معرفة مصادر التلقي عند الأشاعرة من كتب أئمتهم ليعرف مدى ضلالهم وبعدهم عن السنة التي يدعون انتسابهم إليها ، وإن بعد الأشاعرة عن أهل السنة في التأصيل كبعض مصادر التلقي أدى بهم إلى بعد كبير في التطبيق كما تقدم ذكر مختصر عقائدهم البدعية وإليك ذكر مصادرهم:
المصدر التلقي الأول:
أن الأدلة السمعية المتواترة وهي القرآن والأحاديث المتواترة دون أحاديث الآحاد فإنه لا يحتج بها في العقائد :
قال الرازي في أساس التقديس ص 168: أما التمسك بخبر الواحد في معرفة الله تعالى فغير جائز ا.هـ ثم ذكر أوجهاً لتقوية ما ذهب إليه ، ومنها أن أخبار الآحاد ظنية ، وما كان كذلك فلا يجوز التمسك به لقوله تعالى ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً )
وقد رد أئمة السنة على هذا الأصل ، وأطالوا النفس في ذلك ، ومن أحسن ما رأيت ما ذكر الإمام ابن القيم في مختصر الصواعق من أن خبر الواحد يفيد العلم وأنه حجة في باب العقائد وغيرها . إليك كلامه مرتباً مجموعاً في نقاط :
الأولى
أنه فعل الصحابة وطريقتهم فإنهم كانوا يجزمون بخبر الواحد .
الثانية
أن كل مسألة فقهية طلبية تتضمن حكماً خبرياً وهو اعتقادي ، قال ابن القيم في مختصر الصواعق ص 489: فما الفرق بين باب الطلب وباب الخبر بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر ، وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة ، فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميات كما تحتج بها في الطلبيات العمليات ، ولا سيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه ورضيه ديناً ، بشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته ، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام ، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته . فأين سلف المفرقين بين البابين ، نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه ، بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة ، ويحيلون على آراء المتكلمين ، وقواعد المتكلفين ا.هـ
الثالثة
أن الله تعالى قال ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) وفي القراءة الأخرى ( فتثبتوا ) وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد أنه لا يحتاج إلى التثبت ، ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمر بالتثبت حتى يحصل العلم.
الرابعة
إن أهل العلم بالحديث لم يزالوا يقولون صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك جزم منهم بأنه قاله ، ولم يكن مرادهم ما قاله بعض المتأخرين إن المراد بالصحة صحة السند لا صحة المتن ، بل هذا مراد من زعم أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم ، وإنما كان مرادهم صحة الإضافة إليه.
الخامسة
قوله تعالى ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) والطائفة تقع على الواحد فما فوقه ، فأخبر أن الطائفة تنذر قومهم إذا رجعوا إليهم والإنذار والإعلام بما يفيد العلم ، وقوله: لعلهم يحذرون ، نظير قولهم في آياته المتلوة والمشهودة ( لعلهم يتفكرون . لعلهم يتقون . لعلهم يهتدون ) وهو سبحانه إنما يذكر ذلك فيما يحصل العلم لا فيما يفيد العلم .
السادسة
قوله ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) أي لا تتبعه ولا تعمل به ، ولم يزل المسلمون من عهد الصحابة يقفون أخبار الآحاد ويعملون بها ويثبتون لله تعالى بها الصفات ، فلو كانت لا تفيد علماً لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم .
السابعة
قوله تعالى ( فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فأمر من لم يعلم أن يسأل أهل الذكر وهم أولو الكتاب والعلم ، ولولا أن أخبارهم تفيد العلم لم يأمر بسؤال من لا يفيد خبره علماً ، وهو سبحانه لم يقل سلوا عدد التواتر ، بل أمر بسؤال أهل الذكر مطلقاً ، فلو كان واحداً لكان سؤاله وجوابه كافياً.
الثامنة
قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) وقال ( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل الواحد من أصحابه يبلغ عنه فتقوم الحجة على من بلغه ، وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من أقواله وأفعاله وسنته ، ولو لم يفد العلم لم تقم علينا بذلك حجة ، ولا على من بلغه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو دون عدد التواتر ، وهذا من أبطل الباطل .
فيلزم من قال إن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم أحد أمرين: إما أن يقول: إن الرسول لم يبلغ غير القرآن وما رواه عنه عدد التواتر ، وما سوى ذلك لم تقم به حجة ولا تبليغ ، وإما أن يقول: إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علماً ولا يقتضي عملاً ، وإذا بطل هذان الأمران بطل القول بأن أخباره صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات العدول الحفاظ وتلقتها الأمة بالقبول لا تفيد علماً ، وهذا ظاهر لا خفاء به .
التاسعة
قوله تعالى ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) وقوله ( وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) وجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أنه جعل هذه الأمة عدولاً خياراً ليشهدوا على الناس بأن رسلهم قد بلغوهم عن الله رسالته وأدوا عليهم ذلك ويشهد كل واحد بانفراده بما وصل إليه من العلم الذي كان به أهل الشهادة ، فلو كانت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم لم يشهد به الشاهد ولم تقم به الحجة على المشهود عليه .
العاشرة
قوله تعالى ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) وهذه الأخبار التي رواها الثقات الحفاظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن تكون حقاً أو باطلاً أو مشكوكاً فيها ، لا يدري هل هي حق أو باطل .
فإن كانت باطلاً أو مشكوكاً فيها وجب اطراحها وأن لا يلتفت إليها ، وهذا انسلاخ من الإسلام بالكلية . وإن كانت حقاً فيجب الشهادة بها على البت أنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الشاهد بذلك شاهداً بالحق وهو يعلم صحة المشهود به .
الحادية عشرة
قول النبي صلى الله عليه وسلم على مثلها (( فاشهدوا )) أشار إلى الشمس ولم يزل الصحابة والتابعون وأئمة الحديث يشهدون عليه صلى الله عليه وسلم على القطع أنه قال كذا ، وأمر به ونهى عنه وفعله لما بلغهم إياه الواحد والاثنان والثلاثة فيقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ،
وحرم كذا وأباح كذا ، وهذه شهادة جازمة يعلمون أن المشهود به كالشمس في الوضوح ، ولا ريب أن كل من له التفات إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتناء بها يشهد شهادة جازمة أن المؤمنين يرون بهم ربهم عياناً يوم القيامة ،
وأن قوماً من أهل التوحيد يدخلون النار ثم يخرجون منها بالشفاعة وأن الصراط حق ، وتكليم الله لعباده يوم القيامة كذلك ، وأن الولاء لمن أعتق ، إلى أضعاف أضعاف ذلك ، بل يشهد بكل خبر صحيح متلقى بالقبول لم ينكره أهل الحديث شهادة لا يشك فيها .
الثانية عشرة
إن هؤلاء المنكرين لإفادة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم العلم يشهدون شهادة جازمة قاطعة على أئمتهم بمذاهبهم وأقوالهم أنهم قالوا ، ولو قيل لهم إنها لم تصح عنهم لأنكروا ذلك غاية الإنكار ، وتعجبوا من جهل قائله ، ومعلوم أن تلك المذاهب لم يروها عنهم إلا الواحد والاثنان والثلاثة ونحوهم ، لم يروها عنهم عدد التواتر . وهذا معلوم يقيناً . فكيف حصل لهم العلم الضروري والمقارب للضروري بأن أئمتهم ومن قلدوهم دينهم أفتوا بكذا وذهبوا إلى كذا ، ويحصل لهم العلم بما أخبر به أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وسائر الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا بما رواه عنهم التابعون وشاع في الأمة وذاع ، وتعددت طرقه وتنوعت ، وكان حرصه عليه أعظم بكثير من حرص أولئك على أقوال متبوعيهم ؟ إن هذا لهو العجب العجاب .
الرابعة عشرة
قوله تعالى ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وهذا يعم كل مخالف بلغه أمره صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، ولو كان ما بلغه لم يفده علماً لما كان متعرضاً بمخالفة ما لا يفيد علماً للفتنة والعذاب الأليم ، فإن هذا إنما يكون بعد قيام الحجة القاطعة التي لا يبقى معها لمخالف أمره عذر .
الخامسة عشرة
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) إلى قوله ( وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ووجه الاستدلال أنه أمر أن يرد ما تنازع فيه إلى الله ورسوله ، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى رسوله هو الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته . فلولا أن المردود إليه يفيد العلم وفصل النزاع لم يكن في الرد إليه فائدة ، إذ كيف يرد حكم المتنازع فيه إلى ما لا يفيد علماً البتة ولا يدرى حق هو أم باطل؟ وهذا برهان قاطع بحمد الله ، فلهذا قال من زعم أن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد علماً ؛ إنا نرد ما تنازعنا فيه إلى العقول والآراء والأقيسة فإنها تفيد العلم .
السادسة عشرة
قوله تعالى (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) إلى قوله ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)
ووجه الاستدلال أن كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما أنزل الله ، وهو ذكر من الله أنزله على رسوله ، وقد تكفل سبحانه بحفظه ، فلو جاز على حكمه الكذب والغلط والسهو من الرواة ، ولم يقم دليل على غلطه وسهو ناقله
لسقط حكم ضمان الله وكفالته لحفظه ، وهذا من أعظم الباطل ، ونحن لا ندعي عصمة الرواة ، بل نقول: إن الراوي إذا كذب أو غلط أو سها فلا بد أن يقوم دليل على ذلك ،
ولابد أن يكون في الأمة من يعرف كذبه وغلطه ليتم حفظه لحججه وأدلته ، ولا تلتبس بما ليس منها ، فإنه من حكم الجاهلية بخلاف من زعم أنه يجوز أن تكون كل هذه الأخبار والأحكام المنقولة إلينا آحاداً كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وغايتها أن تكون كما قاله من لا علم عنده إن نظن إلا ظنا ، وما نحن بستيقنين .
السابعة عشرة
ما احتج به الشافعي نفسه فقال: أخبرنا سفيان عن عبدالملك بن عمير عن أبيه عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها ، فرب حامل فقه إلى غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله ، والنصيحة للمسلمين ، ولزوم جماعتهم . فإن دعوتهم تحيط من ورائهم )) . قال الشافعي: فلما ندب رسول الله صلى الله عيه وسلم إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها أمر أن يؤديها ولو واحد ، دل على أنه لا يأمر من يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه.
الثامنة عشرة
حديث أبي رافع الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لا ألفين أحداً منكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري يقول: لا ندري ما هذا ، بيننا وبينكم القرآن ، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه )) ووجه الاستدلال
أن هذا نهي عام لكل من بلغه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخالفه أو يقول لا أقبل إلا القرآن ، بل هو أمر لازم ، وفرض حتم بقبول أخباره وسننه ، وإعلام منه صلى الله عليه وسلم أنه من الله أوحاها إليه ،
فلو لم تفد علماً لقال: من بلغته إنها أخبار آحاد لا تفيد علماً فلا يلزمني قبول ما لا علم لي بصحته ، والله تعالى لم يكلفني العلم بما لم أعلم صحته ولا اعتقاده ، بل هذا بعينه هو الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ونهاهم عنه ، ولما علم أن في هذه الأمة من يقول حذرهم منه ، فإن القائل إن أخباره لا تفيد العلم
هكذا يقول سواه لا ندري ما هذه الأحاديث ، وكان سلف هؤلاء يقولون بيننا وبينكم القرآن وخلفهم يقولون: بيننا وبينكم أدلة العقول ، وقد صرحوا بذلك وقالوا: نقدم العقول على هذه الأحاديث ، آحادها ومتواترها ، ونقدم الأقيسة عليها .
التاسعة عشرة
ما رواه مالك عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبا طلحة الأنصاري وأبي بن كعب شراباً من فضيخ ، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت ، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها ،
فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفلها حتى كسرتها . ووجه الاستدلال أن أبا طلحة أقدم على قبول خبر التحريم حيث ثبت به التحريم لما كان حلالاً ، وهو يمكنه أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاها ، وأكد ذلك القبول بإتلاف الإناء وما فيه ، وهو مال ،
وما كان ليقدم على إتلاف المال بخبر من لا يفيده خبره العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ، فقام خبر ذلك الآتي عنده وعند من معه مقام السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لم يشكوا ولم يرتابوا في صدقه ، والمتكلفون يقولون إن مثل ذلك الخبر لا يفيد العلم لا بقرينة ولا بغير قرينة .
العشرون
إن خبر الواحد لو لم يفد العلم لم يثبت به الصحابة التحليل والتحريم والإباحة والفروض ، ويجعل ذلك ديناً يدان به في الأرض إلى آخر الدهر . فهذا الصديق رضي الله عنه زاد في الفروض التي في القرآن فرض الجدة وجعله شريعة مستمرة إلى يوم القيامة بخبر محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة فقط ، وجعل حكم ذلك الخبر في إثبات هذا الفرض حكم نص القرآن في إثبات فرض الأم ، ثم اتفق الصحابة والمسلمون بعدهم على إثباته بخبر الواحد . وأثبت عمر بن الخطاب بخبر حمل ابن مالك دية الجنين وجعلها فرضاً لازماً للأمة ، وأثبت ميراث المرأة من دية زوجها بخبر الضحاك بن سفيان الكلابي وحده ، وصار ذلك شرعاً مستمراً إلى يوم القيامة . وأثبت شريعة عامة في حق المجوس بخبر عبدالرحمن بن عوف وحده . وأثبت عثمان بن عفان شريعة عامة في سكنى المتوفى عنها بخبر قريعة بنت مالك وحدها ، وهذا أكثر من أن يذكر ، بل هو إجماع معلوم منهم ، ولا يقال على هذا إنما يدل على العمل بخبر الواحد في الظنيات ، ونحن لا ننكر ذلك لأنا قد قدمنا أنهم أجمعوا على قبوله والعمل بموجبه ، ولو جاز أن يكون كذباً أو غلطاً في نفس الأمر لكانت الأمة مجمعة على قبول الخطأ والعمل به ، وهذا قدح في الدين والأمة .
الحادية والعشرون
إن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يقبلون خبر الواحد ويقطعون بمضمونه ، فقبله موسى من الذي جاء من أقصى المدينة قائلاًَ له: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ، فجزم بخبره وخرج هارباً من المدينة ، وقبل خبر بنت صاحب مدين لما قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ، وقبل خبر أبيها في قوله: هذه ابنتي وتزوجتها بخبره .
وقبل يوسف الصديق خبر الرسول الذي جاءه من عند الملك وقال: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة . وقبل النبي صلى الله عليه وسلم خبر الآحاد الذين كانوا يخبرونه بنقض عهد المعاهدين له وغزاهم بخبرهم ، واستباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم . ورسل الله صلواته وسلامه عليهم لم يرتبوا على تلك الأخبار أحكامها ، وهم يجوزون أن تكون كذباً وغلطاً ، وكذلك الأمة لم تثبت الشرائع العامة الكلية بأخبار الآحاد ، وهم يجوزون أن يكون كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس الأمر ، ولم يخبروا عن الرب تبارك وتعالى في أسمائه وصفاته وأفعاله بما لا علم لهم به ، بل يجوز أن يكون كذباً وخطأ في نفس الأمر ، هذا مما يقطع ببطلانه كل عالم مستبصر .
الثانية والعشرون
إن خبر العدل الواحد المتلقى بالقبول لو لم يفد العلم لم تجز الشهادة على الله ورسوله بمضمونه ، ومن المعلوم المتيقن أن الأمة من عهد الصحابة إلى الآن لم تزل تشهد
على الله وعلى رسوله بمضمون هذه الأخبار جازمين بالشهادة في تصانيفهم وخطابهم ، فيقولون شرع الله كذا وكذا على لسان رسوله صلى الله ، فلو لم يكونوا عالمين بصدق تلك الأخبار جازمين بها لكانوا قد شهدوا بغير علم وكانت شهادة زور ، وقولاً على الله ورسوله بغير علم ، ولعمر الله هذا حقيقة قولهم ، وهم أولى بشهادة الزور من سادات الأمة وعلمائها .
مصدر التلقي الثاني عند الأشاعرة:
تقديم العقل على النقل ، وجعل العقل هو الأصل والنقل هو التبع ، هذا فيما يعتبرونه من النقل وهو القرآن والأحاديث المتواترة دون أحاديث الآحاد كما تقدم .
ذكر هذا الأصل الرازي في مواطن من كتبه مثل : أساس التقديس، والمطالب العالية، ولباب الأربعين، ونهاية العقول، لكن ليعلم أنه لم ينفرد به فهو موجود عند أسلافه من المعتزلة والأشاعرة كالجويني في الارشاد ص359 لكن غاية ما من فعله أنه ينظر ويقعد. وإليك نص هذا القانون الكلي قال في أساس التقديس ص172-173 :
[ اعلم أن الدلائل القطعية إذا قامت على ثبوت شيء، ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل فيلزم تصديق النقيضين وهو محال. وإما أن تكذب الظواهر النقلية، وتصدق الظواهر العقلية. وإما أن تصدق الظواهر النقلية وتكذب الظواهر النقلية وذلك باطل، لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته وكيفية دلالة المعجزة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهور المعجزات على يد محمد صلى الله عليه وسلم. ولو صار القدح في الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهماً غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج عن أن يكون مقبول القول في هذه الأصول، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة. فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معاً وأنه باطل. ولما بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية : إما أن يقال : إنها غير صحيحة، إلا أن المراد منها غير ظواهرها ؛ ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم يجز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى. فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات، وبالله التوفيق ا.هـ.
فهنا أربع احتمالات :
إما أن يصدقهما وهذا لا يصح لأنهما متناقضان، أو يكذبهما وهذا لا يصح لأنهما متناقضان، وإما أن يقدم النقل وهذا لا يصح على قوله لأن العقل أصل في معرفة النقل، وإما أن يقدم العقل وهذا هو الصحيح. وقد أطال ابن تيمية الرد على هذا القانون كما في كتاب درء تعارض العقل والنقل، وابن القيم في كتاب الصواعق المرسلة.
وخلاصة الأدلة في نقض هذا القانون الكلي ما يلي :
1- القطعي مقدم على الظني عند التعارض سواء كان عقلياً أو سمعيا ً، وليس هناك دليل يدل على أن كل عقلي قطعي وكل سمعي ظني بل متى ما كان أحدهما قطعياً قدم على الآخر فمن ثم يتبين أن القسمة الرباعية على وجه الحصر خطأ، بل يزاد أمر خامس وهو أنه تارة يقدم العقلي إذا كان قطعياً وتارة النقلي إذا كان قطعياً.
2- قولهم : قدم العقل لأنه أصل النقل غير صحيح، إذ يقال : هل يريدون بذلك أن العقل أصل في ثبوت النقل في نفس الأمر، أو أصل في علمنا بالصحة ؟ أما الأول قطعاً أنه خطأ غير مراد إذ عدم العلم بالشيء لا يدل على العدم. أما إن أرادوا أنه أصل في علمنا بالصحة، فيقال لهم ماذا تريدون بالعقل أتعنون به القدرة الغريزية التي فينا أم العلوم المستفادة بهذه القوة الغريزية ولا شك أن القوة الغريزية غير مرادة لأنها ليست علماً يتصور، فلم يبق إلا العلوم المستفادة ومن المعلوم أن هذه العلوم المستفادة منه ما ليس له صلة بالسمعيات كالحساب ومنه ما له صلة وهو صدق الرسول و ثبوت نبوته فمن ثم يعلم أن قول العقل أصل النقل خطأ.
3- من أقر بالنبوة لن يجعلها معارضة بل سيقدمها، وإلا فهو مكذب للنبوة لأنه سيقدم العقل على خبر النبي وهذا تكذيب للنبي الذي هو تكذيب به.
4- بين – رحمه الله – أنهم سموا الأدلة بغير اسمها فقالوا : عقلي وسمعي والصواب أن يقولوا : شرعي وغير شرعي لأن الأدلة الشرعية منها ما هو سمعي، ومنها ما هو عقلي، ومنها ما هو عقلي وسمعي في آن واحد، فكأن هؤلاء يقولون نقدم الدليل البدعي على الدليل الشرعي، وهذا كفر، لأن واقعه معارضة خبر الرسول بخبر غير الرسول صلى الله عليه وسلم.
5- أن العقول تتفاوت في إدراكها ومعرفتها بل عقل الرجل الواحد يتفاوت فكيف بعقول الناس. وصدق الله القائل : (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً). وقال مطرف بن الشخير : لو كانت هذه الأهواء هوى واحداً، لقال قائل : الحق فيه. فلما تشعبت فاختلفت عرف كل ذي عقل أن الحق لا يتفرق.
6- لا نسلِّم أصلاً بوجود التعارض، لأن الشرع يأمر بالحق، والعقل الصحيح يدل على الحق وما يدلان على الحق لا يتعارض إلا إذا كان في أحدهما خطأ، لذا قال تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )
مصدر التلقي الثالث عند الأشاعرة
أنه لا بد من تأويل نصوص الأسماء والصفات لأن ظاهرها التشبيه وهو كفر .
قال السنوسي !! في كتابه ( شرح عقيدة أهل التوحيد الكبرى ص 502) وأما من زعم أن الطريق بدأ إلى معرفة الحق الكتاب والسنة ويحرم ما سواهما ،
فالرد عليه أن حجيتهما لا تعرف إلا بالنظر العقلي ، وأيضاً فقد وقعت فيهما ظواهر من اعتقدها على ظاهرها كفر عند جماعة وابتدع ا.هـ
وقال أيضاً : أصول الكفر ستة!! .. – ثم عد خمسة وقال – سادساً : التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية ،
للجهل بأدلة العقول ، وعدم الارتباط بأساليب العرب .
والتمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير بصيرة في العقل هو أصل ضلالة الحشوية فقالوا بالتشبيه والتجسيم والجهة عملاً بظاهر قوله تعالى ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) ( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ونحوها ا.هـ
قال في متن الجوهرة :
وكل نص أوهم التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها
وقال الباجوري في شرحه للجوهرة ص 149: والمراد من التشبيه – في هذا الموطن – المشابهة للحوادث ، ومحل الشبهة أن ظاهر النصوص يوهم أن لله تعالى مكاناً أو جارحة ا.هـ
وقد مشى على هذا الأصل عملياً ابن فورك في كتابه مشكل الحديث فقال في عدة مواضع : ذكر خبر مما يقتضي التأويل ويوهم ظاهره التشبيه .
وهذا الأصل فاسد وقد رده أئمة الإسلام منهم الإمام ابن تيمية إذ قال في مجموع الفتاوى (3/43):
فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم فلا ريب أن هذا غير مراد ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ولا يرتضون أن يكون ظاهرالقرآن والحديث كفرا وباطلا والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من ان يكون كلامه الذى وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين:
تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ حتى يجعلوه محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر ولا يكون كذلك وتارة يردون المعنى الحق الذى هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل ا.هـ
وقال الأمين الشنقيطي في تفسيره الأضواء (2/285):
…
فظاهره المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث ، فبمجرد إضافة الصفة إليه جل وعلا يتبادر إلى الفهم أنه لا مناسبة بين تلك الصفة الموصوف بها الخالق وبين شيء من صفات المخلوقين وهل ينكر عاقل أن السابق إلى الفهم المتبادر لكل عاقل هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته وجميع صفاته لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر ا.هـ
وقد رد هذا الأصل البدعي ونقضه شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في كتابه القواعد المثلى ص40 من خمسة أوجه ضمنها تدليلات شرعية وعقلية ولوازم لا محيص ولا محيد عنها .
للامانة الموضوع منقول