الأمر الأول :وهو أساس تزكية النّفس و لا زكاء لنفسٍ إلّا إذا قامت عليه و تأسست عليه ألا وهو الإيمان بالله و توحيده سبحانه و تعالى و إخلاص الدِّين له ، ألّا و هو تحقيق شهادة أن لا إله إلّا الله ، بما تعنيه هذه الكلمة من توحيد و إخلاص و إفراد لله سبحانه و تعالى بالذّل و الخضوع و المحبة و الإمتثال و جميع أنواع العبادة ، و هذا أساس تزكية النفس .
و النفس بأعمالها الصالحة و طاعاتها الزَاكية مَثلها مَثل شجرة مُباركة ، و من المعلوم أنَّ الأشجار لا قيام لها إلّا على أصُولها ، و قد قال الله تعالى في سورة ابراهيم : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ) ، و بهذا يُعلم أنَّ تزكية النّفس له أساس لا تقوم التزكية إلا عليه و هو توحيد الله و إخلاصُ الدّين له جل و علا .
قال الله تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )و قال الله تعالى : ( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاة ) قال بن عباس: لا يشهدون أنَّ لا إله إلا الله ، و قال مجاهد: لا يزكون أعمالهم أي : ليست زاكية ، و قيل: لا يُطهرونها بلإخلاص كأنّه أراد و الله أعلم أهل الرِّياء فإنَّه شِرك .
و قال الله سبحانه و تعالى في قصة موسى مع فرعون : ( فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ) أي بلإخلاص و التوحيد لله جل و علا .
فالتّزكية شجرة مباركة ، عظيمة الثَمر ، كبيرة الأثر ، لها أصل لا قيام لها إلّا عليه ألا و هو توحيد الله عز وجل و إخلاص الدين له سبحانه و تعالى .
و كُـلما كان هذا التوحيد و الإخلاص و الإيمان بالله مُتمكنا من القلب ، كان هذا أبلغ في نَماء هذه الشّجرة و كونها مُثمرة أطايب الثَمر و لذيذه و حسنه و نافعه .
الأمر الثاني :من جوانب تزكية النّفس ، تزكيتها بفرائض الإسلام ، وواجبات الدّين ، وحُسن التّـقرب إلى الله سبحانه و تعالى ، بفعل ما أمر و ترك مانهى عنه تبارك و تعالى و زجـر .
و لهذا ينبغي أنْ يُعلم أنّ التزكية لها جانبان لا تكون إلّا بهما ، يدُل عليهما أصل هذه الكلمة اللّغوي ، و أيضا دلالة هذه الكلمة في نصوص الشرع .
و إذا نظرنا في كتب اللّغة في معنى التّزكية و مدلولها نجِد أنَّ لها جانبان كلاهما من معاني التزكية و هما :الطهارة والنّماء.
فالتزكية طهارة و نماء ، و لهذا يُقال : زكى الزّرع إذا طاب و زالت عنه المُؤذيات التي تُضعف نماءَه .
و تُسمى الصدقة المفروضة زكاة لأّنها تُطهر المال (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) و لأنَّها أيضا في الوقت نفسه سبب لنماء المال .
فالتزكية طهارة و في الوقت نفسه نماء ، طهارة بالبعد عن الأعمال المحرمة و المعاصي و الآثام ، ونماء بفعل الطاعات و العبادات المقربة إلى الله سبحانه وتعالى .
و عليه أيّها الإخوة فإنّ التّـزكية لابد فيها من فعل الأوامر التي فرضها الله سبحانه و تعالى على عباده و أوجبها عليهم و لا بد أيضا في الوقت نفسه من البُعد عن النّواهي و الآثام .
ففعل الأمر تزكية و ترك النَّهي أيضا تزكية ، فالتزكية تخلية و تحلية .
تخلية للنّفس بإبعادها عن الرذائل و الخسائس ، و تحلية لها بفعل الأوامر و الطاعات المقربة إلى الله سبحانه و تعالى .
فالصّلاة تزكية ، قد قال الله عز و جل : (إنَّ الصَلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) ، وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ النبي عليه الصلاة و السلام قال : (أرأيتم لو أنَّ نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات ، هل يبقى من درَنِه شيئ ؟ قالوا : لا ، لايبقى من درنه شيئ ، فقال عليه الصلاة و السلام فذلكَ مَثلُ الصَّلواتِ يمحُو الله بِهنَّ الخَطايا ) .
الزكاة تزكية ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا )
و الصيام تزكية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
الحج تزكية ، جميع الطاعات التي أمر الله عزّ وجل عباده بها كُـلها داخلة في هذا الباب باب تزكية النَّفس .
و لهذا قال الله تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)
الذّكــر تزكية للنَّفس ، بل هو أعظم باب تزكوا به النُّفوس و تتطهر به القلوب و تطمئنن ، وكم من الأذكار المشروعة من الآثار المباركة على أهلها في الدنيا و الآخرة من تطهير وتنقية للنّفس من أدرانها و تفريقها و تقشيرها ، و الحديث بهذا الجانب قد يطول ، لكـنني اكتفي بمَثلٍ واحد في هذا الباب من السنة و هو ما رواه الترمذي في جامعه( أنَّ النبي عليه الصلاة و السلام مرَّ و كان مع أصحابه بشجرة يابسة الورق و بيده عليه الصلاة و السلام عصا ، فضرب الشّجرة بالعصا التي بيده فأخذ الورق يتناثر و يتساقط من تلك الشجرة ، و قال عليه الصلاة و السلام للصحابة وهم ينظرون لهذا الورق يتساقط من هذه الشّجرة ، إنَّ سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر لتُساقط من ذنُوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة) ،فذكر الله عز وجل تزكية للنُّفوس و طهارة لها ، و عُـموم الطاعات و العبادات المقربة إلى الله جل و علا كلّها داخلة في هذا الباب باب تزكية النفس ، كذلك ترك النواهي و المحرمات و اجتبابُ الكبائر و الموبقات باب مهم للغاية في تزكية النّفس ، فإذا غـشى العبد في الحرام و ارتكب الآثام يكون بذلك ذنّب نفسه و دسّاها و حقّرها بحسب فعله لتلك المحرمات و ارتكابه لتلك الآثام ، و في هذا تأمل قوله سبحانه : ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).
فالبعد عن المحرمات ، اجتناب الكبائر و الآثام كل ذلكم أيّها الإخوة الكرام داخل في باب تزكية النّفس .
في هذا المعنى أيضا قول الله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ )
الأمر الثالث في باب تزكية النّفس :تزكيتها بفعل الرّغائب و المُستحبات ، و هذه المرحلة تأتي بعد المرحلة الفارطة ، و في الحديث القدسي يقول الله تعالى : ( ما تقرّب إلي عبدي بشئ أحب إلي ممّا افترضتُه عليه و لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنّوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به و يده التي يبطِش بها و رجله التي يمشي عليها ، و لئن سألني لأُعطينه و لئن استعاذ بي لأُعيذنه ).
فهذه مجالات التزكية و جوانبها و هي ثلاثة ، تتلخص في أمور ثلاثة :
الأول الأصل و هو توحيد الله و الإيمان به وبكل ما أمر سبحانه و تعالى عباده بلإيمان به . و الثاني تزكيتها بفعل الفرائض و الواجبات وترك الكبائر و المحرمات . و الثالثتزكيتُها بفعل الرّغائب و النّوافل و المستحبات .