الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله وبعد
أقف هنا أيُّها الإخوة لأعرض لكم مثلين عظيمين ضربهما عالمان جليلان لهما عناية دقيقة في هذا الباب باب تزكية النّفس :
المثل الأول :للإمام الآجريرحمه الله تعالى ذكره في كتابه – أدب النُّفوس –وكتابه أدب النُّفوس و إنّ كان صغير الحجم إلّا أنّه كبير الفائدة ، عظيم النفع .
و المثل الثاني :ضربه العلامة ابن القيمرحمه الله تعالى في كتابه _ مدارج السالكين _
نقف أولاً مع المثل الذي ضَربه الإمام الآجري رحمه الله و أُؤكد أيّها الإخوة على التأمُلِ في المثل و في مضامينه و دلالاته و أبعاده ، لأن الأمثال مِن شأنِها تقريب المعاني ، و جعلها بمثابة الإشياء الملموسة المحسوسة ، فيتضح الأمر تماماً .
يقول الآجري رحمه الله و أنا أُمثل لك مثالا لا يخفى عليك أمرها إن شاء الله ، يعـني إذا تأملت المثل ، قال :( اعلم أنّ النّفس مثلها كمثل المُهرِ الحسن من الخَيل إذا نظر إليه النّاظر أعجبهُ حسنه وبهاؤُه ، فيقول أهل البصيرة به( يقولون لصاحب هذا المُهر ) : لا يُنتفع بهذا حتى يُراض رياضة حسنةً ، ويؤدب أدباً حسناً ، فحينئذ يُنتفع به ، فيصلح للطلَب والهرب ، و يَحمَد راكبه عواقبَ تأديبه و رياضته ، فإن لم يُؤدب لم ينتفع بحسنه ولا ببهائه ، ولا يَحمَد راكبه عواقبَه عند الحاجة . فإن قبِل صاحب هذا المُهر قول أهل النصيحة والبصيرة به ،علم أنّ هذا قول صحيح فدفعه إلى رائضٍ فراضه . ثم لا يصلح أنْ يكون الرائض إلا عالما بالرياضة ، معه صبر على ما معه من علم الرياضة ، فإنْ كان معه علم بالرياضة ، ونصيحه انتفع به صاحبه ، فإن كان الرائض لا معرفة معه بالرياضة ، ولا علم بأدب الخيل ، أفسد هذا المُهر وأتعب نفسه ، ولم يَحمَد راكبه عواقبه ، وإنْ كان الرائض معه معرفة بالرياضة والأدب بالخيل إلّا أنّه مع معرفته لم يصبر على مشقة الرياضة ، وأحبَّ الترفيه لنفسه ، وتوانى عما وجب عليه من النّصيحة في الرياضة ، أفسد هذا المُهر ، وأساء إليه ، ولم يصلح للطلب ، ولا للهرب ، وكان له منْظر بلا مَخْبَر ، فإن كان مالكه هو الرائض له ، ندم على توانيه يوم لا ينفع الندم ، وحين نظر إلى غيره في وقت الطلب ، قد طلب فأدرك ، وفي وقت الهرب قد هرب فسَلِم ، وطلب هو فلم يدرك ، وهرب فلم يسلم ، كل ذلك بتَوانيه ، وقلة صبره بعد معرفته منه ، ثم أقبل على نفسه يلُومها ويُبخها ، فيقول : لمَ فرطتِ ؟ لمَ قصرتِ ؟ ، لقد عاد علي من قلة صبرى كل ما أكره . والله المستعان ) اعقلوا رحمكم الله هذا المثل و تفقهوا به تُفلحوا و تنجحوا .
ثم نقل رحمه الله عن وهب بن منبه و هو من علماء التابعين قال :( النّفس كنفوس الدّواب ، والإيمان قائد ، والعمل سائق ، والنّفس حَـرون ، فإن فتر قائدُها حرنَت على سائقها ، وإن فتر سائقها ضلت على الطريق ).
هذا المثل الأول و هو للإمام الآجري رحمه الله تعالى و يوضح أنّ النّفس البشرية تحتاج من صاحبها إلى رياضة و صبر عليها ، و أنْ يكون على علم بالأمور التي تُصلح النّفس و تزكِّيها في ضوء دلائل كتاب الله عـز و جل و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم و أنّ الإنسان إنْ فرّط في هذا الجانب سيندم في نهايه المطاف غاية الندم .
و المثل الثاني للإم ابن القيم رحمه الله تعالى أورده في كتابه– مدارج السالكين –فقال رحمه الله :( النّفس جبلٌ عظيم شاق في طريق السّير إلى الله تعالى وكل سائر لا طريق له إلاّ على ذلك الجبل فلا بُد أن ينتهى إليه ولكن منهم( أي من النّاس )من هو شاق عليه ومنهم من هو سهل عليه وإنَّه ليسير على من يسره الله عليه قال : و في ذلك الجبل أودية و شُعوب و عَقبات ووهُـود وشوك وعوسَج وعُـلَّيْـق وشِبرق ولصوص يقطعون الطريق على السائرين ، ولا سيما أهل الّليل المُدلجين ، فإذا لم يكن معهم عُـدَدُ الإيمان ومصابيح اليقين تَتَّـقِد بزيت الإخبات ، وإلا تعلقت بهم تلك الموانع وتشبثت بهم تلك القواطع وحالت بينهم وبين السّير فإنَّ أكثر السّائرين فيه رجعوا على أعقابهم لمّا عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته ، والشّيطان على قُـلَّـة ذلك الجبل( أي على أعلاه )يُحذرُ النّاس من صعوده و ارتفاعه و يُخوفهم منه ، فيتـفِق مشقة الصعود و قُعود ذلك المُخوف على قُـلّـتِه ، وضَعف عزيمة السّائر ونيته ، فيتولد من ذلك الانقطاع والرّجوع ، والمعصوم من عصمَه الله ، وكلما رقَى السّائر في ذلك الجبل اشتد به صياح القاطع وتحذيره وتخويفه فإذا قطعه وبلغ قُـلَّـته انقلبت تلك المخاوف كلهنَّ أمنًا وحينئذ يسهل السّير وتزول عنه عوارض الطريق ومشقتة ومشقة عقباتها ويَرى طريقا واسعا آمنا يُفضي به إلى المنازل والمناهِل و عليه الأعلام وفيه الإقاماتُ قد أُعدت لركب الرحمن ، فبين العبد و بين السّعادة و الفلاح قوة عزيمةٍ وصبر ساعةٍ وشجاعة نفسٍ و ثبات قلب و الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم ) .
هذا أيُّها الإخوة المثل و كذلك المثل الذي قبله يُبين لنا حال النّفس ، و أن النّفس البشرية تحتاج من صاحبها إلى تعاهد و الى مُتابعة و الى مُعالجة و الى مُداومة و الى رعاية ، فإنْ لم يتابعها ، إنْ لم يُراقبها ، إنْ لم يجاهدها تنفلت مَنه و تضيع ، و مِن الخير للإنسان أن يُحاسب نفسه ما دام في دار المُهلة و دار العمل ، قبل أنْ يُحاسبه ربّ العالمين في دار الجزاء يوم القيامة .
و لهذا جاء عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال : ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، و زنُوها قبل أن توزنُوا ، فإنّه أهْون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينُـوا للعرض الأكبر، يومئذ تُعرضون لا تخفى منكم خافية ) .
نعم أيّها الإخوة الكرام ، إنَّ من الخير للعبد أنْ يحاسب نفسه الآن في هذه الحياة الدنيا قبل أنْ يَمكن بالحساب يوم القيامة ، فمُحاسبة الإنسان لنفسه ووزنُه لها في هذه الحياة خير له ، لأنَّ المحاسبة تورد العمل و الصلاح و الإستقامة .
و هذه المحاسبة للنّفس هي التي تورث بإذن الله تبارك و تعالى صلاحًا و فلاحًا ، و لقد كثرت النُّـقول عن السلف رحمهم الله تعالى في الحث على مُحاسبة النّفس و معاتبتها و مداواتها .
يقول الحسن البصري رحمه الله : ( إنّ العـبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته )، و قال ميمون بن مهران: ( لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشدَّ المحاسبة من الشريك لشريكه ) ، و لهذا قيل : النّفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهب بمالك .و قال الحسن رحمه الله :( المؤمن قوَّام على نفسه يحاسب نفسه ، و إنَّما خص الحسابُ يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، و إنّما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير مُحاسبة ، إنَّ المؤمن يفاجئُه الشيء ويعجبه فيقول : والله إنِّي لأشتهيك، وإنّـك لمن حاجتي ، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حِيل بيني وبينك ، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردتِ إلى هذا ؟ مالي ولهذا ؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً ، إنَّ المؤمنين قوم أوقفهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم ، إنَّ المؤمن أسيٌر في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله ، يعلم أنَّه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره ، وفي لسانه وفي جوارحه ، مأخوذ عليه فيذلك كله ) .
و الآثار عن السّلف رحمهم الله تعالى في هذا المعـنى كثيرة .
و يَتأكد في هذا المقام مقام تزكية النّـفس في مثل الأزمة التي تكثر فيها الفتن و الصّوارف التي تصرف الإنسان عن الخير و تشغله بما يسخط الله تبارك و تعالى و يُغضبه .
و إذا كان عبد الله ابن المبارك و هو من علماء التابعين يقول رحمه الله تعالى في زمانه : ( إنَّ الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تؤاتيهم على الخير عفواً، وإنَّ أنفسنا لا تكاد تؤاتينا إلّا على كرهٍ ، فينبغي لنا أنْ نُكرِهها ) إذا كان ذلك يقوله رحمه الله تعالى في ذلك الزمان ، فكيف إذا بلأزمنة المُتأخرة مع كثرة الفتن و كثرة الصّوارف و كثرة الشّواغل التي تُلهي الإنسان و تصرفه عن الخير و تصرفه عن ما يُقرب الى الله تبارك تعالى و يُدني منه سبحانه .
جزاك الله خيرا اخي ابو جمانة وبارك الله فيك