فاستحضر بعض العقوبات التي رتبها الله سبحانه وتعالى على الذنوب, وجوز وصول بعضها إليك, واجعل ذلك داعيا للنفس إلى هجرانها, وأنا أسوق لك منها طرفا يكفي العاقل مع التصديق ببعضه.
– فمنها: الختم على القلوب والأسماع, والغشاوة على الأبصار, والإقفال على القلوب, وجعل الأكنة عليها والرين عليها والطبع, وتقليب الأفئدة والإبصار, والحيلولة بين المرأء وقلبه وإغفال القلب عن ذكر الرب, وإنساء الإنسان نفسه وترك إرادة الله تطهير القلب, وجعل الصدر ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء, وصرف القلوب عن الحق, وزيادتها مرضا على مرضها, وإركاسها وإنكاسها, بحيث تبقى منكوسة كما ذكر الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال:"القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر, فذلك قلب المؤمن, وقلب أغلف, فذلك قلب الكافر, وقلب منكوس, فذلك قلب المنافق, وقلب تمده مادتان: مادة إيمان, ومادة نفاق, وهو لما غلب عليه منهما".
(قال الشيخ سعيد رسلان في شرحه: هذا الأثر الذي أخرجه الإمام أحمدرحمه الله ، ضعيف، و قد خرجه الإمام أحمد عن أبي سعيد مرفوعا و فيه الليث بن أبي سليم، فال الحافظ في التقريب: صدوق اخلط أخيرا و لم يتميز قبل الإختلاط و بعده فترك).
– ومنها التثبط عن الطاعة, والإقعاد عنها.
– ومنها: جعل القلب أصم لا يسمع الحق, أبكم لا ينطق به, أعمى لا يراه, فتصير النسبة بين القلب وبين الحق الذي لا ينفعه غيره, كالنسبة بين أذن الأصم والأصوات, وعين الأعمى والألوان, ولسان الأخرس والكلام, وبهذا يعلم أن العمى والصمم والبكم للقلب بالذات والحقيقة, وللجوارح بالعرض والتبعية {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. وليس المراد نفي العمى الحسي عن البصر, كيف وقد قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ}. وقال {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}. وإنما المراد أن العمى التام في الحقيقة عمى القلب, حتى أن عمي البصر بالنسبة إليه كالأعمى, حتى إنه يصح نفيه بالنسبة إلى كماله وقوته كما قال: النبي صلى الله عليه وسلم"ليس الشديد بالصرعة, ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب". وقوله صلى الله عليه وسلم"ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس, ولا يفطن له فيتصدق عليه"ونظائره كثيرة.
(قال الشيخ رسلان : و هذا الحديث متفق عليه، "ليس المسكين بالطواف" معناه المسكين الكامل المسكنة الذي هو أحق بالصدقة و أحوج إليها ليس هو هذا الطواف، بل هو الذي لا يجد غنى يغنيه و لا يفطن له و لا يسأل الناس، ليس معناه نفي المسكنة عن الطواف، فهو مسكين أيضا، و لكن هو نفي لكمال المسكنة).
والمقصود: أن من عقوبات المعاصي جعل القلب أعمى أصم أبكم.
– ومنها: الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه: فيخسف به إلى أسفل سافلين, وصاحبه لا يشعر, وعلامة الخسف به: أنه لا يزال جوالا حول السفليات والقاذورات والراذائل, كما أن القلب الذي رفعه الله وقربه إليه لا يزال جوالا حول العرش.
(قال الشيخ رسلان في قوله رحمه الله "أنه لا يزال جوالا حول السفليات والقاذورات والراذائل"، قال: فلا يخطر على باله بما يتعلق بتلك الأمور العلوية و الدقائق التى فيها الهيبات الربانية و فيها العطايا الإلاهية.)
– ومنها: يجعله بعيدا عن البر والخير ومعالي الأعمال والأقوال والأخلاق. قال بعض السلف: "إن هذه القلوب جوالة, فمنها ما يجول حول العرش, ومنها ما يجول حول الحش". (قال الشيخ رسلان: الحش ، الكنيف، جمع حشوش و حِشان و حُشان.).
– ومنها: مسخ القلب, فيمسخ كما تمسخ الصورة, فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته, فمن القلوب ما يمسخ على قلب خنزير لشدة شبه صاحبه به, ومنها ما يمسخ على خلق كلب أو حمار أو حية أو عقرب وغير ذلك, وهذا تأويل سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} قال: منهم من يكون على أخلاق السباع العادية, ومنهم من يكون على أخلاق الكلاب وأخلاق الخنازير وأخلاق الحمير, ومنهم من يتطوس في ثيابه كما يتطوس الطاوس, في ريشه ومنهم من يكون بليدا كالحمار, ومنهم من يؤثر على نفسه كالديك, ومنهم من يألف ويؤلف كالحمام, ومنهم الحقود كالجمل, ومنهم الذي هو خير كله كالغنم, ومنهم أشباه الذئاب ومنهم أشباه الثعالب التى تروغ كروغانها, وقد شبه الله تعالى أهل الجهل والغي بالحمر تارة, وبالكلب تارة, وبالأنعام تارة, وتقوى هذه المشبهة باطنا حتي تظهر في الصورة الظاهرة ظهورا خفيا, يراه المتفرسون, وتظهر في الأعمال ظهورا يراه كل أحد, ولا يزال يقوي حتي تستشنع الصورة, فنقلب له الصورة بإذن الله, وهو المسخ التام, فيقلب الله سبحانه وتعالى الصورة الظاهرة على صورة ذلك الحيوان, كما فعل باليهود وأشباههم ويفعل بقوم من هذه الأمة يمسخهم قردة وخنازير.
فسبحان الله! كم من قلب منكوس وصاحبه لا يشعر؟ وقلب ممسوخ, وقلب مخسوف به, وكم من مفتون بثناء الناس عليه؟ ومغرور بستر الله عليه ومستدرج بنعم الله عليه؟ وكل هذه عقوبات وإهانات, ويظن الجاهل أنها كرامة.
– ومنها: مكر الله بالماكر, ومخادعته للمخادع, واستهزاؤه بالمستهزىء, وإزاغته القلب الزائغ عن الحق.
– ومنها: نكس القلب حتى يرى الباطل حقا, والحق باطلا, والمعروف منكرا, والمنكر معروفا, ويفسد ويرى أنه يصلح, ويصد عن سبيل الله وهو يرى أنه يدعى إليها, ويشتري الضلالة بالهدى, وهو يرى أنه على الهدى, ويتبع هواهوهو يزعم أنه مطيع لمولاه, وكل هذا من عقوبات الذنوب الجارية على القلب.
– ومنها: حجاب القلب عن الرب في الدنيا, والحجاب الأكبر يوم القيامة. كما قال تعالى:{كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فمنعتهم الذنوب أن يقطعوا المسافة بينهم وبين قلوبهم فيصلوا إليها فيروا ما يصلحها ويزكيها, وما يفسدها ويشقيها وأن يقطعوا المسافة بين قلوبهم وبين ربهم, فتصل القلوب إليه, فتفوز بقربه وكرامته, وتقربه عينا وتطيب به نفسا, بل كانت الذنوب حجابا بينهم وبين قلوبهم, وحجابا بينهم وبين ربهم وخالقهم.
– ومنها: المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة, قال: تعالي {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}. وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر, ولا ريب أنه من المعيشة الضنك, والآية تتناول ما هو أعم منه وإن كانت نكرة في سياق الإثبات فإن عمومها من حيث المعنى, فإنه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره, فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه, وإن تنعم في الدنيا بأصناف النعم, ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه, وإنما يواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة, وإن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر, فسكرها هذه الأمور أعظم من سكر الخمر, فإنه يفيق صاحبه ويصحوا, وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحوا صاحبه إلاّ إذا سكر في عسكر الأموات, فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في دنياه وفي البرزخ ويوم معاده, ولا تقر العين, ولا يهدأ القلب, ولا تطمئن النفس إلاّ بإلهها ومعبودها الذي هو حق, وكل معبود سواه باطل, فمن قرت عينه بالله.قرت به كل عين, ومن لم تقر عينه بالله تقطعت الدنيا حسرات, والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحا كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة والحسني يوم القيامة فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين.
ونظير هذا قوله تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} ونظيرها قوله تعالى{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة, حصلوا على الحياة الطيبة في الدارين, فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة, وهو النعيم على الحقيقة, ولا نسبة لنعيم البدن إليه.
فقد كان يقول بعض من ذاق هذه اللذة: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال آخر: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفى عيش طيب.
قال الآخر: إن في الدنيا جنة هي في الدنيا كالجنة في الآخرة, فمن دخلها دخل تلك الجنة الآخرة, ومن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة, وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله"إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا, قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حِلق الذكر"وقال"ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".
ولا تظن أن قوله تعالى {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} يختص بيوم المعاد فقط, بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة, وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة, وأيّ لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب, وسلامة الصدر, ومعرفة الرب تعالى, ومحبته والعمل على موافقته؟ وهل عيش في الحقيقة إلاّ عيش القلب السليم؟ وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على خليله عليه السلام بسلامة قلبه فقال {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإَِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وقال حاكيا عنه أنه قال: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر, وحب الدنيا والرياسة, فسلم من كل آفة تبعده من الله, وسلم من كل شبهة تعارض خبره, ومن كل شهوة تعارض أمره, وسلم من كل إرادة تزاحم مراده, وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله, فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا, وفي جنة في البرزخ, وفي جنة يوم المعاد.
ولا تتم له سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء:
وهذه الخمسة حجب عن الله, وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة تتضمن أفراداً لا تنحصر, ولذلك اشتدت حاجة العبد, بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم, فليس العبد أحوج إلى شيء منه إلى هذه الدعوة, وليس شيء أنفع له منها…
مشكوووووور والله يعطيك الف عافيه
بارك الله فيك وجعله في ميزان حسناتك
مشكوووووور والله يعطيك الف عافيه
و فيك بارك الرحمن
و جزاكم الله خيرا
جعله الله في ميزان حسناتكِ و نفع به