– كيف يمكن للعادة بكل ما تسببه من رتابة وآلية أن تكون وسيلة للتكيف؟
أولا: تعريف العادة والفرق بينها وبين الغريزة:
التشابه بين العادة والغريزة: يتشابهان في صفتان أساسيتين هما:
الثبات: الغريزة ثابتة عند جميع أفراد النوع فلا تتغير عبر الأزمنة بل هي نمطية.
الآلية: يقوم الرد بهما بشكل عفوي وتناقص في الوعي.
الاختلاف بينهما: العادة مكتسبة يمكن أن نفقدها، أما الغريزة فمرتبطة بيولوجيا بنا.
أ-مفهوم العادة: يعرفها إبراهيم مدكور في "المعجم الفلسفي" بما يلي: «..إنها قدرة مكتسبة على أداء عمل بطريقة آلية مع السرعة والدقة والاقتصادي الجهد، فتقلل العادة من الجهد النفسي والعمل الذهني، وتخالف الغريزة في أنها مكتسبة في حين أن الغريزة وراثية».
ب- مميزات العادة:
السرعة والدقة: يحصل اكتساب العادة بالقابلية للتعلم، لهدف سرعة انجاز الأعمال وفي نفس الوقت اتقانها.
الاقتصاد في الجهد: نتعلم العادة بشكل واعي وشعوري لهدف التقليل من الطاقة التي نصرفها لانجاز فعل ما.
ثانيا: كيف نكتسب العادة؟.
أ- عوامل تعلم العادة:
العادة سلوك مكتسب يلعب التعلم فيه الدور الأساسي، ورغم اختلاف النظريات حول عوامل تعلمها إلا أننا نستطيع إجمالها في هذه النقاط الأربعة:
01- التكرار: يعتبر أرسطو "العادة بنت التكرار"، فالتكرار يقوي السلوك التعودي ويسقط منه الافعال الزائدة أين نقوم بتقسيم العملية إلى أجزاء ثم نركب بينها، مع الانتقال من السهل إلى الصعب فلاعب الجمباز يتمرن على الحركات البسيطة أولا .
02- العامل العقلي: حضور العقل واستعمال الوظائف العليا للعقل(كالإدراك والتخيل والذكاء) خاصة عند اكتساب عادات فكرية كالتعود على حل تمرين رياضي أو كتابة مقال فلسفي.
03- العامل النفسي: الرغبة الانتباه الاهتمام (الحافز النفسي من أهم عوامل تعلم العادة).
04- العامل الاجتماعي : إن الكثير من عاداتنا نكتسبها من المجتمع، كالتقاليد والقيم.
ب- أنواع العادات :
حركية: مثل قيادة السيارة أو الدراجة، الكتابة على الالة الراقنة والكومبيوتر،التعود على استعمال آلات موسيقية وكلها تتفاوت في التركيز والانتباه.
نفسية: كعادة الصبر والشجاعة كظم الغيظ.
اجتماعية: كالقيم وكثير من الفضائل أو الرذائل ما هي إلا عادات إجتماعية، وغالبا ما تكون إلزامية وقهرية كقوله تعالى: ﴿وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.﴾(سورة الزخرف الآية: 23) .
3. هل العادة معيقة للتكيف أم خادمة له ؟
العلاقة بين العادة ، والتكيف مع العالم الخارجي ، كانت في حقيقة أمرها محل جدل بين المفكرين ، إذ يعتقد بعضهم أنها تعيق التكيف ، في الوقت الذي يعتقد بعض الآخر أنها خادمة له ، وهنا نتساءل كيف يمكن للعادة أن تخدم أو تعيق التكيف ؟
أ. العادة تعيق التكيف :
يرى بعض المفكرين أن العادة تعيق الإنسان من أجل التكيف مع العالم الخارجي ، ومن بينهم الفيلسوف الفرنسي (جون جاك روسو)* ، الذي يقول :" خير عادة للإنسان ألا يعتاد شيئا " .
فهو يعتقد ان للعادة سلبيات تؤثر على السلوك، مما يجعل عملية التكيف مع العالم الخارجي صعبة ، إن لم نقل مستحيلة فـ :
العادة تولد في الإنسان الركود والجمود نظرا للروتين الذي يحكم عمل العادة ، وهو ما يجعل الإنسان يصاب بالملل ، ومتى أصيب الإنسان بالملل فإنه يتوقف عن الإنتاج يقول بول غيوم : " إذا كنا نكرر نفس الفعل دوما ، فلن نتعلم شيئا جديدا ". يقول كانط " كلما ازدادت العادات لدى الإنسان كلما أصبح أقل حرية واستقلالية " يقول ليبنز " نحن أوتوماتيكيون في ثلاثة أرباع أفعالنا "
تتصلب العادة في الإنسان وتثبت إلى درجة صعوبة التخلي عنها، يقول مارك توين : " لا نتخلص من برميها من النافذة ، بل ينبغي جعلها تنزل السلم درجة درجة " ومن ذلك فإنها تستبد بالإرادة ، وتقضي على المبادرة الفردية ، فيصبح الفرد عبدا لها ، يقول الشاعر الفرنسي (سولي برودوم ) : " جميع الذين تستولي عليهم قوة العادة ، يصبحون بوجوههم بشرا ، وبأجسامهم آلات "
تأثير العادة على السلوك ، يمتد إلى الفكر فهي الأخرى تصيب الإنسان بالجمود الفكري ، ومنه التخلف ، وعدم القدرة على مسايرة الحاضر ، الشخص الذي اعتاد قناعات فكرية معينة لا يمكنه تغيرها ، ومن ثم الأخذ بقناعات جديدة ، فلقد اعتاد الإنسان الذي عاش زمن العالم (كوبرنيك) على أن الأرض هي مركز الكون ومن ثم لم يقبل بما جاء به (كوبرنيك) وهي أن الشمس مركز الكون. يقول آلان : " فكرة خاطئة خير من عادة صحيحة "
تضعف الشعور وتقوي العفوية على حساب فاعلية الفكر فالجلاد الذي يتعود الجلد لا يأبه لتأوهات المجلود و الطبيب الجراح لا يثيره منظر الدماء لقد قال (روسو) في ذلك: "إن المعاينة المستدعية لمشهد البؤس تقسي القلوب".(1)
العادة خطر في المجال الاجتماعي: ذلك أنها تمنع كل تحرر من الأفكار و العادات البالية إنها تقف ضد كل تقدم اجتماعي و ما صراع الأجيال سوى مظهر لتأثير العادة في النفوس و العقول.
مناقشة:
هذه السلبيات لا تعني إبطال العادة أو القضاء على قيمتها فالعادة التي وصفت بهذه السلبية هي العادات التي لا تقع تحت طائلة العقل و الفكر والإرادة لأن هنالك عادات أثرها محمود في السلوك.
ب. العادة في خدمة التكيف :
رغم هذه السلبيات المنسوبة إلى العادة ،فإنها لا تؤثر على دورها الإيجابي ، وذلك ما أكده جملة من المفكرين وعلى رأسهم الفيلسوف البراغماتي (جون ديوي) *الذي يقول : " كل العادات تدفع إلى القيام بأنواع معينة من النشاط وهي تكون النفس وتحكم قيادة أفكارنا ، وتحدد منها ما يظهر ، وما يقوى ، وما ينبغي له أن يذهب من النور إلى الظلام "
وتبعا لذلك فـ:
العادة توفر الوقت و الجهد فلولا العادة لكنا نبذل جهودا مضنية في اكتساب بعض السلوكات و تبقى تلك الجهود مستمرة كلما قمنا بنفس السلوك إن العامل في مصنعه و الحرفي في مهنته ينجز أعماله في أقل وقت ممكن و بأدنى جهد.
تكسب الإنسان الثقة في النفس وعدم التردد ، يقول ايدموند بيرك " العادة تصلح بيننا وبين كل شيء"
إتقان العمل ، فمن الطبيعي أن هضم الأفكار ، ومرونة الأعصاب تكون سببا قويا لجعل العمل سهلا، وتكسب الشخص المهرة والدقة والخبرة
العادة ليست مجرد سلوك تقتصر على تكرار حركات روتينية رتيبة د،إن تقدم لنا ما لم تقدمه الإرادة فهي تنوب مناب السلوك الغريزي و تجعل المرء أكثر استعدادا لمواجهة المواقف الجديدة و لذا قيل : "لو لا العادة لكنا نقضي اليوم كاملا في القيام بأعمال تافهة".
التربية الحسنة للطفل عن طريق التدريب والتلقين و تعويد الطفل على سلوكات الحسنة ،
مناقشة :
لا يعني أن نجعل العادة غاية بل هي مجرد وسيلة إن لم نحسن استغلالها واستعمالها فإنها تجعلنا عبدا لها ، ومنه تعود بالسلب على سلوكنا .
استنتاج :
قال (شوفالييه): "إن العادة هي أداة الحياة أو الموت حسب استخدام الفكرلها".
إذ المسألة ليست مسألة عادة بقدر ما هي مسألة الشخص الذي يتبنى هذه العادة أو تلك.
Π – لماذا تعتبر الإرادة بكل ما تحتويه من أهواء وانفعالات لا تحقق التكيف مع الواقع إلا بشكل جزئي ؟
أولا: الإرادة ميزة إنسانية:
أ- مفهوم الإرادة: تعتبر الإرادة من العمليات النفسية – العقلية التي تحسم الصراع والتردد القائم بين مجموعتين من الميول"فهي إذن القصد إلى الفعل أو الترك مع وعي الأسباب الدافعة إليها"، فالفعل الإرادي ينطوي على أحكام تقريرية ومن هنا تفهم الإرادة بمعنيين:
المعنى العام:هي الاختيار النشيط النابع من ذواتنا الحرة في مواجهة الواقع والحياة.
المعنى الخاص: اتخاذ الإنسان لقرار على الإقدام لتنفيذ خيار واحد بين متعارضات.وغابا ما تكون الإرادة خروجا عن المألوف وعن الأنماط السلوكية الآلية التعودية مثل ما فعل الاسكندر.
ملاحظة: الإرادة خاصية إنسانية بامتياز يقدم كارل ماركس مثالا يقارن فيه بين أمهر النحل والمهندس فالأول عمل غريزي أما الإنسان فيحركه الفعل الإرادي الحر.
ب- شروط الإرادة:
– تصور الهدف: أن يتصور الغاية التي يريد تحقيقها أو المثال الأعلى الذي يريد الوصول إليه.
– الإيمان بالنفس: الحياة مبنية على الإيمان والثقة في النفس.
– التخطيط والأخذ بالأسباب: على الفرد أن لا يتوقف عند التمني، بل ينظم أفكاره وينفذ الفعل.
ثانيا: كيف تحقق الإرادة التكيف؟
قبل الحديث عن دور الإرادة في عملية التكيف مع المواقف الجديدة لا بد من توضيح النقاط التالية:
مما يتركب الفعل الإرادي؟، أو ما هي آلية عمل الإرادة؟ (ميكانيزماتها).
نية الفعل: هناك صراع داخلي ينتهي إلى حل اختياري.
إرادة الفعل: هو إنجاز الفعل في الواقع (تجسيد النية تحققها).
أ- صفات الفعل الإرادي:
– الفعل الإرادي فعل جديد يتصف بجدته عكس الغريزة والعادة.
– الفعل الإرادي يعتمد على التأمل الوعي وهو فعل قصدي، فالمريد يدرك تماما الغاية من فعله فهو يرى في أنه ممكن التحقيق ومعقول.
– الفعل الإرادي فعل ذات: يتبدل بتبدل الأفراد، وتتحمل كل ذات مسؤوليته.
ب- مراحل الفعل لإرادي: يقسم الفعل الإرادي إلى أربع مراحل:
تصور الهدف: مثلا يتصور القائد العسكري الانتصار والتلميذ النجاح.
المداولة(المناقشة): قبل الإقدام يقلب الأمر على مختلف جوانبه بالأخذ والرد.
القرار: هو البت النهائي باتخاذ موقف وقرار ينهي التردد.
التنفيذ: إنه التحقيق الفعلي للقرار.
تعقيب: ليس هذا الترتيب إلا تنظيم منطقي فلا يمكن تجزيء الفعل تماما.
ثالثا: الإرادة كانفعال يعيق التكيف:
إن الإرادة ظاهرة معقدة متشابكة غالبا ما تمتزج بالانفعال.وتختلط بمفهوم الرغبة والتمني ولا تختلف عنهما إلا في درجة الشدة ومنه نتساءل ما الفرق بين الإرادة والرغبة والتمني؟
01- التمني ليس من الإرادة: يتوقف التمني عند حدود المطلب النفسي، فلا يتبعه جهد ولا فعل، فليس للتمني حدود ولا قيود فبإمكان الشخص تمني أي شيء.
الرغبة قد تكون دافع أو مثبط للإرادة: الرغبة أشد من التمني ولكنها أقل من الإرادة والرغبة لا تتحقق إلا إذا تحولت إلى إرادة عمل، و قد تكون الرغبة دافع للإرادة.
كما قد تكون الرغبة مثبطة ومضادة للإرادة، كرغبة اللهو أمام إرادة الدراسة.
ومن ثمة فإن سيطرة الرغبات والأهواء والتمنيات قد تضعف المفعول الايجابي للإرادة.
ΠІ : إذا كانت الإرادة تختلف عن العادة، فهل هناك سبل للتقارب بينهما؟
أولا: الإرادة شرط لتكون العادة: إن الإرادة هي المنبع الأصيل لوجود الفعل الاعتيادي وبداية أي فعل اعتيادي، وعلى ذلك فإن طلب العلم (التعلم) إذا لم يكن من ورائه إرادة اختل وانهار، بل كل عمل بلا إرادة يفشل لا محالة.
ثانيا: العادة تدعم الإرادة وتساعد على الفعل الإرادي: فاعتياد الإقدام والكرم يقوي الإرادة الصلبة على القرار، والمحن تقوي إرادة الصمود، فالجيوش الإسلامية التي اعتادت شدة الصحراء قوة عزيمتها في الفتح الإسلامي. ويمكن هنا لمس خاصيتين سندين تقدمهما العادة للإرادة.
أ- الخبرة المكتسبة بالعادة تدعم الإرادة: التلميذ المتمرس على الدراسة والأسئلة الصعبة لن يجد صعوبة في الامتحانات على اختيار السؤال والإجابة.
ب- العادات الاجتماعية منهل للإرادة: اكتسب غاليليو عادات كثيرة كحب الاكتشاف المثابرة واعتاد على البحث المضني وقول الحقيقة، ولقد واجه بإرادة الصلبة خصومه من الكنسيين الرافضين لفكرة دوران الأرض.
ومنه نستخلص:الإرادة هي العامل المحفز لتعلم السلوكيات الاعتيادية كما أن الإرادة لا تنمو ولا تتطور إلا بالممارسة والتمرين. ومادام الإنسان لا يولد بإرادة قوية لزم التمرس والاعتياد عليها.
……………………. ……………………. ……………………. ……………
خاتمة حل المشكلة: تساعد العادة والإرادة الإنسان على التكيف مع العالم الخارجي، كما أن العادة متصلة بالإرادة والعكس صحيح، فبمعزل عن التعارض الظاهري بينهما ندرك أن هناك علاقة تكامل وتعاون لا تنفصم بين وظيفتهما (علاقة وظيفية بينهما).
مخرج للإشكالية الأولى برمتها: تبدأ الإحاطة بحقيقة العالم الخارجي أولا وأساسا من معرفة الذات لأحوالها ووظائفها، وقطب الوظائف النفسية هو الإدراك، باعتباره قناة الاتصال الرئيسية التي تربط الذات بالعالم الخارجي، وما الوظائف النفسية الأخرى سوى خادمة له.
هناك علاقة تفاعلية جدلية بين كل من الإحساس والإدراك، اللغة والفكر، الشعور واللاشعور، الذاكرة والتخيل والعادة والإرادة، و بين هذه الوظائف الذهنية العليا فيما بينها. إن الإنسان كائن حي في تفاعل نشيط بين وظائفه النفسية، ولا يتوقف عن التغير متكيفا مع العالم الخارجي.
.
مخطط عام يبرز العلاقة الجدلية
فيما بين كل النشاطات النفسية وبين الذات والعالم الخارجي.