فإن من الظواهر التي تفشت في الآونة الأخيرة في مجتمعنا ظاهرة الطلاق والتساهل فيه ، والمطلع على القضايا التي ترد الى المحاكم والإستفتاءات التي ترد الى مكاتب الطلاق ليعلم كم هو حجم هذه الظاهرة فقد ورد في إحصائية قريبة في هذه البلاد أن حالات الطلاق قد بلغت 25% من حالات الزواج وهذا يعني أن كل أربع حالات زواج تنتهي منها واحدة بالطلاق ولاشك أن هذه ظاهرة خطيرة إذا ما استمرت على هذا الطريق .
لقد أصبح الطلاق عند بعض الناس كاللبانة يلوكها بين أضراسه يلفظها متى شاء دون مبالاة ومراعاة ، فإن وجد السكر قليلا في الشاي … طلق .
وإن وجد الملح قليلا في الطعام … طلق .
بل إذا طرق الباب أحد خرج اليه وحلف عليه بالطلاق الا أن يدخل ، بل جعل بعضهم من الطلاق سلاحا يشهره في وجه المرأة لتفعل له مايشاء فيقول لها: إن فعلت كذا فأنت طالق ، وإن خرجت الى كذا وكذا فأنت طالق .
والأعجب من هذا أننا بدأنا نسمع أطفالا في التاسعة والعاشرة من أعمارهم بدأوا يطلقون ……… من ماذا ؟؟ لاأدري ،
وذلك ؛ لأنك تجد أحدهم يسمع أبا وعما وخالا وجدا ومجتمعا كلهم يطلقون ، فيقول : وأنا معهم أو يظن أن الطلاق من مفاهيم الرجولة .
لا.. والله بل إن الطلاق نعمة من نعم الله ومن محاسن هذا الدين العظيم إذا أحسن إستغلاله وذلك عندما تتعذر مسيرة عجلة الحياة الزوجية ويصعب معها الإستمرار والتواصل بين الزوجين ، ومن عرف أحكام الطلاق في الأديان الأخرى والتضييق فيها كاليهودية والنصرانية علم جمال هذا الدين وسماحة هذه الشريعة ولله الحمد .
ومن هنا يحسن بالمسلم أن يتعلم شيئا من أحكام الطلاق حتى لا يقع فيما وقع فيه غيره ، فإن الفقهاء رحمهم الله قد قسموا الطلاق الى نوعين : طلاق سني , وهو ماتوفرت فيه شروط الطلاق ، وطلاق بدعي وهو ما اختل فيه واحد من هذه الشروط .
ولذلك فإن محور الحديث عن الطلاق سيكون إجابة عن سؤالين وهما :
1ـ متى نطلق ؟ ، 2ـ وكيف نطلق ؟.
أما الجواب عن السؤال الأول :
فقد قال الله تعالى في سورة النساء : ( واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا ** وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما …) الآية .
وقال تعالى : ( وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ) .
فهذه المراتب الأربعة التي ينبغي للمسلم ألا يلجأ الى الطلاق إلا بعد إستنفاد هذه الحلول الأربعة فلربما وجد الحل في واحدة من هذه النقاط أو هذه المراحل فلا يحتاج عندها الى الطلاق ولعلنا نبدا بالحل الأول وهو :
الموعظـــة.لقوله تعالى ( فعظوهــن ) والموعظة تكون ببيان حكم الله في طاعة الزوج ومعصيته والترغيب في الطاعة والترهيب من المعصية .[ تفسير ابن سعدي 142 ] .
قد يقول قائل : أنا لاأعرف ول اأجيد أن أَعِظَ الزوجة ، فنقول أن هذا لايمنع أن تعطيها كتابا يبين ذلك أو شريطا يحصل به المقصود .
فإن لم يُجْد الوعظ فينتقل الى الحل الثاني :
وهو الهجر لقوله تعالى ( واهجروهن في المضاجع ) والهجر علاج لمثل هذه المشاكل ، ولكنه مقيد بأن يكون في المضجع وكما قال عليه الصلاة والسلام ( ولاتهجر إلا في البيت )
ولذلك يقول العلماء : إن هجر المرأة في البيت والمضجع أشد وقعا في قلبها وأعظم تأثيرا عليها وذلك أن بقاء الزوج معها مع هجره لها يجعلها تشعر بأن أنوثتها لم تؤثر في الزوج مع قربه منها ، وأيضا للهجر في المضجع فائدة أخرى وهي : أن امكانية إعادة المياه الى مجاريها أكبر مما لو هجر الزوج خارج البيت إذ أن من الممكن أن يفتتح الحوار بينهما عندما يطول السكوت ويبدأ النقاش فتوجد الحلول وربما بعض التنازلات وبهذا تصفوا النفوس وتنتهي المشاكل .
ثم بعد ذلك ننتقل الى الحل الثالث وهو :
الضرب إذا تعذر الإنتفاع بالهجرلقوله تعالى ( فاضربوهن ) ، لكن المصيبة أن بعض الأزواج لا يجيد إلا هذا الفن من العلاج ، فلا يلجأ لعلاج أي مشكلة إلا بهذه الطريقة ، وهذا جهل عظيم ، بل إن البعض لايستعرض عضلاته وقوته إلا على الزوجة :
أسد علي وفي الحروب نعامة…………… فتخاء تنفر من صفير الصافر.
بل أن البعض من الأزواج يستخدم في ذلك أدوات للتأديب فتاكة كالعقال والعجرة وماشابهها .
والذي ينبغي أن يعلم أن الضرب لم يجعل علاجا أوليا بل إنه يأتي في المرحلة الثالثة ، بل قال بعض أهل العلم : إذا إحتاج الزوج الى الضرب فليكن بالسواك؛لأن الغرض من التربية والتأديب لا الإنتقام والتشفي ، وهذا أمر يجهله كثير من الناس ، وقد قال عليه الصلاة والسلام ( لايجلد أحدكم إمرأته جلد العبد ثم لعله يضاجعها من آخر اليوم ) رواه البخاري ، فإن هذا فيه إزدواجية في الشخصية.
وقال عليه الصلاة والسلام : ( لايجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله )رواه البخاري. قال بعض أهل العلم : هذا في المعلم مع تلاميذه ، والأب مع أولاده ، والزوج مع زوجته .
فإذا لم تنفع هذه الحلول السابقة فينتقل الى الحل الرابع وهو :
التحكيم ، قال تعالى : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ) وهو أن يؤتى برجلين مكلفين عدلين عاقلين يعرفان مابينهما لمحاولة لم الشمل ، ورأب الصدع وإيجاد الحلول المناسبة .
فإن تعذر مع هذا كله إستمرار الحياة الزوجية إلا على وجه المعاداة والمقاطعة ومعصية الله وليس من التفريق بدٌ وأنه الأصلح لهما فُرق بينهما [ تفسير ابن سعدي 142بتصرف ] ولذلك يقول تعالى ( وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ) وهذا هو الحل الأخير مع تعذر سير عجلة الحياة الزوجية الذي طالما لجأ اليه كثير من الناس اليوم متجاهلين بذلك الحلول الأربعة والتي قفزوها الى هذا الأمر دون مراعاة لما يحصل من جراء هذا التصرف الذي قد يكون نتيجة لأمر أو سبب تافه فكم بسببه تفككت أسر وتقطعت رحم وضاع أولاد وبنات بين أب قد تزوج إمرأة أخرى لا ترحمهم وبين أم قد تزوجت من رجل يبغضهم فصارت حياتهم جحيما لايطاق وفاتورة باهظة دفع ثمنها أطفال أبرياء نتيجة تهور أب متسلط أو غضب زوج متعجل .
أما الجواب عن السؤال الثاني : وهو كيف نطلق ؟
فقد سبق أن قلنا إن الطلاق منه ماهو سني ومنه ماهو بدعي ، والسني هو الذي توفرت فيه الشروط الثلاثة :
1ـ أن يكون طلقة واحدة
2ـ في طهرٍ
3ـ لم يجامع فيه .
أما دليل الشرط الأول : فقد جاء عند النسائي من حديث محمود بن لبيد أن رجلا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن رجلا طلق إمرأته ثلاثا ،فقام الرسول عليه الصلاة والسلام مغضبا وقال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ، فقام رجل من الصحابة فقال : دعني أضرب عنقه يارسول الله .
فتأمل أخي كيف كان الطلاق بالثلاث له هذا الشأن مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقوم مغضبا بل إنه سماه لعبا بكتاب الله .
أما مانراه اليوم ونسمعه من بعض الأزواج فإنهم يطلقون بارقام فلكية وخرافية فيقول بعضهم لزوجته: طالق بعدد النجوم ، وآخر بعدد ذرات رمل الربع الخالي ، وهذا والعياذ بالله من شدة بغضه وحقده على زوجته .
قد يقول قائل : أنا لا أريدها أبدا ، نقول :طلق طلقة واحدة وعندما تنتهي عدتها فإنها تبين منك بينونة صغرى لا تحل لك بعدها إلا بعقد ومهر جديدين .
2ـ الشرط الثاني : ( في طهر ) أي ليست حائضا ، والدليل ما جاء في الصحيحين من حديث إبن عمر رضي الله عنهما عندما طلق إمرأته في حيض ، فاستفتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له : مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن شاء أمسك وإن شاء طلق فتلك عدتها .
وأما التعليل :
فإن المرأة تكون في وقت الحيض تعاني من الألآم في البطن والظهر وتوتر في الأعصاب وتقلب في المزاج فربما تلفظت على الزوج بالسب والشتم أو بما يكره ، فجاء تحريم الإسلام للطلاق في الحيض كأن فيه مراعاة لهذه الحالة التي تعيشها المرأة والتي قد يكثر فيها الشجار والخصام .
وتعليل آخر : فإن الزوج الذي يعلم إن الطلاق في حال الحيض محرم ولايجوز فإنه لابد أن يسأل الزوجة عما إذا كانت حائضا أم لا حتى يطلق أو لا يطلق ، ولنفرض أنها كانت حائضا فإن الزوج سينتظر خمسة أيام أو ستة حتى تطهر فربما لم يأت ذلك اليوم الخامس أو السادس إلا وقد ذهب مافي النفوس من الغضب والحقد والكراهية فإن مثل هذه الأيام كفيلة بأن تطهر وتزيل ماقد وقع في القلوب ، وبهذا ربما ألغى الزوج فكرة الطلاق وسلمت هذه الأسرة من الفرقة والشتات .
وتعليل ثالث : وهو أن مدة العدة ستطول وذلك لأن مدة العادة ( الحيض ) ستحسب معها .
الشرط الثالث : ( لم يجامع فيه ) .
أي أن الطهر الذي يكون فيه الطلاق لابد أن يكون طهراً لم يجامع فيه ،فإن كان قد جامع فيه فإنه يكون بذلك قد إختل شرط من هذه الشروط الثلاثة وذلك ؛ لأنها ربما قد تكون حملت من هذا الجماع فتصبح العدة طويلة وهي مدة الحمل ، وربما رزق منها مولودا فيندم الزوج بعده على ذلك الطلاق خاصة إذا كانت تلك هي الطلقة الأخيرة .
والدليل على هذا الشرط :
قوله تعالى ( ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم : أي طاهرات مستقبلات العدة من غير جماع .
بهذا نكون قد أجبنا بحمد الله عن السؤال الثاني .
ويحسن بنا الآن أن نتعرف على بعض الأخطاء التي تقع عند الطلاق :
منها : أن الغالب عند بعض الأزواج والمتعارف عليه عند أكثر القبائل والمجتمعات أنه إذا طلق الرجل إمرأته فإنه يذهب بها الى أهلها ، وهذا ليس بصواب بل هو عين الخطأ ، فإن الرجل إذا طلق إمرأته الطلقة الأولى أو الثانية فإنه لاينبغي له أن يخرجها من بيتها ولاتخرج هي لقوله تعالى : ( واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولايخرجن ) بل قال بعض أهل العلم : إنه يجب عليها أن تبقى وأن تتجمل وتتزين وتتشرف لزوجها لعله أن يغير رأيه فيراجع ولذلك قال تعالى ( لاتدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً ) .
أما ما يفعله بعضهم اليوم من الذهاب بالزوجة الى أهلها فهذا يوسع دائرة الخلاف فبدل أن تكون بين شخصين فإنها تصبح بين أسرتين ، ويتسع الخرق على الراقع ، وربما صعب علاجها إذا أصبحت الحال كهذه ، وربما إن حصل إصلاح وإرجاع للزوجة الى زوجها فربما كان ذلك بشروط تعجيزية كإهداء الذهب والأموال الى الزوجة من أجل الترضية أو إهداء المشالح الى أقاربها ، أضف الى ذلك إراقة ماء الوجه من أجل إعادة الحياة الزوجية الى ماكانت عليه ، بينما كان بإمكان الزوج أن يراجع زوجته بدون هذه الضريبة الباهظة وذلك بما أعطاه الله من حق في مراجعة الزوجة وذلك بأحد أمرين :
1ـ إما أن يجامع بنية الرجعة .
2ـ وإما أن يشهد شاهدين إستحباباً بأنه قد راجع زوجته فلانه .
ولايشترط في المراجعة إذن الزوجة ولا ولي أمرها ؛ وذلك لأن المرأة في أثناء العدة ـ إذا كانت الطلقة أولى أو ثانية ـ ماتزال زوجة لزوجها ولاتحتجب عنه كما تفعل بعض النساء عندما تسمع كلمة الطلاق ، فإن الله قد سمى الرجل بعد طلاقه لإمرأته بعلا حيث قال تعالى : ( وبعولتهن أحق بردهن ) ولذلك فإن المرأة ترث زوجها إن مات أثناء العدة وهو يرثها إن هي ماتت أثناء العدة ، ومما يدل على أن المرأة تعتبر زوجة أثناء العدة أنه لايجوز للزوج أن يتزوج أختها مادامت زوجته المطلقة في عدتها حتى تنتهي ؛لأن الجمع بين الأختين محرم بنص القران ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ماقد سلف ) إذ لو لم نعتبرها زوجة لأجزنا للزوج أن يتزوج أختها ، فدل عدم الجواز على أن المرأة أثناء العدة تعتبر زوجة .
وهكذا أيضا فإن الذي تحته أربع نسوة وطلق واحدة منهن ، فإنه لايجوز له أن يتزوج الخامسة حتى تنتهي عدة المطلقة وذلك لأن الشرع إعتبرها زوجة أثناء العدة .
ولذلك ربما استعجل بعض الجهال بعد أن يطلق إمرأة من نسائه الأربع الى الزواج من الخامسة ولم تنتهي عدة المطلقة وهذا أمر محرم ومنكر عظيم فإن نكاح الخامسة والحال هذه باطل ولايصح .
ومن الأخطاء : أن مما يزيد الأمر مرارة والطين بلةً أن بعض من يطلق لايكلف نفسه عناء السؤال خشية أن يفرق بينه وبين زوجته فيؤثر السكوت على هذا دون أن يستفتي في هذه القضية والتي يعني التساهل فيها أنه ربما بقي مع إمرأة لاتحل له سنين طويلة على هذا الحال والعياذ بالله .
وهذا وأمثاله ليسوا معذورين فإن الله تعالى يقول ( فإسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون ) ، والبعض منهم إن سأل فإنه يصوغ السؤال بالصيغة التي توهم المفتي ليفتي له بالفتوى التي هو يبحث عنها ، فإن المفتي يفتي على نحو ما يسمع من حال السائل وقد تكون الحقيقة بخلاف ذلك .
والبعض منهم يبحث عن العلماء والمشايخ والذين في الغالب يكون في فتاويهم نوع من الفسحة والتوسع التي يفرح بها هؤلاء ؛ لأنها وافقت هوى في قلوبهم ، بل إن وجد بعضهم شدة في الفتوى من الشيخ أو العالم فإنه مايزال به يستجدي عطفه وشفقته لعله أن يتراجع عن هذه الفتوى إلى ماهو أرفق بالمستفتي ، وربما تركه وذهب الى غيره حتى يجد الفتوى التي تلائمة وتوافق هواه وبغيته .
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يرزقنا الفقه في الدين والثبات عليه والعمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إنه ولي ذلك والقادر عليه .
الشيخ محمد بن أحمد الفيفي
نترقب المزيد
بالتوفيق