قال الإمام ابن القيّم الجوزيّة – رحمه الله تعالى – :
ذهب الرجال وحال دون مجالهم * زمر من الأوباش والأنذال
زعموا بأنهم على آثارهم * ساروا ولكن سيرة البطال
لبسوا الدلوق مرقعا وتقشفوا * كتقشف الأقطاب والأبدال
قطعوا طريق السالكين وغوروا * سبل الهدى بجهالة وضلال
عمروا ظواهرهم بأثواب التقى * وحشوا بواطنهم من الأدغال
إن قلت : قال الله قال رسوله * همزوك همز المنكر المتغالي
أو قلت : قد قال الصحابة والأولى * تبعوهم في القول والأعمال
أو قلت : قال الآل آل المصطفى * صلى عليه الله أفضل آل
أو قلت : قال الشافعي : وأحمد * وأبو حنيفة والإمام العالي
أو قلت : قال صحابهم من بعدهم * فالكل عندهم كشبه خيال
ويقول : قلبي قال لي عن سره * عن سرع سري عن صفا أحوالي
عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي * عن شاهدي عن واردي عن حالي
عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي * عن سر ذاتي عن صفات فعالي
دعوى إذا حققتها ألفيتها * ألقاب زور لفقت بمحال
تركوا الحقائق والشرائع واقتدوا * بظواهر الجهال والضلال
جعلوا المرا فتحا وألفاظ الخنا * شطحا وصالوا صولة الإدلال
نبذوا كتاب الله خلف ظهورهم * نبذ المسافر فضلة الأكال
جعلوا السماع مطية لهواهم * وغلوا فقالوا فيه كل محال
هو طاعة هو قربة هو سنة * صدقوا لذاك الشيخ ذي الإضلال
شيخ قديم صادهم بتحيل * حتى أجابوا دعوة المحتـــال
هجروا له القرآن والأخبار * والآثار إذ شهدت لهم بضلال
ورأوا سماع الشعر أنفع للفتى * من أوجه سبع لهم بتوال
تالله ما ظفر العدو بمثلها * من مثلهم واخيبة الآمــال
نصب الحبال لهم فلم يقعوا بها * فأتى بذا الشرك المحيط الغالي
فإذا بهم وسط العرين ممزقى * الأثواب والأديان والأحوال
لا يسمعون سوى الذي يهوونه * شغلا به عن سائر الأشغال
ودعوا إلى ذات اليمين فأعرضوا * عنها وسار القوم ذات شمال
خروا على القرآن عند سماعه * صما وعميانا ذوي إهمال
وإذا تلا القارى عليهم سورة * فأطالها عدوه في الأثقال
ويقول قائلهم : أطلت وليس ذا * عشر فخفف أنت ذو إملال
هذا وكم لغو وكم صخب وكم * ضحك بلا أدب ولا إجمال
حتى إذا قام السماع لديهم * خشعت له الأصوات بالإجلال
وامتدت الأعناق تسمع وحى * ذاك الشيخ من مترنم قوال
وتحركت تلك الرءوس وهزها * طرب وأشواق لنيل وصال
فهنا لك الأشواق والأشجان * والأحوال لا أهلا بذي الأحوال
تالله لو كانوا صحاة أبصروا * ماذا دهاهم من قبيح فعال
لكنما سكر السماع أشد * من سكر المدام وذا بلا إشكال
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة * نالت من الخسران كل منال
يا أمة لعبت بدين نبيها * كتلاعب الصبيان في الأوحال
أشمتمو أهل الكتاب بدينكم * والله لن يرضوا بذي الأفعال
كم ذا نعير منهم بفريقكم * سرا وجهرا عند كل جدال
قالوا لنا : دين عبادة أهله * هذا السماع فذاك دين محال
بل لا تجىء شريعة بجوازه * فسلوا الشرائع تكتفوا بسؤال
لو قلتمو فسق ومعصية وتزيين * من الشيطان للأنذال
ليصد عن وحى الإله ودينه * وينال فيه حيلة المحتال
كنا شهدنا أن ذا دين أتى * بالحق دين الرسل لا بضلال
والله منهم قد سمعنا ذا * إلى الآذان من أفواههم بمقال
وتمام ذاك القول بالحيل التي * فسخت عقود الدين فسخ فصال
جعلته كالثوب المهلهل نسجه * فيه تفصله من الأوصال
ما شئت من مكر ومن خدع * ومن حيل وتلبيس بلا إقلال
فاحتل على إسقاط كل فريضة * وعلى حرام الله بالإحلال
واحتل على المظلوم يقلب ظالما وعلى الظلوم بضد تلك الحال
واقلب وحول فالتحيل كله * في القلب والتحويل ذو إعمال
إن كنت تفهم ذا ظفرت بكل ما * تبغى من الأفعال والأقوال
واحتل على شرب المدام وسمها * غير اسمها واللفظ ذو إجمال
واحتل على أكل الربا واهجر شنا * عة لفظه واحتل على الابدال
واحتل على الوطء الحرام ولا تقل * هذا زنا وانكح رخى البال
واحتل على حل العقود وفسخها * بعد اللزوم وذاك ذو إشكال
إلا على المحتال فهو طبيبها * يا محنة الأديان بالمحتـــــال
واحتل على نقض الوقوف وعودها * طلقا ولا تستحي من إبطال
فكر وقدر ثم فصل بعد ذا * فإذا غلبت فلج في الإشكال
واحتل على الميراث فانزعه من * الوراث ثم ابلع جميع المال
قد أثبتوا نسبا وحصرا فيكم * حتى تحوز الإرث للأموال
واعمد إلى تلك الشهادة واجعل * الإبطال همك تحظ بالابطال
فالحصر إثبات ونفى غير * معلوم وهذا موضع الاشكال
واحتل على مال اليتيم فإنه * رزق هنى من ضعيف الحال
لا سوطه تخشى ولا من سيفه * والقول قولك في نفاذ المال
واحتل على أكل الوقوف فإنها * مثل السوائب ربة الإهمال
فأبو حنيفة عنده هي باطل * في الأصل لم تحتج إلى إبطال
فالمال مال ضائع أربابه * هلكوا فخذ منه بلا مكيــال
وإذا تصح بحكم قاض عادل * فشروطها صارت إلى اضمحلال
قد عطل الناس الشروط وأهملوا * مقصودها فالكل في إهمال
وتمام ذاك قضاتنا وشهودنا * فاسأل بهم ذا خبرة بالحال
أما الشهود فهم عدول عن طريق * العدل في الأقوال والأفعال
زورا وتنميقا وكتمانا * وتلبيسا وإسرافا بأخذ نوال
ينسى شهادته ويحلف إنه * ناس لها والقلب ذو إغفال
فإذا رأى المنقوش قال : ذكرتها * يا للمذكر جئت بالآمال
ويقول قائلهم : أخوض النار في * نزر يسير ذاك عين خبال
ثقل لى الميزان إني خائض * للمنكبين أجر بالأغــلال
أما القضاة فقد تواتر عنهم * ما قد سمعت فلا تفه بمقال
ماذا تقول لمن يقول : حكمت أنت * فاسق أو كافر في الحال
فإذا استغثت أغثت بالجلد الذي * قد طرقوه كمثل طرق نعال
فيقول طق فتقول : قط فتعارضا * ويكون قول الجلد ذا إعمال
فأجارك الرحمن من ضرب ومن * عرض ومن كذب وسوء مقال
هذا ونسبة ذاك أجمعه إلى * دين الرسول وذا من الأهوال
حاشا رسول الله يحكم بالهوى * والجهل تلك حكومة الضلال
والله لو عرضت عليه كلها * لاجتثها بالنقض والإبطال
إلا التي منها يوافق حكمه * فهو الذي يلقاه بالإقبال
أحكامه عدل وحق كلها * في رحمة ومصالح وحلال
شهدت عقول الخلق قاطبة بما * في حكمه من صحة وكمال
فإذا أتت أحكامه ألفيتها * وفق العقول تزيل كل عقال
حتى يقول السامعون لحكمه : * ما بعد هذا الحق غير ضلال
لله أحكام الرسول وعدلها * بين العباد ونورها المتلالى
كانت بها في الأرض أعظم رحمة * والناس في سعد وفي إقبال
أحكامهم تجرى على وجه السداد * وحالهم في ذاك أحسن حال
أمنا وعزا في هدى وتراحم * وتواصل ومحبة وجلال
فتغيرت أوضاعها حتى غدت * منكورة بتلوث الأعمال
فتغيرت أعمالهم وتبدلت * أحوالهم بالنقص بعد كمال
لو كان دين الله فيهم قائما * لرأيتهم في أحسن الأحوال
وإذا همو حكموا بحكم جائر * حكموا لمنكره بكل وبال
قالوا : أتنكر حكم شرع محمد * حاشا لذا الشرع الشريف العالي
عجت فروج الناس ثم حقوقهم * لله بالبكرات والآصال
كم تستحل بكل حكم باطل * لا يرتضيه ربنا المتعالي
والكل في قعر الجحيم سوى الذي * يقضى بدين الله لا لنوال
أو ما سمعت بأن ثلثيهم غدا * في النار في ذاك الزمان الخالي
وزماننا هذا فربك عالم * هل فيه ذاك الثلث أم هو خالي
يا باغى الإحسان يطلب ربه * ليفوز منه بغاية الآمال
انظر إلى هدة الصحابة والذي * كانوا عليه في الزمان الخالى
واسلك طريق القوم أين تيمموا * خذ يمنة ما الدرب ذات شمال
تالله ما اختاروا لأنفسهم سوى * سبل الهدى في القول والأفعال
درجوا على نهج الرسول وهديه * وبه اقتدوا في سائر الأحوال
نعم الرفيق لطالب يبغى الهدى * فمآله في الحشر خير مآل
القانتين المخبتين لربهم * الناطقين بأصدق الأقوال
التاركين لكل فعل سيء * والعاملين بأحسن الأعمال
أهواؤهم تبع لدين نبيهم * وسواهم بالضد في ذي الحال
ما شابهم في دينهم نفص * ولا في قولهم شطح الجهول الغالي
عملوا بما علموا ولم يتكلفوا * فلذاك ما شابوا الهدى بضلال
وسواهم بالضد في الأمرين قد * تركوا الهدى ودعوا إلى الإضلال
فهم الأدلة للحيارى من يسر * بهداهم لم يخش من إضلال
وهم النجوم هداية وإضاءة * وعلو منزلة وبعد منال
يمشون بين الناس هونا * نطقهم بالحق لا بجهالة الجهال
حلما وعلما مع تقى * وتواضع ونصيحة مع رتبة الإفضال
يحيون ليلهم بطاعة ربهم * بتلاوة وتضرع وسؤال
وعيونهم تجرى بفيض دموعهم * مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان وعند جهادهم * لعدوهم من أشجع الأبطال
وإذا بدا علم الرهان رأيتهم * يتسابقون بصالح الأعمال
بوجوههم أثر السجود لربهم * وبها أشعة نوره المتلالي
ولقد أبان لك الكتاب صفاتهم * في سورة الفتح المبين العالي
وبرابع السبع الطوال صفاتهم * قوم يحبهم ذوو إدلال
وبراءة والحشر فيها وصفهم * وبهل أتى وبسورة الأنفال