فالتربية الإسلامية تقوم على تحقيق التوازن بين الجانب الروحي والمادي، لكونها مبنية على الواقعين للإنسان، وتنظيم حياته على أساسهما، فليس الإنسان ماديا إلى درجة الخلود في الأرض، والانغماس في الحياة السافلة، والركون إلى الملذات، بل له عالمه الروحي الواسع المتعمق في كيانه، ومن هذا الجانب تميزت التربية الإسلامية عن النظم التربوية الأخرى في إعدادها للإنسان لا للحياة الدنيا فحسب بل للحياة الأبدية في الآخرة أيضا. الولد محور العملية التربوية
و لما كان الولد هو محور العملية التربوية كان لزاما أن تتشكل حياته وذهنه بالقالب الذي وضع له، وبمختلف المعارف والمفاهيم التي يلقن بها ويزوّد بحيث يسيطر على ذهنه وأفكاره فلا يجد في الحياة تصويرا نظريا غير التصوير الذي أريد له استعماله في ملاحظاته وتجاربه، بناء على ما يلقن به أو يمرّن عليه أو يلقى إليه.
ومعالم شخصية الولد تتكون أصولها وهو في دور الصغر، أي من بلوغه سن التمييز، لذلك كان واجب التربية تأهيله وتكييفه وإعداده لمواجهة الحياة، وتتم تنشئته ماديا بتغذيته ورعايته جسميا، وتنشئته روحيا بتزويده بما يزكي نفسه ويسمو بها، وتنشئته عقليا بتزويده بمختلف ضروب العلوم وأنواع المعارف، إذ لا يسلم العقل إلاّ بسلامة التنشئة، وتعويد الولد على الخير ونهيه عن الشر وفق منهج الله وتربيته، فاستقامة الولد مناطة بسلامة عقله، وانحرافه مناط بفساد عقله، وصحة العقل وفساده يرتبطان بصفة توجيهه، وخاصة في حال الصغر ومرحلة الإعداد.
ومن أسس تربية الولد وتأهيله: تعليمه ما في الحياة المعاشة من معاني الخير والشر، وما يلزمه من استعداد فيها بالعمل بما يسعد النفس، وترك ما تشقى به، وذلك بتوجيه استعداده الفطري بالالتجاء إلى الله، ومعرفته، والركون إليه، والاطمئنان عنده، فلا يذل إلاّ لله، ولا يخاف إلاّ منه، ولا يتعلق قلبه إلاّ به، فإنّ في ذلك شعورا بعزة المسلم، لأنّه موصول بالقوي العزيز، وتتميز شخصيته بهذه العزّة الدينية المطلوبة لقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون:8] وتتمرد عن أضدادها من ذل أو خنوع، أو خوف، أو تملق لأي مخلوق، ومن ثمّ وجب المحافظة على الفطرة السليمة التي عاهد الله تعالى عليها بني آدم فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وتكفل لهم بالأرزاق، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف: 172-173]، ويقول الله عزّ وجلّ في حديث قدسي: "إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا" (٢- أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (7386)، وأحمد (17947)، من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه)، كما ينبغي دفع الطاقات الطبيعية التي أودعها الله في الولد من غرائز وميول إلى الخير وإلى وجهتها التي خلقت من أجلها ليسمو بها ويعتز، ويتجنب بها من الخلود في الأرض، والركون إلى الشهوات، والاستجابة للشيطان، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً، بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ: فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ: فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [البقرة:268]" (٣- أخرجه الترمذي في تفسير القرآن (3256)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (2988)، وفي المشكاة: (74)/ التحقيق الثاني، وفي هداية الرواة: (70)، وفي صحيح الموارد (38)، وفي النصيحة (34)) والتربية وسيلة إرجاع المنحرف إلى فطرته السليمة وتوجيهه إليها، وعلى مهمة التربية والقيام بواجبها يترتب الجزاء الأخروي قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات:40-41].
من واجبات تأهيل الولد وأساليب تكوين شخصيته
ومن واجبات تأهيل الولد وأساليب تكوين شخصيته: القدوة الحسنة، والأسوة الصالحة، التي يقتدي بها في مراحله الأولى من نموه العقلي والنفسي والأخلاقي، حيث تصقل معارفه، ويتلقى علمه عن طريق التقليد والاتباع، ويأتي في الدرجة الأولى أقرب الناس إليه أبواه، فهما عنصرا قدوته ومُثُلِه، فللأبوين تأثير عظيم على ولدهما في أمور العقيدة والدين، حتى يصل تأثيرهما فيه إلى تحويله عن الفطرة التي خلقه الله عليها، وما يستلزمه من معرفة الإسلام ومحبته، فهما سبب صلاحه أو فساده، واستقامته أو اعوجاجه، لأنّ الولد يعتقد عادة بوالديه في سلوكه وتصرفاته، فإن كان سلوكهما معه على الطريق الشرعي تأثر الولد بهما، وقلدهما فيما هما عليه، وكان ذلك من عوامل تكوين معاني شخصيته الإسلامية.
ويـنشأ نـاشئ الفتيـان منـّا علـى ما كـان عـوده أبـوه
إذ الخير في المولود أصيل، والشر فيه عارض، واستعداده للخير كامل، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ. ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ الآيَةَ [الروم: 30]» (٤- أخرجه البخاري في الجنائز (1358)، ومسلم في القدر (6926)، وأحمد (7928)، والبيهقي (12499)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه) وفي الحديث بيان أنّ النّاس يولدون على الفطرة وعلى الاستعداد الكامل للخير والصلاح فكان تقريرا لخلق الله الكامل، وأنّ النقص إنّما يأتي من فعل الإنسان، فالواجب إبعاد ما يفسد نفسية الطفل، ويخرب عقليته وفطرته لئلا يكون ضحية تأثر بانحراف وضلال وسوء أخلاق، ومن هذا المرمى يتجلى عظم مسؤولية الأبوين إذا أخلاَّ في تعليم ولدهما معاني الإسلام وأحكامه، وقصرا في تربيته عقليا وروحيا، وتركاه تحت وطأة الأفكار المنحرفة، أو فريسة لمجتمع تشيع فيه عقائد اليهودية أو النصرانية أو المجوسية وغيرها من عقائد الكفر والضلال، مما يجعلهما مسؤولَيْن أمام الله تعالى لأنّهما أسهما في تحويل ولدهما من مقتضى فطرته إلى دين الانحراف والضلال، وتتأكد مسؤوليتهما بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِىَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ" (٥- أخرجه البخاري في الأحكام (7138)، ومسلم في الإمارة (4828)، وأبو داود في الخراج (2930)، والترمذي في الجهاد (1806)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما) .
ومن منطلق المسؤولية فإنّها تتطلب تدريب الولد عمليا، بتعليمه القرآن الكريم قراءة وحفظا، لكونه أصل الإسلام ومرجع الدين، كما يربى الولد على حفظ بعض الأحاديث، والأدعية المأثورة التي تقال في مناسبات متعددة عند النوم، والاستيقاظ، وعند سماع الأذان، وعند البدء بتناول الطعام وعند الفراغ منه، وعند الخروج من بيته، وعند دخوله(٦- أما حديث: «إذا ولج الرجل في بيته فليقل: اللهمّ إني أسألك خير المولج، وخير المخرج، باسم الله ولجنا، وباسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليُسلم على أهله» فلا يصح سندا، وقد حكم عليه ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/172) بالغرابة، وضعّفه الألباني في «الضعيفة» (5832)، وفي «الكلم الطيب» (62). إلاّ أنّه ثبت من رواية مسلم برقم (5381) في كتاب الأشربة من حديث جابر بن عبد الله ب أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء». )، وعند العطاس، ونحو ذلك، كما يستحسن توثيق صلة الولد بالألفاظ الإسلامية ذات معان شرعية ككلمة الإخلاص، والأسماء الحسنى، وبعض شعار الإسلام ليتدرب عليها، ويعلق قلبه بمعانيها، وتعليمه فرائض الإسلام بقدر ما يناسب عقله، وعادة يمكن البدء -بعد بلوغ الولد سن سبع سنوات- بغرس بذور الشخصية الإسلامية فيه وترويضه –بحسب اتساع مدارك الولد- على معاني هذه الشخصية بما يلائمه.
ومن واجبات تربية الولد: الرفق به، وملاطفته، ومعاملته باللين من غير شدة، لاسيما من الوالدين أو من يقوم مقامهما كالجد والعم، لأنّ الشدة في التربية لا تولِّد إلاّ شدة في السلوك، وقد صح عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنّه قال: رَأَيْتُ النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم وَالْحَسَنُ عَلَى عَاتِقِهِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ» (٧- أخرجه البخاري في فضائل الصحابة (3749)، ومسلم في فضائل الصحابة (6411)، والترمذي في المناقب (4152)، وأحمد (19084)، والبيهقي (21602)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه) .
قال النووي: "في الحديث دلالة على ملاطفة الصبيان ورحمتهم، ومماستهم" (٨- شرح صحيح مسلم للنووي: 15/194)، والولد يحتاج من والديه أمرا محسوسا حتى يشعر ما يجول في قلبيهما من محبة وعطف ورحمة، وقد يتجسد ذلك الإحساس في تقبيله، وحمله، ومداعبته، أو المسح على رأسه، أو وجهه، أو وضعه على أحضانهما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قَبَّلَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِسًا، فَقَالَ الأَقْرَعُ: «إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ»(٩- أخرجه البخاري في الأدب (5997)، ومسلم في الفضائل (6170)، وأبو داود في الأدب (5220)، والترمذي في البر والصلة (2035)، وأحمد (7491)، والحميدي في مسنده (1155)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.)، وقد صحّ -أيضا- أنّه جاء أعرابي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: " تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ"، فَقَالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم: " أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ (١٠- معنى العبارة: "أي لا أملك: أي لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك بعد أن نزعها الله منه" فتح الباري لابن حجر:10/430)" (١١- أخرجه البخاري في الأدب (5998)، من حديث عائشة رضي الله عنها)، وتقريرا لهذا المعنى فقد روى البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ، وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأُخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا" (١٢- أخرجه البخاري في الأدب (6003)، وأحمد (22491)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما) .
ومن مظاهر الإحساس بما في قلبي والديه من عناية وشفقة ومحبة: مدحه والثناء عليه إذا أحسن وقام بالمطلوب، وبالمقابل تنبيهه إذا أساء أو أخطأ في أداء المطلوب، ثمّ يعلمه العادة الصالحة والصفة الحسنة التي يفتقدها، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الأسلوب التربوي في حديث عمرو بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: «كُنْتُ غُلاَمًا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» (١٣- أخرجه البخاري في الأطعمة (5376)، ومسلم في الأشربة (5388)، وأبو داود في الأطعمة (3779)، والترمذي في الأطعمة (1976)، وابن ماجه في الأطعمة (3391)، وأحمد (16769)، من حديث عمرو بن أبي سلمة رضي الله عنه)، ومن جهة أخرى، فإنّ معاملة الوالدين لأولادهما بمحبة ورحمة تقتضي وجوب العدل بينهم، وعدم إيثار الأبناء على البنات، وبخس الأنثى حقها في الرعاية والاهتمام والبر، فمثل هذا التفضيل معدود من عادة الجاهلية، إذ المطلوب عدم التفريق بين الذكور والإناث، ولا التفاضل بين الذكور، أو تخصيص بعضهم، ولا بين الإناث سواء في العطف أو المعاملة أو المحبة أو العطية أو غيرها، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم للبشير بن سعد رضي الله عنه في شأن تخصيصه للعطية لأحد أبنائه: "أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ" (١٤- أخرجه البخاري في الهبة (2587)، والبيهقي في الهبات (21351)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما).
ومن جهة ثالثة، فإنّه قد يصدر عن الصغير عمل يغضب والديه، أو يزعجهما فلا يجوز التشديد عليه، ولا تعنيفه ومجافاته لصغره ولعدم اكتمال قدرته العقلية، بل يعامل بالرفق، فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال:"إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ"(١٥- أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (6766)، والبيهقي في الشهادات (21317)، من حديث عائشة رضي الله عنها)، وفي رواية: "مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ كُلَّهُ" (١٦- أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (6763)، وأبو داود في الأدب (4811)، وابن ماجه في الأدب (3818)، وأحمد (19771)، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه)، فالأخذ بأسلوب الرفق والمسامحة يجعل علاقة الولد بوالديه علاقة محبة، يشعر بها ويميل إليهما بسببها، ويسمع النصح والتوجيه، أمّا العنف في الصغر فمدعاة للعنف في الكبر، والقسوة على الولد في الصغر تحمله على جفاء والديه في الكبر، وليس معنى هذا ترك التشديد عليه مطلقا، وإنّما يجوز أخذه بالتشديد إذا لم ينفع الرفق والملاطفة والنصح والتوجيه، ويكون بإظهار الغضب، والعبوسِ في وجهه، وعدم الرضا على تصرفاته، ورفعِ الصوت عليه، والصدودِ عنه، وهجرهِ، تلك هي مظاهر التشديد، وقد تصل إلى ضربه ضربا غير مُبَرِّحٍ إذا بلغ عشر سنين، وقد جاء في الحديث: "مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ -وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا- وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ" (١٧- أخرجه أبو داود في الصلاة (495)، (6854)، والدارقطني (899)، والبيهقي (3358)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه ابن الملقن في البدر المنير(3/283)، والألباني في إرواء الغليل (247)، وحسنه في صحيح الجامع (5868))، ومعاملته بهذه الصفة لتحسيس الولد بسوء أفعاله، أو لتقصيره في القيام بما هو مطلوب منه.
هذا، ويترتب على الوالدين (أو من في كفالته الولد) حال الإخلال بواجبهما اتجاه ولدهما، أو التقصير في تعليمه، نزع الولد من يدهما، ليتم تسليمه إلى رعاية أخرى مناسبة لتعليمه، وضمن هذا المنظور يقول ابن القيم رحمه الله: "قال شيخنا -أي شيخ الإسلام ابن تيمية- وإذا ترك أحد الأبوين تعليمَ الصبي، وأَمْرَه الذي أوجبه الله عليه، فهو عاص، ولا ولاية له عليه، بل كلّ من لم يقم بالواجب في ولايته، فلا ولاية له، بل إمّا أن تُرفع يدُه عن الولاية، ويقام من يفعل الواجب، وإمّا أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب، إذ المقتضى طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان، وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم، والنكاح، والولاء، سواء كان الوارث فاسقا أو صالحا، بل هو من جنس الولاية التي لابد فيها من القدرة على الواجب والعلم به، وفعله بحسب الإمكان" (١٨- زاد المعاد لابن القيم: 5/475).
تكوين الأجيال منوط بتربية الأولاد وحسن تأهيلهم
فهذه جوانب من تربية الولد وحسن تأهيله قائمة على عقيدة الإسلام التي جاء بها أفضل الأنام صلى الله عليه وآله وسلم لتتم تربيته بناء على استعداداته الفطرية، وقدراته الطبيعية والنفسية التي أودعها الله فيه، وفق منهج الله وتربيته التي جعلت القرآن الكريم خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى نظامه تتكون أجيال مهذبة عزيزة صادقة تتحمّل مسؤوليتها، وتؤدي واجبها، وتسعى إلى تسخير قواتها في الخير والفضيلة، وتجنيب الشر والرذيلة، وتراقب الله في السر والعلانية، وتعمل على تحقيق الأمن والاستقرار، والظفر بالسعادتين: الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾ [طه:75-76].
١- تفسير القرطبي: 18/195-196.
٢- أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (7386)، وأحمد (17947)، من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.
٣- أخرجه الترمذي في تفسير القرآن (3256)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (2988)، وفي المشكاة: (74)/ التحقيق الثاني، وفي هداية الرواة: (70)، وفي صحيح الموارد (38)، وفي النصيحة (34).
٤- أخرجه البخاري في الجنائز (1358)، ومسلم في القدر (6926)، وأحمد (7928)، والبيهقي (12499)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
٥- أخرجه البخاري في الأحكام (7138)، ومسلم في الإمارة (4828)، وأبو داود في الخراج (2930)، والترمذي في الجهاد (1806)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
٦– أما حديث: «إذا ولج الرجل في بيته فليقل: اللهمّ إني أسألك خير المولج، وخير المخرج، باسم الله ولجنا، وباسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليُسلم على أهله» فلا يصح سندا، وقد حكم عليه ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/172) بالغرابة، وضعّفه الألباني في «الضعيفة» (5832)، وفي «الكلم الطيب» (62). إلاّ أنّه ثبت من رواية مسلم برقم (5381) في كتاب الأشربة من حديث جابر بن عبد الله ب أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء» ٧- أخرجه البخاري في فضائل الصحابة (3749)، ومسلم في فضائل الصحابة (6411)، والترمذي في المناقب (4152)، وأحمد (19084)، والبيهقي (21602)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
٨- شرح صحيح مسلم للنووي: 15/194.
٩- أخرجه البخاري في الأدب (5997)، ومسلم في الفضائل (6170)، وأبو داود في الأدب (5220)، والترمذي في البر والصلة (2035)، وأحمد (7491)، والحميدي في مسنده (1155)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
١٠- معنى العبارة: "أي لا أملك: أي لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك بعد أن نزعها الله منه" فتح الباري لابن حجر:10/430.
١١- أخرجه البخاري في الأدب (5998)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
١٢- أخرجه البخاري في الأدب (6003)، وأحمد (22491)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
١٣- أخرجه البخاري في الأطعمة (5376)، ومسلم في الأشربة (5388)، وأبو داود في الأطعمة (3779)، والترمذي في الأطعمة (1976)، وابن ماجه في الأطعمة (3391)، وأحمد (16769)، من حديث عمرو بن أبي سلمة رضي الله عنه.
١٤- أخرجه البخاري في الهبة (2587)، والبيهقي في الهبات (21351)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
١٥- أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (6766)، والبيهقي في الشهادات (21317)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
١٦- أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (6763)، وأبو داود في الأدب (4811)، وابن ماجه في الأدب (3818)، وأحمد (19771)، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
١٧- أخرجه أبو داود في الصلاة (495)، (6854)، والدارقطني (899)، والبيهقي (3358)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه ابن الملقن في البدر المنير(3/283)، والألباني في إرواء الغليل (247)، وحسنه في صحيح الجامع (5868).
١٨- زاد المعاد لابن القيم: 5/475.
من موقع الشيخ ابا عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله